تفسير سفر أيوب ١١ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الحادي عشر
نظريات وحقائق!

 

لم يستطع كل من أليفاز وبلدد أن يحركا ذهن أيوب سنتيمتر واحدًا، فهل يمكن لصوفر أن يفعل شيئًا؟ يبدو أن صوفر كان أكثر الأصدقاء بساطة، كان رجلاً عمليًا يمثل الإنسان الكنسي، لكن للأسف في حرفية وبدون علاقة شخصية مع الله، مما يفقده الفكر الكنسي الحق.

فكر الكنيسة الحقيقي، ليس فكر الرغبة في المجادلات والمناقشات العقيمة والغبية، لكن فكر التمسك بروح الحق والاستقامة والإيمان السليم بقلبٍ متسعٍ، ونفسٍ منحنيةٍ في خشوعٍ وتواضعٍ، ووجهٍ باشٍ كوجه المخلص الدائم الابتسامة.

كانت قروح أيوب تدمي وجراحات قلبه المنكسرة تتزايد، وليس من يسكب زيتًا يلطف القروح، ولا من يضمد الجراحات، بل جاء حديث الصديق الثالث صوفر كالسابقين يزيد جراحاته التهابًا حتى وإن نطق لسانه بالحقٍٍ.

لقد أنصت صوفر إلى أيوب وهو يعترض على ما حلّ به إذ هو بار.

بالحق ظن صوفر لو أن أيوب التقى مع الله وجهًا لوجه لأدرك أنه خاطيء عظيم، وأن ما حلّ به أخف بكثير مما كان يستحقه [٤-٦].

يتحدث صوفر بكلمات بليغة عظيمة الحكمة الإلهية، مظهرًا أن الله كلي القدرة [٧-١٠]، ولا يُمكن فحصه.

وأن لله السلطان المطلق على المذنب، وأنه يراقب بني البشر بدقةٍ وعدلٍ. ولا يمكن للإنسان أن يخفي خطيته عنه [١١-١٤].

لذا يليق بالإنسان أن يتوب وأن ينزع عنه خطيته، بهذا يتمتع بالرخاء والسلام [١٥-٢٠].

يرسم صوفر صورة جميلة عن شقاء أيوب، وإمكانية الخلاص من هذا الشقاء إذا اعترف بخطيئته وتاب عنها، وذلك بإتباع الخطوات التالية:

1- أن يتطلع في داخله، ويغير تفكيره.

2- أن يتطلع إلى فوق، ويتحرك ليلتصق بالله، ويصلي إليه بغيرة ولجاجة.

3- يجب أن يصلح الاعوجاج في تصرفاته، وإن وجد في يديه أية ثروة عن طريق الإثم أو الخداع والغش والظلم يعوض عنها.

4- يجب عليه أن يبذل أقصى جهده ليصلح حال بيته أيضًا.

مع ما قدمه صوفر من حكمة لكن كان متكبرًا يعوزه التواضع، كما كان يتكلم بالمنطق السليم دون الشركة في الآم أخيه بحبٍ صادقٍ.

  1. اتهام أيوب بالكبرياء والكذب 1-4.
  2. عدل الله لن يخطئ 5-6.
  3. كمال الله لا يُفحص7-9.
  4. سلطان الله لا يُحد 10.
  5. علم الله شامل 11-12.
  6. لا مفر من الغضب الإلهي إلا بالتوبة والصلاة15-20.

 

  1. اتهام أيوب بالكبرياء والكذب

فَأَجَابَ صُوفَرُ النَّعْمَاتيُّ: [1]

أَكَثْرَةُ الْكَلاَمِ لاَ يُجَاوَبُ،

أَمْ رَجُلٌ مِهْذَارٌ يَتَبَرَّرُ؟ [2]

بدأ أليفاز بمقدمة في وقار شديد (أي 4: 2)، أما بلدد فكان في حديثه أكثر خشونة مع أيوب (أي 8: 2). وجاء صوفر ينقَّض عليه بغير رأفة، موجهًا إليه عبارات قاسية جدًا.

لم يكن ممكنًا لصوفر أن يقبل منطق أيوب أن الله هو الذي سمح له بالتجارب بالرغم من كونه بارًا (4:11،21:9، 7:10).، فإن هذا يناقض كل فلسفة دينية سواء في عصره أو سابقه لعصره. بدا أيوب كمن هو مناقض لكل الفلاسفة وأصحاب المعرفة الدينية.

بدأ بقوله: “أكثرة الكلام لا يجاوب، أم رجل مهذار يتبرر؟” ظن صوفر في أيوب إنسانًا ثرثارًا، ورجل كلام بلا عمل، لا يستحق أن يُرد عليه، ومهذارًا لا يحمل جدية، ليس في حديثه روية، أو اتزان ليجاوب عليه.

سبق بلدد فقال لأيوب: “وتكون أقوال فيك ريحًا شديدة” (8: 2)، وجاءت في الترجمة السبعينية: “نسمات فمك تفيض في كلمات”. هنا يتهمه صوفر النعماتي بالثرثرة.

حقًا لقد قدم صوفر آراء سديدة وحكيمة، لكنه اتهم أيوب ظلمًا، لأنه لم يشاركه مشاعره كإنسانٍ متألم للغاية، ولم يدقق في كلمات أيوب وظروفه. اتهم أيوب بالثرثرة وكثرة الكلام الباطل بغية تبرير نفسه. مع أن ما نطق به لا يُحسب ثرثرة بالنسبة لما حلّ به. وفي حديثه لم يبرر نفسه بل اعترف أنه خاطي (9: 20).

هنا يدعو صوفر أيوب أن يكون حكيمًا، بأن يجلس عند أقدام الشيوخ، وينصت صامتا، لا أن يكون كثير الكلام. يقول القديس يعقوب : “ليكن كل إنسانٍ مسرعًا في الاستماع، مبطئا في التكلم” ( يع 1: 19). ولعله يقصد بالشيوخ أصحابه الثلاثة. بمعني آخر يرى صوفر أن من حقه ومن حق زميليه ان يقدما عظات ونصائح ومشورات لأيوب، وما على أيوب سوى أن يجلس عند أقدامهم يتعلم منهم في صمتٍ!

v     لم يقدم صوفر رأيًا خاطئًا بقوله: “رجل كثير الكلام لن يقدر أن يتبرر. مادام الإنسان يترك نفسه يتكلم مسترسلاً، تهرب منه رزانة الصمت، ويفقد حفظ نفسه في أمان. لهذا كتب: “عمل العدل سكونًا” (إش 32: 17). هكذا يقول سليمان: “مدينة متهدمة بلا سور، الرجل الذي ليس له سلطان على روحه في الكلام” (أم 25: 28 Vulgate). كما يقول أيضًا: “كثرة الكلام لا تخلو من معصية” (أم 10: 19). ويحمل المرتل شهادة بذلك، قائلاً: “رجل كثير الكلام لا يثبت علي الأرض” (مز 140: 11)، بل وتُفقد قيمة العبارة الصادقة عندما تُقال دون تمييز…

العبارة الصادقة هي ضد الأشرار، إن كانت تهدف إلى نفع الصالحين… أما الأشرار فلا يقدرون أن يسمعوا الكلمات الصالحة بصبرٍ، متجاهلين إصلاح حياتهم، فيلصقون أنفسهم بكلمات للرد على الغير.

v     من يتذكر كلمات الطوباوي أيوب يعرف مدى بطلان هذا الاتهام… إذ كيف يدعو نفسه زكيًا (طاهرًا) من قال: إن تبررت يحكم علي فمي” (9: 20).

البابا غريغوريوس (الكبير)

حقًا لقد حثّ الكتاب المقدس على الصمت ما أمكن إن كان مقدسًا، كما حثّ على الكلام البنّاء. طلب المرتل حراسة إلهية مشددة لفمه، قائلاً: “اجعل يا رب حارسًا لفمي، احفظ باب شفتي” (مز 141: 3).

v     يعلم الروح القدس الإنسان أن يحفظ جسده كله – من الرأس إلى القدمين – في تناسق:

فيحفظ العينين لتنظرا بنقاوة…

ويحفظ اللسان لينطق بالصلاح فقط، معطيًا وزنًا لكل كلمة، فلا يسمح لشيء دنس أو شهواني أن يختلط بحديثه[469].

v     اهربوا من أولئك الذين يحملون اسم “رهبان وبتوليين” دون أن يكون لهم الإدراك الحقيقي والتمييز الحسن. لأنكم إن اختلطتم بهم، لن يدعوكم تتقدمون، بل وربما يطفئون حرارة غيرتكم، إذ لا حرارة لهم، بل برودة، وهم يسيرون وراء أهوائهم. فإن أتوا إليكم وتحدثوا معكم في أمورٍ أرضيةٍ حسب أهوائهم الخاصة، لا تستكينوا لهذا، إذ كتب الرسول بولس: “لا تطفئوا الروح، لا تحتقروا النبوات” (1 تس 2.:5)، عالمين أنه لا شيء يطفئ الروح أكثر من الكلام الباطل[470].

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

v     إن الصمت من أجل الله جيد، كما أن الكلام من أجل الله جيد.

الأب بيمين

v     عندما يكون لسانك كلِسان المسيح، ويصير فمك فم الآب، وتكون هيكلاً للروح القدس، عندئذ أيّة كرامة تكون هذه؟! فإنه وإن كان فمك مصنوعًا من الذهب ومن الحجارة الكريمة فإنه لن يضيء هكذا كما بحُليّ الوداعة. أيّ شيء أكثر حبًا من الفم الذي لا يعرف أن يشتم، بل هو معتاد أن يبارِك وينطق بالكلمات الصالحة[471].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

v     كثيرًا ما تكلمت وندمت، وأما عن الصمت فما ندمت قط[472].

القديس أرسانيوس معلم أولاد الملوك

v     يصمت البار، إذ يُعلّم أن للسكوت وقت، وللكلام وقت (جا 3: 7)، لكنّه لا يصير أبكم. إنّما هذه سِمة خاصة بالصدّوقيّين، وكل من يُعلّم بالباطل، إذ هم يبكمون ولا يصمتون. فإنهم وإن كانوا بُكمًا عن الحق، لكنهم غير صامتين، هكذا قال الرب للبحر وليس للإنسان أن يبكم، منتهرًا إيّاه إذ كان عاصفًا[473].

العلاّمة أوريجينوس

أَصَلَفُكَ يُفْحِمُ النَّاسَ،

أَمْ تَلْغُو، وَلَيْسَ مَنْ يُخْزِيكَ؟ [3]

دعاه مستهزئًا، يهزأ بالله حيث يشتكي عليه، ويسخر بالناس، إذ لا يخجل من أن يخدع من هو حوله. كما دعاه متهكمًا، هكذا استخدم صوفر ألفاظًا قاسية، ووصفه بصفات غير لائقة.

يرى البعض في كلمات صوفر هنا اتهامًا غير مباشرٍ لأليفاز وبلدد، فكان يليق بهما أن يبكماه، ولا يتركاه يثرثر بكلامٍ عنيفٍ وخاطئٍ وبلا معنى.

في رأيه قد تصَّلف أيوب في تشامخ وبأكاذيب باطلة، ولم يستطع صديقاه أن يفحماه، بل صمتا عن الدفاع عن الحقٍ.

يتهمه بأنه “يلغو” أي “يسخر” أو “يتهكم”، بتقديمه اللوم لله خلال شكواه.

إِذْ تَقُولُ: تَعْلِيمِي زَكِيٌّ،

وَأَنَا بَارٌّ فِي عَيْنَيْكَ [4].

اتهم أيوب بكلمات لم يتفوه بها. اتهمه بالقول إن تعليمه زكي، وهو لم يقل هذا.

اتسم أيوب بسلامة الإيمان. حقًا أحيانًا اندفع مشتهيًا الموت بسبب ثقل التجربة، لكنه لم يفكر في الانتحار.

وعاتب الله، لكنه لم ينكر عدالة الله ومراحمه.

وأعلن أنه ليس شريرًا ولا مرائيًا لكنه لم ينكر أنه خاطئ وينتظر المغفرة.

تعليم أيوب عن الله أفضل بكثير من أصدقائه.

لقد أساء هؤلاء الأصدقاء، خاصة صوفر، كلمات أيوب، وأعطوها معانٍ غير ما في ذهنه، ولم يراعوا ظروفه، وأنهم لو وضعوا في مكانه ربما أخطأوا في حق الله.

  1. عدل الله لن يخطئ

وَلَكِنْ يَا لَيْتَ اللهَ يَتَكَلَّمُ،

وَيَفْتَحُ شَفَتَيْهِ مَعَكَ [5].

يستشهد صوفر بالله نفسه، أنه وإن صمت ولم يجاوب أيوب، لكن إلى حين، فإن تكلم وفتح شفتيه لاكتشف أيوب أنه يستحق أكثر بكثير مما حلّ به.

ما أصعب أن نضع أنفسنا كما على العرش الإلهي وندَّعي أننا نعلم ما في فكره، ونحكم على الآخرين ناسبين الحكم لله.

لقد تحققت أمنية صوفر، وتكلم الله مع أيوب، فتح شفتيه مدافعًا عنه، مطالبًا أصدقائه بالاعتذار له، وأن يطلبوا صلواته عنهم فيسامحهم.

حقًا شتان ما بين أن يفتح الإنسان فمه ليحكم على إخوته ويدينهم تحت ستار الدفاع عن الحق والشهادة لله القدوس، وبين ان يفتح الله فمه ويتحدث مع الإنسان. يتكلم الله بالحق، لكنه الحق المملوء حبًا وحكمة عملية، في صراحة عاتب سمعان بطرس، بل ودعاه “شيطانًا” حين اعترض على صلب السيد المسيح وموته، لكنه كان يسنده ، كما مدحه عندما اعترف أان يسوع هو المسيح ابن الله.

يفتح الإنسان الخاطئ الضعيف فمه ليعكس ضعفه وأخطاءه على الغير، أما لله فيفتح فمه لكي يهب الخاطئ قوة للاعتراف وإمكانية للتوبة، وقدرة على التقديس الدائم والنمو الروحي المستمر بعمل روح الله القدوس.

v     يقول الحق لبطرس الذي كان لا يزال مملوءً بالمفاهيم الأرضية: “لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس” (مر 8: 33)، ومع هذا عندما اعترف حسنًا قيل له: “إن لحمًا ودمًا لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السماوات” (مت 16: 17). هكذا يفتح الله شفتيه عندما يعلن إرادته للبشر بافتقادٍ صريحٍ.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     لما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاء بسبب خطايانا، وجب علينا أن نتنحى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟!

إذن يجب علينا ألا يدين أحد أخاه، فإن حدثتك نفسك بمحاكمة الآخرين فاعلم أن الناموس لم يقمك قاضيًا ومحاكِمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حرمته…

إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنا في وظيفة المرشد والمعلم[474].

القديس كيرلس الكبير

v     سيحكم الله في وقته المناسب. فإن القاضي يُهان متى ادعى خادم ونطق بحكم قبل معرفة قرار الحكم الذي للقاضي[475].

v     ابسط رداءك على المذنب واستره، إن كنت لا تقدر أن تحتمل وتضع أوزاره على نفسك.

مار إسحق السرياني

وَيُعْلِنُ لَكَ خَفِيَّاتِ الْحِكْمَةِ!

إِنَّهَا مُضَاعَفَةُ الْفَهْمِ،

فَتَعْلَمَ أَنَّ اللهَ يُغَرِّمُكَ بِأَقَلَّ مِنْ إِثْمِكَ [6].

يرى صوفر أنه كان يليق بأيوب أن يلتزم الصمت عوض اتهام الله بالظلم لأنه يجربه وهو بار. وقد أكد له صوفر ان ما حلٌ به هو عقوبة أقل مما يستحقه إثمه. فيليق به أن ينتظر المزيد من النكبات.

إذ كان صوفر يشعر بعجزه عن إقناع أيوب اشتهي أن يُظهر الله لأيوب خفيات حكمته الإلهية ويعطيه فهمًا مضاعفًا، فيعلم أن التأديب الذي حلّ به أقل مما يجب.

يميز البابا غريغوريوس (الكبير) بين معرفة أعمال الحكمة الإلهية العظيمة وبين أعمال الحكمة الإلهية الخفية العظيمة. فمن السهل أن يتمتع الإنسان بمعرفة حكمة الله العظمي خلال الطبيعة التي خلقها لأجل الإنسان، وعطاياه الفائقة اليومية. أما معرفة حكمته الخفية العظيمة فيصعب إدراكها حيث يبدو الله كأنه تخلى عن الإنسان، فيسمح له بالضيق أو التجربة. يحتاج الإنسان إلى نعمة إلهية ليدرك ما وراء الألم من حكمة إلهية خفية، فإذا ما نال الإنسان هذه المعرفة تحسب معرفة مضاعفة، حيث يدرك حكمة الله عندما يعطي وأيضا عندما يأخذ؛ عندما يقدم للإنسان ما يشتهيه وأيضًا عندما لا يقدم له طلبته.

v     “ويعلن لك خفيات الحكمة، وأن ناموسها مضاعف” (أي 11: 6).

أعمال الحكمة العظمي هي أنه عندما يحكم الله القدير الذين خلقهم يأتي بهم إلى نهاية الصالحات التي بدأ بها، ويعين بإلهاماته هؤلاء الذين ينيرهم بنور افتقاده، فمن الواضح لأعين كل البشر أن الذين خلقهم بسخائه المطلق يسندهم برأفاته. وعندما يمنحهم هبات روحية هو بنفسه يدخل بهم إلى الكمال، هؤلاء الذين بدأ معهم في سخائه بالرأفات.

أما أعمال الحكمة العظمي السرية فهي عندما (يبدو كأنه) يتخلى عن من خلقهم، عندما لا يكمل الأعمال الصالحة التي بدأ بها معنا بسبب الخطية، عندما ينيرنا ببهاء نعمته المنيرة، ومع هذا يسمح بتجربة الجسد أن تضربنا بضباب العمى. عندما لا يهتم إن يحفظ لنا العطايا الصالحة التي وهبنا إياها، فيسمو بأشواق نفوسنا نحوه، ومع هذا يضغط علينا بطريقة خفية خلال عجز ضعف طبيعتنا.

كان بولس قلقًا كي يبلغ أسرار هذه الحكمة عندما قال: “يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء، لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرا؟” (رو 11: 33)… إذ كان بولس عاجزًا عن بلوغ أسرار الله عاد إلى معرفة ضعفه.

كان صوفر متعلمًا بالسعي وراء المعرفة، لكنه كان جاهلاً بسبب وقاحة حديثه المتعجرف، غير مدرك لحقيقة نفسه، ناظرًا إلى حاله الضعيف كشخصٍ فاضلٍ.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يقول صوفر أنه حيث يعلن الله للإنسان حكمته الخفية، يهبه فهمًا مضاعفًا. هذه حقيقة يتمتع بها المؤمن الصادق والأمين. إنه لا يكف عن أن يطلب من الله أن يهبه حكمة لإدراك خطة الله، فينال فهمًا مضاعفًا.

ماذا يعني بالفهم المضاعف؟

أولاً: يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن إدراك حكمة الله الخفية، ليس إدراكًا نظريًا عقلانيًا بحتًا، لكنه معرفة الخبرة والحياة، حيث ترتبط الحكمة بالحب، فالحكيم ينال فهمًا مضاعفًا، حيث يمارس حبًا مضاعفًا، ألا وهو حب الله وحب القريب. ينال حبًا مضاعفًا نحو الله وبلا حدود؛ وينال حبًا مضاعفًا نحو إخوته، فيود بكل كيانه أن يقدم إخوته عنه في كل شيءٍ، ويشتهي أن يتعامل معهم كما يريد أن يعاملونه به.

ناموس المحبة ناموس مضاعف، حيث نلتزم بالحب لله أو للقريب.

هذا ومن جهة محبتنا لله ينبغي أن يكون حبًا مضاعفًا، حيث نحبه بكل القلب وكل النفس وكل القدرة، فلا نترك لأنفسنا شيئًا لا نقدمه لله.

ومن جهة حبنا للقريب فهي مضاعفة، حيث نُطالب من جانب ألا نستخف بقريبنا خلال الطمع أو الإهانة باللسان أو الاستهانة بأجساد الغير خلال أنانية الشهوات الجسدية؛ ومن الجانب الآخر أن نسلك مع الغير حسبما نود الغير أن يفعل بنا.

v     وناموسها مضاعف” ” (أي 11: 6). بماذا يُفهم “ناموس الله” سوى الحب؟ به نقرأ بطريقة باطنية كيف يجب مساندة وصايا الحياة بأعمال خارجية. يقول صوت الحق عن هذا الناموس: “هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضًا” (يو 15: 12). يقول عنها بولس: “المحبة هي تكميل الناموس” (رو 13: 10). وأيضًا: “احملوا بعضكم أثقال بعض” (غل 6: 2). فإنه بماذا يمكن أن يفهم ناموس المسيح أكثر من المحبة، التي بالحق نتممها حينما نحمل أثقال إخوتنا على أساس المحبة؟

هذا الناموس عينه يدعي “مضاعفًا“، حيث أن المحبة، المملوءة بالعناية الفائقة بغيرة، تمتد إلى كل أعمال الفضيلة. لقد وُضعت بوصيتين فقط لكنها تبلغ إلى عددٍ لا يُحصي. فإن بدء الناموس هو محبة الله ومحبة قريبنا (مت 22: 39- 40)…

لكن “محبة الله” تنقسم إلى ثلاثة أقسام. فإننا نُوصى بحب خالقنا “بكل قلبنا وكل نفسنا وكل قدرتنا”. وفي هذا يلزمنا أن نلاحظ أن الكلمة المقدسة توصي بالالتزام بمحبة الله. فهي لا تخبرنا فقط كيف، وإنما تعلمنا إلي أي مدى حيث تضيف “من كل“. فمن يرغب أن يسر الله بالكمال يليق به ألا يترك في نفسه شيئًا لنفسه.

ومحبة قريبنا جاءت في وصيتين. فمن جانب قيل بواسطة رجلٍ بارٍ: “افعلوا هذا أن لا يكون لك إنسان تبغضه” (طوبيت 4: 15). ومن الجانب الآخر يقول الحق: “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا بهم” (مت 7: 12). بهاتين الوصيتين أُحجم التصرف الشرير ووُضع علينا التصرف الحسن.

v     لذلك ناموس الله بحق يدعي “مضاعفا“، فبينما هو ذو مبدأ المحبة، ما أن يستولي على العقل حتى يلهبه بطرق مضاعفة بأعمالٍ لا حصر لها… يعلن بولس عن مضاعفة هذا الناموس عبنه بطريقة لائقة، معددًا الآتي: “المحبة تتأنى وتترفق، المحبة لا تحسد، المحبة لا تتفاخر ولا تنتفخ، ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها، ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم، بل تفرح بالحق” (1 كو 13: 4-6).

البابا غريغوريوس (الكبير)

ثانيًا: الفهم المضاعف يعني المزيد المستمر غير المنقطع. مادمنا في الجسد لن نتوقف عن طلب النمو في الحكمة والمعرفة والحب. بل ويرى بعض الآباء أن هذا النمو لا يتوقف حتى في الحياة الأبدية. فكلما تطلع المؤمن إلى الله، ونال اتحادًا أعمق، ينمو بلا توقف في الحكمة والمعرفة والحب. إنه لن يكف عن أن يتغنى على الدوام: “هوذا الكل قد صار جديدًا” ( (رؤ 21: )

v     مع أن كل واحد يطلب المزيد من المعرفة على الدوام، فإنها تبقى المعرفة ناقصة في كل الأمور بالنسبة لكمالها الحقيقي حتى يحل الزمن ليأتي ما هو كامل ويزول ما هو جزئي[476].

القديس باسيليوس الكبير

 

v     إنه يشجعها ويحثّها ألا تجلس خاملة هناك، بل تخرج إليه خارجًا، وتحاول أن تراه لا من الشبابيك، ولا من مرآة في لغز، بل تذهب إليه وتراه وجهًا لوجه (نش 2: 9). لأنه الآن إذ هي لا تستطيع أن تراه يقف هكذا خلفها وليس أمامها، يقف وراء ظهرها، وخلف الحائط (نش 2: 9)[477].

العلامة أوريجينوس

لم يعرف صوفر حدوده، فإن كان ما يحث به أيوب هو طلب معرفة مضاعفة، وهذه طلبة مقدسة، ومشورة حسنة، لكن في عدم التزامه بالحدود أعلن في غباوة أن ما حلّ بأيوب أقل مما يستحقه. وكأنه يليق بأيوب أن يتوقع المزيد من الضربات.

هنا يشبه البابا غريغوريوس (الكبير) صوفر بالصديق الذي يرافق صديقه ويذهب معه إلى الوعر ليساعده في قطع أخشاب، وإذا به في عدم حكمة يضرب بالفأس، فيطير رأس الفأس، ويحطم رأس صاحبه. عوض أن يساعده في قطع الأخشاب، بغباوة قطع رأسه!

يليق بنا في حكمة أن ندرك ما هي حدود التوبيخ والانتهار، وما هي حدود التأديب، حتى لا نحطم إخوتنا. وكما يقول الرسول بولس عن تأديب الشاب الذي أراد أن يلتصق بامرأة أبيه فأمر بعزله، عاد ليقول: “حتى تكونوا بالعكس تسامحونه بالحري وتعزونه، لئلا يُبتلع مثل هذا من الحزن المفرط، لذلك أطلب أن تُمكّنوا له المحبة” (2 كو 2: 7-8). فقد نال ما فيه الكفاية وبلغ التأديب غايته، وصار الأمر في غاية الخطورة، فإن لم يجد التائب أحضان الكنيسة الحانية يستعبده اليأس وتهلك نفسه. كما كانوا ملزمين بتأديبه بالعزل، الآن ملزمون بتمكين المحبة له وتجديدها لكي تتهلل نفسه بالخلاص.

v     “فتعلم أن الله يغرمك بأقل من إثمك” [6]… هنا يليق بنا أن نعرف أن صوفر وبخ الرجل البار بإثم عظيم حث اتهمه بطريقة خاطئة… لكن كلمة الإهانة المقدمة يمكن إزالتها إن راعينا الجذر الذي منه نبتت. لذلك بحق أمر الرب خلال موسى: “من ذهب مع صاحبه في الوعر ليحتطب حطبًا، فاندفعت يده بالفأس ليقطع الحطب، وأفلت الحديد من الخشب، وأصاب صاحبه فمات، فهو يهرب إلى إحدى تلك المدن فيحيا، لئلا يسعى ولي الدم وراء القاتل حين يحمي قلبه ويدركه إذا طال الطريق ويقتله” (تث 19: 5-6). فإننا نذهب مع صاحبٍ إلى الوعر حين نذهب مع قريب لنرى آثامنا، ونحن نحتطب عندما نقطع الأفعال الشريرة من الآثمة بهدف تقوي، لكن الفأس يطير من يدنا عندما يكون الإصلاح صعبًا للغاية، فيضرب قريبه ويموت، فيكون من قدم توبيخًا قد قتل سامعه من روح الحب. لأن ذهن الشخص المُوبخ يندفع للفور إلى كراهية إن كان يدينه دون مراعاة للحدود.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     يجب أن يسبق التوبيخ الرحمة لا الغضب.

القدِّيس أغسطينوس

v     لا يليق بالأطباء أن يسخطوا على المرضى، بل يجب عليهم أن يضادوا الأمراض ليشفوا المرضى.

القدِّيس باسيليوس الكبير

v     ارعَ الماشية لا بضجرٍ ولا بهزءٍ، كأن لك سلطان عليهم، بل كراعٍ صالحٍ تجمع الخراف إلى حضنك، وتقوِّي الحبالى.

الدسقوليَّة – باب ٤

  1. كمال الله لا يُفحص

أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ،

أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟ [7]

يصور صوفر عظمة الله ومجده كما يصور حماقة الإنسان وجهله، لهذا يلزم الخضوع له وطلب رحمته وعنايته. لا يمكن لإنسان اكتشاف حكمته فكيف يخَّطئه؟

من يقدر أن يبلغ إلى أعماق الله، ومن يعرف نهايته؟ مهما اشتقت إليه، مهما التصقت وتعرفت على شخصه، تبقى معرفتك له ناقصة تمامًا. لا تتخيل أنك تنجح في البحث عن جوهره، وإدراك كمال حقيقته. ندرك حقيقة وجوده، لكن لا نبلغ إلى إدراك أسراره. كالعين التي ترى المحيط، لكنها لا تبلغ نهايته.

ترجم القديس كيرلس الأورشليمي الكلمة المقابلة “لنهاية” بـ “أقل”: “أإلي أثار الله تجد، أم إلى أقل ما صنعه القدير تنتهي؟” ويعلق على ذلك: [إن كانت أقل أعمال الله غير مدركة، فهل يكون خالق هذه كلها مدركًا؟![478]]

v     “هل تجد أثرًا للرب؟ أو هل تبلغ نهاية ما يفعله القدير؟” بمعنى إن كنت كما سبق فقلت أنك لا تقدر أن تجد أثرًا لسفينة (على البحر)، ولا لطير نسر (في الهواء)، فمن يجد أثرًا لتدبيرات الله، أو من يقدر أن يفهم إيماءات عنايته الإلهية التي يصنعها بالتتابع؟

v     حسن أن يقول هذا عن الله، لكنه لم يقله صوفر بنية نقية، لكن وهو يمجد الله ينطق بالشر على البار.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     لم يكتشف بعد أحد أو سيكتشف ما هو الله في طبيعته وجوهره. فالاكتشاف يحدث في المستقبل. ليت هؤلاء الذين لهم فكر في هذا أن يبحثوا ويفكروا فيما سيتم في المستقبل.

يخبرني عقلي الذي على شكل الله عندما يمتزج ذاك الإلهي، أقصد الذهن والعقل، بما هو شبيه به؛ عندما تعود الصورة إلى أصلها الذي تشتاق إليه. هذا يبدو لي هو معنى هذه العبارة العظيمة أننا في الزمان المقبل سنعرف كما عُرفنا[479].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     مع أن كل واحد يطلب المزيد من المعرفة على الدوام، فإنها تبقى المعرفة ناقصة في كل الأمور بالنسبة لكمالها الحقيقي حتى يحل الزمن ليأتي ما هو كامل ويزول ما هو جزئي[480].

القديس باسيليوس الكبير

من يستطيع أن يدرك عمق أسرار الله وخطته، أو يتفهم أعماله، أو من يقدر أن يقتفي إثر خطواته؟ هكذا يبقى الإنسان يتمتع بالمعرفة المستمرة، وكلما تقدم يدرك بالأكثر عجزه عن إدراك أعماق سرّ الله.

يقدم لنا الآباء خلال الفكر الإنجيلي الطريق للدخول إلى سرّ معرفة الله، ألا وهو الحب. كلما التهبت قلوبنا بحبه عمليًا اغتسلت بصيرتنا الداخلية للتعرف على أعماق جديدة. وكلما دخلنا إلى أعماقٍ جديدةٍ في معرفة الله يزداد لهيب حبنا له، فنستخف بالزمنيات ونتعلق بالأبديات.

v     “هل تجد خطوات الله footsteps of God؟” ما هو الذي يدعوه “خطوات الله footsteps of God” سوى رأفات افتقاده؟ بهذا يحفزنا على التقدم نحو العلويات عندما نتفاعل مع نسمات روحه…

عندما تلهب محبة الرب الروحية القلب، يعطي معرفة لطريق نتبعه، كنوع من خطوات الله، كمن يسير ويترك بصمات قدميه على القلب…

حسنًا كان المرتل ماهرًا في إتباع خطوات خالقنا عندما قال: “نفسي تتبعك بجدية” (مز 63: 8)، وإذ أراد اقتناء رؤية علوية قال: “عطشت نفسي إلى الله، إلى الله الحي، متى أجئ وأظهر أمام وجه الله؟” (مز 42: 2).

يُوجد الله القدير بمفهوم واضح عندما نطأ تحت أقدامنا فساد موتنا. عندئذ يُرى بواسطة الذين يرتفعون إلى السماء في بهاء طبيعته الإلهية. أما في الزمن الحاضر، فإن نعمة الروح المنسكب في قلوبنا ترفع النفس من الأهداف الجسدية وتسمو بها بالاستهانة بالزمنيات، ولا يتطلع الذهن إلى أسفل وإلى كل ما يُشتهي من أسفل، ويلتهب بالشوق نحو العلويات.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     ليس للسان سلطان أن ينطق بكيفيتها (الأسرار الإلهية)، إنما ينظرها العقل الطاهر وحده، وبها يتنعم ويفرح بنظرها، ويتعجب ويبتهج بوجودهما، ويُذهل ويُسر باستعلانها له؛ ويذهل ويُختطف منهما إلى داخلهم.

وفي الله يُبتلع ويُسبى بنظر جماله، ويتحد بمجده وينذهل.

ليس من دخل إلى هذا، وينظر إلى ما يُرى ههنا بشهوة.

ليس من يتلذذ بهذه (الأسرار)، ويذوق أيضًا حلاوة شيء مما على الأرض.

ليس من ينظر جمالها، وينظر إلى جمال شيء مما في عالمنا أنه حسن.

ليس من استغنى بوجودها، ولا يستخف بالدرهم كالزبل.

ليس من استأنس بوجودها وسكر بالهذيذ بها، ولم يمقت في عينيه جلسات الناس وأنسهم.

ليس من انطلقت في نفسه وفي عظامه محبة المسيح، ويقدر أيضًا أن يحتمل قذارة الشهوة المرذولة.

ليس من صار رفيقًا للملائكة واستأنس بأسرارهم، ولم يرذل رفقة العالم ومكائده.

ليس من سُبي عقله بجمال رب الكل، ويقدر أيضًا أن يسبيه شيء مما في هذا العالم بشهواته.

ليس من ربط عقله بالله والاهتمام به، وينحل أيضًا من شيء ويرتبط بالهم به[481].

الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)

هُوَ أَعْلَى مِنَ السَّمَاوَاتِ،

فَمَاذَا عَسَاكَ أَنْ تَفْعَلَ؟

أَعْمَقُ مِنَ الْهَاوِيَة،ِ

 فَمَاذَا تَدْرِي؟ [8]

أَطْوَلُ مِنَ الأَرْضِ طُولُهُ

وَأَعْرَضُ مِنَ الْبَحْرِ [9].

إن كنا لا نستطيع أن نقيس علو السماوات ولا أعماق الهاوية ولا طول الأرض ولا عرض البحار، فكيف نقيس خالق هذه جميعها؟ يقول المرتل: “عجيبة هذه المعرفة، فوقي ارتفعت لا أستطيعها” (مز 139: 6)، “أحكامك لجة عظيمة” (مز 36: 6).

نرفع عيوننا إلى فوق نحو السماء، فنرى الله عاليًا أعلى منها. عندئذ تشتهي نفوسنا التحرر من عبودية محبة العالم، بعمل روح الله القدوس، الذي يطير بنا كما بجناحي حمامة.

نتطلع إلى أعماق الهاوية، فنرى الرب في حبه يحطم متاريسها، وينطلق بنا إلى الأحضان الإلهية.

نجول في الأرض المتسعة، فنجدها ضيقة للغاية أمام اتساع قلب الله لنا، حيث يضم كل البشرية من آدم إلى آخر الدهور، بحبٍ لا حدود له.

ننظر إلى المحيطات فنستخف بها أمام لجة محبة الله الفائقة.

v     “هو أعلى من السماء، فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق من الهاوية، فماذا تدري؟ أطول من الأرض، وأعرض من البحر” [8-9]. يلزم أن يُفهم ذلك بمعني روحي. إذا فُهم أي شيء خاص به بطريقة جسدية لهو أمر شرير. الآن هو أعلي من السماء، إذ يسمو فوق كل الأشياء بعدم إمكانية إدراك طبيعته الروحية. هو أعمق من الهاوية لكونه بسموه يعيننا نحن الذين في أسفل. إنه أطول من الأرض بكونه يتجاوز قياس الخليقة باستمرار أبديته لانهائيًا. هو أعرض من البحر، بكونه ضابط أمواج الأمور الزمنية، إذ يُحجمها، منجزًا إياها بقوته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     كل هذه الخصوصيات تشير إلى الإنسان وحده، فيكون “سماءً” عندما يرغب في أن يلصق نفسه بالعلويات.

وهو نفسه يكون هاوية عندما ينبطح مرتبطًا بالسفليات، مرتبكًا بالتجارب.

ويكون “أرضًا” عندما يكثر من الأعمال الصالحة خلال خصوبة الرجاء الثابت.

ويكون بحرًا عندما يضطرب بقلقٍ في بعض الظروف ويرتبك بنسمة ضعفه.

الله أعلى من السماء بكوننا نخضع لقدرة سلطانه، حتى عندما نسمو فوق أنفسنا.

إنه أعمق من الهاوية بكونه يدين الذهن البشري ذاته متطلعًا إليه وسط التجارب.

إنه أطول من الأرض بثمار حياتنا التي يهبنا إياها في النهاية. رجاؤنا ذاته في الزمن الحاضر لا يدرك شيئًا.

إنه أعرض من البحر حيث أن الذهن البشري إذ يتلاطم هنا وهناك يلقي بأهواء كثيرة تخص الأمور العتيدة.

وضع المرتل قلبه في العلا، ومع هذا فقد شعر أنه لم يبلغ إلى الله بعد، فيقول: “عجيبة جدًا هي معرفتك لي، إنها قديرة، لا أستطيع بلوغها” (مز 139: 6). عرف بولس ذاك الذي هو أعمق من الهاوية عندما فحص قلبه، لكنه كان يرهب دينونة الله الأكثر فحصًا. قال: “فإني لست أعرف شيئًا عن ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا؛ ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب” (راجع 1 كو 4: 4).

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. سلطان الله لا يُحد

إِنْ بَطَشَ أَوْ أَغْلَقَ أَوْ جَمَّعَ فَمَنْ يَرُدُّهُ؟ [10]

بلغ صوفر إلى ذات النتيجة التي سبق فبلغها أيوب الخاصة بحكمة الله المطلقة: “إذ خطف فمن يرده، ومن يقول له ماذا تفعل؟” (12:9) “في علمك إني لست مذنبًا، ولا منقذ من يدك” (7:10).

أن “بطش” بالموت، أو أغلق على أحد في السجن، أو جمعه كما في شبكة المصائد، فمن يقدر أن يمنعه؟ من ذا الذي يقدر أن يقف أمام حكم الله أو يقاوم عمله؟ من له السلطان أن يعترض على أحكام الله؟

v     “إن قَلَبَ كل الأشياء، فمن يناقضه؟ أو من يقدر أن يقول له: لماذا تفعل هذا؟” [10] الرب “يقلب” السماء عندما يدمر ارتفاع تأملات الإنسان بأمره المرعب السري. إنه يخرب الهاوية عندما يسمح لنفس أحدٍ أن ترتعب تحت تجاربها لتسقط في أقصى الحدود. ويُسقط الأرض عندما ينزع ثمار الأعمال الصالحة بسكب مصائب عليها. ويقلب البحر عندما يدحض ترددات (تموجات) روحنا المترددة بحدوث رعبٍ مفاجئٍ.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

تعثر مرقيون في القرن الثاني الميلادي، وأيضًا أتباعه من العبارات الواردة في العهد القديم بخصوص الغضب الإلهي، وقد سبق أن خصصت بندا خاصًا بمفهوم “غضب الله” في كتاب الحب الأخوي، فصل 8 عن الغضب. فالله لا يبطش بأحد ولا يغلق على أحدٍ، إنما ما ورد في الكتاب المقدس عن غضب الله هو من قبيل تقديم بعض الأمور الإلهية بلغة بشرية يمكننا فهمها.

لا يحمل الله انفعالات بشرية، إذ هو “حب”!

v     حين نقرأ عن غضب الرب وسخطه، ينبغي ألا نفهم اللفظ وفق معنى العاطفة البشرية غير الكريمة. إنما بمعنى يليق بالله، المنزه عن كل انفعالٍ أو شائبةٍ. ومن ثم ينبغي أن ندرك من هذا أنه الديان والمنتقم عن كل الأمور الظالمة التي ترتكب في هذا العالم.

وبمنطق هذه المصطلحات ومعناها ينبغي أن نخشاه بكونه المخوف المجازي عن أعمالنا، وإن نخشى عمل أي شيء ضد إرادته. لأن الطبيعة البشرية قد ألفت أن تخشى أولئك الذين تعرف أنهم ساخطون، وتفزع من الإساءة إليهم، كما هو الحال مع بعض القضاة البالغين ذروة العدالة.

فالغضب المنتقم يخشاه عادة أولئك الذين يعذبهم اتهام ضمائرهم لهم، بالطبع ليس لوجود هذه النزعة في عقول هؤلاء الذين سيلتزمون بالإنصاف في أحكامهم. لكن بينما هم في غمرةٍ من هذا الخوف، فإن ميول القاضي نحوهم تتسم بالعدالة وعدم التحيز واحترام القانون الذي ينفذه. وهذا مهما سلك بالرفق واللطف، موصوم بأقسى نعوت السخط والغضب الشديد من أولئك الذين عوقبوا بحقٍ وإنصافٍ[482].

القديس يوحنا كاسيان

  1. علم الله شامل

لأَنَّهُ هُوَ يَعْلَمُ أُنَاسَ السُّوءِ،

وَيُبْصِرُ الإِثْمَ فَهَلْ لاَ يَنْتَبِهُ؟ [11]

نحن نعرف عنه أقل القليل، أما هو فيدرك كافة أسرارنا حتى الخفية عنا. هو يعرف أناس السوء حتى وإن حسبناهم أو حسبوا أنفسهم أبرارًا، وهو يبصر الإثم الذي نرتكبه خفية. الأشرار مكشوفون أمامه، والشر لا يمكن أن يُخفى عنه. “فهل لا ينتبه؟” أي هل يقف في سلبية أمام الأشرار والشر، حتى وإن غض النظر إلى حين؟

v     “لأنه يعلم بطلان البشر، عندما يبصر الإثم أيضًا، فهل لا ينتبه؟” [11]… هنا يلاحظ الترتيب حسنًا، فيصف أولا البطلان أنه يُعرف، وبعد ذلك الإثم أنه يُنتبه إليه. فإن كل إثمٍ هو باطل، وليس كل بطلان هو إثم. فإننا نمارس أمورًا باطلة مادمنا نعمل ما هو زائل. في هذا يزول الشيء من أعين الممسك به، ويقال عنه إنه “باطل“. يقول المرتل: “إنما كخيال يتمشى الإنسان” (مز 39: 6)

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْم،ِ

وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ [12].

يقول صوفر إن الإنسان ذاته صار بعد السقوط فارغًا عديم الفهم، لأنه حرم نفسه من حكمة الله. صار “يشبه البهائم التي تُباد” (مز 49: 20). صار غبيًا كالحمار الوحشي (جحش الفرا) الذي تعود أن يسكن البرية. في غباوته يظن أنه حكيم، فلا يريد أن يخضع لأحكام الله، بل يقاوم، ظانًا أنه يعرف الحق والعدل.

ما قاله صوفر هو حقيقة سقط فيها الإنسان بوجه عام، لكن ما يشوب كلامه أنه يعني أيوب دون أصدقائه، فيحسبه في مرتبة حيوانات البرية الغبية، والتي بلا نفع. لكن إذ يتحدث عن نفسه يحسب نفسه حكيمًا، يقدم مشورة صادقة وفعالة!

v     “المائت مولود المرأة كجحش البرية” [12]. يشير بهذه الكلمات إلى أيوب، مساويًا إياه بجحش البرية. إذ قال: “لأن سهام الرب في جسدي… هل ينهق جحش البرية بلا سبب، إن لم يكن باحثًا عن طعام؟” (6: 4، 5). بمكرٍ يقول صوفر: لماذا يتحدث عن مائت مولود من امرأة، بمعني عن رجل من رجل، مادام أيوب نفسه يقارن نفسه بجحش البرية. لهذا يقول صوفر: “عبثا يختفي في تعقلانه” [12]. بهذه الكلمات الباطلة التي لا جدوى منها يحدر أيوب إلى التفاهة، إذ يقول صوفر أنه يجب أن يعوي كثيرًا جدًا ولا يتنهد كثيرًا متجنبًا أن يكون إنسانًا. إنه يقارنه بجحشٍ يتضور جوعًا.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     “الرجل الفارغ (الباطل) ينتفخ في كبرياء” هذه هي نهاية البطلان. الكبرياء يفسد القلب بالخطية فيجعله متوقحًا بالإثم، حتى بتجاهل إثمها لا تشعر النفس بالحزن على فقدانها براءتها، وتصاب بالعمى كجزاءٍ عادلٍ، وربما تنفصل عن التواضع أيضًا. كثيرًا ما يستعيد القلب لنفسه شهوات شريرة، متخليًا عن نير مخافة الرب، وكأنه يصير في حرية لارتكاب الشر. إنه يصارع ليجعل الشر في حيز العمل متساهلاً مع نفسه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إن كان الإنسان قد نزل إلى غباوة بعض الحيوانات بل والحشرات، وذلك بكبرياء قلبه وتشامخه على الله مصدر الحكمة، فإن حكمة الله صار إنسانًا، لكي يرتفع به إلى الحكمة السماوية، يتمتع به ويتحد معه. بالتجسد الإلهي، خاصة بصعود السيد المسيح، ارتفعنا به من انحطاط الحيوانات إلى الحكمة السماوية.

v     انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح… ويوضح بولس ذلك إذ يقول: “الذي نزل هو الذي صعد أيضًا”. وأين نزل؟! “إلى أقسام الأرض السفلى” وصعد إلى “فوق جميع السماوات” (أف 4: 9-10).

افهموا من هذا الذي صعد؟!…

إنني أتأمل في عدم استحقاق جنسنا حتى أدرك الكرامة التي نلناها خلال مراحم الرب المملوءة حنوًا. فإننا لم نكن سوى تراب ورماد

لقد صرنا أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة، إذ صار الإنسان يقارن بالحيوانات غير العاقلة، وقد صار مثلها (مز 48: 21). وإذ يصير الإنسان هكذا مثلها إنما يكون أردأ منها. لأنها هي هكذا بحكم طبيعتها، أما عدم تعقلنا نحن الخليقة المزينة بالعقل فهذا بإرادتنا…

وهكذا عندما تسمع عن الإنسان أنه صار كالحيوانات غير العاقلة، فلا تظن أنه صار مساويًا لها، بل أحط منها. لا بمعنى أنه نزل إلى مستوى أقل منها، بل إذ ونحن بشر صرنا إلى هذه الدرجة الشديدة من الجمود…

هذا ما يعلم به إشعياء بوضوح قائلاً: “الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم” (إش 1: 3).

لكن ليتنا لا نضطرب بسبب معاصينا القديمة، لأنه حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا (رو 5: 20).

لقد رأيتم كيف صرنا أكثر غباء من الحيوانات، فهل تريدون أن تروا كيف صرنا أكثر عدم تعقل من الطيور؟!

“اليمامة والسنونة المزقزقة حفظنا وقت مجيئها. أمَّا شعبي فلم يعرف قضاء الرب” (إر 8: 7).

انظروا كيف صرنا أكثر غباء من الحمار والثور وطيور السماء واليمامة والسنونة، أتريدون أيضًا أن تروا ماذا قد بلغ إليه غباؤنا؟!

إنه يرسلنا إلى النمل لنتعلم منه الحكمة “اذهب إلى النملة أيها الكسلان. تأمل طرقها وكن حكيمًا” (أم 6:6).

لقد صرنا تلاميذ للنمل، نحن الذين خلقنا على صورة الله ومثاله. ولكن لم يكن خالقنا هو السبب، بل نحن السبب إذ لم نرد أن نبقى على صورته ومثاله.

ولماذا أتكلم عن النملة فقط، فإننا قد صرنا أكثر جمودًا من الحجارة؟! هل أقدم دليلاً على ذلك؟ “اسمعي خصومة الرب أيتها الجبال ويا أسس الرب الدائمة. فإن للرب خصومة مع شعبه” (ص 6: 2).

إنه يدين الإنسان مستدعيًا أسس الأرض… لأن الناس صاروا أكثر جمودًا من أسس الأرض.

إلى أي مدى من عدم الحكمة يريدون أن يصلوا بعد؟! إذ صاروا أكثر غباء من الحمار وعدم حساسية من الثور، وعدم فهم من اليمامة والسنونة، وعدم حكمة من النملة، وأكثر جمودًا من الحجارة، بل ويشبهون الأفاعي (راجع مز 58: 5)…

ولماذا أتكلم بعد عن الخليقة غير العاقلة، فإننا قد صرنا (في شرنا) ندعى أبناء إبليس، إذ يقول “أنتم من أب هو إبليس” (يو 8: 44).

ومع ذلك فبالرغم من أننا جامدو الحواس، وناكرو المعروف، وأغبياء وأكثر قسوة من الحجارة، وهكذا صار انحطاطنا وعدم استحقاقنا… لكن اليوم ارتفعت طبيعتنا فوق كل الخليقة!

القديس يوحنا الذهبي الفم

إِنْ أَعْدَدْتَ أَنْتَ قَلْبَك،َ

وَبَسَطْتَ إِلَيْهِ يَدَيْكَ [13].

إن كان الله لا يمكن إدراك أبعاده – إن صح التعبير – وهو صاحب السلطان، والعالم بكل شيءٍ، فمن الجانب الآخر لا يدرك الإنسان كمال الله وكمال معرفته، بل ولا حتى الأسرار الخاصة بالطبيعة البشرية. لذا لاق بالإنسان عوض نقد تصرفات الله أن يلجأ إليه بالصلاة، وينزع كل ما هو غريب عن الله من إثمٍ وظلمٍ، فيرفع الله وجهه، ويهبه بركات لا حصر لها.

إِنْ أَبْعَدْتَ الإِثْمَ الَّذِي فِي يَدِكَ،

وَلاَ يَسْكُنُ الظُّلْمُ فِي خَيْمَتِكَ [14].

يطلب صوفر – كما فعل زميلاه من قبل – أن يلجأ أيوب إلى الله بقلبه كما بسلوكه العملي، فلا يحمل رياءً ولا خداعًا، حتى يستجيب الله لصلاته.

قدم نصيحة صادقة عن التوبة، لكن لا نعلم ماذا كانت نية صوفر، هل يطلب فعلاً توبته، أم كان يود تأكيد شر أيوب وريائه.

يطلب منه أن يعد قلبه بالنقاوة وأن يبسط يديه بالمثابرة في الصلاة كمن يريد أن يمسك بالله ولا يتركه حتى يباركه، كما فعل أبونا يعقوب.

يطالبه صوفر بالكف عن الإثم، وطرد الظلم من خيمته. طلب عجيب لإنسان يقطن في مزبلة، يلبسه الدود كرداءٍ، وتحوط به القروح من أخمص قدميه إلى رأسه. أي إثم يمكن أن يمارسه بيدين تنزفان بلا توقف؟ وأي خيمة يطرد منها الظلم وهو يعيش في مزبلة؟

v     كل خطية ترتكب إما بالفكر وحده أو بالفكر والعمل معًا. لهذا فإن “الإثم في يدك” هو إثم بالعمل. أما “الشر في الخيمة” فهو الظلم في القلب، فإن قلبنا يُدعى بحق خيمة، فيها نُدفن في داخلنا عندما لا تظهر أنفسنا في الخارج خلال العمل.

كان صوفر صديقًا لشخصٍ بارٍ يعرف ما يجب أن يُقال، لكنه هو نفسه إذ يحمل الشبه للهراطقة، في توبيخه لشخصٍ كهذا، لا يعرف بحق كيف يقدم حتى ما يعرفه. فإنه يأمرنا أولاً أن ننزع الإثم عن اليد، وبعد ذلك نزيل الشر من الخيمة. فإن من يقطع من نفسه كل الأعمال الشريرة الخارجية يلزمه بالضرورة أن يعود إلى نفسه، ويمتحن نفسه بحكمة من جهة قلبه، لئلا الخطية التي لم تعد تمارس بالفعل تبقي متخلفة في الفكر. لذلك حسنا قال سليمان: “هيئ عملك في الخارج، وأعده في حقلك، بعد ذلك تبني بيتك” (أم 24: 27). فإنه ماذا يعني عندما يهيأ العمل حتى يعد الحقل بنشاط في الخارج سوى أن نقتلع أشواك الشر، حتى نعمل حاملين ثمار المكافأة؟ وبعد حرث الحقل ماذا بعد ذلك من العودة إلى بناء بيتنا، سوى أننا غالبًا ما نتعلم من الأعمال الصالحة النقاوة الكاملة للحياة التي يلزم أن نبنيها في أفكارنا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     تُعطى التوبة للبشرية كنعمةٍ فوق نعمةٍ. التوبة هي ميلاد ثانٍ من الله، ننال عربونه في العماد، ونناله كعطية خلال التوبة.

التوبة هي مدخل الرحمة المفتوح لجميع طالبيها. خلال هذا المدخل ندخل إلى الرحمة الإلهية، وباعتزال هذا المدخل لا يقدر أحد أن يجد رحمة.

إذ “أخطأ الجميع” كقول الكتاب الإلهي، “يتبرّرون مجّانًا بالنعمة” (رو 23:3-24). التوبة هي النعمة الثانية، تولد في القلب كثمر للإيمان والمخافة.

المخافة هي العصا الأبوية التي تقودنا حتى إلى عدن الروحية، لكن ما أن نبلغ هناك تتركنا وترجع.

عدن توجد في الحب الإلهي، حيث فيه فردوس كل التطويبات. هذا هو الموضع الذي فيه نال القديس بولس قوتًا فائقًا للطبيعة. إذ ذاق شجرة الحياة تعجّب قائلاً: “ما لم تره عين، وما لم تسمع به أذن، وما لم يخطر على قلب بشر، ما أعدّه الله للذين يحبونه” (1 كو 9:2)[483].

القديس مار اسحق السرياني

v     لا يوجد مرض يمكن أن يصيب النفس إلا وتُقدم له كلمة الرب دواءً. وكما توجد أدوية مركبة يقوم الأطباء بخلطها ومزجها لمعالجة الأمراض الجسدية، هكذا توجد أدوية مركبة يعدها روح الرب لمعالجة شهوات الخطية ومواجهتها، فيقدر من يشعر بالمرض أن يجد الدواء قريبًا منه، ويتمتع بالشفاء.

جميع الأمراض تُشفي بما يضادها، فالأمراض التي تتسبب من البرد تُشفي بالأعشاب الساخنة الحارة، والأمراض التي تتسبب من الحرارة تُشفي بواسطة الأعشاب المرطبة…

تعلَّم إذن من هذا أيها الحكيم، يا من تريد شفاء أمراض نفسك، وأفعل لنفسك ما يصنعه علم الطب مع الجسد. فإن الأمور التي على المستوى الخارجي قد وضعت أمام عيوننا كمثال نحتذي به بالنسبة لما يمس المستوى الداخلي، فتُشفي نفوسنا بنفس الطريقة التي تُشفي بها أجسادنا.

إذن لنُعدّ الدواء المضاد لمواجهة كل شهوة:

ضد الشك: الإيمان،

وضد الخطأ: الحق،

وضد الارتياب: اليقين،

وضد الخبث: البساطة،

وضد الكذب: الصراحة،

وضد الخداع: الصدق،

وضد الاضطراب: الوضوح،

وضد القسوة: الحنان،

وضد الوحشية: الرأفة،

وضد الشهوة الجسدية: الشهوة الروحية،

وضد اللذة: الألم،

وضد فرح العالم: فرح المسيح،

وضد الأغاني: التسابيح الروحية…

وضد الحزن: الفرح،

وضد الإعجاب والفخر بأنفسنا: الرجاء الصادق في الله،

وضد الرغبات الجسدية: الرغبات الروحية،

وضد النظرة الجسدية: النظرة الروحية…

وضد التطلع إلى الأمور المنظورة: التفكير في ما لا يُرى…

وضد الارتباط بالعائلة الجسدية (بالنسبة للراهب): الارتباط بالعائلة السماوية،

وضد الحياة في مسكن أرضى: الحياة والسكنى في أورشليم العليا.

إذًا تُشفي جميع هذه الأمراض وما يشبهها بضدها.

من يشتهي الحياة السماوية يلزمه أن يتنازل عن الأمور الأرضية المادية، لأن اشتهاء أحدهما لا وجود له في داخلنا ما لم يمت الآخر. لا تُولد شهوة الروح في أفكارنا إلا بموت شهوة الجسد، فبموت الواحد يحيا الآخر.

عندما يكون الجسد عائشًا فينا بكل شهواته ورغباته، تكون النفس حينئذ ميتة بكل رغباتها[484].

القديس مار فيلوكسينوس

  1. لا مفر من الغضب الإلهي إلا بالتوبة والصلاة

حِينَئِذٍ تَرْفَعُ وَجْهَكَ بِلاَ عَيْبٍ،

وَتَكُونُ ثَابِتًا، وَلاَ تَخَافُ [15].

هنا يبدو صوفر فاتحًا باب الرجاء مثل زميليه أليفاز (8:5 الخ) وبلدد (5:8-7،20-22)، على عكس أيوب الذي بسبب شدة التجربة كثيرًا ما سادت عليه النظرة التشاؤمية بأن حياته الأولى لن تعود!

ما قاله صوفر وإن كان لا يناسب أيوب في تلك الظروف، إلا أنه مبدأ حق بالنسبة لكل تائب صادقٍ في توبته. فإنه لا يستطيع أن يرفع وجهه أمام القدوس إلا إذا نزع عنه العيب والخزي بنقاوة قلبه وقداسة خيمته، بهذا يقف أمام الله ثابتًا في رجائه واتكاله على الله، بغير خوف في محبته لله.

v     إن قدمت صلاتك بقلبٍ طاهرٍ [13] بلا لوم من جهة أي عمل غير لائق فإنك إذ تقدم تنهدات على نفسك أمام الله تصير في لقاء معه. عوض الحزن يكون لك الفرح، وعوض المصائب تنال بركات، وتكون ملامح وجهك مشرقة كماءٍ نقيٍ [15]… ولا تعود تخاف من علل أخرى، لأن الله ينزع العلل عنك. تنال عفوًا من متاعبك، وشكرًا على الهدوء الذي يخيم عليك، ولا تخاف التجارب، فتكون كمن وجد راحة في ميناء آمن، لا تخاف الأمواج حيث لا يقدر البحر أن يسبب ضررًا.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     الآن إذ نمسح بالكامل هاتين الاثنتين (إثم اليد والظلم الذي في الخيمة)، نرفع وجوهنا بلا لوم لله. لأن النفس هي وجه الإنسان الداخلي، به نعرف خالقنا بالحب وبه ننظره.

الآن رفع هذا الوجه عينه هو رفع النفس لله بممارسة الصلاة.

أما الوصمة التي تفسد رفع الوجه فهي نية العمل… فإنها (النفس) في الحال تتحطم، وتفقد كل ثقة في الرجاء. وحينما تنشغل بالصلاة تلتصق بتذكر الخطية التي خضعت لها. تفقد الثقة في نوال ما تشتاق إليه، فتحمل في الذهن الرفض المستمر لممارسة ما تسمعه من الله. لذلك يقول يوحنا: “أيها الأحباء إن لم تلمنا قلوبنا، فلنا ثقة من نحو الله، ومهما سألنا ننال منه” (1 يو 3: 21- 22). ويقول سليمان: “من يحول أذنه عن سماع الشريعة فصلاته أيضا مكرهة” (أم 28: 9). فإن قلبنا يلومنا في تقديم صلواتنا عندما نتذكر أنها تقف ضد وصاياه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     ليس أحد يعينه الله ما لم يصنع هو شيئًا. إنه سيُعان إن صلي[485].

v     الأثر الكامل للإيمان هو هذا: يجعلنا نسأل فنأخذ، نطلب فنجد، نقرع فيُفتح لنا. بينما الإنسان الذي يجادل يغلق باب رحمة الله أمام نفسه[486].

v     لا توجد وسيلة بها يصل الشعب إلى كمال مطلق، أو بها أي إنسان يصنع أقل تقدم نحو البرّ الحقيقي التقوى إلا بمعونة مخلصنا المصلوب، المسيح، وعطية روحه. من ينكر هذا لا يستطيع أن يُحسب مسيحيًا نهائيًا كما أظن[487].

القديس أغسطينوس

لأَنَّكَ تَنْسَى الْمَشَقَّةَ.

كَمِيَاهٍ عَبَرَتْ تَذْكُرُهَا [16].

حين يتمتع المتألم بتعزيات الله ينسي آلامه ومشقته كما تنسي الأم آلام مخاضها بسبب فرحها بالمولود الجديد. وتصير الآلام أشبه بقليلٍ من ماء انسكب من أناء لا أثر لها في شيء.

الله هو وحده القادر أن يرفع المتألمين فوق الآلالم، ويعبر بهم فوقها وتصير كلا شيء، بل وتتحول إلى بركات لا تُحصى.

وَفَوْقَ الظَّهِيرَةِ يَقُومُ حَظُّكَ.

الظَّلاَمُ يَتَحَوَّلُ صَبَاحًا [17].

إن كان أيوب قد شعر أن نوره قد انطفأ تمامًا، وصارت حياته أشبه بالظلام الدامس، ففي رأي صوفر أن الله يشرق بنوره عليه عند توبته ليجعل من حياته نورًا أعظم من نور الشمس عند الظهيرة، ويحول ظلام الليل إلى نور الصباح المبهج.

v     “إشراق الظهيرة عند المساء” هو تجديد الفضيلة في وقت التجربة… مكتوب: من يخاف الرب تكون نهايته حسنة” (ابن سيراخ 1: 13)… كلما واجه بالأكثر صلبانًا خارجية، يتلألأ بالأكثر بنور فضائله في داخله، كما يشهد بولس القائل: “وإن كان إنساننا الخارجي يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا. لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبديًا” (2 كو 4: 16).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     أيّها النور غير المنظور!

أيها البهاء الذي لا يراه بهاء آخر!

أنت هو النور الذي تختفي أمامك كل الأنوار المخلوقة!

أنت البهاء الذي ينطفئ قدّامه كل بهاء خارجي!

أنت هو “النور” مصدر كل الأنوار، و”البهاء” ينبوع كل بهاء!

أنت هو النور والبهاء، أمامك تصير كل الأنوار ظلمات، وكل ضياء بالنسبة لك ليس إلاَّ ظلامًا!

أنت هو البهاء الذي بك تصير الظلمة نورًا، وبك يتلألأ الظلام لمعانًا!

أنت هو النور الأسمى، لا تحجبك سحابة ما، ولا يعوقك بخار، يعجز الليل عن أن يسدل بظلامه عليك، لا يعوقك حاجز ولا تُغرٍقك ظلال!

أخيرا، أنت النور الذي ينير الخليقة الداخليّة على الدوام، ابْتَلِعْني في هوّة جلالك، حتى أعاين كل أعماقك، بقوّة بهاء لاهوتك ذاته، وعمل البهاء المنعكس عليَّ منك!

لا تتركني قط، لئلاَّ يتزايد جهلي وتكثر شروري، فبدونك أصير فارغًا وبائسًا!

بدونك لا يكون لأحد صلاح، إذ أنت هو الحق والصلاح الحقيقي وحده!

هذا ما اَعترف به؛ وهذا هو ما أعرفه، يا الله إلهي، أنَّه حيثما وُجٍدْتُ بدونك لا يكون لي غير الشقاء – في الداخل كما في الخارج – لأن كل غني غير إلهي إنّما هو بالنسبة لي فقر مدقع!

القدِّيس أغسطينوس

وَتَطْمَئِنّ،ُ لأَنَّهُ يُوجَدُ رَجَاءٌ.

تَتَجَسَّسُ حَوْلَكَ، وَتَضْطَجِعُ آمِنًا [18].

تعزيات الله تنزع من النفس القلق وتهبه طمأنينة وسلامًا حيث تنفتح أمامه أبواب الرجاء عوض اليأس.

إنه يحفر (يتحسس) حوله كما يفعل الجنود، حيث يحفرون الخنادق، ويضطجعون فيها في آمان، لأنه تحت ظل جناحي الله يستريحون، وفيه يتمتعون بكل احتياجاتهم.

v     يرفع الرجاء ذاته بأكثر ثبات في الله بالنسبة للأمور الصعبة التي يعاني منها الإنسان من أجل الله. لا يمكن جمع الفرح بالمكافأة في الأبدية ما لم يزرع هنا أولاً في حزن تقوي. يقول المرتل: “الذاهب ذهابًا بالبكاء، حاملاً مِبذَر الزرع، مجيئًا يجئ بالترنم حاملاً حزمه” (مز 126: 6). هكذا يقول بولس: “إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه، إن كنا نتألم فسنملك أيضا معه” (2 تي 2: 11-12). كذلك يحذر تلاميذه، قائلاً: “بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أع 14: 22).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     أن تترجى الله من الله، هذا هو أن تحب الله صاحب النعمة[488].

v     كم أنا بائس؟!

إلهي… متى تفارقني هذه الطبيعة الفاسدة، وتعمل قوّتك الكاملة في؟!

إلهي… لذيذة هي الوحدة والسكون والحق والنقاوة، هذه كلّها التي هي لك! أمّا أنا فألهو بالضوضاء والصخب والباطل والرذيلة!

أعود فماذا أقول بعد؟! أنت هو الخير الحقيقي، رحوم، قدُّوس، عادل… أمّا أنا فشرّير، محب لذاتي، خاطئ، ظالم!…

أنت النور، أمّا أنا فظلمة!

أنت الحياة، أمّا أنا فموت!

أنت الطبيب، أمّا أنا فمريض!

أنت الفرح، أمّا أنا فحزن!

أنت الحق الصادق، أمّا أنا فبطلان حقيقي، مثلي مثل أي إنسان على الأرض!

بأية لغة تريدني أن أحدّثك يا خالقي؟! أتوسّل إليك أن تتفضّل فتُصغي إليّ. إنَّني من صنع يديك، وهلاكي أمر مخيف!

إنّي جُبلتك، وها أنا أموت! إنّي من صُنْع يديك، وها أنا اَنحدر نحو العدم!

إن كان لي وجود، فأنت مُوجدي، “يداك صنعتاني وأنشأتاني” (مز 119: 73). يداك اللتان سُمِّرتا على الصليب، فَلْيُعطياني السلام؛ لأنَّه هل تحتقر عمل يديك؟!

أه! أتطلّع إلى جراحاتك العميقة، فقد نقشتَ اسمي في يديك! ِاقرأْ اسمي وخلّصني!

إن نفسي التي تتأوه قدّامك، هي من عمل يديك. اخلق منّي خليقة جديدة؛ فهذا هو عملك. لذا فهي لا تكف عن الصراخ إليك قائلة: “يا أيّها الحياة، أَحْيني من جديد!”

أنَّها من جبلة يديك، تلتف حولك متوسّلة إليك أن ترد إليها جمالها الأول!

اغفر لي يا إلهي، ما دمتَ قد سمحتَ لي بالحديث معك. لأنَّه من هو الإنسان حتى يتكلّم مع الرب خالقه؟!

نعم. سامحني! سامح تجاسري! سامح عبدك الذي تجاسر ليرفع صوته أمام سيده!

إن الضرورة لا تعرف قانونًا! فالألم يدفعني إلى الحديث معك! والكارثة التي َحَلَّت بي تجعلني اَستدعي الطبيب لأنّي مريض! إنَّني أطلب النور لأنّي أعمى! أبحث عن الحياة لأنّي ميّت! ومن هو هذا الطبيب والنور والحياة إلاَّ أنت؟!

يا يسوع الناصري ارحمني!

القدِّيس أغسطينوس

وَتَرْبِضُ، وَلَيْسَ مَنْ يُزْعِجُ،

وَيَتَضَرَّعُ إِلَى وَجْهِكَ كَثِيرُونَ [19].

لا يليق بالإنسان أن يضطرب، بل يربض أو يرقد ويستريح دون إزعاج، لأنه في أحضان الله، تحوط به العناية الإلهية.

يصير الشخص ليس فقط في آمان، ليس من أعداء يتغلبون عليه، ولا من كوارث تهز كيانه، وإنما يتضرع إلى وجهه كثيرون، إذ يجدون سلامًا وتعزية في مجرد التطلع إلى وجهه. يرون صورة المخلص ربنا يسوع مطبوعة على وجهه، تشهد لسكناه في قلبه.

من يستعطف وجه الله، يحمل صورة وجه الله، فيستعطفه كثيرون.

v     من يطلب المجد الحاضر بلا شك يخشى الاحتقار. من كان فاغر فمه على الدوام طالبًا الربح حتمًا يخشى الخسارة… أما من تأصل في الاشتياق نحو الأبدية وحدها، فإنه لا يتشامخ بالثروة، ولا يهتز بالمصائب. إذ ليس له شيء في هذا العالم يشتهيه، فإنه لا يوجد ما يخشاه من العالم.

ألم يربض بولس ويستريح قلبه بلا خوف عندما قال: “فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو 8: 38- 39).

قوة هذا الحب مدحه صوت الكنيسة المقدسة حين قيل في نشيد الأناشيد: “لأن المحبة قوية كالموت” (نش 8: 6). فيُقارن الحب بقوة الموت الذي إذ تمسك به النفس تموت تمامًا عن مباهج العالم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَمَّا عُيُونُ الأَشْرَارِ فَتَتْلَفُ،

وَمَلْجَأُهُمْ يَبِيدُ،

وَرَجَاؤُهُمْ تَسْلِيمُ النَّفْسِ [20].

بعد أن قدم صورة رائعة عن التوبة الخالصة وثمرها المفرح، حذر من الشر وآثاره. فإن عيون الأشرار تتلف. العيون التي لا تتطلع إلى الله مصدر الخير تفسد.

ورجاؤهم تسليم النفس“، يبيد ويتلاشى، إذ “عند موت إنسانٍ شريرٍ يهلك رجاؤه” (أم 11: 7).

v     يقصد بالعيون النية المقدمة لنا. يشهد الحق في الإنجيل، قائلاً: “إن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيرًا” (مت 6: 22). إن كانت النية الطاهرة تسبق عملنا، فمهما بدا العمل لدى البشر، فإنه في عيني دياننا الداخلي يُحسب العمل طاهرًا. فأعين الأشرار هي نياتهم من جهة شهواتهم الجسدية التي في داخلهم. هذه تتلف لأنها لا تبالي باهتماماتهم الأبدية، متطلعين دومًا نحو المكاسب الزمنية وحدها…

ويكون رجاؤهم دنسا للنفس“. ما هو رجاء الخاطى هنا في كل أفكاره سوى أن يسمو على الآخرين في السلطان، وتفوق مخازنه مخازن كل الناس، وأن يكسر منافسيه ليسيطر عليهم، وأن يشبع شهوته، وأن يذعن في كل شيءٍ لإشباع الشهوة. حسنًا قيل أن رجاءهم “دنس للنفس”.

الآن كان يمكن القول بأن صوفر محق في هذا لو أن الطوباوي أيوب لم يعلن هذا بأكثر كمال خلال حياته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

 

من وحي أيوب 11

هب لي الحق الإلهي الحي!

v     تسبحك نفسي، لأنك خلقتها على صورتك.

تشتهي في أعماقها أن تتعرف على حقك الإلهي.

كعروسٍ تترقب يوم عرسها الأبدي،

تود أن تتزين بفكر عريسها، وتتعرف على أسراره.

v     أعترف لك يا أيها الحق العجيب!

كثيرًا ما خالجني فكر متشامخ.

ظننت في نفسي مدافعًا عنك يا أيها الحق،

فأمسكت بسيفٍ مع بطرس أضرب العبد المقاوم.

قطعت بغباوتي أذنه الروحية،

وأفقدته القدرة على سماع كلمتك!

حسبت نفسي رجلاً كنسيًا،

وفي غباوة دافعت عنها بروح غريب لا يليق بابنها!

v     هب لي روح الحق والمعرفة، بروح الحب والحنو.

أي حق أدافع عنه بدون الحب الصادق لكل البشرية؟

أتيتَ يا أيها الحق إلى عالمنا الشرير.

في مرارةٍ قدمنا لك الصليب، وأنت محب كل البشرية.

في غباوة دافعنا عن الحق، فاضطهدناه.

هب لي أن أتمتع بك وبروحك القدوس.

فأنت هو الحق، وأنت هو الحب، وأنت هو الطريق.

ليعمل روحك القدوس في،

الروح القادر أن يبكت على خطية، ويهب تعزيات إلهية.

هبنى مرهم الحنو والانسحاق بتواضع حقيقي

فأجتذب بحبك وحنوك ومعرفتك كثيرين إلى شبكة كنيستك!

v     لتجعل كلماتك المقدسة في فمي،

فيتقدس لساني، ولا ينطق إلا بالحق المملوء حبًا.

تتكلم أنت فيَّ بلساني، كما بصمتي.

أشهد للحق في أحاديثي كما بسكوني!

v     لتفتح فمك وتتحدث معي،

كلماتك نور تكشف ظلمتي، وتبددها،

تهبني استنارة فتخلصني وتمجدني.

علمني كيف أتحدث مع إخوتي، شركائي في الضعف.

عوض الإدانة أترفق بهم، فتترفق أنت بي.

أضعف مع ضعفاتهم، فيلتهب قلبي بنار حبك.

أحسب نفسي مقيدًا كما هم مقيدون،

فتحررنا جميعا يا واهب الحرية!

v     لتشرق بنور حكمتك الإلهية عليّ،

فأتمتع بفهمٍ مضاعف.

أدرك حبك خلال أعمال محبتك الفائقة.

واكتشف أسرار رعايتك لي، حتى في وسط تأديباتي.

اسبحك من أجل سخاء عطاياك،

حين تعطي وحين تأخذ أراك الإله العجيب في رعايته.

v     هب لي حكمة مضاعفة، فأدرك خطتك الظاهرة والخفية.

وأفهم مع حكمتك الشركة في سمة محبتك.

أحمل بالحكمة المضاعفة حبًا مضاعفًا.

أحبك وأحب إخوتي الذين هم موضوع حبك.

v     أحبك حبًا مضاعفًا،

أحبك بكل قلبي ونفسي وقدرتي!

لا أعرف لحبي لك حدودًا!

وأحب إخوتي حبًا مضاعفًا،

أقدم لهم روح الحب بالعطاء السخي وطول الأناة.

لا أعرف كيف أبغض أو أحسد أو أدين.

أود أن أتعامل معهم كما اشتهي أن يعاملوني به.

v     هب لي يا رب حكمة مضاعفة، وفهمًا مضاعفًا، وحبًا مضاعفًا.

مع كل صباح أتمتع بمراحمك الجديدة،

فازداد حكمة وفهمًا حبًا.

لن اكتفي يومًا ما بما تهبني إياه حتى أصير أيقونة لك.

عطاياك تلهب شوقي إليك،

وتثير فيَّ الشركة معك والإقتداء بك،

يا أيها الحكمة الإلهي والمحبة!

v     هب لي حتى في توبيخ محبوبي أن أكون مترفقًا!

فتكون كلماتي ممسوحة بمسحة روحك القدوس المعزي.

v     أقف أمامك أيها القدير،

فيلتهب قلبي شوقًا نحو مزيدٍ من اللقاء،

وتئن نفسي في داخلي، تود أن تتعرف بالأكثر عليك.

أخبرني، إن كنت لا أعرف أسرار خليقتك المنظورة،

فكيف أتجاسر وأدعي معرفة خالقها غير المنظور؟

إن كنت لا أقدر أن أرى أثر السفينة بعد عبورها،

ولا أثر النسر بعد طيرانه،

فكيف اقتفي أثرك لأعرف خطتك؟

v     هب لي حبك، فيه أتعرف عليك وعلى خطتك.

ارفع قلبي بروحك فوق كل محبة باطلة،

 فيحلق دومًا في سماواتك، ويتعرف عليك؟

لأعرفك فيزداد حبي لك،

واستخف بالأكثر بكل محبةٍ أرضيةٍ.

v     اخبرني، إلى أين أتطلع يا من لا تسعك السماوات والأرض؟

أتطلع إلى السماء، فاشتهي أن يطير بي روحك القدوس،

ويحلق بي في سماواتك،

يرتفع بي من مجدٍ إلى مجدٍ، حتى استقر في أحضانك.

أتأمل في أعمال الهاوية، فأجد ليس لي مكان فيها.

لقد نزلت إليها، وحطمت متاريسها،

وحملتني على ذراعيك، لتدخل بي إلى الأمجاد.

أنظر إلى الأرض بكل اتساعها،

فتضيق بي جدًا أمام اتساع قلبك من نحوي ونحو إخوتي.

أرتعب على شاطئ المحيط،

لكن اتساعه يحسب كلا شيء أمام لجة محبتك الفائقة!

حقا ما هو الارتفاع أو العمق أو الطول أو العرض لمحبتك اللانهائية!

v     نتهلل بسلطانك المطلق يا أيها الحب.

أنت صاحب السلطان، ليس من يقدر أن يقاوم،

ولا من يقدر أن يقف أمامك يسألك!

لكن سلطانك سلطان الحب والأبوة الحانية، يا صانع الخيرات.

تريد أن الكل يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون.

سلطانك دومًا للبنيان والمجد،

مادمنا نضع حياتنا في يديك،

ونتجاوب مع نعمة صلاحك الفائق.

v     أعترف لك يا رب بالانحطاط الذي انحدرت إليه.

فقدت الفهم الحقيقي، وعاني قلبي من الفراغ.

من يقدر أن يملأه سواك يا حكمة الله.

لتسكن فيّ، وتحملني فيك،

فأتمتع بك، وأسلك في طريق الحكمة العجيب!

بك أصعد من هاوية الجهل،

وارتفع معك إلى سماوات الحكمة والمعرفة.

بروحك تنزع دومًا أعمال الإنسان القديم،

تحطم جهلي وغباوتي،

وتجدد فيَّ أعمال الإنسان الجديد.

فأصير بالحق أيقونة لك، يا كلي الحكمة!

v     هب لي حياة التوبة الصادقة،

أعطي ظهري للجهالة،

ووجهي نحوك يا أيها الحكمة الإلهي.

أعلن توبتي بتركي كل شر،

وسلوكي في الحق بغنى نعمتك.

ارفع قلبي إليك،

فأنال أكثر مما أسأل، وفوق ما احتاج.

 

 

ملحق الأصحاح الحادي عشر

المعرفة والحب

عند آباء الكنيسة الأولى

إذ بلغنا الآن إلى حديث الصديق الثالث لأيوب، رأيت نفسي ملتزمًا أن أتحدث عن المعرفة وارتباطها بالحب، أو الحق الإلهي وارتباطه بالحب الإلهي، أو الحكمة الإلهية والحب الإلهي. فقد ظن الأصدقاء الثلاثة في أنفسهم أنهم أصحاب معرفة إلهية صادقة، وأنهم مدافعون عن الحق، وكانوا حكماء في أعين أنفسهم. كثيرًا ما نطقوا بما هو حق، ولكن كان يعوزهم الحب الصادق. هذا ما يرعبني كمسيحي أعرف الكثير من الحقائق السماوية، وأخشى أن ينقصني الحب لكل البشرية حتى للمقاومين لي. هذا الرعب ينتابني بالأكثر ككاهنٍ.

ليس ما يفقد الإنسان شركته مع الله، الذي هو الحب، سوى أن نمسك بسيف بطرس للدفاع عن الحق بقطع أذن من هو أمامنا، حتى وإن كان مقاومًا للحق.

بالحب نمسك بسيف الروح الذي يضرب في أعماقنا كما في أعماق من هم حولنا، ليقطع أذن الإنسان العتيق، ليحل محلها أذن الروح التي تجد عذوبتها في الاستماع لصوت الحق، والخضوع له، والتجاوب معه.

يا لعظمة المعرفة!

v     الفردوس الآهل بكل الأفراح للتطيب هو النفس التي تصنع كل شيء لكي تجد معرفته[489].

v     يا ربنا يسوع المسيح، حكّم عبيدك في تجارب الشياطين المردة. هب لهم معرفة حكمة ربوبيتك، ولتلبسهم قوتك المقدسة، بها يذلون ذخر الشياطين، ويقهرونهم بقوتك المقدسة في كل قتالهم معهم. آمين[490].

الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)

الغنوسية (المعرفة) الحقيقية

تحدثنا قبلاً عن الغنوسيين الذين وضعوا في قلوبهم أن تحل المعرفة أو الغنوسية محل الإيمان كطريق للخلاص، حتى صارت كلمة “غنوسيون” تشير إلى مجموعات من الهراطقة. لكن القديس إكليمنضس السكندري أعطى للكلمة فهمًا مسيحيًا جديدًا، إذ رأى في الكلمة تعبيرًا عن “المسيحيين الذين يعيشون في معرفة الله”، ومنعًا للبس يستخدم البعض العبارتين “غنوسي حقيقي” و”غنوسي مسيحي” تمييزًا عن “الغنوسي الهرطقي”.

من هو الغنوسي؟

في كتابه الثاني من المتفرقات اشترط إكليمنضس في الغنوسي ثلاثة أمور[491]: التأمل، تنفيذ الوصايا، تعاليم الصالحين. إن فقد المؤمن أحد هذه الأمور تعطلت غنوسيته[492]. وكأن الغنوسي يجب أن تكون له المعرفة (الغنوسية) الإلهية التي دعاها “التأمل”، وأن يعيشها عمليًا أي تنفيذ الوصايا، وأن يسلك بروح الكنيسة له “تعاليم الصالحين”.

لقد أوضح Walthar Volker حسنًا أن غنوسية إكليمنضس إن كانت تنتعش بضبط الإنسان نفسه لكنها فوق كل شيء هي معرفة الكتب المقدسة خلال الاستنارة بعمل المسيح، على ضوء تقليد الكنيسة[493]. 

v     الغنوسي إلهي؛ صار مقدسًا، يحمل الله وهو محمول من الله[494].

القديس إكليمنضس السكندري

غاية الغنوسية

غاية معلمنا أن يعلن لنا الحق؛ فالسيد المسيح كمعلم يثقف الإنسان ليدربه على اكتشاف الحق[495]الذي في المسيح يسوع.

لا يقف عمل المعلم عن كشف الحق وإنما يولد في النفس شوقًا لمعرفة الحق، إذ يقول: [التدريب على التعليم Paideia يولد حب المعرفة[496].]

أخيرًا فإن الحق المعلن في المسيح ليس معرفة عقلية فلسفية نظرية، إنما تحمل قوة العمل: [غايته إصلاح النفس لا أن تتعلم (فقط)؛ يرفعها إلى الحياة الفاضلة، لا مجرد نوال معرفة عقلية[497].]

القديس إكليمنضس السكندري

مصادر الغنوسية (المعرفة)

أوضح إكليمنضس في مواضع متفرقة أن الله هو مصدر كل شيء صالح ونافع، لذلك رأى أن كل نقاط الحق الجزئية التي وجدت عند الفلاسفة إنما هي عطية إلهية. أما الغنوسية في كمالها أو الحق الكامل إنما هو عطية الله خلال الابن، هبة المسيح نفسه لنا.

[قد يقول قائل إن اليونان اكتشفوا الفلسفة خلال الفهم البشري، لكنني أجد الكتاب المقدس يقول بأن الفهم هو من عند الله. لذلك يصرخ المرتل، قائلاً: “أنا عبدك فهمني…” (مز 125:119)…[498].]

[الغنوسية، التي هي المعرفة وإدراك الأمور الحاضرة والمستقبلية والماضية، كأمور أكيدة وموثوق فيها، يمنحها ابن الله الذي هو “الحكمة” ويعلنها… [499].]

أوضح إكليمنضس أن السيد المسيح يهب الغنوسية خلال قراءة الكتاب المقدس[500] بروح كنسي حتى لا نسيء فهمها كالهراطقة. بهذا نحمل الكمال بسلوكنا الإنجيلي الكامل، إذ يقول: [بقبول الإنجيل يصير الإنسان كاملاً بعد ما كان سالكًا حسب الناموس[501].]

يؤكد أيضًا أن المعمودية تجعل الغنوسية ممكنة بالنسبة لنا، باستنارة عيوننا الداخلية[502].

أعطى القديس اهتماما بالحب كمصدر للغنوسية، فإنها عليه تتأسس: الله حب، يعرفه الذين يحبونه… لهذا يلزمنا أن ندخل إلى معرفة خلال الحب الإلهي، فتتأمل الشبه بشبيهه[503]. نعرف إله الحب بممارسة الحب، ممارسة الحياة السماوية.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [عجبًا! أية صداقة هذه؟! إذ يخبرنا بخفاياه، إذ يقول “بسرّ مشيئته“، لأن أحدًا يقول بأنه عرّفنا بالأشياء التي في قلبه. هنا حقًا السرّ المملوء حكمة وفطنة. فأية حكمة مثل هذه؟ الذين كانوا لا يساوون شيئًا رفعهم في لحظة إلي الغنى والفيض. أي تدبير حكيم هكذا؟! الذي كان عدوًا ومُبغضًا في لحظة ارتفع إلي العلا… هذا تم في الوقت المعين؛ إنه عمل الحكمة، تحقق بواسطة الصليب.]

v     فقط عندما يكون للشخص حب عندئذ يُقال أنه يعرف كما يجب[504].

v     يعنى بولس أن المعرفة هي أمر عظيم ونافع للغاية لمن يقتنيها مادامت تتلطف بالمحبة[505].

أمبروسياستر

v     هذه يمكن أن تفهم فقط بمعنى أنه بدون المحبة لا تقدم المعرفة صلاحًا، بل تنفخ الإنسان، وتجعله يتباهى بريح فارغة.الذين لهم معرفة بدون محبة متعجرفون يشتاقون إلى الكرامات الإلهية مع ممارسة الأعمال الدينية التي يعلمون أنها تخفي الله الحقيقي، ومع ذلك يبذلون كل الجهد لكي يبثوا هذا على الذين لهم تأثير عليهم.

عكس الكبرياء الذي للشياطين، والذي بسببه خضع الجنس البشري لعقوبة يستحقونها، ظهر القدير في شكل عبد..ٍ. غير أن الناس فشلوا في معرفته، لأنهم تمثلوا بالشياطين في الكبرياء لا في المعرفة، فانتفخوا في دنسٍ[506].

v     المعرفة صالحة ما دامت في صحبة الحب، وإلا فإنها تنفخ الإنسان بالكبرياء[507].

v     حقًا إن المتكبر يدعى منتفخًا كما لو كان متعاليًا مع الريح. هنا يقول الرسول: “العلم ينفخ ولكن المحبَّة تبني”[508].

v     “العلم ينفخ، ولكن المحبة تبني“، لكن المحبة لا تنتفخ ولا تتكبر. لذلك ليت المعرفة تكون كقصة تقوم على مبنى المحبة التي ستبقى إلى الأبد عندما تسقط المعرفة[509].

v     المعرفة التي من نوعٍ صالحٍ هي خادمة للحب، فإن المعرفة بدون الحب تنفخ [8]، ولكن إذ الحب يبني يملأ القلب فلا تجد المعرفة فراغًا به تنتفخ[510].

القديس أغسطينوس

v     قال المرتل: “يدنو الإنسان بقلبٍ عميقٍ ويتعالى الله”. كلما نرتقي أكثر، صاعدين من درجة إلى أخرى نحو سمو معونة الله، نجد الله عاليًا عنا أكثر علوًا. فمع أنك تساميت جدًا في معرفة الله وقد اضطرمت نار محبته بشدة في قلبك، لكن يتبقى لك على الدوام درجات لا تُحصى فوق هذه المعرفة والمحبة التي بلغت إليها.

الشهيد كبريانوس

المعرفة عطية إلهية!

خلق لله الإنسان على صورته ومثاله (تك 1: 27)، وقدم لنا أثمن عطية وهي الإرادة الحرة، له ان يختار بين الخير والشر، الالتصاق بخالقه، أو حتى مقاومة خالقه والتمرد عليه. لم يخلقه آلة جامدة يحركها الله دون اختيار من جانب الإنسان، وإنما وهبه العقل والقدرة على التفكير كما وهبه المعرفة الصادقة والحقيقية. هذه العطية يقدمها الله مجانا، كما يهبه القدرة على تنميتها أو تحطيمها حسبما يشاء.

أما سمات هذه العطية فهي:

  1. عطية شخصية جماعية: هي عطية يقدمها الله للإنسان بصفة شخصية لكي تسنده في علاقته الشخصية بخالقه، كما في التعامل بصفة شخصية مع إخوته من بني البشر ومع الكائنات السماوية.

هذه العطية الشخصية يمكن أن تنمو في الجو الجماعي، كما يمكن ان تتحطم خلاله. فالصداقات المقدسة والأعمال الجماعية الروحية والعلمية تسند الشخص في نمو معرفته المستمر، كما أن الصداقات الشريرة يمكن أن تفسد هذه المعرفة وتحطمها.

في تعليق القديس غريغوريوس النيسي علي نش 1: 8 يبرز أن سرّ جمال الإنسان الداخلي، أن يسلك على أثار الغنم المقدس. فيرعى أعماقه لتتمتع بجمال المعرفة الصادقة، ونموها المستمر، حيث يتقبل في شركته مع القديسين النور الحقيقي، رب المجد يسوع، كسرّ استنارته وتمتعه بالمعرفة المقدسة الطاهرة الفائقة. يصير الإنسان أيقونة المسيح “الحكمة الإلهي، والنور الإلهي”، فيتمتع بمعرفة الأسرار السماوية المقدسة في حياته اليومية.

v     “إن لم تعرفي (نفسك) أيتها الجميلة بين النساء، فأخرجى على أثار الغنم، وارعي جداءك عند خيام الرعاة” (نش 1: 8)… هذا هو الطريق المؤكد لحماية نفسكِ، ويمكن التحقق من أن الله قد وضعنا في مستوى أعلى بكثير من بقية المخلوقات، فلم يصنع السماوات على هيئته ولا القمر أو الشمس أو النجوم الجميلة أو أي شيء آخر تراه في الخليقة.

أنت وحدك قد خُلقت على مثال هذه الطبيعة التي تعلو فوق أي إدراك، على هيئة الجمال الأبدي وصورته، كما استقبلت البركات الإلهية الحقيقية، وختم النور الحقيقي، وستصير مثله عندما تنظر إليه. وعندما تقتدي به، هذا الذي يشرق في داخلك (2 كو 6:4) وينعكس نوره بواسطة طهارتك[511].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     منْ مِنَ الكائنات الأرضية خُلق على صورة الله إلا الإنسان؟ ولمن أُعطى السلطان على كل الطبيعة ومخلوقاتها ليختصها لذاته؟

إنه لشرف أصيل يكلل جبينه ويسمو به إلى السماء، فوق الكواكب، أرفع من الشمس تشامخًا وعزة… ومع أنه أوضع منزلة من الملائكة لارتباطه بجسدٍ ماديٍ فقد وُهب قوة لفهم ومعرفة ربه وخالقه[512].

القديس باسيليوس الكبير

v     يلزمنا أن نتعلم من الله ما نفكر فيه عن الله، فليس لنا مصدر للمعرفة سواه. قد تتدرب بكل حذاقة كما تشاء في الفلسفة العلمانية، ربما تسلك حياة بارة. هذا كله يساهم في الشبع الفكري، لكنه لا يعينك على معرفة الله. لقد تبنت ابنة فرعون موسى، فتعلم كل حكمة المصريين، بالإضافة إلى ذلك كان له ولاء لجنسه، فانتقم لما أصاب العبراني بقتل المصري، ومع هذا فلم يعرف الله الذي بارك آبائه[513].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

  1. معرفة ترتبط بالحياة التقوية المقدسة: فالشيطان يعرف الله أكثر منا من حيث المعرفة العقلية، ويعرف الكثير من الأسرار الإلهية والسماوية، لكنه يُحسب جاهلاً وغبيًا، بلا معرفة. وفي اليوم الأخير يقول الرب للأشرار: “لا أعرفكم من أين أنتم” (لو 13: 25)، مع ان الرب عارف بكل شيء، لكنه لا يعرف الأشرار معرفة الاتحاد معهم والالتصاق بهم، وكما يقول القديس أغسطينوس إنهم لا يستحقون أن يكونا موضع معرفته.

v     “وتعرفون الحق“. الحق غير متغير. الحق هو خبز، ينعش عقولنا ولا يسقط، يغَّير من يأكله، ولا يتغير فيمن يأكله. الحق هو كلمة الله… الابن الوحيد. هذا الحق التحف جسدًا من أجلنا لكي ما يُولد من العذراء مريم وتتم النبوة: “الحق نبع عن الأرض” (مز ٨٥: ١١). هذا الحق إذن وهو يتحدث مع اليهود اختفى في الجسد. لكنه لم يختفِ لكي يُنكر، وإنما لكي ما يُرجأ إعلانه، يُرجأ لكي ما يتألم في الجسد، ويتألم في الجسد لكي ما يخلص الجسد من الخطية. هكذا ظهر بالكامل بخصوص ضعف الجسد، وكان مخفيًا من جهة جلال اللاهوت[514].

القديس أغسطينوس

v     الإنسان ليس هو كل من له يدا إنسان وقدماه، ولا من كان عاقلاً فحسب، بل من يمارس التقوى والفضيلة بشجاعة[515].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

v     جميعكم واحد في المسيح يسوع. ليس أن البعض أصحاب معرفة مستنيرون، والآخرين أقل كمالاً في الروحانيات. ليضع كل واحدٍ جانبًا كل الشهوات الجسدية، فتكونوا متساوين وروحيين أمام الرب[516].

v     الشخص الذي يعرف يعمل أيضًا الأعمال التي تليق بواجب الفضيلة، ولكن يوجد من يمارس الأعمال وهو ليس بالضرورة بين أصحاب المعرفة. إذ قد يفهم أن يميز بين ما هو مستقيم وما هو خطأ، لكن ليس لديه معرفة بالأسرار السماوية. علاوة على هذا يفعل البعض الصلاح خشية العقوبة أو لنوال مكافأة، لذلك يعلمنا يوحنا أن الإنسان الذي له معرفة كاملة يمارس هذه الأعمال عن حب.

القديس إكليمنضس السكندري

v     يستحيل على النفس غير النقية، مهما بلغت أشواقها نحو القراءة، أن تحصل على معرفة روحية. لأنه لا يقدر أحد أن يسكب دهنًا طيبًا أو عسلاً جيدًا أو أي سائل قيّم في إناءٍ قذرٍ كريه الرائحة، لأن الإناء الذي امتلأ بروائح كريهة يفسد ما يوضح فيه أكثر مما يتأثر هو من الشيء الصالح، لأن ما هو نقي يفسد بسرعة أكثر من تأثير النقي عليه[517].

v     إن كنتم مشتاقين إلى الحصول على نور المعرفة الروحيّة، معرفة ليست خاطئة لأجل كبرياء فارغ لتكونوا رجالاً فارغين يجدر بكم أولاً أن تلتهبوا بالشوق نحو هذا التطويب الذي نقرأ عنه طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله (مت 5: 8). وبهذا تنالون ما قاله الملاك لدانيال “والفاهمون يضيئون كضياء الجَلَد، والذين ردّوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور (دا ١٢: ٣)… وهكذا يَلزم المثابرة بالجهاد في القراءة مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العمليّة الاختباريّة أولاً أي المعرفة الأخلاقيّة.

فبعدما يبذلون جهودًا وأتعابًا كثيرة يستطيعون أن ينالوا المعرفة الروحيّة كمكافأة لهم من أجلها. وإذ يقتنون المعرفة لا من مجرد التأمل في الشريعة بل كثمرة لتعبهم يتغنون قائلين: من وصاياك تَفَهَّمْت ” (مز ١١٩: 104)[518].

الأب نسطور

v     إن امتلأت السماء والأرض وكل ما فيهما من الله، إن عَبَرَ كل شيءٍ، وإن كان طبيعته منبسطة في كل الطبائع كالسُحب في الهواء، فالكثيرون يعرفون هذا من السمع.

قليلون يعرفونه من المطالعات.

بعضهم فقط من رؤية الطهارة، هذه التي تتطيّب بالطوبى، لا بالكلمات التافهة[519].

الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)

  1. المعرفة هي اقتناء المسيح نفسه: نزل حكمة الله إلينا متجسدًا لنقتنيه، فصارت الحكمة بالنسبة لنا لا تقف عند حدود الخبرات التي نتمتع بها نحن أو تمتع بها من سبقونا، ولا تقف عند البحث والدراسة فحسب، وإنما يليق بنا أن نقتني حكمة الله نفسه.

v     لاحظوا أنه حتى ذاك نفسه الذي هو الحق والكلمة، والذي به كان كل شيء، وقد صار جسدًا ليسكن بيننا، مع ذلك يقول الرسول: “وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه بعد”، لأن المسيح لم يرد فقط أن يهب ممتلكات لمن يكمل الرحلة، بل أيضًا أن يكون هو نفسه الطريق للذين يشرعون في السير[520].

القديس أغسطينوس

  1. معرفتنا الحاضرة جزئية: مهما بلغت معرفتنا، فإننا مادمنا بعد في الجسد الترابي، تُحسب معرفتنا جزئية ناقصة. الله لا يبخل علينا بتقديم معرفة كاملة، لكنه يقدم ما هو جزئي لكي يلهب قلوبنا لطلب المعرفة الكاملة بروح التواضع، ولئلا نسقط في الكبرياء بسبب معرفتنا.

“فإننا ننظر الآن في مرآة، في لغزٍ (مرآة غامقة)، لكن حينئذ وجهًا لوجه. الآن اعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت”.

v     مع أن كل واحد يطلب المزيد من المعرفة على الدوام، فإنها تبقى المعرفة ناقصة في كل الأمور بالنسبة لكمالها الحقيقي حتى يحل الزمن ليأتي ما هو كامل ويزول ما هو جزئي[521].

القديس باسيليوس الكبير

v     “الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأعرف كما عُرفت”. ألا ترون كيف أنه بطريقتين ينزع عنهم الكبرياء؟ لأن معرفتهم جزئية، وحتى هذه ليست من عندهم. يقول: “لأني لست أعرفه، بل هو عرّفني ذاته”. لذلك فإنه حتى الآن هو الذي أظهر أولاً نفسه، وهو الذي يسرع إليّ حتى أُسرع أنا إليه، عندئذ أكثر مما أنا عليه الآن[522].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     في صوت اليمامة الذي يُسمع في أرض الموعد يليق بنا أن نرى المسيح يعلم بشخصه، نراه وجهًا لوجه، ولا نعود نراه في مرآة في لغز[523].

v     إن كانت المعرفة تُعلن للذين يستحقونها فينالونها في مرآة، وهي لغز في العصر الحالي، وستعلن بالكامل عندئذ فقط، فمن الغباوة أن تظن أنه سوف لا يكون الأمر هكذا بالنسبة لبقية الفضائل[524].

v     إنه يشجعها ويحثّها ألا تجلس خاملة هناك بل تخرج إليه خارجًا وتحاول أن تراه لا من الشبابيك، ولا من مرآة في لغز، بل تذهب إليه وتراه وجهًا لوجه. لأنه الآن إذ هي لا تستطيع أن تراه يقف هكذا خلفها وليس أمامها، يقف وراء ظهرها، وخلف الحائط[525].

العلامة أوريجينوس

v     عندما سنؤمن جميعنا بذات الإيمان عندئذ تكون الوحدة، فإن هذا هو ما يدعوه بوضوح: “الإنسان الكامل“. ومع ذلك يدعونا في موضعٍ آخر أطفالاً (1 كـو 13: 11) حتى ونحن بالغون في العمر، لكنه يتطلع إلى مقارنة أخرى. إذ يقارن بين معرفتنا المقبلة فيدعونا الآن أطفالاً. فبقوله: “نعرف بعض المعرفة” يضيف أيضًا كلمة “لغز (ظلمة)” وما يشبه ذلك. بينما يتحدث هنا (رسالة أفسس) بخصوص أمر آخر بخصوص التغيير، إذ يقول في موضع آخر: “وأما الطعام القوي فللبالغين” (عب 14:5)[526].

v     هذا هو معنى التعبير: “كما عُرفت”: ليس أننا سوف نعرفه كما هو، ولكن كما أنه يسرع نحونا الآن هكذا سنلتصق نحن به ونعرف الكثير من الأمور التي هي سرّية الآن، وسنتمتع بالمجتمع الأكثر طوباوية وحكمة[527].

v     كمثال نحن نعرف الآن أن الله في كل موضع، لكننا لا نعرف كيف يمكن ذلك. نحن نعرف أنه أوجد الخليقة من لا شيء ولكن ليس لدينا فكرة عن كيفية تحقيق ذلك. نحن نعرف أن المسيح وُلد من عذراء ولكننا لا نعرف كيف وهكذا[528].

v     ليست المعرفة هي التي تعبر بل الوضع الذي فيه تكون المعرفة جزئية. فإننا ليس فقط نعرف الكثير بل ما هو أعظم بكثير[529].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     هذا يعنى أن الأمور التي نسمع عنها الآن على مسئولية الكتب المقدسة نؤمن أنها هكذا. بعد القيامة سنراها بأعيننا ونتعرف عليها خلال الواقع، عندما تبطل المعرفة الجزئية، لأن المعرفة التي تقوم على السماع هي جزء من معرفة الشهادة بالعين والخبرة[530].

القديس ديديموس الضرير

v     لم يكتشف بعد أحد أو سيكتشف ما هو الله في طبيعته وجوهره. فالاكتشاف يحدث في المستقبل. ليت هؤلاء الذين لهم فكر في هذا أن يبحثوا ويفكروا فيما سيتم في المستقبل.

يخبرني عقلي الذي على شكل الله عندما يمتزج ذاك الإلهي، أقصد الذهن والعقل، بما هو شبيه به؛ عندما تعود الصورة إلى أصلها الذي تشتاق إليه. هذا يبدو لي هو معنى هذه العبارة العظيمة أننا في الزمان المقبل سنعرف كما عُرفنا[531].

القديس غريغوريوس النزينزي

v     الآن نحن نعرف بعض المعرفة ونفهم جزئيًا، ولكن عندئذ سيمكننا أن ندرك ما هو كامل عندما يبدأ لا الظل بل حقيقة عظمة الله وسرمديته تشرق وتعلن عن ذاتها بغير حجاب أمام أعيينا[532].

القديس أمبروسيوس

  1. يليق بنا في التمتع بالمعرفة لا أن نقف عند الدراسة والقراءة، بل نطلب من الله “المعرفة” كإحدى مواهب الروح القدس. يقول الرسول: “فإنه لواحدٍ يُعطى بالروح كلام حكمة، ولآخر كلام علم بحسب الروح الواحد” (1 كو 12: 8).

v     لم يتعلَّم بولس الإيمان بالكلمات فحسب (معرفة كلاميَّة) وإنما تمتَّع بغنى الروح، حتى ينير الإعلان كل نفسه ويتكلَّم المسيح فيه[533].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     تُعطى المعرفة لا بالتعلم من كتاب بل باستنارة الروح القدس[534].

أمبروسياستر

في حديث للشباب لا يمنع القديس باسيليوس الكبير القراءة للشعراء والمؤرخين والخطباء ما دامت هذه القراءات نافعة. يكمل حديثه لهم قائلاً: [علينا أن نبتدئ بقراءة الفكر الدنيوي لنرتفع بعده إلى المقدسات وأسرار الإيمان… فإذا كان هناك من موافقة بين هذه الثقافة وعقائدنا، كانت معرفتها من الإفادة بمكان كبير، وإلا فالمقارنة في الحالة العكسية من شانها أن تثبت اعتقاداتنا الصحيحة[535].]

كما يقول إنه على الرهبان أن يقرأوا لا ما يحلو لهم، وإنما ما هو مفيد لحياتهم الروحية، وما يأمرهم به الرئيس، في أوقات مناسبة[536].

المعرفة والحواس

الحواس هبة إلهية للإنسان، هي منافذ تدخل منها المعرفة، وخلالها ننعم بالعلم والنمو في الحكمة، إن استخدمت كما يليق بنا كخليقة الله العاقلة.

v     تبقى معرفتنا في هذه الحياة ناقصة، لكن يمكن الاعتماد عليها في حدودها. يثق المؤمنون في شهادة حواسهم التي هي خادمة خاضعة لتعقلهم. ربما أحيانا ينخدعون، ومع هذا فهم أفضل من القائلين بعدم الثقة في الحواس تمامًا[537].

القديس أغسطينوس

طريق المعرفة الإلهية

نظرة القدّيس إكليمنضس الفلسفيّة في معرفة الله وُجدت بوجه خاص في الكتاب الخامس من “المتفرّقات Stromata“، حيث أعطى إيمانًا ورجاءً في إدراك الذهن للأمور غير منظورة، والتي لا تستطيع الحواس أن تدركها. أمّا طريق المعرفة فيمر بمراحل ثلاث:

أ. المرحلة الأولى، وهي مرحلة التطهير من الخطيّة. يليق بالإنسان لكي يتمتّع بمعرفة الإلهيّات أن يتخلّص من أفكاره الخاطئة عن الله، التي هي ثمرة عبوديّته لأهوائه الجسديّة. خلال هذه الآلام يرى الإنسان في الأمور الماديّة هدفًا له، فيصير أبعد ما يكون عن الله.

[إذ التحف غالبيّة البشر بأمور قابلة للموت كالقواقع المغلفة في الصدَّف، منطوين حول شهواتهم كالقنافذ أشبه بالكرة. صاروا يفكّرون في الله الطوباوي غير المائت بذات التعبيرات التي يفكّرون بها عن أنفسهم…[538]] لهذا يليق بالبشر أن يتخلّصوا من هذا الخطأ، فيتحرّرون من آلام النفس والمؤثّرات الأرضيّة لكي يدركوا الله.

ب. المرحلة الثانية هي التحليل المنطقي أو الابتعاد عن التفكير في الله بطريقة ماديّة جسدانيّة. فكلمات الإنجيل لا تفهم بطريقة حرفيّة؛ حين يتحدّث عن “يمين الله” مثلاً، لا يفهم أن لله يمينًا ويسارًا، بل هو فوق الزمان والمكان، فوق عالم الأسماء وفوق المفاهيم الأرضيّة.

ج. المرحلة الثالثة هي مرحلة الرؤيا. معرفة الله كهبة إلهيّة، لا يمكن بلوغها بدون نعمته. حقًا إن الفلسفة تسندنا، لأنها تعرفنا ما هو ليس الله، وهو أمر هام، به تزول الأفكار الخاطئة التي في أذهاننا والتي في أذهان الآخرين. أمّا إدراك الله فلا يمكن بلوغه إلا بالنعمة الإلهيّة وحدها، فوق حدود الفكر المنطقي.

المعرفة والإيمان

هذا هو هدف الغنوسي عند القديس إكليمنضس السكندري أن يتعرف على الله (الحق) ويراه[539]وجهًا لوجه، أي يعبر إلى كمال المعرفة من خلال الإيمان، وذلك خلال خبرة الحياة النقيّة والتأمّل الدائم. فإن كنّا قد عبرنا من الوثنيّة إلى الإيمان، فيليق بنا أن نعبر من الإيمان إلى المعرفة[540]، لنرى الله ونعرفه. هذه المعرفة هي هبة إلهيّة نتقبّلها خلال الابن، وذلك بقبولنا إيّاه وتشبّهنا به؛ أي خلال نقاوة القلب، نعاين الله وندرك ما يبدو للآخرين غير مدرك[541].

v     يقولون إنهم يؤمنون ويعرفون، فيربطون الأمرين معًا. لأنه يجب على الإنسان أن يؤمن وأيضًا أن يفهم. ليس معنى أننا نقبل الأمور الإلهية بالإيمان أن نبتعد تمامًا عن أي فحص لها، بل نحاول بالحري أن نبلغ إلى معرفة معتدلة، كما يقول بولس: “كما في مرآةٍ كما في لغزٍ” (١ كو ١٢: ١٢). حسنًا إنهم لم يقولوا عرفوا أولاً ثم آمنوا، إذ يضعون الإيمان أولاً ويلحقونه بالمعرفة، ولكن ليس قبل الإيمان. كما هو مكتوب: “إن لم تؤمنوا لن تفهموا” (إش ٧: ٩ LXX).

القديس كيرلس الكبير

v     ليس أننا عرفنا وآمنا بل “آمنا وعرفنا” [69]. لقد آمنا لكي نعرف؛ لأننا إن أردنا أن نعرف أولاً وعندئذ نؤمن، لن نستطيع أن نعرف ولا أن نؤمن…

بماذا آمنا وعرفنا؟ “أنت المسيح ابن الله الحيّ” [69]، بمعنى أنت هو الحياة الأبدية عينها، تهبها في جسدك ودمك فقط اللذين هما أنت[542].

v     ألم يبلغوا مثل هذه المعرفة حين كان الرب يكلمهم؟ إن كانت ليس لهم المعرفة فكيف آمنوا؟ لقد آمنوا ليس لأنهم كانوا يعرفون، وإنما لكي يعرفوا. فإننا نؤمن لكي نعرف، ولسنا نعرف لكي نؤمن. لأن ما سنعرفه لم تره عين ولم تسمع به أذن، ولم يخطر على بال بشر (إش ٦٤: ٤؛ ١ كو ٢: ٩) لأنه ما هو الإيمان إلاَّ تصديق ما لم تروه بعد؟[543]

v     إذ تحدث الرب عن الله أبيه أجابوه وقالوا له: “أين هو أبوك؟” لقد فهموا أب المسيح جسديًا، لأنهم يدينون كلمات المسيح حسب الجسد. لكن الذي تحدث كان الظاهر هو الجسد، وأما الخفي فهو الكلمة؛ الإنسان المنظور والله الخفي… لقد احتقروه لأنهم لم يعرفوه، ولم يعرفوه لأنهم لم يروه، ولم يروه لأنهم عميان، وهم عميان لأنهم لم يؤمنوا[544].

v     نحن نراك وحدك، ولا نرى أباك معك، فكيف تقول إنك لست وحدك بل أنت مع أبيك؟ إلا فلترنا أن أباك معك[545].

v     الآن أيضًا هو فينا ونحن فيه، هذا ما نؤمن به الآن، أما حينئذ فإننا سنعرف أيضًا هذا. وإن كنا ما نعرفه الآن هو بالإيمان، أما ما سنعرفه فسيكون بالرؤية الفعلية[546].

القديس أغسطينوس

المعرفة والحرية الداخلية

يقدم لنا ربنا يسوع نفسه ذاته لنقتنيه بكونه الحق، القادر وحده أن يحملنا إلى معرفة خلاصنا به وفيه. فالمعرفة غايتها اقتناء الحق واهب الحرية، حيث يتمتع المؤمن بشركة الأمجاد الأبدية.

v     “وتعرفون الحق” بمعنى: “ستعرفونني، إذا أنا هو الحق. كل الأمور اليهودية هي رموز، لكنكم تعرفون الحق فيَّ، وهو يحرركم من خطاياكم”… إنه لم يقل “أحرركم من العبودية” فقد تركهم هم يستنتجون ذلك[547].

القديس يوحنا الذهبي الفم

المعرفة والشركة مع الله

غاية المعرفة الاتحاد بالمحبوب أو المحبوبين، والشركة معه أو معهم. فلا نعجب إن قيل عن آدم أنه عرف حواء امرأته حين التصق بها، وصارت له شركة معها. ونحسب أصحاب معرفة إلهية حين نلتصق بالله، فنتمتع بالاتحاد معه، والشركة الحية العملية كأبناءٍ له.

v     غالبًا ما تعني كلمة “يعرف” في الكتب المقدسة ليس بمعنى إدراكه أمرٍ ما، بل وجود علاقة شخصية بالشيء. فيسوع لم يعرف خطية، ليس لأنه لا يعرف عنها شيء، وإنما لأنه لم يرتكبها قط بنفسه. فمع كونه يشبهنا في كل طريق آخر إلا أنه لم يخطئ قط (عب 4: 15). بتقديم هذا المعنى لكلمة “يعرف” واضح أنه كل شخص يقول بأنه يعرف الله يلزمه أن يحفظ وصاياه، لأن الاثنين يسيران معًا.

القديس ديديموس الضرير

v     يعرف الرب من له، بمعنى أنه يتقبلهم في شركة قويَّة بسبب أعمالهم الصالحة[548].

v     الله يعرف الذين هم له، بمعنى يعرفهم خلال أعمالهم الصالحة (في المسيح). إنه يقبلهم في شركة عميقة معه[549].

القدِّيس باسيليوس الكبير

v     الذين يهلكون لا يعرفون الله، وسينكر الله أنه يعرفهم، كما قال: “ابعدوا عني لأني لا أعرفكم” (مت 7: 23)[550].

هيلاري أسقف آرل

v     انظروا إن كان الكتاب المقدس لم يقل أيضًا في موضع آخر إن الذين يتحدون مع شيءٍ ما ويصيرون معه واحدًا يعرفون هذا الذي صاروا معه واحدًا وانشغلوا به. قبل هذه الوحدة والشركة فإنهم حتى وإن أدركوا شروح قُدمت لهم عن الشيء فإنهم لا يعرفونه.

كمثال قال آدم عن حواء: “هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي” (تك ٢: ٢٣)، فإنه لم يعرف زوجته، أما حين التصق بها قيل: “عرف آدم حواء امرأته” (تك ٤: ١).

من يتعثر لأننا استخدمنا هذه العبارة: “عرف آدم حواء امرأته” كمثال لمعرفة الله ليأخذ في اعتباره أولاً: “هذا السرّ عظيم” (أف ٥: ٣٢)، بعد ذلك يقارن ما قوله الرسول عن الذكر والأنثى، فقد استخدم نفس اللغة الخاصة بالرجل مع الرب. “من التصق بزانية هو جسد واحد، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد” (١ كو ٦: ١٦ – ١٧). لذلك من يلتصق بزانية يعرف الزانية، ومن يلتصق بزوجته يعرف زوجته، ولكن بالأكثر من يلتصق بالرب يعرف الرب بطريقة مقدسة.

إن كان الأمر هكذا فإن الفريسيين لم يعرفوا الآب ولا الابن[551].

v     إن كان أحد ما قادرًا أن يقدم حسابًا كاملاً عن الأمور الخاصة بالله، وقد تعلَّم من آبائه أنه وحده ينبغي له السجود، فإنه ما لم يسلك باستقامة يقول الكتاب عنه أنه لا يحمل معرفة الله.

إن كان أحد بالحقيقة يعرف الأمور الخاصة بالخالق وخدمته الكهنوتية فمن الواضح أن أبناء عالي الكاهن كان لهم هذا، إذ أنهم كانوا يقيمون في موضع العبادة. مع هذا إذ أخطأوا كُتب عنهم في سفر ملوك الأول: “وكان بنو عالي بني الهلاك، لم يعرفوا الرب” (راجع ١ صم ٢: ١٢)…

يمكننا أن نجد نفس الشيء ليس فقط بخصوص أبناء عالي بل وبخصوص حكام أشرار في إسرائيل ويهوذا. هكذا أيضًا لم يعرف الفريسيون الآب، إذ لم يعيشوا حسب إرادة الخالق[552].

العلامة أوريجينوس

المعرفة والثالوث القدوس

“كل شيء قد دُفع إلىّ من أبي، وليس أحد يعرف من هو الابن إلا الآب، ولا من هو الآب إلا الابن، ومن أراد أن يُعلِن له” [22].

v     العبارة: “تعرفونني وتعرفون من أين أنا” (يو ٧: ٢٨) خاصة بشخصه كإنسانٍ، أما العبارة “لستم تعرفونني أنا ولا أبي” [١٩] فخاصة بلاهوته… فمن الواضح أن كلمات القوم الذين من أهل أورشليم: “هذا نعلم من أين هو” (يو ٧: ٢٧) تشير إلى حقيقة أنه وُلد في بيت لحم (مت ٢: ١). وقد عرفوا أنه ذاك الذي أمه تُدعى مريم وأن إخوته (أبناء خالته) هم يعقوب ويوحنا وسمعان ويهوذا (مت ١٣: ٥٥). لهذا شهد للقائلين: “هذا نعلم من أين هو” قائلاً: “تعرفونني وتعرفون من أين أنا”. لكنه حينما تحدث مع الفريسيين قال: “وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب” [١٤]، إذ كان يتحدث عن طبيعته الإلهية، كشخص يتحدث عن الأساس الذي به هو بكر الخليقة (كو ١: ١٥)[553].

العلامة أوريجينوس

v     من ينكر أن الابن من الآب لا يعرف الآب الذي منه الابن، وأيضًا لا يعرف الابن لأنه لا يعرف الآب[554].

القديس أمبروسيوس

v     لم تكن بعد عينا فيلبس سليمتين بما فيه الكفاية لتنظرا الآب (يو 14: 8)، وبالتالي لتنظرا الابن الذي هو مساوي للآب. هكذا قام يسوع المسيح بشفائه بأدوية ومراهم الإيمان ليقوي عيني ذهنه اللتين كانتا بعد ضعيفتين وعاجزتين عن رؤية نورٍ عظيمٍ كهذا. وقال له: “أما تؤمن إني في الآب، والآب فيّ؟”

ليت ذاك العاجز عن أن يرى ما سيظهره له الرب يومًا ما ألا يطلب أن يرى بل أن يؤمن. ليؤمن أولاً حتى تُشفى العينان اللتان بهما ينظر[555].

بالحق انتهر السيد التلميذ، إذ رأى ما في قلب السائل (يو 14: 9).

إن كان الآب بنوعٍ ما أفضل من الابن، حتى أن فيلبس أراد أن يعرف الآب، بهذا لم يعرف الابن، إذ ظن أنه أقل من الآب. فلكي يُصحح مثل هذا المفهوم قيل: “الذي رآني رأى الآب، فيكف تقول أنت أرنا الآب؟” (يو 14: 9)…

لماذا تود أن تكتشف وجود مسافة بين من هما متشابهين؟

لماذا تتوق إلى معرفة منفصلة بين من هما غير منفصلين؟

ما قاله بعد ذلك لم يكن لفيلبس وحده، بل لهم جميعًا، هذا يلزم ألا نضعه كما في زاوية، حتى يمكننا بمعونته أن نفسره بأكثر حرص[556].

القديس أغسطينوس

v     يتحدَّث هنا عن نوع معين من المعرفة (معرفة خلال وحدة الجوهر) لا يملكه آخر[557].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

v     ماذا إذن أن يُقال للشيطان: “من أين جئت؟” (أي 1: 7) إلا لكي يدين طرقه كما لو كانت غير معروفة. فنور الحق لا يعرف شيئًا عن الظلمة، هذه التي يوبخها، وعن طرق الشيطان التي يدينها كديان. يليق أن يُسال عنها كما لو كانت مجهولة. ولهذا قيل لآدم وهو في خطيته بصوت خالقه: “آدم، أين أنت؟” (تك 9:3)، فإن القوة الإلهية لم تجهل الموضع الخفي الذي هرب إليه عبده عند عصيانه، لكنه رأى أن الساقط في خطيته مختفيٌ عن عيني الحق تحت الخطية

إنه يدين الشيطان، لذا فُحص طريقه، أما الملائكة المختارون فلا يحتاجون أن يُسألوا من أين جاءوا، إذ طرقهم معروفة لله، إذ هم كمن يمثلون حركته، إذ هم خاضعون لإرادته وحدها، ولن يمكن أن يكونوا غير معروفين له.

البابا غريغوريوس (الكبير)

معرفة الله لنا ولخليقته

الله يعرف أولاده وخدّامه المقدّسين، ولا يعرف الأشرار فعلة الإثم، لهذا عندما سقط آدم في الخطيّة سأله: أين أنت؟ وكما يقول القدّيس جيروم: [كان الله يعرف أن آدم في الجنّة، ويعلم كل ما قد حدث، لكنّه إذ أخطأ آدم لم يعرفه الله، إذ قال له: أين أنت؟[558]  [كأنه لا يراه، لأن آدم اعتزل النور الإلهي والبرّ، فصار تحت ظلال الخطيّة وظلمة الموت.] يُعلّق القدّيس أغسطينوس على قول السيد: “لا أعرفكم” هكذا: [لا أراكم في نوري، في البرّ الذي أعرفه[559].] فالله لا يرانا في نوره عندما نطيل الصلوات باطلاً أو نكرز باسمه أو نصنع قوّات وإنما حينما نحيا معه وبه ونسلك طريقه.

v     كتابة أسمائنا في السماء برهان على حياتنا الفاضلة، أمّا إخراج الشيّاطين فهو هبة من المخلّص، لذلك يقول للذين يفتخرون بعمل القوات دون ممارسة الحياة الفاضلة: “لا أعرفكم”، إذ لا يعرف الله طريق الأشرار[560].

القدّيس أثناسيوس الرسولي

v     لا يعرف الرب الخاطىء بل البار[561].

القدِّيس جيروم

v     يا للعجب الذي جاء ليقيمه من الأموات يبدو كمن لا يعرف موضع القبر، إذ “قال: أين وضعتموه؟” [34]. وكما يقول كثير من الآباء إن الله العالم بكل شيء يبدو كمن لا يعرف موضع الظلمة، ولا يعرف الشر ولا الأشرار. لهذا إذ أخطأ آدم في الجنة، سأل الرب: “أين أنت؟” (تك ٣: ٩). وفي يوم الدينونة يقول للأشرار: “لست أعرفكم” (مت ٧: ٢٣)، وهنا يتساءل: “أين وضعتموه؟

v     لست أراكم في نوري، في البرّ الذي أعرفه[562].

v     ماذا تعني “أنظر“؟ ترفق، فإن الرب ينظر حين يتحنن. لذلك قيل له: “أنظر إلى تواضعي وألمي، واغفر لي كل خطاياي” (مت ٩: ١٣)[563].

v     ربما إذ يعرف الرب الذين هم له (٢ تي ٢: ١٩؛ عد ١٦: ٥)، لا يعرف الذين ليسوا له. وكما يقول عن البعض: “إني لم أعرفكم قط” (مت ٧: ٢٣)، لهذا يقول أيضًا عن يهوذا الذي ليس له: “إني لا أعرفك قط”. لكن لو أن يهوذا كان للمسيح ثم سقط، كان يُمكن أن يُقال له: “لست أعرف من أين أنت” (راجع لو ١٣: ٢٧)… لهذا السبب لم يقل: “أنا أعلم جميعكم”، بل “أنا أعلم الذين اخترتهم“.[564]

العلامة أوريجينوس

v     إلى أن دعاها باسمها وظهر لها كهاتفٍ لا تزال تظنه ميتًا وتسأل أين هو موضوع، دعاها باسمها. وكأنه يقول لها: “لتعرفي ذاك الذي يعرفك”. وإذ دُعيت مريم باسمها عرفت خالقها. إنه ذاك الذي تبحث عنه خارجها، وهو يعلمها أن تبحث عنه داخليًا[565].

البابا غريغوريوس (الكبير)

النمو في المعرفة

v     إن تقدّم أحد وكان غيورًا، فالله من جانبه يعطيه كل شيء، أمّا من لم ينشغل بهذه الأمور ولا يساهم بشيء من جانبه فلن تمنح له عطايا الله[566].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

v     لتتبارك نفوسهم بالفهم والمعرفة والأسرار لكي يشتركوا فيها، ليتبارك الكل معًا خلال الابن الوحيد يسوع المسيح[567].

قداس الأسقف سرابيون

فيما يلي مقتطفات من تعليق القديس أمبروسيوس عن هذا الموقف:

[يمكننا اعتبار شهادة الجموع له بلا نفع، فقد ظنه البعض إيليا قد قام، مؤمنين بمجيئه، وآخرون آمنوا بقيامة يوحنا عالمين أن رأسه قد قطعت، وآخرون أنه واحد من الأنبياء القدامى.

البحث في ذلك (أي في شخص المسيح) أمر يفوق قدرتنا، لكنه يتناسب مع فكر شخص كبولس وحكمته، هذا الذي يكفيه أن يعرف المسيح وإياه مصلوبًا (1 كو 2: 2)، لأنه أية معرفة يشتاق إليها أكثر من أنه المسيح؟ ففي هذا الاسم “المسيح” يتجلى اللاهوت ويُعلن التجسد وأيضًا الآلام.

لقد عرفه بقية التلاميذ، لكن بطرس وحده قال: مسيح الله(لو 9: 20)، إذ يشمل هذا الاسم كل شيء، ويعّبر عن طبيعته، ويحوي كل الفضائل.

هل نثير تساؤلات حول كيفية ميلاد الرب بينما يقول بولس أنه لا يعرف شيئًا إلا المسيح وإياه مصلوبًا، ويعترف بطرس أنه مسيح الله! نحن بعيون الضعف البشري نبحث هكذا: متى وكيف وما هي عظمته، أما بولس فيرى في هذه التساؤلات هدمًا لا بناء، لذا لا يريد أن يعرف إلا يسوع المسيح.

عرف بطرس أن في “ابن الله يكمن كل شيء، فقد دفع الآب كل شيء في يده (يو 3: 35)… لذا فيه الأزلية والعظمة التي للآب.

إني قبلت الإيمان بأنه المسيح ابن الله (مت 16: 16) فلا يجوز لي أن أعرف كيف وُلد، لكن لا يجوز لي أيضًا أن أجهل حقيقة ميلاده.

لتؤمن إذن كما آمن بطرس، فتطوّب أنت أيضًا وتتأهل لسماع الكلمات: “إن لحمًا ودمًا لم يعلن لكلكن أبي الذي في السماوات” (مت 16: 17). فاللحم والدم لا يقبلان إلا الأرضيات، أما من ينطق بأسرار الروح فلا يعتمد على تعاليم اللحم والدم بل على الإعلان الإلهي.

ليتك لا تعتمد على اللحم والدم لتأخذ منهما أوامرك، فتصير أنت نفسك لحمًا ودمًا، وإنما من يلتصق بالرب يكون معه روحًا واحدًا (1 كو 6: 17). يقول الله: لا يدين روحي في الجسد بعد لأن كل تصورات قلبه شريرة (تك 6: 3).

ليسمح الرب ألا يكون السامعون لحمًا ودمًا، بل يكونوا متغربين عن شهوة اللحم والدم، فيردد كل واحد منهم: لا أخاف، ماذا يصنعه بي الإنسان (أي اللحم والدم)؟” (مز 56: 5).

من يغلب الجسد يصير من أعمدة الكنيسة؛ إن لم يستطع أن يبلغ إلى بطرس فإنه يتمثل به ويتمتع بعطايا الله إذ هي كثيرة، يرد لنا ليس ما تركناه بل ما هو له.

يحق لنا أن نتساءل: لماذا لم يرَ فيه الجموع إلا إيليا أو إرميا أو يوحنا المعمدان؟

ربما رأيت فيه إيليا لأنه أُختطف إلى السماء؛ لكن المسيح ليس كإيليا إذ لم يُختطف إليها بل جاء منها. الأول أُختطف إلى السماء، أما الثاني فلا يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله (في 2: 6). الأول انتقم بالنار التي طلبها (1 مل 18: 38) والثاني أحب خلاص المسيئين إليه لا هلاكهم.

لماذا اعتقدوا أنه إرميا؟ ربما لأنه تقدس من الرحم (إر 1: 4)، لكن المسيح ليس كإرميا. الأول تقدس، أما الثاني فهو يقّدس، الأول بدأ بميلاده أما الثاني فهو قدوس القديسين.

لماذا ظنه الشعب يوحنا؟ ربما لأن يوحنا عرف الرب وهو في بطن أمه، لكن المسيح ليس كيوحنا. يوحنا سجد وهو بعد في الرحم، والثاني هو المسجود له. الأول عمّد بالماء، وأما المسيح فبالروح. الأول نادى بالتوبة والثاني غفر الخطايا[568].]

الغنوسية الحقيقية

تحدثنا قبلاً عن الغنوسيين الذين وضعوا في قلوبهم أن تحل المعرفة أو الغنوسية محل الإيمان كطريق للخلاص، حتى صارت كلمة “غنوسيون” تشير إلى مجموعات من الهراطقة. لكن القديس إكليمنضس أعطى للكلمة فهمًا مسيحيًا جديدًا، إذ رأى في الكلمة تعبيرًا عن “المسيحيين الذين يعيشون في معرفة الله”، ومنعًا للبس يستخدم البعض العبارتين “غنوسي حقيقي” و”غنوسي مسيحي” تمييزًا عن “الغنوسي الهرطقي”.

العلم والإيمان

[في ظني أن كل إنسان عاقل يفكر بأن العلم هو الأمر الرئيسي من بين كل ما هو حسن وفي منال عقولنا. ولا أقول بأن علومنا هي وحدها عالية ونبيلة، لأنها تحتقر أناقة الخارج لتتعلق بجمال الأفكار، وإنما أيضًا العلم الذي من الخارج، الذي يرفضه كثير من المسيحيين القليلي التقدير ويعتبرونه خادعًا وخطرًا يبعدنا عن الله… فمن هذا علينا أن نحتفظ بما يمكنه ان يساعدنا على التأمل في الحق متجنبين كل ما يؤدى إلى الشر والخطأ والهلاك[569].]

v     يهمنا جدًا ألا ننكب بجهل على العلوم، وإنما أن نعرف ما الأفيد منها… وخوفًا من أن نتعلق بها وننسى علم الله منغمسين في أبحاث باطلة، يبين من الضروري ان نستعمل التمييز في التربية بطريقة نختار فيها العلم المفيد ونتجنب كل ما هو ضرر وشؤم[570].

القديس باسيليوس الكبير

المعرفة والفلسفة

عالج القديس إكليمنضس السكندري في كتابه “المتفرقات Stromata” موضوعين رئيسيين، هما علاقة المسيحية بالفلسفة اليونانية، وعلاقة الإيمان بالمعرفة (الغنوسية). لقد أجاب القديس في أكثر من موضع وبشيء من التفصيل على السؤال الذي كان يشغل أذهان المفكرين المسيحيين في ذلك الوقت، ألا وهو: ما هي نظرة المسيحية للفلسفة اليونانية (الهلينية)؟ هل تمثل خطرًا على الإيمان المسيحي أم هي معين له؟

القديس إكليمنضس السكندري – في محاولاته لإرساء “غنوسية” مسيحية حقيقية وأصيلة وعملية – يستخدم بصفة مستمرة، مصطلح “غنوسي Gnostic” بمعنى “المؤمن الروحاني”. فهو لا يفصل بين المعرفة Gnosis والروحانية.

آمن القديس إكليمنضس السكندري أن دستور الكنيسة والكتب المقدسة لا تتعارض مع الفلسفة، وأنه لا عداوة بين المسيحية والفلسفة. وتتلخص نظرته إلى الفلسفة في النقاط التالية:

1- إن الفلسفة ليست عملاً من أعمال الظلمة، بل في كل مذهب من مذاهبها يشرق عليها شعاع نور[571] من اللوغوس… ففي بداية كتابة “المتفرقات Stromata” انتقد القائلين بأن الفلسفة شر، ووعد أنه سيوضح – خلال هذا العمل – أنها من جانب هي “عمل التدبير الإلهي[572]”.

في رأيه أن غاية الفلاسفة في كل المدارس الفلسفية هي ذات غاية المسيحية، ألا وهي الحياة السامية، ولكن الفارق هو أن الفلاسفة لم يتمتعوا إلا بقبسات من الحق، أما المسيحية فأعلنت الحق كاملاً في المسيح[573]. الفلسفة – في رأيه – أقل من الحق[574]، لكنها ليست بلا قيمة[575]. لهذا فهو يرى الفلاسفة أطفالاً بقوا هكذا حتى جعلهم السيد المسيح رجالاً.

2- خلال هذه النظرة أراد أن يقدم تعريفًا للفلسفة من وجهة نظره، فقال: “أقصد بالفلسفة لا المذهب الرواقي أو الأفلاطوني أو الأبيقوري أو الأرسطاطلي، بل ما قد قيل بحق في كل المذهب منها، حيث يعلم بالبرّ جنبًا إلى جنب مع العلم التقوى. هذا الاختيار الكلى أدعوه “الفلسفة”. أما نتائج التعقلات البشرية التي يقطعها البشر ويزيفونها فليست فلسفة[576]”.

كأن الفلسفة في ذهنه تحمل جانبين: الجانب الإلهي هو عطية الله، وهو نصيب من الحق، والجانب البشري من وضع الفكر الإنساني، يزيف الحق ويفسده، هذا الذي حذر منه الرسول بولس في رسالته إلى أهل كولوسي (8:2). رأى في كتب الفلاسفة تناقض في أمورٍ كثيرةٍ[577]، وذلك على خلاف الكتاب المقدس.

أما تعليله لوجود الجانبين في الفلسفة فيقوم على أساس أن كل ما هو صالح يأتي من قبل الله[578]، قدمه لنا ليس كهدف في ذاته وإنما كبذرةٍ يلقيها اللوغوس على الأرض فتأتى بثمر صالح أو شرير، وذلك حسب نوع التربة إن كانت صالحة أو حجرية[579].

خلال هذه النظرة نراه تارة يدافع عن الفلسفة في جانبها الحق، وأخرى يهاجمها في الشوائب التي دخلت إليها. تارة يرى في الفلسفة تحمل جانبًا من الحق، وأخرى يراها تعليمًا تمهيديًا للوصول الحق. وثالثة يراها ليست الحق ولا هي الخطأ ورابعة أنها مطلوبة لاكتشاف الحق المزيف، وذلك كالصراف الذي يتعرف على العملة المزيفة ليعرف الأصلية.

3- يرى القديس إكليمنضس أن عناية الله لم تتجاهل الفلسفة مطلقًا. ففي رأيه كما أن الله قد أعد العبرانيين بالناموس ليقودهم للسيد المسيح، هكذا استخدم الفلاسفة بالنسبة لليونانيين للبلوغ بهم إلى ذات الهدف. لقد استخدم القديس كلمات بولس الرسول مع الإثينيين ليجتذبهم للإيمان خلال أقوال شعرائهم (أع 22:17-28) كمثال حيَّ لتأكيد نظريته.

خلال هذه النظرة رأى بعض الكتَّاب في القديس أفلاطونيًا أو أفلاطونيًا حديثًا أو على الأقل مدافعًا عن الفلسفة الهيلينية في المسيحية فيقول Fillinton: “من يعطى اهتماما لإكليمنضس الإسكندري يدافع بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن سَّر الهيلينية في المسيحية[580]”.

4- أكد القديس بأمثلة عديدة أن اليونانيين قد استعاروا الكثير من العهد القديم[581]. قال أن أفلاطون انتحل آراء موسى والأنبياء، ولو أنه لم يقمها بطريقة صادقة. كما شبه الفلسفة اليونانية بالشريعة الموسوية، ومع ذلك فكثيرًا ما أكد أن الإيمان هو أساس كل المعرفة[582]، أعظم منها والحكم عليها[583]، كما دافع عن الإيمان ضد الفلاسفة[584].

5- إذ عرف القديس العالم بجانبيه الوثني والمسيحي، عرف الكتابات اليونانية الكلاسيكية أو اللاهوت المسيحي. لهذا أعتقد أنه ليس من واجب الكنيسة أن تثبط همة الموعوظين عن متابعة دراستهم الفلسفية، إنما تستطيع الكنيسة أن تعطى مسحة مسيحية للفلسفة بثقافتها وتعليمها.

لقد أوضح القديس[585] أن الغنوسي أو المسيحي الأمثل يستخدم كل أنواع المعرفة ولا يخاف الفلسفة بل يستفيد منها. حقًا إن الجماهير تخاف الفلسفة بل كما يخاف الأطفال من القناعات لئلا تضلهم الطريق. لكن المسيحي بالإيمان يقدر أن يعرف الحق ويميزه؛ يفصل الحق غير المتغير عن الآراء الباطلة، فيكون كالصراف الذي يقدر بخبرته أن يفصل العملة الحقيقية عن الزائفة… هكذا لا ينخدع الغنوسي بالكلمات الزائفة، وكما يصرخ داود قائلاً: “البار لا يتزعزع إلى الآبد” مز 6:112، لا بالكلمات الزائفة ولا باللذات الخاطئة. إنه لن يتزعزع عن ميراثه “لا يخشى من خبر سوء” مز 6:112، فلا ترعبة افتراءات لا أساس لها، ولا يهتز من آراء باطلة تنتشر حوله.

في نفس الفصل يوضح إكليمنضس أن الغنوسي يستخدم الفلسفة بطريقة صالحة لمعرفة الحق الذي يظهر فيها جزئيًا، أما الهراطقة فيستخدمونها بطريقة شريرة للتضليل. هذا وفي رأيه أن الفلسفة أيضًا قادرة على فضح أخطاء السوفسطائيين وإظهار انحرافهم…

v     الله الواحد الحقيقي هو المصدر لكل جمال، سواء الجمال الهيليني أو الجمال الخاص بنا[586].

v     كأن الفلسفة اليونانية تطهر النفس وتعدها لقبول الإيمان، الذي عليه يبنى الحق (المسيح) صرح المعرفة[587].

v     قبل مجيء الرب كانت الفلسفة ضرورية لليونانيين للبرّ، وأما الآن فقد أصبحت موصلاً للتقوى، بكونها نوعًا من التدريب الإعدادي للذين ينالون الإيمان خلال البرهان… لقد أعطيت الفلسفة اليونانية مباشرة، وبطريقة بدائية إلى أن يدعوهم الرب. وكما يقود الناموس العبرانيين للمسيح (غلا 24:3)، هكذا كانت الفلسفة إعدادًا، تهيئ الطريق الذين يتكملون في المسيح[588]”.

v     إنه بعد ذلك يدمغ الفلسفة ويدينها، ليس بصفة شاملة بل يدين الفلسفة الأبيقوريّة التي يذكرها بولس الرسول في سفر أعمال الرسل (17: 18)، تلك التي تجحد الله القدير وتؤلّه اللذّة[589].

القديس إكليمنضس السكندري

v     احذروا لئلا يفسدكم أحد عن الإيمان بالمسيح بفلسفة وخداع باطل الذي يهمل تدبير العناية الإلهية “بحسب تقليد الناس“. لأن الفلسفة التي هي بحسب التقليد الإلهي إنما تطابق وتتبع تدبير العناية الإلهية، والذي إذ أُهملِ ظهور المخلص بتدبير خلاصه في الزمن كنا منقادين بحسب “أركان العالم وليس بحسب المسيح“[590].

v     لأن القديس بولس أيضًا، في رسائله لا يهاجم الفلسفة، بل يراها تنزل بمستوى الإنسان ليبلغ المعرفة الخاصة بالعالم. لا يليق به أن ينحدر إلى الفلسفة الهيلينية والتي يسمَّيها بشكل رمزي قائلاً إنها أركان العالم الحاضر، إذ هي ناقصة لم تكتمل بعد، وهي مجرد مبادئ تمهيدية للحق[591].

v     هل يقول أحدكم إن الفلسفة التي اكتشفها أهل اليونان قد جاءت نتيجة الفهم البشري، إلا أني أجد الكتاب المقدس يقول إن الفهم هو من الله ذاته. فالمرنم يعتبر الفهم أعظم هبة مجانية ويحث المؤمنين قائلاً، بأن داود بالرغم من فيض تجاربه، ومعرفته، يكتب: “علمني الرقة والحكمة والمعرفة، لأنني آمنت بوصاياك”[592].

v     بقول الرسول: “بحسب أركان العالم وليس بحسب المسيح” يؤكد أن التعليم الهيليني (اليوناني) تعليم أوليَّ، أما تعليم المسيح فكامل[593].

القديس إكليمنضس السكندري

لقد أعطى العلامة ترتليان إجابة واضحة وقاطعة اتسمت بالعنف الشديد[594]، إذ يقول: [أية شركة بين الفيلسوف والمسيحي، بين تلميذ اليونان حليف الباطل وتلميذ السماء عدو الباطل وحليف الحق؟ حتى حكمة سقراط لم تصل إلى شيء يعتد به، لأنه ليس ثمة شخص يمكنه أن يعرف الله معرفة حقيقية بغير المسيح، أو يعرف المسيح من دون الروح القدس، ثم أن سقراط نفسه يعترف أن جنًا كان يقوده ويهتف في قلبه. أما أفلاطون فيقول إنه من العسير أن يجد الإنسان صانع الكون ووالده، بينما أبسط مسيحي قد وجده[595].]

يرى ترتليان أن الهراطقة وجدوا أسلحتهم في الفلسفة، ففالنتينوس أخذ هرطقته عن أفلاطون، ومرقيون عن الرواقيين والأبيقوريين وغيرهم من الفلاسفة. لهذا كثيرًا ما يردد تليان تحذير معلمنا بولس الرسول: “أحذروا أن لا يكون أحد يسبيكم بالفلسفة” كو 8:2.

هكذا يرفض ترتليان بطريقة قاطعة أية دراسة فلسفية، إذ يقول: “أية شركة بين أثينا وأورشليم، أو بين الأكاديمية والكنيسة، أو بين الهراطقة والمسيحيين؟! تعاليمنا تأتى من رواق سليمان الذي علمنا أنه يجب علينا أن نطلب الله ببساطة قلب كاملة. أنه لأمر رديء أن يقيم البعض مسيحية رواقية أو أفلاطونية أو جدلية. أما نحن فلم يعد لدينا حب استطلاع بعد أن عرفنا يسوع المسيح، ولا نطلب أن نبحث عن شيء بعد الإنجيل. مادمنا قد آمنا فما حاجتنا أن نؤمن بشيء آخر. إن أول بنود إيماننا هو ألا نؤمن بشيء غير هذا الإيمان[596]”.

أما القديس هيبوليتس وإن كان له معرفة أوسع مما لترتليان لكنه لم يكن متعاطفًا مع الهيلينية أو فلسفتها التي نظر إليها كمصدر للهرطقات.

لم يحدث أن قصد العلامة أوريجينوس بهذا المصطلح “الروحانية” المسيحية، لكنه كان يستخدم المصطلح “teleios” (البولسي)- نسبة إلي الرسول بولس، بمعنى كامل، أو “pneumatikos” بمعنى روحاني. أما كلمة” gnostikos ” فنادرة الاستخدام عنده، استخدمها مرة واحدة للتعبير عن “روحاني” في وثيقة بالية، وفي قصد تهكمي موجه للمتمسكين بالغنوسية المزعومة.

v     قضيت زمانًا طويلاً في الباطل، وأضعت تقريبًا كل شبابي أبحث عن نوعٍ من الحكمة هي جهالة عند الله. فجأة مثل إنسانٍ قام من نومٍ عميقٍ فتحت عيني على نور حق الإنجيل العجيب، فأدركت عدم نفع حكمة رؤساء هذا العالم التي تزول (1 كو 2: 6). سكبت دموعًا كثيرة على حياتي البائسة وطلبت أن أنال هداية كي ألتصق بتعليم الدين الحقيقي.

القديس باسيليوس الكبير

v     العقل الذي ينسى المعرفة الحقيقية يشن حربًا مع الناس لأجل أمور ضارة به يظنها نافعة له.

القديس مرقس الناسك

v     هذا الإنسان إنسان عالمي ينتبه لتعاليم الناس، ضحية الفلسفة، لأنه لا يتصرف في المسيح بملء اللاهوت[597].

v     لئلا تضل النفس وتقع في خداع الفلسفة الوثنية، فإنها تقبل الدرس الأفضل الذي للولاء الأكمل للإيمان المقدس الذي علَّم به الرسول في كلمات موصى بها[598].

القديس هيلاري أسقف بواتييه

v     نحترس، بوجه خاص، لئلا ونحن نجاهد في طلب للحكمة، التي هي كائنة في المسيح وحده المذخر فيه كل كنوز الحكمة والمعرفة – أقول نحترس لئلا باسم المسيح ذاته، يخدعنا الهراطقة أو أية أحزاب فاسدة الذهن ومُحبة لهذا العالم[599].

القديس أغسطينوس

المعرفة والكبرياء

v     لا يفتخرن أحد إذن بأنه يعلم ووثيق بالمعرفة البشرية، إذ مكتوب حسنًا في سفر إرميا: “لا يفتخر الحكيم بحكمة ولا يفتخرن القوي بقوته ولا يتفاخر الغنى بغناه، بل من يفتخر فليفتخر بهذا، أنه يفهم ويعرف أنني أنا الرب الذي يتراحم ويدين بالبرّ فوق الأرض” حتى لا نتكل علي ذواتنا بل علي الرب الذي يقيم الميت” يقول الرسول: “الذي خلصنا من موت هذا ثقله حتى لا نتكل علي حكمة الناس، بل علي قوة الله” لأن الروحي يحكم في كل شيء ولكن لا يُحكم عليه في شيء” وأيضًا أنصتُ إلي كلماته هذه: “إنما أقول هذا لئلا يخدعكم أحد بكلام ملِق (مخادع) أو يتسلل أحد ليتلفكم[600]“.

القديس إكليمنضس السكندري

v     حسنًا يدعوها الرسول هكذا ” العلم الكاذب الاسم” (1 تي 6: 20)، فإنه حيث لا يوجد الإيمان لا توجد المعرفة (الحقيقية)[601].

v     لا ينبع التصلف عن المعرفة، إنما عن عدم المعرفة، فمن يعرف تعاليم التقوى يميل بالأكثر إلي التواضع. من يعرف الكلمات المستقيمة لا يكون غير مستقيمٍ، كما يقول: [من يعرف ما لا يلزم معرفته فهو عديم المعرفة، والكبرياء تنشأ عن عدم المعرفة[602].]

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     هب لي أن أبقي دائمًا مع (صفوف الملائكة) في بلد الدهش والعجب في اللامعرفة التي تتجاوز كل معرفة، وكل أصحاب المعرفة[603].

الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)

المعرفة والدينونة

v     من العدل أن من يستمتع بنصيب أوفر من المعرفة ينال نصيبًا أشد من العقاب إن تعدى الناموس. ومن ثمّ، يكون عقابنا أشد كلما ازددنا في الحكمة والسلطان. إن كنت غنيًا يُطلب منك العطاء أكثر من الفقراء، وإن كنت صاحب حكمة أوفر تلتزم بالطاعة أكثر من غيرك، وإن نلت سلطانًا يلزمك تقديم أعمال أكثر بهاءً[604].

القدّيس يوحنا الذهبي الفم

المعرفة والتأمل في الإلهيات

v     ليس للسان سلطان أن ينطق بكيفيتها (الأسرار الإلهية)، إنما ينظرها العقل الطاهر وحده، وبها يتنعم ويفرح بنظرها، ويتعجب ويبتهج بوجودهما، ويُذهل ويُسر باستعلانها له؛ ويذهل ويُختطف منهما إلى داخلهم.

وفي الله يُبتلع ويُسبى بنظر جماله، ويتحد بمجده وينذهل.

ليس من دخل إلى هذا وينظر إلى ما يُرى ههنا بشهوة.

ليس من يتلذذ بهذه (الأسرار)، ويذوق أيضًا حلاوة شيء مما على الأرض.

ليس من ينظر جمالها وينظر إلى جمال شيء مما في عالمنا أنه حسن.

ليس من استغنى بوجودها ولا يستخف بالدرهم كالزبل.

ليس من استأنس بوجودها وسكر بالهذيذ بها ولم يمقت في عينيه جالة الناس وأنسهم.

ليس من انطلقت في نفسه وفي عظامه محبة المسيح ويقدر أيضًا أن يحتمل قذارة الشهوة المرذولة.

ليس من صار رفيقًا للملائكة واستأنس بأسرارهم ولم يرذل رفقة العالم ومكائده.

ليس من سُبي عقله بجمال رب الكل، ويقدر أيضًا أن يسبيه شيء مما في هذا العالم بشهواته.

ليس من ربط عقله بالله والاهتمام به، وينحل أيضًا من شيءٍ ويرتبط بالهم به[605].

v     طوباك يا من هو في لجج النور طائر بأجنحة الروح القدس، وهو محبوس في العمق الذي يحبس العقل، والذي أعماقه لا تُدرك[606].

الشيخ الروحَاني (يوحنا الدّلياتي)

معرفة الله الساكن في القلب

v     إن ينظر الإنسان إلي الله اللانهائي… هذا ذكر مستقيم حقًا. إنه ينزع الأهواء، ويطرد الشياطين، وينير العقل، ويطهر القلب.

أما إن طلب الإنسان حياة الله في داخله، فهذا أفضل مما سبق. إن كانت العوالم كلها مليئة بالحياة وهو خالٍ منها، فما هي المنفعة التي تأتيه من الخارج؟ وإذا كان مليئًا بالحياة، بماذا يضره الموت الذي هو خارج عنه؟[607]

v     أنظر إلي الله في ذاتك، وأنظر كيف أن الله هو نور!

إن طبيعته هي نور ممجد نور أشعة وفيرة. وهو يظهر نور طبيعته إلي كل من يحبونه في كل العوالم، أعني مجده لا طبيعته؛ وهو يحول صورة الذين يرونه إلي صورة مجده.

أنظر إلي نفسك وأبصره فيها، في ذاتك، متحدًا بك كاتحاد النار بالحديد في داخل الكور، وكالرطوبة في جسمك.

عندما تنظر إليه وهو متحد بك هكذا، يسبي ذاتك من أمام ذهنك لكي يتراءى وحده لذهنك[608].

v     إن سألك عن رؤية الأقانيم الممجدة، لا تستطيع خليقة أن تتكلم عنها. بالرغم من أن الأنقياء يرون كل واحدٍ منها وفق نقاوتها الصافية. ورغم أن القوة الرائية هي فيهم بحسب قوتهم، فهي قوة في طبيعتهم للتعريف بالكلمة، مع هذا نضع علامات ضعيفة لإنارة المظلمين أمثالنا[609].

v     الذين يريدون بوقاحة سبر جوهر طبيعته التي لا بداية لها يقتنون الهلاك لهم من سبرهم. ويتلقون من تجارتهم الويل والمرارة والتنهدات!…

لا تفصل نفسك عن الحياة!

لا تسقط في اليم لئلا تهلك.

بل نظم مسيرك، واعدله، واقتنِ منه الحياة إلي الأبد…

إن كنت لا تستطيع أن تعرف نفسك، كيف تستطيع أن تسبر جوهر طبيعة خالقك؟!

أيها الفاحص المنافق، انحنِ من كبريائك لئلا تسقط في الغمر الذي ليس له سندّ لنزولك![610]

v     ليس من أحدٍ يشخص إلي ذاته دائمًا إلا ويقتني النقاوة التي ترى الله في زمن قصير.

من ينظر إلي الله في داخله، ينظف نفسه من القذارة، ولن يستطيع الشيطان أن يزرع الأهواء في قلبه. وإن زرعها تتلف سريعًا. فإن ذكر الله وذكر الأهواء لا يمكنهما أن يقطنا في مسكنٍ واحدٍ[611].

v     الذهن الذي في طياته يطلب الله يصبح بنفسه مرآة يري الله فيها.

المجد لذاك الذي يُظهر مجده بالذهن الملتهب برؤيته. لكي يراه لبهجته. لا يأتي من مكانٍ ما ليتراءى له، بل يختفي فيه ويختبئ. وما أن يجده مجاهدًا ومتعبًا في طلبه، وهو دومًا في فكره، ومتعطشًا إلي رؤيته، حتى يشرق به جماله الممجد الذي كان مختفيًا فيه، ويعزيه.

هذا هو الذي يجد الملكوت، وقد كان مختبئًا في داخله.

هذا هو الكنز المخفي في الحقل، والذي يجده فورًا من يترك كل ما يمتلكه (مت 44:13)[612].

v     طوبى لمن يشخص إليك علي الدوام، يا فردوسي الذي تتراءى فيَّ!

ويا شجرة الحياة التي تلهبني في قلبي شوقًا إليه، وتُغير وجهي بقوة محبته، وتقيم بالدهش الذي تثيره أشعه جماله!

طوبى لمن يطلبه دومًا في ذاته، إذ منه تجري الحياة لتطيَّبه (يو38:7)!

طوبى لمن يحمل ذكرك في قلبه في كل آن، إذ أن نفسه هي أيضًا سكري بحلاوتك!

طوبى لمن هو شاخص إليك علي الدوام في داخله، إذ يستنير قلبه لرؤية الخفيات!

طوبى لمن يطلبك في ذاته إذ أن قلبه ملتهب أيضًا بنارك، وجسده متقد مع عظامه بقوته المطهرة![613]

v     تعزيه برؤيتك في كل حين.

عندما يأكل يراك في مأكله، وعندما يشرب تشع في شرابه!

عندما يبكي تشرق في دموعه.

أينما نظر يراك، ففي كل موضع تزيده من تطويباتك[614].

v     لأن الرؤية لا يمكن أن تتحقق في ذلك النور الذي تشكل أشعته الساطعة مانعًا، يقولون أنك غمام وضباب، وإن غمامًا منيرًا يحيط بك (مز 2:79)، وإنك تمنع نظر محبيك عن التطلع بإفراط لرؤية طبيعتك المخفية[615].

v     إنك، أيها الصالح في كل محبيك، لأنهم يجدونك في الدهش الذي لا يُوصف، في مجد بهاء جمالك، وفي قوة طبيعتك، وفي معرفتك التي هي أعلي من الكل.

أنت موجود بكلك في كل محبيك، بكل ما لك، وفي كل واحدٍ منهم.

أنت بكليتك لكلٍ منهم بالكمال بغير نقصان، مع أنه لا يقدر أحد أن يمتلكك كليًا.

المجد لكمالك الذي يضبط كل الكمالات، ولا يستطيع أحد منها أن يحدَّك[616].

v     المجد لذاك الذي وهب من حكمته لخاصته، مظهرًا جماله لأجل تلذذ محبيه[617].

v     تأمل في ذاتك قليلاً ليشرق فيك الشعاع المفرح، لاسيما حين تقع علي وجهك، فإنه لا يوجد وقت مثل هذا فيه تري ذاك الذي يري الكل. فإنه يظهر لمحبيه، ويوفر لهم الصالحات[618].

v     اكشف ما لك للخفي، فيكشف هو ما له[619].

v     طوبى لمن يري ذاك البلد من ههنا، ومنه ينطلق إلي بلد الأفراح، إلي البلد الذي لا تغرب شمسه[620]!

v     طوبى لمن ينصت ويسمع أسرار الروح الخفي ويكتمها في نفسه[621].

v     يا إلهي وحياتي! لقد سُبي فكري بالحديث معك، فإنه ليس لي من أتحدث معه خارجًا عنك!

ماذا أفعل؟ نفسي عطشي إليك، ولحمي يبتغيك (مز 2:63).

بالحديث معك يمكن الصعود إليك، وبالتفكر فيك توهب رؤية وجهك[622].

v     إن كنت تحزن في طلبه، فستبتهج بوجوده!

إن كنت تتألم لكي تنظره بالدموع والضيق، فانه يظهر لك حُسنه (جماله) داخلك فتنسى أحزانك!

لا تطلبه خارجًا عنك، ذاك الذي مسكنه ومقره في داخلك! من رأى حكيمًا يطلب نعيمه خارجا عنه؟!

كيف تليق لك الحياة خارجًا عنك؟!

لمن أنت تخدم؟ لمن أنت تصلي؟ قدام من أنت تصرخ؟

لمن تدعو قائلا: “أبانا أسرع لمعونتي؟” قدام من أنت تسكب دموعك؟ أليس قدام ذاك الذي به تحيا وتتحرك؟!

ولكن لماذا لا تشعر بنعيمك في داخل نفسك؟ أليس لأنك لم تخلط أعمالك به؟

إذا جلست، أنظر شعاعه متحدًا بك…

وإذا قمت فبغمام مجده تطهر…

وإذا مشيت ارفع الأرض عن نظرك، واجعل مسلكك في نور الرب كموضع نقي…

وإذا نمت فبلجج نوره تغطى…

وفي شربك امزج شرابك بمنظر محب الكل…

ِطرْ مع الطير في جو طهارته، ومع السمك اسبح في عمق عظمته، من الحديد في الكور تعلم سر اتحاده بالنار، ومع نسيم فمك تستنشق نفسك خليلها، مع الروحانيين قدس في السماء داخلك، وهناك انظر مسكنه.

v     آه ما أعجب خفاياك يا إلهنا. وما أعظم من يؤمن بها. نسيت ذاتي بهذيذ أولئك القديسين، الذين لست أنا واحدًا منهم.

أجاهد أن أمسك الله القدوس، فلا يُمسك.

أصوره فلا يتصور.

إذ أنا مملوء فحينئذ أنا فارغ، وإذ أنا ماسكه ليس هو،

وإذ أنا ساكن فيه، وهو في يسكن.

وإذا هو مخفي عني، أنا مخفي فيه.

وإذ أردت أن أطلبه، أبصره داخلي.

ومن أي موضع،.. وإلى أي موضع أذهب به، لا يتركني.

وإذ أنصت إليه يتكلم معي.

وإذا التمسته لا يتحرك…

السبح لك، إنك مخفي عن الكل، ولمحبيك تشرق بلا انقطاع!

السبح لك، وعلينا رحمتك إلى الأبد آمين.

v     ربي وإلهي… لم تقدر يميني أن ترسم أسرارك بالصور، ولكن مثل حكيم أتقدم لأكتب…

أتقدم الآن إليك وأتنعم! نصعد إلى جبلك المقدس لننظر حسنك (جمالك) الممجد.

نورك مسبوك، كثير الإشراق، عجيب الإحسان، يبهر ناظريه.

يلقبونك “بحرًا” و”ينبوع كل العالم”.عظمتك تحبس كل عمق عميق.

يشبهونك بالنار،لأنها تعطي دون أن تنقص، تطهر ولا تتسخ.

v     قال لي إنسان: إنه بينما يكون في بدء الصلاة أو عند نهايتها، ينسى ذاته وكل ما له ويتعجب ويتلذذ بجمال خالقه.

 من يفهم فليفهم، وكل من لا يفهم فليعطه الرب أن يدرك.

v     ما أشهاك وأحبك أيها الطفل (يسوع).

شهوتك تسبي النفوس.

خرجت نفسي وراءك، إذ فيك تشخص داخلها، ولها يشرق جمالك.

أنت حسن.

أنت محبوب مثل أبيك.

أنت حلو لذيذ، مذاقك لا يعرفه إلا من ذاقك فقط.

استنشقت رائحتك الطيبة، وقلبي تلذذ في، وليس من يقدر أن يفسر.

v     طوبى لمن في شربه يراك مخلوطًا، يشرب ويبتهج قلبه بمحبتك.

طوبى لمن دخل إليك، ونظر منظرك العجيب، وتعجب بجمالك البهي الذي ينبع داخله.

احتَّد قلبي على القلم، كدت أكسره، لأنه لا يقدر أن يصور الجمال العجيب الذي أنظره، أنهار مياه الحياة التي تجري من ينبوع الطوبى…

كل عقل كثير الكلام، إن دخل إلى هذا البلد، يلتزم السكوت عن الكلام والحركات لاندهاشه بالأسرار.

ههنا يظهر الله جماله لمحبيه.

ههنا تبصر النفس ذاتها والمسيح المشرق فيها، ويبهجها منظره.

ههنا الثالوث القدوس بالسِّر يُرى.

v     احترق القلم من حدة نارك يا يسوع. ووقفت يميني عن الكتابة. استضاءت عيناي بشعاع جمالك. وذهبت من قدامي الأرض وكل ما عليها.

 دُهش ذهني بالعجب الذي فيك.

اشتعل اللهب بعظامي.

وانشقت الينابيع لتسقي جميع لحمي لئلا يحترق…

v     لسبح لك، فكما أنك عجيب، عجيبة هي أيضا أسرارك. طوبى لمحبيك الذين بجمالك يضيئون كل ساعة.

v     قبل أن أخرج من هذا الجسد، أعطني يا رب جمال منظرك للأكل، ورؤيا أسرارك المخفية فيك بحضن جوهريتك للشرب المفرح.

v     طوبى لمن سكروا بمحبتك يا إلهي، لأن بسكرهم بك استمتعوا بجمالك. ذُقْ يا أخي، وانظر حلاوة أبينا الصالح ومقدار لذتها.

v     أما أولئك الذين لم يجربوا لذة السكر بالله والتمتع به، فهم مساكين تعساء.

لقد أعطى الله محبته طيبا يسكرهم به ويلذذهم. هو بذاته يفرح، وبهم أيضًا يبتهج. هو هو عرسهم، وحجلة فرحهم. ينظرونه في داخلهم فيبتهجون. يشرق فيهم من هو في داخلهم، ويدهشهم بجماله.

v     المحبة نار تشتعل بالقلب، صاحبها قائم في خدمته بفرح.

إني مرات كثيرة سمعت إنسانًا من الإخوة، حين كان يسكر بمحبة المسيح، لم يكن يقدر أن يمسك نفسه من النار الإلهية المتقدة في قلبه، ومن ابتهاج قلبه النابع عن إشراق سبح الله… كان يصرخ ويقول: “آه. ألهبتني محبتك يا إلهي. اضمحلت حياتي بمحبتك يا ربنا ولم أقدر أن أصبر”.

وكان أيضا يصرخ ويقول مرات كثيرة: “طوبى للذين هم سكارى بمحبتك يا ربنا. آه لحسنك الذي لا يُنطق به، أيها الآب أبي”.

v     سبّح من قلبك بغير انقطاع، واخلط كل أعمالك بذكر الله. هذا هو العمل الذي يُظهر لك وجه الله. وهذا هو الأجر الذي يناله كل من يصلي لله خفية. ادخل إلي مخدعك وصلِ خفية حيث أبوك الخفي، أما أجرة المعلن فهو إشراقه في النفس[623].

الشيخ الروحاني (يوحنا الدّلياتي)

فاصل

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى