تفسير سفر يهوديت 14 للأنبا مكاريوس اسقف المنيا
جنود الآشوريين يفاجأون بخداع يهوديت ومقتل قائدهم
وقالَت لَهم يَهوديت: ((اِسمَعوا لي، يا إِخوَتي. خُذوا هذا الرَّأسَ وعَلِّقوه على شُرفَةِ أَسْوارِكم.2 ومتى بَزَغَ الفَجرُ وطَلَعَتِ الشَّمسُ على الأَرض، فلْيَأخُذْ كُلُّ واحِدٍ سِلاحَه ولْيَخرُجْ كُلُّ رَجُلٍ سَليم إلى خارِجِ المَدينة. وأَقيموا علَيهم قائدًا كأَنَّكم نازِلونَ إِلي السَّهلِ نَحوَ مَركَزِ بَني أَشُّورَ الأَماميّ، ولكن لا تَنزِلوا.3 فيأخُذُ أُولئِكَ مُعَدَّاتِهم ويَذهَبونَ إلى مُعَسكَرِهم ويوقِظونَ قُوَّادَ جَيشِ أَشُّور، فيُسرِعونَ إلى خَيمةِ أَليفانا فلا يَجِدونَه، فيَستَولي علَيهِمِ الخَوفُ ويَهرُبونَ من وَجهِكم.4 أَمَّا أنتُم وجَميعُ سُكَّانِ أَراضي إِسْرائيلَ كُلِّها، فطارِدوهم وآصرَعوهم في طُرُقِهم.
عرف القدماء من العسكريين، عادة التمثيل بجثث قتلاهم، لا سيما القادة من قتلى الأعداء، ذلك في محاولة لتثبيط عزائم صفوف الأعداء ونشر الرعب بين الجنود، فقد علق سكان يابيش جلعاد جسد شاول الملك وبنيه على السور بالمسامير (31: 10 – 12) وكذلك علق اليهود رأس نكانور القائد السلوقي (السوري) وذراعه الأيمن على السور قبالة أورشليم (1 مكا 7: 47، 2 مكا 15: 35) ويرد في تاريخ الإسكندر الأكبر، كيف أنه مثل بقائد غزة الفارس، بعد فتح المدينة، وكذلك فعل بجنوده، كما فعل من قبل بعد محاصرة ومحاولة فتحها لمدة سبعة أشهر، وقد امتدت هذه العادة إلى الحكام المُسلمين من تعليق على الأسوار وترك الضحايا يموتون فوق الخوازيق.
و لعل يهوديت توقعت أن يحدث نفس الذعر الذي حدث بين الموآبيين بعد اكتشافهم مقتل عجلون ملكهم (قض 3: 25 – 30).
و قد نبهت يهوديت سامعيها إلى ضرورة إحداث الجلبة مع شروق النهار، شريطة ألا ينزلوا بالفعل للإشتباك مع الجنود، وذلك خشية تعرضهم للخطر من الأشوريين الذين لديهم أوامر بالتعامل مع أي تحرك يهودي.
5 وقَبلَ أَن تَفعَلوا ذلك، آدْعوا إِلَيَّ أَحْيورَ الأَمُّونيَّ لِيَرى ويَعرِفَ الَّذي آستَهانَ بِبَيتِ إِسْرائيل وأَرسَلَه إِلَينا كما يُرسَلُ إِلي المَوت)).6 فدَعوا أَحْيورَ مِن بَيتِ عُزَّيَا. فأَتى ورأى رأسَ أَليفانا في يَدِ رَجُلٍ في جَماعَةِ الشَّعْب، فسَقَطَ على وَجهِه وخارَت روحُه.7 ولَمَّا أَنهَضوه آرتَمى عِندَ قَدَمَي يَهوديت وسَجَدَ أَمامَها وقال: ((مُباركةٌ أَنتِ في خِيمِ يَهوذا كُلِّها وفي جَميعَ الأُمَم فإِذا سَمِعَتِ آسمَكِ آرتَعَدَت. 8 والآن فأَخبِريني بِكُلِّ ما فَعَلتِ في هذِه الأَيَّام)). فأَخبَرَته يَهوديتُ في وَسْطِ الشَّعبِ كُلِّه بِكُلِّ ما فَعَلَت مِن يَومِ خُروجِها إِلي حينِ تَحَدُّثِها إِلَيهم.9 ولَمَّا آنتَهَت مِن كَلامِها، هَتَفَ الشَّعبُ بِصَوتٍ عَظيم ومَلأَ مَدينَتَه بِصَوتِ الاِبتِهاج. 10 ورأَى أَحْيورُ كُلَّ ما فَعَلَ إِلهُ إِسْرائيل فآمَنَ بِاللهِ إِيمانًا راسِخًا وخَتَنَ لَحْمَ قُلفَتِه فضُمَّ إِلي بَيتِ إِسْرائيلَ إِلي هذا إلىَوم.
في غمرة هذا الفرح، لم تنس يهوديت، ذلك الوثني التقى: أحيور، فقد كان من الواجب كمأنته بما حدث، فعرف أحيور كيف يكافئ الرب كل من يشهد له غير خائف من ظلم وقتل، وقد كان مبلغ تعجّب أحيور عظيمًا وهو الذي تعرض للموت بل أنهم أرسلوه إلى اليهود ليهلك معهم بحسب ثقتهم وكبرياءهم، (راجع الأصحاح الخامس).
خِيمِ يَهوذا: وخيام يهوذا هو التعبير الذي يطلق على المنطقة التي يسكنها اليهود، بكاملها حتى في الأوقات التي صار فيها لليهود منازلٌ مصنوعه من الحجر والطوب، مستقرين في بلادهم (يخلص الرب خيام يهوذا زك 12: 7) راجع أيضًا (عد 24: 5، 1 مل 20: 12).
أحيور يؤمن بالله:
لاشك أن الفرق هنا مروّع، بين أليفانا وهو يتهدده بالهلاك منذ شهر واحد فقط، واليوم يرى رأسه مخصبة بالدم مغمض العينين وناموسيته ملوثة بالدماء، فإرتاع وسجد لله شكرًا، حيث يحمل السجود هنا الاعتراف بالله، وقد اتخذ مفهوم القوة مكانه كبيرة في مواصفات الآلهة في أزمنة العهد القديم بين الشعوب الوثنيين، فقد كان من الضروري أن يكون الإله هو إله حرب! يهلك الأعداء مهما كانت قوتهم، كان أحيور يعرف ذلك.. وشهد به أمام أليفانا، والآن وقد تأكد، فقد طلب أن يتبع ذلك الإله بأن يتهود ويختتن، حيث يعتبر الختان شرطًا رئيسيًا في سبيل التهود.
و يعد قبول أحيور في الشركة اليهودية في ذلك الوقت حدثًا استثنائيًا، ولكنه بمعيار ما تغيرًا في العلاقة مع العمونيين، الذين كان ممنوعًا قبولهم في جماعة الرب بسبب مضايقتهم لبني إسرائيل عند صعودهم من مصر (تث 23: 3، 4) كما كان هذا الإجراء لاتجاه اليهود نحو المرونة في تطبيق الشريعة حين يقتضى الأمر ذلك، لا سيما فيما يتعلق بالختان كشرط للتهود!
و يروى يوسيفوس المؤرخ اليهودي، أن الملك إيزاتس 1، قد قبل التهود، غير أنه تراجع عندما فوجىء بمسألة الختان التي إستصعبها، ولكن أحد الربيين اليهود أفتى بإمكانية عدم ختانه، باعتبارها إجراء مادي يمكن تجاوزه إذا وجد ما يعوضها من عبادة بنقاوة وتقوى، غير أن ربيًا آخرًا، اعتبر الختان شريطة الإحصاد مع شعب الله، وفي النهاية قبل الملك الختان.
هذا ويعتبر يهود الشتات عمومًا، أكثر تسامحًا فيما يتعلق بمسألة الختان، فأكدوا على قطع الشهوات واللذات من النفس مع الإيمان الداخلي بالله الواحد الخالق كل شيء 2
هذا وينظر إلى أحيور الذي شهد لإله اليهود وهو ما يزال وثنيًا، باعتباره الوثني الصالح، الذي انضم إلى اليهود مع أسرته وأحفاده ولأجيال عديدة.
11 وعِندَ طُلوعِ الفَجْرِ، علَّقوا رأسَ أَليفانا على الأَسْوار، وأَخَذَ كُلُّ رَجُلٍ سِلاحَه وخَرَجوا زُمَرًا إِلي مُنحَدَراتِ الجَبَل. 12 فلَمَّا رَآهُم بَنو أَشُّور، أَرسَلوا رُسُلًا إِلي ضُبَّاطِهم، فجاءَ هؤُلاءِ إِلي قُوَّادِهم وقُوَّادِ أُلوفِهِم وجَميعِ رُؤَسائِهم. 13 فذَهَبوا إِلي خَيمةِ أَليفانا وقالوا لِلقَيِّمِ على جَميعِ أُمورِه: ((أَيقِظْ سَيِّدَنا، لِأَنَّ العَبيدَ آجتَرَأُوا على النُّزولِ إلَينا لِمُحارَبَتِنا ومُرادُهم أَن يُفنَوا إلى آخِرِهم)). 14 فدَخَلَ بُوغا وقَرَعَ سِتارَ الخَيمَة، لِأَنَّه كانَ يَظُنُّ أَنَّه نائمٌ مع يَهوديت. 15 ولَمَّا لم يَسمع أحَدًا، أَزاحَ السِّتارَ ودَخَلَ المَضجعَ، فوَجَدَه مَطْروحًا على العَتَبَةِ مَيتًا ورأسَه مَفْصولًا عنه، 16 فصَرَخَ بِصَوتٍ عَظيمٍ ونحيبٍ وأَنينٍ وصُراخٍ شَديد ومَزَّقَ ثِيابَه. 17 ثُمَّ دَخَلَ الخَيمةَ الَّتي تُقيمُ فيها يَهوديت فلم يَجِدْها. فأَسرَعَ إلى الشَّعبِ وصَرَخَ: 18 ((لقد غدَرَ العَبيدُ غَدرًا، وآمرَأَةٌ واحِدةٌ مِنَ العِبرانِيِّينَ أَلقَتِ العارَ في بَيتِ نَبوكَدْنَصَّرَ المَلِك. فهُوَذا أَليفانا مَطْروحٌ على الأَرضِ ورأسُه لَيسَ علَيه)). 19 فلَمَّا سَمِعَ قُوَّادُ جَيشِ أَشُّورَ هذا الكَلامَ كُلَّه، مَزَّقوا قُمْصانَهم، وآضَطَرَبَت نُفوسُهمُ آضطِرابًا شَديدًا واَشتَّدَّ صِياحُهم وصُراخُهم كثيرًا في وَسَطِ المُعَسكَر.
قام الشعب بحسب نصيحة يهوديت بحمل أسلحتهم وخرجوا أمام مدينتهم محدثين جلبة وصياحًا بما يشبه هتاف النصر، فأسرع المراقبون بإبلاغ القادة، الذين طلبوا إلى (بوغا) إبلاغ القائد الأعلى أليفانا، انتظارًا لأوامره، ويرد في الترجمة اللاتينية، أنهم سخروا من العبرانيين قائلين (أن الفئران قد خرجت من جحورها) وفي وسط جلبة الأشوريين وصياحهم اعتقادًا منهم بأن ذلك هو نذير الحرب، لم ينتبهوا إلى رأس أليفانا المعلق على السور في مواجهتهم.
و قد استخدم اليهود هنا نفس الوسيلة التي استخدموها قديمًا في أيام جدعون قاضى إسرائيل، عندما بثوا الرعب في قلوب المديانين (قض 7: 19 – 23).
و لاشك في أن لحظة اكتشاف مصرع أليفانا وهرب يهوديت، قد أوقع الرعب في قلوب القادة وجسّد أمامهم حجم المأساة والعار الذي لحق بهم، فقد صار الرجل الذي يرتعبون منه جثة هامدة بدون رأس، إن هذا هو نصيب كل من يشهر سيفًا على شعب الله ويرفع رمحًا.
و ها قد فهم الأشوريون في لحظة، الخطة التي رسمتها ونفذتها فتاة عبرانية عزلاء، في غفلة من الكل، وهم الذين ظنوها كإحدى المستهترات.! إن ذلك يذكرنا بالمشهد المشابه الذي حدث في عصر القضاة عندما قتل عجلون ملك موآب بيد إهود:
(فدخل إليه اهود وهو جالس في علية برود كانت له وحده، وقال اهود عندي كلام الله اليك فقام عن الكرسي، فمد اهود يده اليسرى واخذ السيف عن فخذه اليمنى وضربه في بطنه، فدخل القائم أيضًا وراء النصل وطبق الشحم وراء النصل لأنه لم يجذب السيف من بطنه وخرج من الحتار، فخرج اهود من الرواق واغلق ابواب العلية وراءه واقفلها ولما خرج جاء عبيده ونظروا وإذا ابواب العلية مقفلة فقالوا أنه مغط رجليه في مخدع البرود فلبثوا حتى خجلوا وإذا هو لا يفتح ابواب العلية ، فاخذوا المفتاح وفتحوا وإذا سيدهم ساقط على الأرض ميتا،و أما اهود فنجا إذ هم مبهوتون وعبر المنحوتات ونجا إلى سعيرة. وكان عند مجيئه أنه ضرب بالبوق في جبل أفرايم فنزل معه بنو إسرائيل عن الجبل وهو قدامهم، وقال لهم اتبعوني لأن الرب قد دفع اعداءكم الموابيين ليدكم فنزلوا وراءه واخذوا مخاوض الاردن إلى مواب ولم يدعوا احدا يعبر، فضربوا من مواب في ذلك الوقت نحو عشرة آلاف رجل كل نشيط وكل ذي باس ولم ينج أحد، فذل الموابيون في ذلك اليوم تحت يد إسرائيل واستراحت الأرض ثمانين سنة. ” قض 3: 20 – 30 “)
هنا تصل القصة إلى الذروة! فعند هذه النقطة، وفي تلك الأثناء انهار الجيش وفقد القادة القدرة على اتخذ القرار، وإنحلت قوتهم وامتلكهم رعب شديد.
الوصيفة:
في غمرة هذه الأحداث علينا أي ننسى الوصيفة وشخصيتها والدور الذي قامت به، فهي الفتاة الحكيمة التي توخت فيها يهوديت الكفاءة لترافقها في هذه الرحلة الخطرة، فقد غامرت الوصيفة بحياتها، وأغلب الظن أنها علمت بالخطة من سيدتها، فهي أمينة السر وهي التي حملت أليفانا في الجعبة وحتى أخرجتها أمام الشعب في بيت فلوى، هذا وقد عاشت مع سيدتها بعد تلك الأحداث حتى شاخت يهوديت فأعتقتها قبيل موتها (16: 23).