تفسير سفر اللاويين ١٤ للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الرابع عشر
شريعة تطهير الأبرص

إن كان البرص يُشير إلى النجاسة والخطية،  فقد جاءت شريعة التطهير تدقق في فحص الأبرص أو من كان مشتبهًا في أمره، ولم يكن للكاهن أن يصدر حكمه بعجلة حتى لا يُضار أحد. والآن إن كان أحد قد برئ من البرص فالأمر يحتاج إلى طقس طويل وإجراءات طويلة ومشددة حتى يتحقق الكاهن من تطهيره، ويقدر أن يدخل به إلى الجماعة المقدسة من جديد. فالخطية مهما بدت صغيرة لكنها تُحرم الإنسان من عضويته في الجماعة المقدسة، وعودته تستلزم تكلفة هذه مقدارها، قدمها الإبن الوحيد لأبيه على الصليب. وكما يقول الشهيد يوستين: [ليفهم البرص كرمز للخطية، والأشياء التي ذبحت كرمز لذاك الذي ذبح لإجلنا[180]].

1. طقس التطهير في اليوم الأول   [1-8].

يمكننا إيجاز التطهير الذي يتم في اليوم الأول هكذا:

أولاً: يؤتى به إلى الكاهن:

لم يقليأتي إلى الكاهنإنمايؤتى به إلى لكاهن، فالأبرص الذي تطهر لا يقدر أن يأتي إلى الكاهن مباشرة في الوقت الذي يريده، إنما يقوم أحد أقربائه أو معارفه بإبلاغ الكاهن بأمرهولعل هذا يُشير إلى دور الكنيسة في الدخول بكل نفس إلى الكاهن الأعظم ربنا يسوع المسيح. فإن كانت علاقتنا مع الآب في إبنه الذي يرفعنا إلى حضن الآب ويمتعنا بشركة أمجاده الأبدية، فإن هذا الإبن الوحيد الجنس هو مسيح الكنيسة ورأسها وعريسها. نعرفه في علاقة شخصية داخلية وعميقة، خلال إدراكنا لعضويتنا في الكنيسة جسده المقدس. لا نستطيع أن نتعرف على المسيح كأفراد منعزلين عن الجماعة المقدسة، إنما كأعضاء في هذه الجماعة نتفاعل معها حتى ونحن في مخدعنا الخفي، وتعمل الجماعة فينا وتقدمنا لعريسها مخلص العالم.

الأبرص الذي يتمتع بطقس التطهير عندما يؤتى به إلى الكاهن إنما هو المفلوج الذي حملته الكنيسة متمثلة في الأربعة رجال إلى السيد المسيح، يحمله الأسقف كما الكاهن والشماس والشعب ليقدمه الكل إلى المخلص، فنسمع الإنجيلي يقول: “فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك” (مت 9: 2). إنه ينعم بمغفرة الخطايا والحّل من رباطات الفالج أو التطهير من البرص كعطية شخصية يقدمها له ذاك الذي يحبه، خلال كنيسته التي تحمله بصلواتها وتقدمه له بالحب. لذلك يقول القديس الشهيد كبريانوس: [من يبقى خارج الكنيسة فهو خارج معسكر المسيح[181]]. ومن كلماته أيضًا: [من ليس له كنيسة أمًا لا يقدر أن يكون له الله أبًا[182]].

ثانيًا: خروج الكاهن إليه:

إن كانت الكنيسة تحمل بالحب والإيمان الأبرص إلى كاهنها السماوي لتطهيره من خطاياه، فإنها لا تقدر أن تدخل بالأبرص إلى المحلة بل يخرج إليه الكاهن ليحمله معه إلى داخل المحلة. بمعنى آخر إن كنا بالحب نشتهي دخول كل نفس إلى العضوية الكنسية الروحية أو إلى الحياة الجديدة التي صارت لنا في الرب على مستوى سماوي، فإن هذا العمل في الحقيقة هو من صميم عمل ربنا يسوع نفسه الذي ينطلق إلى النفس ليقيمها من موتها خلال مياه المعمودية بروحه القدوس عضوًا مقدسًا في جسده. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إذ لا يستطيع الأبرص أن يدخل المحلة يخرج إليه ذاك الذي يقدر أن يخرج خارج المحلة، معلنًا: “خرجت من عند الآب وقد أتيت إلى العالم” (يو 16: 18)[183]].

أقول بصدق ما أحوج كل كاهن أن يختفي في الكاهن الأعظم السماوي ربنا يسوع، لكي فيما هو يقدم النفس له، ينطلق ربنا نفسه إلى أعماق قلب هذه النفس، يخرج إليها لكي يدخل بها إلى قيامته ويمتعها بحياته ويهبها أمجاده. لنختفي نحن كبشريين في ذاك الذي يقدر وحده أن يجتذب بروحه القدوس النفس ويغسلها ويقدسها لنفسه!

ثالثًا: العصفوران (الطائران):

يأمر الكاهن أن يؤخذ للمتطهر عصفوران (طائران) حيان طاهران وخشب أرز وقرمز وزوفا” [4].

عند إعلان تطهير أبرص يقدم عنه عصفوران أو طائران حيان طاهران، وقطعة من خشب الأرز طولها حوالي قدم ونصف تقريبًا متوسطة السمك، وقطعة نسيج من الصوف المصبوغ باللون القرمزي مع باقة من نبات الزوفا. لعل العصفورين هنا يقومان بنفس الدور الذي كان يقوم به التيسان في طقس يوم الكفارة العظيم (لا 16) حيث يذبح الواحد ويطلق الآخر حيًا في البرية إشارة إلى السيد المسيح الذي من جانب ذبح على الصليب عن خطايانا ومن الجانب الآخر قد انطلق إلى برية حياتنا قائمًا من الأموات ليُقيمنا معه ويدخل بنا إلى أحضان أبيه السماوي. هكذا في تطهير الأبرص يُذبح عصفور في إناء خزفي على ماء حيّ [5] إشارة إلى ذبح السيد المسيح الذي حمل ناسوتنا كإناء خزفي، مقدمًا لنا فيه دمه الثمين والماء اللذين فاضا من جنبه لتطهيرنا. أما العصفور الآخر الحّي الذي يُغمس في دم العصفور المذبوح [6] ويطلق حيًا على وجه الصحراء [7] فيُشير إلى السيد المسيح القائم من الأموات حاملاً لنا دمه المقدس للتكفير عنا.        

يتحدث الشهيد يوستين عن هذين العصفورين، قائلاً: [شُبه بطير إذ يُفهم أنه من فوق من السماء. يُغمس الطير الحّي في دم الميت ويُطلق، لأن كلمة الله الحيّ قد صلب ومات في هيكل (الجسد) كمن يتألم وإن كان الله لا يتألم[184]].

رابعًا: خشب الأرز:

إن كان برص الخطية يفسد الإنسان ويحطم حياته تمامًا، فإن تقديم خشب الأرز الذي لا يسوس يُشير إلى اتحادنا بخشبة الصليب التي تنزع عنا فسادنا أبديًا فلا يصيبنا شر، بل نصير في عيني الله كشجرة مغرسة على مجاري مياه الروح القدس التي ورقها لا ينتثر. يقول العلامة أوريجانوس: [بدون خشبة الصليب يستحيل أن نطهر من برص الخطية، فإننا نلجأ إلى خشبة المخلص التي يقول عنها الرسول: “إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا ظافرًا بهم فيه” (كو 2: 15)[185]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الصليب جدد العالم وهداه، وطرد الضلال وأعاد الحق، جعل الأرض سماءً والبشر ملائكة. به لم تعد الشياطين مرعبة، بل تافهة ومزدري بها. به لم يعد الموت موتًا بل رقادًا، فقد انطرح الذي يحاربنا تحت أقدامنا[186]].

خامسًا: القرمز والزوفا:

يقول العلامة أوريجانوس: [القرمز هو صورة الدم المقدس الذي  تفجّر من جنبه بطعنة الحربة (يو 19: 34)… وهو المعين في الخلاص كما جاء في الكتب الإلهية عندما ولدت ثاماروكان في ولادتها أن أحدهما أخرج يدًا فأخذت القابلة وربطت على يده قرمزًا، قائلة: هذا خرج أولاً” (تك 38: 28). وأيضًا حينما استقبلت راحاب الزانية الجاسوسين وأخذت منهما الوعد بالخلاص، قالا: أربطي هذا الحبل من خيوط القرمز في الكوة التي أنزلتنا منها” (يش 2: 18) [187]].

وللعلامة أوريجانوس تفسير آخر للقرمز، فبجانب لونه القرمزي الذي يُشير إلى الدم، فإنه يستخدم في صبغ الأنسجة ليغير لونها إلى لون آخر، فيحمل النسيج لونًا جديدًا بخلاف لونه الأصلي، هذا يُشير إلى النار التي تحمل سمتين كما لو كانت لونين: فمن ناحية تعطي نورًا ومن جانب آخر تحرق. هكذا السيد المسيح ليلقي نارًا على الأرض (لو 12: 49)، بهذه النار يُنير لكل إنسان آتيًا إلى العالم (يو 1: 9) ويلهب قلوبنا كمن تحترق عندما يفتح أمامنا الكتب، إذ هي نار الإستنارة والإلتهاب الداخلي[188].

وقد سبق لنا الحديث عن القرمز والزوفا في أكثر من موضع[189]. نذكر هنا ما قاله القديس يوحنا الذهبي الفم عن غسلنا ورشنا بالقرمز والزوفا الروحيين لا الماديين: [هؤلاء لم يرشوا بصوف قرمزي ولا بزوفا، لماذا؟ لأن الغسل هنا ليس غسلاً جسديًا، بل هو غسل روحي، وكان الدم روحيًا، كيف؟ إنه لم يفض عن جسد حيوانات غير عاقلة بل عن جسد أعده الروح (القدس). بهذا الدم لم يرشنا موسى بل المسيح خلال الكلمة التي قيلت: هذا هو دم العهد الجديد لمغفرة الخطايا. هذه الكلمة هي عوض الزوفا قد غمست في الدم ورشتنا جميعًا. هناك كان غسل الجسد خارجيًا لأن التطهير كان جسديًا، أما هنا فالتطهير روحي يدخل إلى النفس ويغسلهاهناك كان الرش يتم عند السطح فقط، والذي يُرش يُغسل من آثار الدمأما بالنسبة للنفس فالأمر غير ذلك إذ يمتزج الدم بكيانها ليجعلها نشيطة ونقية، يقودها إلى ذات الجمال غير المقترب إليه[190]].

يقدم لنا القديس أغسطينوس تعليقًا على الزوفا، إذ يقول: [الزوفا كما نعرفه هو عشب متواضع لكنه يستخدم للشفاء. يقال أن جذره يمسك بالصخر، لهذا فهو يرمز لتنقية القلب. لتمسك بجذرمحبتك في صخرتك (السيد المسيح)، وكن متضعًا كإلهك فتتمجد في إلهك الممجد. يُنضح عليك بالزوفا حين يغسلك إتضاع المسيح. أيضًا لا تحتقر هذا العشب بل أذكر أثره الطبيفقد اعتدنا أن نسمع من الأطباء أن الزوفا يستخدم في علاج المرضى، لتنقية الرئتين. فإن كان انتفاخ الرئة يحمل كبرياءً إذ ينفث الإنسان بكبرياء كما قيل عن شاول المضطهد أنه كان متكبرًا، إذ كان ذاهبًا ليقيد المسيحين وينفث تهددًا (أع 9: 1). كان ينفث قتلاً، أي ينفث دمًا إذ كان رئتاه غير نقيتين[191]].

ليتنا إذن يكون لنا جذور الزوفا التي تتعلق بالصخرة فلا يغلبنا العدو بالرغم من ضعفنا كعشب فقير متواضع، ولنغتسل بالزوفا ونستخدمه لتنقية صدورنا من كل كبرياء وتشامخ، حاملين فينا إتضاع ربنا يسوع، لكي نتمجد أيضًا معه.

سادسًا: الماء الحّي:

ويأمر الكاهن أن يُذبح العصفور الواحد في إناء خزف على ماء حيّ” [5].

إن كان السيد المسيح قد حمل طبيعتنا إنما لكي يحلّ في وسطنا مقدمًا دمه كفارة عن خطايانا. إنه كالعصفور الذي يُذبح في إناء خزفي، أي يموت عنا بالجسد، ويفيض ماءً حيًا.

الماء الحيّ هو الماء الذي يؤخذ من نهر جارٍ أو من ينبوع مستخدم غير راكد، هذا الماء الحيّ يرتبط بالدم كسرّ للتطهير، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يؤخذ الماء للتطهير ولإتمام الأسرار بالماء والدم اللذين ينبعان من جنب المخلص (يو 19: 34)، وكما يؤكد يوحنا في رسالته أن التطهير يُعد في الماء والدم والروح (1 يو 5: 6، 8)[192]].

سابعًا: النضج على المتطهر بالدم والماء:

وينضح على المتطهر من البرص سبع مرات فيطهره، ثم يطلق العصفور الحيّ على وجه الصحراء” [7].

إن كنا نتطهر بالدم والماء فإنه يلزم نضحهما على  الخاطئ سبع مرات ليتطهر، أي يبقى متمتعًا بعملهما طوال أيام حياته (رقم سبعة يُشير إلى سبعة أيام الأسبوع)، وكأن التطهير وإن انطلق في مياه المعمودية لكنه يبقى عملية مستمرة غير منقطعة.

يقول القديس جيروم: [إذ جئتم إلى الكاهن مزق ثيابكم تمامًا، وما بدى سليمًا عندما كان مغطى ظهر بالبرص عندما انكشف. لقد جعلكم الكاهن تنظرون خطاياكم وترون برصكم، وردكم إلى مجمع الله خلال الدم والماء، خلال الدم أي آلام المسيح، والماء أي خلال المعمودية. وإذ تشفون يتحقق فيكم القول: “طهرني من الخطية بالزوفا فأطهر، إغسلني فأبيّض أكثر من الثلج” (راجع مز 51: 7). إنكم لاتزالون في مصر (رمزيًا) إلى هذا اليوم مادمتم لم تأتوا إلى الدم والماء، لذلك لن تخلصوا! أتريدون الخلاص من الملاك المهلك في مصر؟ خذ بعضًا من الزوفا واغمسها في الدم ورشها على قوائم بابك، وإذ يرى المهلك الدم على جبهتك لا يمسك[193]].

ثامنًا: غسل ثيابه:

بلا شك يخلع الأبرص ثيابه المشقوقة (لا 13: 45) قبل لقائه بالكاهن، والآن إذ نضح عليه بالدم والماء مرات لا يحتاج الأمر إلى استبدال ثيابه وإنما يكتفي بغسلها. إننا نستبدل إنساننا العتيق مرة واحدة في مياه المعمودية، لكننا إذ خلعناه لا نحتاج بعد إلاَّ غسل الثوب بدموع التوبة. وكما قال السيد المسيح للقديس بطرس حين أراد أن يغتسل: “الذي اغتسل ليس له حاجة إلاَّ إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله” (يو 13: 10).

إن كانت الثياب تُشير إلى الجسد بكل أحاسيسه وعواطفه واشتياقاته، فالله لا يُريد تحطيم الجسد ولا إبادة أحاسيسه وإمكانياته وإنما يطلب غسلها وتقديسها لحساب مملكته. الجسد لا يمثل عداوة بالنسبة للمؤمن مادام خاضعًا لروح الرب بل يكون آلة بر تعمل لحساب الله (رو 6: 13)،ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله” (رو 12: 1). 

طالبت الشريعة الأبرص عند تطهيره أن يغسل ثيابه وأن يغتسل أيضًا [9]. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [في الحقيقة يلزم نزع كل دنس وكل قذارة لا من ملابسه فقط وإنما من جسده أيضًا، حتى لا تبقى فيه آثار للبرص الذي زال عنه[194]].

تاسعًا: حلق شعره:

يميز العلامة أوريجانوس بين شعر الخاطئ وشعر البار، فشعر الخاطئ يُشير إلى الأعمال الميتة التي تنبع عن شهوات جسده الشريرة، إذ هو بلا روح ولا دم[195]، لذا يليق عنده تطهيره أن يحلقه إعلانًا عن ترك كل ما ينبع عن ماضيه الشرير من أفكار وكلمات وتصرفات هي خطايا ميته. أما البار فيحمل الحكمة الروحية شعرًا ينبع عن جسده الذي تقدس، فلا يليق بالنذير أن يعلو موسى رأسه (1 صم 1: 11، عد 6: 5)، فيقال عنه: “ورقه لا ينتثر وكل ما يصنع ينجح فيه” (مز 1: 3)، وكما قال السيد المسيح لتلاميذه: “شعور رؤوسكم محصاه” (مت 10: 30). [هذا يعني أن كل أعمالهم وكلماتهم وأفكارهم محفوظة أمام الرب، إذ هم أبرار وقديسون، أما الخطاة فعلى العكس يجب إزالة كل أعمالهم وأقوالهم وأفكارهم. وهذا هو ما عناه بقوله أنه يحلق جميع شعر جسمه فيطهر[196]].

عاشرًا: إقامته خارج خيمته:

ثم يدخل  المحلة لكي يُقيم خارج خيمته سبعة أيام” [8].

بعد إتمام كل الطقوس السابقة من تطهير بالدم والماء وغسل لثيابه وحلق شعره واغتساله يدخل المحلة لكنه يبقى سبعة أيام خارج خيمته. فإن كانت الخيمة تُشير إلى جسده (2 كو 5: 1، 4)، فإننا إذ نتمتع بالخلاص ونغتسل بدم ربنا يسوع المسيح وننزع أعمالنا الشريرة وكلماتنا وأفكارنا كشعر نحلقه لكننا ونحن ندخل المحلة أي نُحسب أعضاء في جسد المسيح، كنيسة الله المقدسة ومحلته، نبقى خارج خيمتنا، أي نعيش كمن هم فوق متطلبات الجسد. نبقى كل أيام غربتنا نشعر بالتغرب حتى عن جسدنا، حتى متى جاء اليوم الثامن، أي يوم الرب العظيم ننعم بالدخول إلى جسد روحاني سماوي يليق بالحياة الجديدة. وكما يقول الرسول بولس: “يُزرع جسمًا حيوانيًا ويُقام جسمًا روحانيًاوكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي” (1 كو 15: 44، 49).

2. طقس التطهير في اليوم السابع  [9].

وفي اليوم السابع يحلق كل شعره: رأسه ولحيته وحواجب عينيه وجميع شعره يحلق، ويغسل ثيابه ويرحض جسده بماء فيطهر” [9].

سبق له في اليوم الأول لتطهيره أن حلق كل شعره وغسل ثيابه واغتسل، والآن في اليوم السابع يكرر ذات العمل، فلماذا؟

أولاً: لعل ما حدث في اليوم الأول يُشير إلى ما يتمتع به المؤمن في بداية عضويته الكنسية حين دخل مياه المعمودية ونال البنوة لله وصار طاهرًا في عيني الله. الآن ما يحدث في اليوم السابع إنما يُشير إلى حاجته إلى تجديد عمل المعمودية لا بتكرارها وإنما بالتوبة المستمرة مادام في الجسد خاضعًا للزمن. يبقى الإنسان كل زمان حياته حتى اليوم السابع، أي حتى نهايتها مجاهدًا بلا انقطاع لتجديد العهد الذي أقامه مع الله في مياه المعمودية بالروح القدس. ففي نظر الكنيسة المعمودية هي بداية حياة وليست نهايتها، وبداية جهاد بالرب وليس نهايته. وكما يقول القديس غريغوريوس النيصي: [من يتقبل حميم التجديد يشبه جنديًا صغيرًا أعطى له مكان بين المصارعين لكنه لم يبرهن بعد على استحقاقه للجندية[197]]. ويقول القديس مرقس الناسك: [العماد المقدس عمل كامل ويهبنا الكمال، إلاَّ أنه لا يكمل إنسانًا يهمل في تنفيذ الوصايا[198]]. ويقول القديس ماريعقوب السروجي: [أيها المعتمدون في المياه وقد صرتم إخوة الإبن الوحيد، لا تهينوه بأعمالكم الجسدية. لا تختلطوا بالزانية عوضًا عنه. طهروا نفوسكم من الزلات لكي تختلطوا بأبيه[199]].

ثانيًا: لعل ما يمارس من طقس في اليوم السابع يُشير إلى خلع ما هو زمني كل أيام غربتنا حتى النفس الأخير، أي حتى اليوم السابع، حتى متى حلّ اليوم الثامن أي يوم الرب العظيم أو دخولنا إلى الفردوس لا يكون فينا أثر لشيء زمني أو أرضي أو جسداني، بل يظهر كل ما فينا جديدًا. 

ثالثًا: يرى  العلامة أوريجانوس في حلق شعر الرأس رمزًا لنزع كل فكر فينا بخلاف إيمان الكنيسة من جهة الرأس يسوع المسيح، فلا يكون فينا فكر غريب عن التعليم الإلهي الكنسي. وحلق شعر اللحية يُشير إلى تجديد شباب الإنسان، والعودة إلى حياة الصبا ليحيا المؤمن بالروح القدس في تجديد روحي لا ينقطع، وشباب لا تصيبه شيخوخة العجز. أما حلق الحواجب العينين فيُشير إلى انتزاع روح الكبرياء باتضاع السيد المسيح ووداعته فلا يكون لنا الحاجب المتشامخ.

3. طقس التطهير في اليوم الثامن  [10-20].

ثم في اليوم الثامن يأخذ خروفين صحيحين ونعجة حولية صحيحة وثلثة أعشار دقيق تقدمة ملتوتة بزيت ولجّ زيت” [10].

إن كان في اليوم الثامن يتم كمال التطهير، ففيه كان يتحقق الختان (الثامن من ميلاد الطفل الذكر). وفي اليوم الثامن أو الأول من الأسبوع الجديد قام السيد المسيح من الأموات واهبًا إيانا بره

لأول مرة يمارس الأبرص المتطهر عملاً بنفسه إذيأخذ خروفين…”، يقدم هذه الذبائح للكهنة، أما في الأيام السابقة فكان غيره يقوم بالعمل. وكأنه إذ ينعم المؤمن خلال التطهير الروحي بالعضوية الكنسية يلزم أن يدخل إلى العمل الإيجابي الذي للبنيان خلال تمتعه بقيامة الرب والحياة الجديدة المقامة (في اليوم الثامن).

أما الذبائح والتقدمات فهي خمس:

أ. خروف صحيح يقدم ذبيحة إثم يكفر بها الكاهن عن خطاياهوهذا هو بداية العمل: الإعتراف بآثامنا والإيمان بالمصلوب كغافر للإثم.

ب. نعجة حولية ذبيحة خطية، واختيارها أنثى يُشير إلى عمل الولادة، فلا يكفي أن يؤمن الإنسان برفع خطاياه، وإنما يلتزم بالإيمان بالله واهب الثمر. فتقديم النعجة هنا كما يقول العلامة أوريجانوس يعني أن النفس [تلد أعمالاً صالحة وتكون غنية في ثمر البر[200]].

ج. خروف آخر صحيح يقدمه الكاهن ذبيحة محرقة موضع سرور الآب. فالمؤمن إذ يتمتع بالصليب لا يرى غفران آثامه وخطاياه فحسب إنما يتحد بالمصلوب ليُقدم حياته ذبيحة محرقة لله. في ذبيحتي الإثم والخطية يعلن رفضه للخطية والإثم وشوقه للعمل الصالح، أما في ذبيحة المحرقة فيعلن ممارسته للفضيلة في الرب، أي ينطلق بالحب إلى الجانب الإيجابي.

بالنسبة للفقير كان يكفي أن يقدم خروفًا كذبيحة إثم مع يمامتين أو فرخي حمام عن ذبيحتي الخطية والمحرقة [21-22].

د. ثلاثة أعشار دقيق ملتوت بالزيت، وكما يقول العلامة أوريجانوس: [يفهم من ذلك إستحالة التطهير خارج سرّ الثالوث[201]]. إن كنا قد رأينا في تقدمة الدقيق (أصحاح 2) إشارة إلى شخص السيد المسيح بكونه تقدمة الكنيسة للآب وفي نفس الوقت هبة الآب للكنيسة إذ يهبها حياة إبنه عطية لها نتمتع بجسده ودمه المبذولين كسرّ ثبوتها فيه وتمتعها بالحياة الأبدية، فإن رقم 3 يُشير إلى قبولنا الإيمان بالثالوث القدوس الذي نتعرف عليه خلال إدراكنا لسرّ تجسد الكلمة وصلبه، أما كونه ملتوتًا بالزيت، فإنه لا يستطيع أحد أن يتقبل سرّ الثالوث ولا أن يقول عن المسيح إنه رب إلاَّ بزيت الروح القدس.

ولعل رقم 3 أيضًا إذ يُشير للقيامة مع المسيح، فإننا إذ نتطهر نقدم تقدمة القربان خلال قيامة الرب، لنقبل أيضًا الرب المقام من الأموات كمصدر شبع روحي حقيقي.

هـ. لجّ الزيت لمسح المريض والسكب عليه، إذ يتحقق تطهيرنا خلال ذبيحة الصليب بعمل الروح القدس الذي مسحنا به في سرّ الميرون. هذا واللج هو مكيال للسوائل يسع ثلث لتر تقريبًا، أما الزيت فكان من زيت الزيتون النقي.

إذ يقدم المتطهر هذه الذبائح والتقدمات للكاهن، يقوم الأخير بالدور التالي:

أولاً: يقف الكاهن والأبرص المتطهر أمام الرب لدى خيمة الإجتماع، إذ يتقدم السيد المسيح الكاهن الأعظم بكونه الباب الذي به ندخل خيمة الإجتماع، أي به ننعم بالعضوية الكنسية أو العضوية في جسده المقدس. ويرى معلمو اليهود أن الكاهن يقف على باب الخيمة من الداخل بينما يقف الأبرص المتطهر خارج الباب.

ثانيًا: يشترك كاهنان معًا في الطقس، فإذ يقف المتطهر أمام ذبيحة الإثم، يضع يده عليها ويذبحها، يستقبل كاهنان الدم، واحد يستقبله في وعاء ليذهب به إلى المذبح ويرشه على جانب المذبح، أما الثاني فيستقبل الدم في يده ليقف أمام الأبرص المتطهر[202]. ويجعل منه على شحمة أذنه اليمنى وعلى إبهام يده اليمنى وعلى إبهام رجله اليمنى [14]. يقول العلامة أوريجانوس: [يحتوي التطهير الأخير على تنقية الأذن لكي تكون حاسة السمع طاهرة ونقية، وهكذا اليد اليمنى لكي تكون أعمالنا طاهرة لا تمتزج بدنس أو غضن، هذا ويلزم أن تكون أرجلنا طاهرة لكي تسير نحو الأعمال الصالحة وحدها وتنقاد إليها، ولا تسير وراء الخطايا الشبابية[203]].

ليتنا إذ نتقدم إلى رئيس كهنتنا الأعظم نراه يمد يده المقدسة ليمسح كل حواسنا وأعضاء جسدنا بروحه القدوس خلال سرّ الميرون المقدس، فتكون لنا على الدوام الأذن المقدسة التي تسمع صوته وتستجيب لوصيته، واليد الطاهرة المرفوعة كذبيحة مسائية والعاملة لحساب ملكوته، والرجل المستقيمة التي تنطلق نحو السماء بلا عائق حتى نستقر هناك. 

يرى الحاخام يهوذا[204] أن الكاهن يرش على الثلاث مواضع (الأذن وإبهام اليد وإبهام الرجل) في وقت واحد، وإنه إن كان الأبرص قد فقد أحد هذه الأعضاء لن يمكن تطهيره.

ثالثًا: يأخذ الكاهن من لجّ الزيت ويصب في كفه اليسرى وينضح منه سبع مرات أمام الرب نحو قدس الأقداس. ومما فضل من الزيت الذي في كفه يجعل الكاهن على شحمة أذن المتطهر اليمنى وعلى إبهام يده اليمنى وعلى إبهام رجله اليمنى على دم ذبيحة الإثم، أي يرش الزيت على نفس الموضع الذي نضح عليه بالدم. أما ما يتبقى من الزيت الذي في كفه فيجعله على رأس المتطهر ويكفر عنه الكاهن أمام الرب [15-18].

يُشير هذا الزيت إلى الروح القدس الذي يهبه السيد المسيح لكنيسته من عند أبيه لكي تنضح به على أولادها لتقديسهم. لذلك يُسميه العلامة أوريجانوس: [موهبة نعمة الروح القدس]. فلا يقف الأمر عند التطهير من الخطية بالدم والماء وإنما يلزم التمتع بالإمتلاء بالروح القدس الذي به ينعم المؤمن بالحلة الأولى والخاتم البنوي (لو 15: 22)، وتتمتع بالمصالحة مع الآب والثبوت في البنوة له[205].

رابعًا: يقدم الكاهن ذبيحة الخطية ويكفر عن المتطهر من نجاسته ثم يذبح المحرقةبهذا يتم تطهير الأبرص خلالالدم والماء والروحكقول الرسول: “والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة: الروح والماء والدم، والثلاثة هم في الواحد” (1 يو 5: 8).

4. طقس التطهير للفقراء    [31-32].

يمارس الطقس بكل دقة للفقير كما للغني ليحمل ذات المفاهيم، إذ تطهير النفس في عيني الله لا يختلف إن كانت نفس غني أو فقير، لكن الفقير يقدم ذبائح وتقدمات غير مرهقة له، وهي: خروف واحد ذبيحة إثم، يمامتان أو فرخا حمام ذبيحتا خطية ومحرقة، عشر واحد دقيق ملتوت بالزيت، لجّ زيت.

يقبل الله هذه التقدمات المتواضعة واهبًا للفقير ذات العطية التي ينعم بها على الغني بلا تمييز، فإن الله يطلب القلب والثمر الداخلي لا العطاء في ذاته.

5. برص المنازل   [33-56].

قدم الله لليهود الشريعة الخاصة ببرص المنازل وهم بعد في البرية يسكنون الخيام، معلنًا إهتمامهم حتى ببيوتهم التي لم يسكنوها بعد. فإن كان الله يأمرنا ألا نهتم بالغد، إنما لكي يعلن إهتمامه هو بغدنا.

هنا يقوم الكاهن بدور المهندس في عصر بدائي بالنسبة لليهود، ليطمئن على بيوت الشعب ولا تتعرض حياتهم للخطر. فإن شاهد إنسان في منزله ظهور آثار رطوبة أو نشع على الجدران، فتميل إلى الحمرة أو الخضرة، أو تكون مناطق أعمق من الجدار أي تآكلت، يتدخل الكاهن هكذا:

أولاً: يتم تفريغ المنزل من كل ما فيه قبل دخول الكاهن [36].

ثانيًا: يرى الكاهن العلامات ويخرج من البيت ويغلقه سبعة أيام.

ثالثًا: إن رأى الضربة قد إمتدت يأمر باقتلاع الحجارة المصابة وبإلقائها خارج المدينة في مكان نجس حيث القاذورات وجيف الحيواناتإلخ. ثم يقشرون حول الضربة ويلقون تراب الملاط أيضًا خارج المدينة في مكان نجس.

رابعًا: يقومون بعملية ترميم ووضع ملاط جديد، فإن عادت الضربة وأفرخت بعد الترميم يُهدم المنزل كله.

خامسًا: لو أن الضربة لم تمتد تُحسب أنها برئت ويتم التطهير بعصفورين وخشب أرز وقرمز وزوفا كما في حالة الأبرص

يلاحظ في هذا الطقس عدم تسرع الكاهن في الحكم حتى لا يفقد أحد منزله ويخسره إلاَّ بعد التأكد من خطورة الموقفولعل في هذا رمز لطول أناة الله معنا نحن مسكنه، فهو لا يحكم علينا بالهدم سريعًا بل يعطينا فرصًا للتوبة، وذلك كالبستاني الذي يشفع في الشجرة ويمهلها سنة فسنة، ينقب حولها ويضع زبلاً لعلها تأتي بثمر فلا تُقطع (لو 13: 6-9).

فاصل

سفر اللاويين – أصحاح 14
تفاسير أخرى لسفر اللاويين أصحاح 14

فاصل

تفسير لاويين 13 تفسير سفر اللاويين
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير لاويين 15
تفسير العهد القديم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى