تفسير سفر يهوديت ٦ للأنبا مكاريوس اسقف المنيا

أليفانا يسخر من كلام أحيور العمونى ويأمر بأن يوضع في صفوف بني إسرائيل ليلقى نفس مصيرهم

 

 

1 ولَمَّا هَدَأَ ضَجيجُ الرِّجالِ المُتحلِّقينَحَولَ المَجلِس، قالَ أليفانا، رئيسُ قُوَّادِ جَيشِ أَشُّور،لِأَحْيورَ أَمامَ جُمْهور الغُرَباء ولجَميعِ بَني موآب:2 ((مَن أَنتَ، يا أَحْيور، ويا مُرتَزِقَةَ أَفرائيم، حَتَّى تنبَّأتَ لَنا كَما فَعلتَ إلىَوم ورَدَدتَنا عن مُحارَبةِ نَسْل إِسْرائيلِ، لأِنَّ إِلهَهم يُدافِعُ عَنهُم؟ مَن هو إِلهٌ إِلاَّ نبوكَدْنَصَّر؟ فهو الَّذي يُرسِلُ قُوَّتَه ويُبيدُهم مِنِ وَجهِ الأرض، ولا يُنَجِّيهِم إِلهُهم،3 بل نحنُ عبيدَه نَضرِبُهم ضَربَنا لِرَجُلٍ واحد ولا يقاوِمونَ قُوَّةَ أَفْراسِنا.4 فإِنَّنا نُحرِقُهم بَعضَهم بِبَعض، فتَسكَرُ جِبالُهم مِن دِمائِهم وتَمتَلِى سُهولُهم من أَمْواتِهم. لا تَثبُتُ أَمامَنا أَخامِضُ أَقدامِهم، بل يَهلِكونَ هَلاكًا، يَقولُ نَبوكَدْنَصَّرُ المَلِك، رَبُّ الأَرضِ كُلِّها. فإِنَّه قال، وكلِماتُ أَقْوالِهِ لن تكونَ باطلة.

هكذا تكلم الله في (أحيور) القائد الأممي، لخير إسرائيل، وللشهادة لشعب الله، وهكذا يستخدم الله كل القوى (بشرية وطبيعية) حتى ولو كانت بعض تلك القوى معادية، فقد تكلم الله في بلعام بن بعور ليبارك إسرائيل (عدد 22) وشهد الشيطان مرغمًا وصارخًا بلاهوت السيد المسيح (مت 8: 29) وفي سيرة القديس مكاريوس أقر بغير إرادته، كاشفًا عن حيله الرديئة.

غير أننا لا نقصد أن نضع أحيور في مرتبة واحدة مع بلعام والشيطان ولكننا نتذكر فقط العداء المستحفل والمستحكم بين اليهود والعمونيين (راجع نح 13: 2) حيث يوصى نحميا بعدم قبول العمونى والموآبى في جماعة الرب، لأنهم لم يلاقوا بني إسرائيل بالخبز والماء، بل استأجروا عليهم بلعام بن بعور لكي يلعنهم ولكن الله حول اللعنة إلى بركة، ويرد كذلك في (1 صم 11: 2) أن ناحاش الملك العمونى أراد تقوير العين اليمنى لكل يهودي، علامة عهد مهينة ومخزية، ويرد كذلك في (أر 40: 14) أن بعليش ملك عمون قد أرسل إسماعيل بن نثنيا ليقتل جدليا بن أخيقام.

إن كلمات أحيور هذه والتي تحمل عرضًا متأخرًا لعمل إله السماء مع بني إسرائيل على مدار الثلاث آلاف سنة (منذ دعوة إبراهيم حتى ذلك الوقت) قد هزت قواد أليفانا واوقعت الإضراب في قلوبهم، حيث يظهر ذلك في رد الفعل المسعور من جانبهم تجاه أحيور، كما سنرى.

مُرتَزِقَةَ أَفرائيم:  هكذا يهين أليفانا أحيور بأنه مأجور من اليهود ليقول مثل هذا الكلام، وأما وصف أليفانا لليهود ب (إفرائين) فلا شك أنه عرف من حديث جيران اليهود معه، أن المنطقة التي هم فيها تسمى أفرايم حيث وقع نصيب سبط أفرايم فيها، حيث ملك إفرايم المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط ونهر الأردن، وكانت أهم مدن إفرايم شكيم (راجع يش 16: 5 – 10، 21: 20) وقد لعب افرايم دورًا كبيرًا في تاريخ بنى إسرائيل، مما جعل بعض الأنبياء يطلقون اسم إفرايم على المملكة الشمالية بكاملها    (أش 7: 2، أر 31: 18، هو 4: 17).

إِلهَهم يُدافِعُ عَنهُم: نعم يدافع عنهم، لقد تجاسر أليفانا على الله، ولم يعرف ماذا صنع الله معهم على مدار تاريخهم معه، ولم يسمع عن شمشون ويفتاح وداود! كيف يعير الآشوريون صفوف الله الحي، إن الله لم يتخلى عن شعبه، حتى في الأوقات التي أخطأوا فيها وتحولوا إلى عبادات غريبة وأسلمهم إلى أعدائهم، عاد الله فانتقم لهم من أعدائهم (ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها تك 15: 14، أع 7: 7)

مَن هو إِلهٌ إِلاَّ نبوكَدْنَصَّر؟ على مدار التاريخ، جعل الملوك من أنفسهم آلهة، أوجبوا التعبد لها، سواء أكان ذلك في الجنوب حيث الفراعنة ثم البطالمة، وفي الشمال حيث الأشوريين ومن بعدهم البابليين والفرس، وصنعت لهم التماثيل في كل مدينة وأمر الناس بتقديم البخور والذبائح لها (راجع تشامخ قلب نبوكدنصر البابلي (دا 3: 13 – 18).

و في عصور الاضطهاد، كان المطلوب من كل مسيحي، إلقاء حفنة من البخور، يتلقاها من يد كاهن الوثن، أمام تمثال القيصر وهو يقول (كيريوس سيزاروس) أي الرب هو القيصر! في حين كان المسيحيون يقولون (كيريوس خرستوس) غير أن الشهداء بما فيهم الأطفال الصغلر، كان يصرخون في وجوه الولاة والملوك باسم الإله الواحد دون خشية من الموت.

و فكرة تأليه الحكان قديمة جدًا، فقد ظهرت في اللاهوت اليهودي عبارة إله الآلهة ورب الأرباب، لكي تنفى عن أذهان الشعب أية فكرة لوجود آلهة أخرى (أشكروا إله الآلهة.. أشكروا رب الأرباب لأن إلى الأبد رحمته مز 136: 2، 3) وفي كل من المزمور 136 وتسبحة الفتية الثلاثة، يظهر بوضوح معالجة إجتراء البشر على تأليه ذواتهم، حيث ينسب الوحي كل الخلائق (العاقلة وغير العاقلة) إلى الله الواحد، وينسب كل ما يحدث، إلى مشيئته تعالى وسلطانه وحده.

5 أَمَّا أَنتَ، يا أَحْيور، يا مُرتَزِقَ عَمُّون، يا مَن فاهَ بِهذا الكَلام في يَومِ ذَنْبِه، لن تَرى وَجْهي بَعدَ إلىَوم، حَتَّىَ أَنتَقِمَ مِن نَسْلِ الآتينَ مِن مِصْر.6 وحينَئِذٍ سَيفُ جَيشي ورُمْحُ خُدَّامي يَختَرِقانِ جَنبَيكَ، فتَسقُطُ بَينَ جَرْحاهُم متى أَعود.7 وسيَذهَبُ بِكَ رِجالي إِلي النَّاحِيَةِ الجَبَلِيَّة وَيجعَلونَكَ في إِحْدى مُدُنِ المُنحَدَرات،8 ولن تَهلِكَ قَبلَ أَن تُستَأصَلَ معَهم.9 وبِما أَنَّكَ تَرْجو في قَلبِكَ أَلاَّ يُقبَضَ علَيهم، فلا يَسقُطْ وَجهكَ. تَكلَّمتُ ولَن تَسقُطَ كلِمةٌ مِن كَلماتي.  

مرة أخرى يتهم أليفانا، أحيور، بأنه مرتزق بنى عمون، في المرة الأولى يتهمه بالعمل لحساب بني إسرائيل وأما في هذه المرة فإنه ينسبه كمرتزق، لبنى عمون أصله، وفي قانون الحرب القديم، إذا أسر أحد الجنود من المرتزقة، فإنه يقتل ولا يعاد حتى في تبادل الأسرى.

يا مَن فاهَ بِهذا الكَلام في يَومِ ذَنْبِه: المقصود بيوم ذنبه، يوم اتهامه وإدانته وربما الحكم عليه.

سَيفُ جَيشي ورُمْحُ خُدَّامي يَختَرِقانِ جَنبَيكَ: إن عادة إنقاذ السيف في جانبى العدو، هي عادة قديمة في التعذيب والقتل، استخدمها الوثنيون واقتبسها اليهود منهم فيما بعد، فقد إقتتل أربعة وعشرون رجلًا بتلك الطريقة حتى سمى المكان حلقت هصوريم Helkath Hazzurim ومعناها في العبرية (حقل حدود السيف) و(أسنان الصوان)، (2 صم 2: 16)، وقد استخدمت نفس الطريقة في المبارزة والتمثيل بالمجرمين أيام الرومان، وربما يفسر لنا هذا، لماذا طعن الجندي الروماني السيد المسيح بالحربة في جنبه.

و في حين تتعالى لغة الثقة من جهة الأشوريين بأن نصرهم على اليهود أمر مؤكد وأن أحيور سيرهن مصيره بمصيرهم ويهلك معهم، نجد أن شهادة أحيور ترتفع إلى مستوى النبوة  بهلاك الأشوريين، ولكن أليفانا يتحدى أحيور ويتحدى نبوته. إن أليفانا هنا يوقع وثيقة هلاكه واستحقاق جيشه للهزيمة! إن أرملة ضعيفة سيكون النصر على يديها.

10 وأَمَرَ أَليفانا خُدَّامَه القائمينَ في خَيمَتِه.بِأَن يُمسِكوا أَحْيور ويَذهَبوا بِه إلى بَيتَ فَلْوى ويُسلِموه إلى أَيدي بَني إسْرائيل. 11  فأَمسَكَه خُدَّامُه وقادوه خارِجَ المُعَسكَرِ إِلي السَّهْل، وذَهَبوا مِن وَسَطِ السَّهل نَحوَ النَّاحِيَةِ الجَبَلِيَّة،ووَصَلوا إلى إلىَنابيعِ الَّتي كانَت إِلي أَسفَلِ بَيتَ فَلْوى. 12 ولَمَّا رآهُم رِجالُ المَدينةِ الواقِعَةِ على رأسِ الجَبَل، أَخَذوا أَسلِحَتَهم وخَرَجوا مِنَ المَدينةِ إِلي رأسِ الجَبَل، وجَميعُ الرِّجالِ الَّذينَ مَعَهم مَقاليعُ كانوا يَرْمونَهم بالحِجارة لِمَنعِهم مِنَ الصُّعود. 13 فتَسَلَّلوا في أَسفَلِ الجَبَلِ ورَبَطوا أَحْيور وتَركوه طَريحًا عند سَفحِ الجبَل، ورَجَعوا إِلي سَيِّدِهم.

كما ورد في المقدمة، فإن بيت فلوى في ذلك الوقت كانت مدخلًا لليهودية من جهة الشمال، والخط الأمامي لليهودية، ونقطة المواجهة الأولى بين اليهود وجيوش الغزاة.

و عندما ربض الأشوريين هناك، كان يفصل بين معسكرهم، وادٍ عريض، قطعه رسل الملك ومعهم أحيور مقيدًا، وعند صعودهم في اتجاه بيت فلوى، هاجمهم الرعاة بالقلاع من أعلى السور كما يقدم بعض رجال المدينة بسلاحهم، ظانين أنها طلائع جيش الأشوريين وأن الحرب قد بدأت.. ولما لم تكن لدى جنود أليفانا أمرٌ بالإشتباك مع اليهود، كما أن مهمتهم ليست قتالية فقد انحرفوا إلى أسفل، ليقيدوا أحيور في شجرة (حسبما ورد في النسخة اللاتينية) وتركوه هناك، فقد خشوا أن يهرب أحيور، في حين كانوا يشعرون بأن هجومهم على اليهود سيتم خلال ساعات فيدركون أحيور معهم!

14 فنَزَلَ بَنو إِسْرائيلَ مِن مَدينتِهم وأَتَوهوحَلُّوه وقادوه إلى بَيتَ فَلْوى وقَدَّموه إِلي رُؤَساءَ مَدينَتِهم، 15 وكانوا في تِلكَ الأَيَّام عُزَيَّا بنَ مِيخا مِن سِبطِ شِمْعونوكَبْري بنَ عُتْنيئيل وكَرْمي بنَ مَلْكيئيل. 16 فدَعَوا جَميعَ شُيوخِ المَدينة، وأَسرَعَجَميعُ الشُّبَّانِ والنِّساءَ إِلي المَجلِس. وأَقاموا أَحْيورَ في وَسْطِ شَعبِهِم كُلِّه، فسَأَلَه عُزَيَّا عَمَّا جَرى. 17 فأَجابَ وأَخبَرَهم بِما قيلَ في مَجلِسِ أَليفاناوبِكُلِّ ما قالَه في رُؤَساءِ بَني أَشُّور وبِمَا فاهَ بِه أَليفانا مِن كَلامِ تَبَجُّحٍ على بَيتِ إِسْرائيل. 18 فأرتَمى الشَّعبُ وسَجَدَ للِه وصَرَخَ قائلًا: 19 ((أَيُّها الرَّبّ، إِلهُ السَّماء، اُنظُرْ إلى كِبرِيائِهم، وآرحَمْ تَذَلُّلَ نَسْلِنا، وآنظُرْ قي هذا إلىَومِ إِلي وَجهِ المقَدَّسين لَك)). 20 وشدَّدوا عَزيمةَ أَحْيور وأَثنَوا علَيه ثَناءً عَظيمًا. 21 وذَهَبَ بِه عُزَيَّا مِنَ المَجلِسِ إلى بَيتِه وأَقامَ مأدُبةً لِلشُّيوخ. وآستَغاثوا بإِلهِ إِسْرائيلَ ذلكَ اللَّيلَ كُلَّه.

نزل بعض رجال اليهود إلى حيث يوجد أحيور، فلما وقفوا منه على ما حدث، حلوه وأصعدوه معهم إذ حسبوه صديقًا لهم، ويبدو أن أحيور أوعز إليهم بأن لديه ما يود أن يخبرهم به، فأحضروه إلى أمام شيوخ الشعب.

و كان لكل مدينة وقرية يهودية شيوخ يدبرون أمور الشعب ويقضون لهم ويفضون منازعتهم ويفتون لهم، لا سيما في الأوقات التي كانت فيها البلاد تخضع للاحتلال الأجنبي، وفي الشتات كان اليهود يختارون من بينهم عددًا من الشيوخ الفضلاء، ليجعلوا منهم قضاه دينيين ومدنيين، مثل الشيخين المذكورين في قصة سوسنة (في تتمة سفر دانيال) وكانت أول إشارة إلى مثل أولئك الشيوخ في أيام موسى النبي، حسب نصيحة حميه يثرون (عد 11) إضافة إلى أن كلمة شيخ أطلقت أيضًا على بكر كبار السن، وكذلك على رب الأسرة.

عُزَيَّا بنَ مِيخا: عزيا كلمة عبرية معناها قوة الرب وأما ميخا من الكلمة العبرية ومعناها من يشبه يهوه مى خا إيل، ومثلها ميصائيل أي قوة الله ومن مثل الله.

سِبطِ شِمْعون: وهو السبط الذي ينتمي وهو السبط الذي ينتمي إليه كل من عزيا ويهوديت نفسها ولهذا السبط دور في السفر كما سنرى في الإصحاحات التالية.

وكَبْري بنَ عُتْنيئيل: كبرى ربما جاءت من الأسم جبرى أي جبرائيل، وهو اسم عبري معناه (رجل الله) وأما عتنيئيل فهي كلمة عبرية معناها (الله قوة).

وكَرْمي بنَ مَلْكيئيل: كرمى كلمة عبرية معناها (عامل في الكروم) وأما ملكيئيل فهو اسم عبري معناه (الله ملك).

و على الرغم من وجود هؤلاء الثلاثة كمسئولين وقادة عن الشعب إلا أن عزيا كان متقدمًا عليهم، مسئولًا أمام رئيس الكهنة يواقيم، وهو الذي أخذ أحيور إلى بيته وصنع له مأدبة إحتفاء به (عدد 21) وعلى عزيا اجتمع الشعب محتجين (7: 24) وهو الذي وعد الشعب بالأستجابة لمطالبهم إذ لم يتدخل الرب خلال خمسة أيام (7: 30) وهو الذي بارك يهوديت بعد النصر (13: 18).

و عندما سمع تعيير الأشوريين ونيتهم في إهلاك اليهود، وإستعطفوا الله بأن ينظر إلى انسحاقهم وإلى كبرياء العدو.

معادلة (قانون) النصر والهزيمة: 

في لاهوت العهد القديم يظهر قانون الحرب أن للنصر والهزيمة قانون! فانسحاق شعب ما واعتماده على ذراع الله القوية وعزة يمينه تجلب له نصر لا محالة، وفي المقابل فإن تصلف الشعب الآخر وكبرياءه واعتماده على ذراعه البشرى وقوة ملوك آخرين تمنيه بهزيمة مخزية.

و عند تدشين هيكل سليمان صرح الرب ذاته قائلًا (فإذا تواضع شعبي الذين دعى عليهم وصلوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الردية فإننى اسمع من السماء واغفر خطيتهم وأبرىء أرضهم (2 أخ 7: 14) ولما إتضع شعب إسرائيل بعد تهديد ربشاقى قائد جيش سنحاريب، خلعهم الرب من أعدائهم وقتل من الأشوريين 185 ألفًا (2 مل 21: 29) حتى حكم الموت الذي الذي صدر ضد حزقيا الملك تراجع أمام بكائه وانسحاقه وتأجل إلى خمسة عشر سنة أخرى (2 أخ 32: 29) ولما إتضع منسى الملك وصلى صلاة طويلة معبقة بالتذلل والتوبةسمع الله صلاته واعاده من سبيه إلى أورشليم (2 أخ 33: 12 – 22)

(راجع أيضًا صلاة منسى، ضمن الأسفار القانونية الثانية).

كذلك فقد أشار الله إلى أنه قد يسلم شعبه لأيدي أعدائه، عندما يخطئوا فقط لا بسبب بر أعدائهم، كذلك عندما ينصرهم على أيدي أعدائهم، يكون نصرهم بسبب خطية أعدائهم لا بسبب برهم هم، أي أن الخاطئ هو الذي يهزم! فقد هزم بنو إسرائيل بسبب خطية عخان بن كرمى في عاى (يش 7).

غير أن تسليم الخاطئ من قبل الله إلى أيدي أعدائه لا يعنى رفضه وعقابه وإنما يعنى تمحيصه وتأديبه وتخليصه من خطيته.

و هكذا تعمل أحشاء رأفة الله لحساب الخاطئ، فحتى أولئك الذين أسلمهم الله لأيدي مضايقيهم، تضايق هو نفسه لأجلهم (في كل ضيقهم تضايق وملاك حضرته خلصهم أش 63: 9).

تروى بعض الأساطير أن الله بعد الطوفان رؤى حزينًا مهمومًا، فلما سأله نوح عن السبب أخبره بأنه متألم بسبب الذين هلكوا في الطوفان. (انظراولما تعجب نوح لأن الله هو الذي أبادهم، فأجاب الله قائلًا لقد أخطأوا إليَّ بالفعل واستحقوا الهلاك ولكن لا تنسى أنهم خليقتي وعمل يدي!

و هكذا كل من تعرض للظلم، إذا رفع دعواه إلى الله من خلال الصلاة الدائمة والسجود المتواتر وذرف الدمع وقرع الصدر، فإن الله ذاته سوف يتولى الدفاع عنه، أما إذا لجأ إلى الذراع البشرى والوسائل البشرية فقد يخسر القضية، وقد استطاع بنو إسرائيل أن يستجدوا الله ببراءتهم مسلمين له قضيتهم.. مقابل أعدائهم الوثنيين.

و بينما كان الآشوريون يمنون أنفسهم بنصر ساحق وغنائم وافرة واثقين بأنفسهم، كان اليهود على الجانب الآخر يرفعون قضيتهم إلى الله من خلال اتضاعهم وثقتهم في قدرته، فعما قريب سوف تهتز السماء لدموعهم وصراخهم ذاك الذي يخرج كما من قلب واحد.

و قد صاغ الكاتب قانون النصر والهزيمة هذا، في صورة شعرية لغوية غاية في الجمال فيقول: أنظر إلى كبريائهم وارحم تذلل نسلنا، وأما في اللاتينية فقد ورد:

أنظر إلى عتوهم                               وإلتفق إلى تذللنا

إنك لم تترك المتوكلين عليك               أنك تذل المتوكلين على أنفسهم والمفتخرين بقوتهم

وآنظُرْ قي هذا إلىَومِ إِلي وَجهِ المقَدَّسين لَك: صورة رائعة من صور الشفاعة، حتى وإن كان يوجد في الشعب شر وشبه شر، إلا أنه من أجل قديسيه يجب أن يرحمهم، سواء أكان هؤلاء القديسيون هم الأبرار الساكنين بينهم، والأبرار الذين سبقوهم 1.

و هكذا صار أحيور منذ ذلك الوقت صديقًا لليهود، ولذلك فقد أعتقد بعض العلماء الذين أرادوا أن يجعلوا من السفر قصة رمزية تزكى الشعور الوطنى القومى، أن كلمة أحيور الواردة في السفر هي صيغة للكلمة (أخيود) والتي تعني (أخى اليهود وصديق اليهود) متعللين في ذلك بسهولة الخلط بين حرفي / (6) ود (T) في اللغة العبرية.

و ليس من الإنصاف أن نعاقد بأن أحيور قد تورط في الشهادة لإسرائيل والدفاع عن اليهود فقد كان من السهل عليه الرجوع في شهادته والاعتذار لأليفانا وتملق الآشوريين، ولكنه كان يتكلم (كما سبق) بوازع داخلي مسوق به للشهادة للحق، لقد قاده الروح القدس بقناعة داخلية بأن يشهد ليهوة، كما كان يعرف أي مصير ينتظره في حالة ثبوت كذبه، وحتى صدقه فقد كان من الممكن أن يبطش به جنود أليفانا للتو دون انتظار للتأكد.!

لذلك يجب الإشادة هنا بشجاعته كأممي، تلك الشجاعة التي يندر وجودها في ظروف كثيرة مرت بها امتهم بين اليهود أنفسهم، فكثيرًا ما تقرأ عن الخيانة، واستعداء ملوك الأمم على ملوك إسرائيل.

وأَقامَ مأدُبةً لِلشُّيوخ (الوليمة):   

و تعبيرًا عن إحتفائهم بأحيور، ومحاولة منهم للتخفيف عنه، بعد معاناته وإضرابه الواضحين، بل كان قبولهم إياه على مائدة الشركة اليهودية أول إشارة لقبوله كأممي في مجمعهم، فقد كان من المستحيل إشراك الوثني في مائدة اليهودي!

و يرد في الترجمة اللاتينية أن الشعب الذي كان صائمًا أكل بفرح في هذه الوليمة، وأنهم كانوا يجتمعون طوال اليوم في مكان الاجتماع (الكنيسة والمجمع) ثم يعودون إلى بيوتهم في المساء.

لقد اهتزت السماء لأنينهم، وشق صوتهم الواحد وقلبهم الواحد، عنان السماء وصعد إلى عرش الله، فكانت الأستجابة هي النتيجة الحتمية، عندما جعل الله كفة هؤلاء الطالبين وجهه ترجح مقابل كفة أولئك المفتخرين بقوتهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى