تفسير سفر العدد ٢٧ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السابع والعشرون
قانون الميراث وإقامة يشوع
يحوي هذا الأصحاح أمرين جاءا في خاتمة حياة العظيم في الأنبياء موسى، هما قصة بنات صلفحاد وتعيين يشوع قائدًا للشعب:
- بنات صلفحاد 1-5.
- قانون الميراث 6-11.
- إقامة يشوع قائدًا 12-23.
- بنات صلفحاد:
أثناء التعداد السابق ظهرت قضية واحدة وفريدة وهي أن بني جلعاد صاروا عشائر يضمون ذكورًا دخلوا في الإحصاء ما عدا صلفحاد، إذ قيل “وأما صلفحاد بن حافر فلم يكن له بنون بل بنات، وأسماء بنات صلفحاد مَحَلَّة ونوعة وحجلة وملكة وترصة” (عد 26: 33)، بهذا لم يدخل صلفحاد في التعداد. لكن بناته الخمسة كن شجاعات مملوءات إيمانًا ورجاءً في نوال نصيب مع بقية الشعب، فوقفن أمام موسى وألِعازار الكاهن وأمام الرؤساء ولكل الجماعة لدى باب خيمة الاجتماع يعرضن قضيتهن بقوة حجة، قائلات: “أبونا مات في البريّة ولم يكن في القوم الذين اجتمعوا على الرب في جماعة قورح بل بخطيته مات، ولم يكن له بنون، لماذا يُحذف اسم أبينا من بين عشيرته لأنه ليس له ابن؟ أعطنا ملكًا بين إخوة أبينا” [3-4] لقد تحدثن بشجاعة لكن في وقار وباتضاع، واعترفن أن أباهن مات بخطيته كما مات كل الجيل السابق بخطيته لكنه ليس من مغتصبي الكهنوت كقورح وجماعته، فلماذا يُحذف اسمه من بين وارثي الأرض الجديدة؟
إنها كلمات إيمانيّة وتمسك بوعود الله يفتح السماء للاستجابة، فألزم الله الجماعة كلها بقانون للميراث فيه يرث الابن أباه، فإن لم يكن للمتوفي ابنًا فابنته، وإن لم يكن له ابنة فإخوته، أو أعمامه، أو أقرب من له في عشيرته.
هذه القصة الفريدة التي سجلها الوحي الإلهي تحمل أيضًا مفهومًا رمزيًا سجله لنا العلامة أوريجينوس، فيرى أن “صلفحاد” يعني “ظلّ في فمه”، أو ظلّ فيه حماية من الخوف. إنه يمثل الإنسان الذي ينطق نعمة الناموس كظلّ للحق دون أن يتعرَّف عليه في أعماقه كحياة، الإنسان الحرفي الذي لا ينجب أولادًا. “هذا الرجل الذي لا يدرك أي معنى روحي أو أي فكر عميق، ليس له إلاَّ ظل الشريعة في فمه، فلا يقدر أن ينجب أفكارًا حيّة وروحيّة، لكنه ينجب أفعالاً وأعمالاً (بنات) هذه التي تخدم عامة الشعب[258]”. إنه لا يحمل أفكارًا لأن الأولاد الذكور يشيرون إلى الفكر أو العقل، إنما أعمالاً لأن البنات يُشِرن إلى الجسد والعمل.
يمكننا أيضًا أن نرى فيها صورة رمزيّة حيّة لحياة المؤمن، فإن كان “صلفحاد” يعني “ظلّ في فم” أو “ظلّ في خوف” فهو يشير إلى الجسد بكونه كالظلّ يظهر في العالم ليختفي، إذ يموت الجسد مع السيد المسيح كما مات صلفحاد فإنه يحمل بنات مباركات هن الحواس الخمسة التي تتقدس خلال التمتع بالموت مع المسيح. هؤلاء البنات يعترفن أن أباهن قد مات في السيد المسيح ولم يهلك مع قورح وجماعته. مثل هذه الحواس المقدسة والمصلوبة مع السيد المسيح تنتصب مراحم الله وحكمه المملوء حبًا وترفقًا لينعم الجسد مع النفس بالميراث الأبدي ولا يحذف اسمه من بين عشيرة السمائيّين!
- قانون الميراث:
بسبب قضية بنات صلفحاد جاء قانون الميراث يعلن الورثة الشرعيّين كما قلنا الابن، فالبنت، فالإخوة، فالأعمام أو أقرب من في العشيرة. ويرى العلامة أوريجينوس في هذا القانون ظلاً للخيرات السماويّة، إذ يرى هؤلاء الورثة الخمسة على الأرض فيرمزون للورثة في السماء. ففي الدرجة الأولى درجة الأبناء هؤلاء الذين لهم معرفة روحيّة، أما الدرجة الثانية “الابنة” فتشير لأصحاب العمل الممتاز، لأننا كما سبق فكرَّرنا أن الذكر يشير إلى الفكر أو العقل أو المعرفة، أما الأنثى فتشير إلى الجسد أو العمل والخدمة. الأولون يمثلون أصحاب التأمل والآخرون يمثلون المجاهدين في الخدمة والعمل. الدرجة الثالثة، أي درجة الإخوة، فيمثلون الذين يجاهدون متمثلين بالآخرين كإخوة لهم. الدرجة الرابعة أي العم ففي رأيه يمثل جماعة البسطاء الذين يمارسون العادات الطيبة دون عمق فكري. وأخيرًا درجة أي قريب تشير إلى الورثة الذين يضمهم الرب لأجل أي عمل يصنعونه في بساطة، إذ يشتاق الرب إلى خلاص الكل.
- إقامة يشوع قائدًا:
شخصيّة موسى النبي تزداد بهاءًا ومجدًا مع كل يوم يعيشه في الخدمة حتى اللحظات الأخيرة التي فيها أسلم روحه في يدي الله. بين أيدينا دعوة من الله موجهة لهذا النبي العظيم ليصعد على جبال عباريم يلقي نظرة على أرض الموعد من بعيد ويُضَم إلى آبائه… وهنا تلألأت نفس هذا الجبار بتصرفه الحكيم المملوء روحانيّة والبعيد كل البعد عن روح الأنانية أو العجرفة…
كانت كلمات الرب لموسى: “اصعد إلى جبل عباريم، وانظر الأرض التي أعطيت بني إسرائيل، ومتى نظرتها تُضَم إلى قومك أنت أيضًا كما ضُم هرون أخوك” [12].
كانت دعوته أن يصعد إلى جبل عباريم، كما سبق فصعد هرون أخوه إلى جبل هور وهناك تنيَّح بسلام وفرح بعد أن خلع ثياب الكهنوت ليرتديها ابنه ألِعازار (أصحاح 21)، هكذا يرتفع موسى النبي على جبل عباريم أي جبل العبور وهناك يرى مواعيد الله تتحقق فيرقد بسلام وفرح. وكما قلنا عن هرون أنه لم ينزل إلى الهاوية كقورح وجماعته بل صعد إلى جبل هور، هكذا صعد أيضًا موسى. فالموت بالنسبة له ارتفاع صعود وليس نزول وخسارة!
وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل: [انظر أولاً كيف أن الرجل الكامل والسيد لا يموت في وادي أو في سهل لا على تل بل على الجبل، أي على مكان مرتفع يصعب الوصول إليه. لأن نهاية حياته كانت لها المرتفعات كمسوح. هذا وهناك ينظر بعينيه أرض الموعد، يتمعن في كل شيء من مكان مرتفع بعيد. حقًا ينبغي للرجل الذي يريد أن يبلغ منتهى الكمال ألاَّ يظل جاهلاً (الأرض) بل يتعرف على كل الأشياء، يراها ويسمعها. عندما يدخل إلى عالم الروح ونقاوة الفكر يعود إلى الأمور التي تعرف عليها وهي في شكلها المادي أثناء وجوده في الجسد فيستمع إلى دروس الحكمة ويمكث في مدرستها ويدرك أسبابها ودواعيها بسرعة. أي منفعة أخرى له مثل أن يرى قبل رحيله من هذا العالم الأراضي والأماكن التي ليس له أن يتغلب على صعابها (إذ هو يستريح من التعب) دون أن يحصل على مزاياها (لأنه يتركها[259])!]. حقًا ما قد جاهد من أجله عشرات السنوات لينعم به هو وشعبه الآن يراه من بعيد لتستريح نفسه فيه!
إنه يرى أرض الموعد من بعيد ويُضَم إلى قومه كهرون، فهو لا يراها لتبكيته وإنما لتفرح نفسه في داخله من أجل دخول شعبه إليها لهذا يُضَم إلى قومه أي إلى صفوف آباء هذه الجماعة، فيستريح مع الآباء دون أن ينفصل عن الجماعة.
لقد ذكَّر الرب موسى بحرمانه هو وأخيه من دخول الأرض بسبب ما حدث عند ماء مريبة (أصحاح 20) لا لتبكيته وإنما ليزداد موسى تزكية أمام الله، فإنه لا يشفع عن نفسه ولا عن أخيه في هذا الأمر بل يهتم بالجماعة فيصرخ من أجل اختيار القائد المناسب الذي يراه “إله أرواح جميع البشر” مناسبًا! ياله من حب عجيب حينما ينسى القائد الروحي- حتى النسمات الأخيرة- كل ما يخصه شخصيًا لأجل بناء الجماعة وسلامها ونموها!
ولعل الله سمح بتأكيد ضعف موسى حتى اللحظات الأخيرة ليعلن عجز الناموس عن التقديس، إذ يقول الرسول “قد ملك الموت من آدم إلى موسى” (رو 5: 14)، “دخلت الخطيّة إلى العالم، وبالخطيّة الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو 5: 12)… صارت الحاجة إلى آخر غير موسى قادر لا أن يرى الأرض من بعيد بل يدخل بشعبه إليها. لقد أعلن الناموس عن السمويات لكن من بعيد خلال الظلّ أما يشوع الحقيقي، فقد أجلسنا في السمويات.
اهتم موسى بالصلاة طالبًا من الله أن يختار بنفسه الرجل الذي يقود الجماعة… لم يفكر في ابنيه ولا في أقربائه ليحلّ أحدهم مركزه لكنه اهتم أولاً وقبل كل شيء في الجماعة التي يحبها من كل قلبه. يقول العلامة أوريجينوس: [يجب على رؤساء الكنيسة بدلاً من أن يوصوا بأقربائهم حسب الدم والجسد… أن يتعلموا الرجوع إلى أحكام الله، وبدلاً من أن يختاروا حسب عواطفهم البشريّة أن يتركوا تعيين من يخلفهم لقرار الله. ألم يكن يستطيع موسى أن يختار رئيسًا للشعب بحكمة حقيقيّة وبقرار صالح وعادل، هذا الذي قال الله له “اجمع إليَّ سبعين رجلاً من شيوخ إسرائيل الذين تعلم أنهم شيوخ الشعب” (11: 16)، وقد اختارهم حسب روح الله الذي حلَّ عليهم فتنبأوا جميعًا؟ لكن موسى لم يفعل هذا ولا عيَّن أحدًا. إنه لم يجسر على فعل هذا، لماذا؟ حتى لا يترك للأجيال القادمة مثالاً فيه يعتمد الإنسان على رأيه. إنه يقول: “ليوكل الرب إله أرواح جميع البشر رجلاً على الجماعة، يخرج أمامهم ويدخل أمامهم ويخرجهم ويدخلهم لكي لا تكون جماعة الرب كالغنم التي لا راعي لها” [17]. إن كان رجل عظيم كموسى لا يترك لحكمه الخاص في أمر تعيين رئيس على الشعب، وتنصيب خلف له، فمن الذي يجسر من وسط هذا الشعب… أو حتى بين صفوف الكهنة أن يعتبر نفسه قادرًا على إعطاء رأيه في هذا الأمر، اللهم إلاَّ في حالة إلهام يحصل عليها خلال الصلوات الكثيرة والتضرعات المقدمة لله[260]؟].
أجاب الله طلبته بتوصيته أن يضع يده على تلميذه يشوع بن نون. حقًا ما أعظم فرحة موسى بهذا الأمر الإلهي، فقد اختار الرب الرجل الذي كان الذراع الأيمن لموسى زمانًا طويلاً، هذا الذي كان لا يفارق الخيمة (خر 33: 11). يتشرب الروح الكنسيّة العميقة والداخليّة. الإنسان الذي دخل أرض الموعد وجاء يقدم لإخوته عربون الحياة الجديدة مع تأكيدات بدخول الأرض والتمتع بخيراتها… وإنني أترك الحديث عن هذا القائد الجديد عند تفسير يشوع إن سمح الرب وعشنا، مكتفيًا هنا بالكشف عن مراسيم إقامته رئيسًا للجماعة:
جاءت الوصيّة الإلهيّة لموسى: “ضع يدك عليه” [18]. وأوضح سفر التثنية فاعليّة هذا العمل: “ويشوع بن نون كان قد امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يده” (تث 34: 19). لقد تسلم عمل امتلأ روح حكمة أو روح القيادة. لهذا ارتبط وضع الأيدي غالبًا بسيامة خدام الله.
في الكتاب المقدس استخدم “وضع الأيدي” في أمور كثيرة أهمها:
أ. استخدم “وضع الأيدي” لتسليم بركة إلهيّة، كما فعل أبونا يعقوب مع ابني يوسف، فوضع يمينه على الأصغر أفرايم الواقف على يساره، ووضع يساره على الأكبر مَنَسَّى الواقف على يمينه، وكأنه بسط يديه على شكل صليب لتحلّ بركة الرب عليهما… وحين بارك السيد المسيح الأطفال “وضع يديه عليهم” (مت 19: 13، 15). لهذا كان الأسقف يضع يديه على طالبي العماد أثناء الصلاة عليهم قبل العماد[261]، وخاصة أثناء الصلوات الخاصة بطرد الشيطان[262].
ب. كما يستخدم هذا الطقس لنقل بركة الرب، هكذا يستخدم كعلامة لإلقاء حمل خطايا الإنسان على آخر ليصير ذبيحة عنه (لا 1: 4؛ 3: 4، 24؛ 16: 21)، كرمز لما حدث مع السيد المسيح “وضع عليه إثم جميعنا” (إش 53: 6).
ج. في شفاء المرضى قيل “وضع يديه على مرضى فشفاهم” (مر 6: 5؛ 8: 23، لو 4: 4؛ 13: 13، مت 9: 18)، وقد استخدم الرسل أحيانًا نفس الطقس (أع 28: 8).
يقول القدِّيس كبريانوس[263] بأن خدام الكنيسة يمتثلون بالسيد المسيح الذي كان يضع يديه على المرضى فيشفيهم، هؤلاء الذين هم مرضى روحيًا الذين يأتون تائبين. ولا يزال هذا الطقس قائمًا حيث يضع الكاهن يده على الرأس حين يصلي “تحليلاً” لتائب.
د. يذكر القدِّيس إكليمندس الإسكندري وضع الأيدي على العريسين في الزواج لمباركتهما[264].
هـ. جاء في سفر الأعمال “وضع الأيدي” عند طلب حلول الروح القدس للمعمدين حديثًا… ولما وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم (أع 19: 6)، وبقيت الكنيسة الأولى تمارس هذا الطقس حتى استبدلته بمسحة الميرون، وإن كان للأساقفة حق العودة لهذا الطقس عند الضرورة كما في حالة عماد السيدات فيضع الأسقف يديه عليهن وينفخ في وجوههن نفخة الروح القدس.
ز. أخيرًا فإن “وضع الأيدي” ارتبط بالأكثر بالسيامات الكنسيّة، ففي سيامة الشمامسة قيل “الذين أقاموهم أمام الرسل فصلوا ووضعوا عليهم الأيدي” (أع 6: 6)، وحين أفرز برنابا وشاول للخدمة قيل “فصاموا حينئذٍ وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي” (أع 13: 3). وعندما قدَّم الرسول بولس تعليمات عن السيامة، قال: “لا تضع يدًا على أحد بالعجلة ولا تشترك في خطايا الآخرين” (1 تي 5: 22)، كما قال: “أُذكِّرك أن تُضرم أيضًا موهبة الله التي فيك بوضع يديَّ” (2 تي 1: 16). هكذا صار “وضع الأيدي” يحمل معنى “السيامة”، ولا زالت الكنيسة الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة تتطلع بهذا المنظار الإنجيلي، وفي كنيسة إنجلترا يعتبر “وضع الأيدي” هو الطقس الرئيسي في سيامة الأساقفة[265].
نعود إلى إقامة يشوع بن نون عِوَض موسى النبي لنسمع الصوت الإلهي: “وأوقفه قدام ألِعازار الكاهن وقدام كل الجماعة وأوصِهِ أمام أعينهم” [18]. رأينا في سيامة اللاويّين (أصحاح 8) الدور الإيجابي للكهنة والشعب في السيامة. فالشعب كما الكهنة لا يقفوا متفرجين بل يلتزمون بالمساهمة في هذا العمل والتعاون معهم.
يقول الرب: “أجعل من هيبتك عليه لكي يسمع له كل جماعة بني إسرائيل” [20]، فإن كان موسى يضع الأيدي، لكن الله الذي وهب موسى روحه ومهابته هو الذي يهب يشوع ذات العطايا.
إن كان يشوع يُقام رئيسًا يقود الشعب إلى أرض الموعد، لكن في تعاون مع رئيس الكهنة ألِعازار الذي يسأل له أمام الرب بقضاء الأوريم (ع 21). الأوريم والتُّمِيم ويعنيان “الأنوار والكمالات” غالبًا هما حجران كريمان في صورة رئيس الكهنة (خر 28: 30، لا 8: 8) يستخدمهما في معرفة إرادة الله. إنهما يشيران إلى عمل الروح القدس الذي يهب الإنسان استنارة (الأنوار) وكمالاً (الكمالات) فيسلك المؤمن طريق الرب بغير انحراف.