تفسير سفر العدد ٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع
تنظيم خدمة اللاويّين
بعد أن تحدث عن اللاويّين بصفة عامة عاد ليؤكد في شيء من التفصيل عمل الرتب الثلاثة مع تحديد سن العمل وعمل إحصاء لكل رتبة.
- سن خدمة اللاويّين 3، 23…
- تنظيم الخدمة بينهم 4-33.
- حمل الخيمة وأثاثاتها 5… الخ.
- تغطية المقدَّسات 5… الخ.
- سن الخدمة عند اللاويّين:
لقد أكد الوحي في هذا الأصحاح سن الخدمة بالنسبة للاويين سبع مرات (ع 3، 23، 30، 35، 39، 43، 47) أنه من ابن ثلاثين سنة إلى ابن خمسين سنة. إن كان في إحصائهم كبكور للرب بدأ بسن شهر فصاعدًا، لكن في العمل يطلب السن القادر على تنفيذ ما يؤمرون به، مقدمين لله أفضل فترة في حياتهم.
سن الثلاثين عند اليهود هو سن الرجولة والنضوج، لهذا لا يبدأ الكاهن أو النبي عمله إلاَّ ببلوغه هذا السن. غالبًا ما يتربى الكهنة والأنبياء حول الخيمة أوالهيكل، يساعدون في بعض الأعمال أي يتتلمذون حتى إذا ما بلغوا هذا السن يتسلمون العمل ويحملون المسئوليّة.
إن كانت أيام العمل هي ستة أيام في الأسبوع، فإنه يليق بخادم الرب أن يكون مقدسًا في كل حواسه الخمس كل أيام عمله (6×5=30). فرقم ثلاثون يشير إلى حياة التقديس الداخلية. أما رقم 50 فله قدسيته الخاصة في العهدين القديم والجديد، إذ يشير إلى حالة العفو والتحرر من الدّين أو من الخطيئة. ففي العهد القديم في السنة الخمسين أي في الاحتفال باليوبيل يحدث عفو عام وشامل، فيه يتحرر العبيد وتسترد الأراضي المرهونة ويُعفى عن المدينين، فيصير عام راحة. وفي يوم الخمسين أيضًا حلّ الروح القدس على التلاميذ في العُلية ليهب الكنيسة طبيعة سماويّة جديدة متحررة من الخطيئة لها قوة الانطلاق نحو السمويات. وحينما قدَّم السيد المسيح مثلاً عن الإعفاء من الديون قال كان لدائن مدينان على الواحد خمسون وعلى الآخر خمسمائة فسامحهما كليهما. وحينما بدأ إبراهيم أب الآباء يشفع في سدوم وعمورة لكي يعفو الرب عنهما سأل إن كان يوجد خمسون بارًا هل يعفو؟ (تك 18: 14)… هكذا جاء هذا الرقم في الكتاب المقدَّس يمثل حالة العفو. وكأن اللاويّين في هذا السن يُعفون من الخدمة على الأرض ليستعدوا للانطلاق إلى خدمة الهيكل السماوي، إنهم يخرجون من العربون ليتمتعوا بكمال المجد.
في عدد 8: 24 يلتزم اللاويّون ببدء العمل في سن الخامسة والعشرين، ليقضوا خمس سنوات تحت الاختبار والتلمذة قبل استلامهم العمل. ويرى العلامة أوريجينوس أن الرقم 25 يشير إلى التقديس الكامل[23] حيث رقم 5 يشير إلى تقديس الحواس (5×5=25). وفي أيام داود النبي إذ كان العمل متزايدًا بدأ اللاويّون العمل في سن العشرين (1 أي 23: 24، عز 3: 8)، لكنهم يبقون عشرة سنوات فترة تلمذة، أي حتى يبلغوا الثلاثين من عمرهم. وقد بدأ القديس يوحنا المعمدان حديثه في الثلاثين، وأيضًا السيد المسيح. وفي العهد الجديد طلب الرسول بولس أن يكون الخادم غير حديث الإيمان (1 تي 3: 6) إذ يتطلب العمل الكهنوتي نضوجًا وحكمة وثباتًا، كما اشترط الرسول فيهم أن يُختبروا أولاً (1 تي 3: 10).
- تنظيم الخدمة بينهم:
في هذا الأصحاح يظهر الله كمسئول أول عن الخدمة وكل تدابيرها وتنظيم العمل بين الخدام الذين قام بتعيينهم ودعوتهم للخدمة. لقد حدّد لكل فئة عملها فلا تهمل فيه ولا تتعداه. فعند الارتحال يقوم هرون (رئيس الكهنة) وبنوه (الكهنة) بتغطية المقدَّسات التي في القدس بأغطية حدّد الله مادتها. إلى هنا يقف عمل الكهنة ليقوم بنو قهات بحمل هذه المقدَّسات المغطاة على أكتافهم، وقد حذَّر الله من دخولهم لرؤية المقدَّسات أو لمسها قبل تغطيتها لئلا يموتوا، إذ قال لموسى وهرون: “لا تقرضا سبط عشائر القهاتيّين من بين اللاويّين، بل افعلا هذا فيعيشوا ولا يموتوا عند اقترابهم إلى قدس الأقداس… لا يدخلوا ليروا القدس لحظة لئلا يموتوا” [18-20].
لقد حدَّد أيضًا ما يحمله بنو جرشون وما يحمله بنو مراري… هكذا يلتزم كل إنسان أن يعرف عمله في الكنيسة فلا يتفاخر على غيره بما تسلمه من مسئوليات ومواهب ولا تصغر نفسه بسبب ما يقوم به غيره، فإنه إذ يعمل فيما أُوكل إليه بأمانة ورضى يتكلَّل ويسير العمل في تكامل. ليس المهم أن يكون الإنسان أسقفًا أو كاهنًا أو شماسًا أو واحدًا من أفراد الشعب إنما أن يوجد أمينًا في الموضع الذي وُجد فيه من قِبَل الرب. يقول الرسول بولس: “أنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل” (1 كو 12: 5-6). في هذا يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [كونك قد أخذت موهبة أصغر فذلك لفائدتك. إذن لا تحزن كأنك مرذول، لأن الله لم يصنع بك ذلك احتقارًا منه بك، ولا لكونك أقل من الآخرين، لكنه صنع ذلك لفائدتك. فلو حمل الإنسان موهبة أكثر من إمكانياته فستكون غير مفيدة وضارة له[24]]. ويقول الشيخ الروحاني: [لا نحسب الذي يتكلم بالروحيّات عظيمًا من أجل سمو فهمه فقط، وذاك الذي يُعلِّم الأطفال ندعوه ناقص الفهم. فهناك أنواع مواهب كثيرة ولكن الروح واحد يفعل في جميعهم كما يشاء، يعطي كل رعية على يد راعيها المرعى الذي يصلح لها، فلا ينبغي على الذي يفسر أن ينتفخ على ذاك الناشيء في الإيمان[25]].
- حمل الخيمة وأثاثاتها:
سبق فرأينا تقسيم هذا العمل “حمل الخيمة وأثاثاتها” على بني قهات وبني جرشون وبني مراري.
يُعلَّق العلامة أوريجينوس على المقدَّسات التي في الخيمة من تابوت عهد ومنارة ومائدة مقدَّسة ومذبح بخور الخ…، هذه كلها تشير إلى فئات من القدِّيسين، أما حملهم على أكتاف بني قهات إنما يشير إلى حمل هؤلاء القدِّيسين على أكتاف الملائكة، إذ يقول : [لنفهم الخيمة بكونها جماعة القدِّيسين الذين يشملهم عهد الله. يوجد فيها أناس أكثر استحقاقًا، ارتفعوا في البرّ فلُقِّبوا بالمنارة. هؤلاء بلا شك هم الرسل الذين يضيئون باقترابهم من الله… وآخرون يُلَّقَبون “المائدة المقدَّسة” إذ يحملون خبز الله الذي يُجدِّد النفس الجائعة إلى البرّ (مت 5: 6) ويغذيها. آخرون يُدعَوْن مذبح البخور، هؤلاء الذين ينشغلون ليل نهار بالعبادة لله في أصوام وصلوات، لا يطلبون فقط من أجل أنفسهم بل ومن أجل كل الشعب. الذين تَسلَّموا هذه الأسرار لُقِّبوا تابوت العهد إذ لهم ثقة أكيدة يقدمون صلوات وابتهالات وتضرعات ليصالحوا الله مع الناس، ويتوسلون إلى الله من أجل عصيان الشعب مسرعين إلى المذبح الذهبي. أيضًا الذين استحقوا فيض العلم وكثرة ثروة معرفة الله يصيرون شاروبيمًا، إذ كلمة “شاروب” تعني “كمية علم”…
كل الذين تحدثنا عنهم أعلاه خلال الرموز المتعددة يجب أن يُحملوا على الأكتاف، فإنه في رأيي الذين يحملونهم هم الملائكة الذين أُرسلوا لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص (عب 1: 4). حقًا إذ تُثنى الخيمة مرة أخرى، حيث نبدأ في الدخول في القدس لنرحل إلى أرض الموعد تسند الملائكة الذين يعيشون بالحقيقة قدِّيسين في قُدس الأقداس. وحين تُقام خيمة الله مرة أخرى يوجد هؤلاء محمولين على أكتافهم ومرفوعين على أيديهم. أمام هذا المنظر قال النبي بالروح: “لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تُصدَم بحجرٍ رجلك[26]” (مز 91: 11-12)].
- تغطية المقدَّسات الإلهيّة:
أ. إذ تُشير هذه المقدَّسات إلى المؤمنين، فإنه تبقى هذه المقدَّسات مكشوفة داخل الأقداس، لكنها متى حُملت يلزم أن تُغطى. وكأنه يليق بالمؤمنين أن يعيشوا في حياة سرّية، تنفتح قلوبهم على الله، يعيشون مع الله بوجهٍ مكشوف، يتحدثون معه في دالة وصداقة بلا عائق، أما أمام الناس فلا يكشفون أسرار حياتهم الخفيّة. هذا ما أكده السيد المسيح بقوله “احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم وإلاَّ فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات… أما أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك واغلق بابك وصلِ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية” (مت 6: 1، 7).
إنه لا يمنع العبادة الجماعيّة، إنما يرفض أن تكون غايتها الظهور والمجد الباطل، إذ يقول “لكي ينظروكم” (مت 6: 1).. والكنيسة الأولى كانت تشترك في العبادة العامة في الهيكل يوميًا (أع 1: 46) في المزامير والتسابيح والطلبات بجانب الاشتراك في سرّ الإفخارستيا في الكنائس (أع 1: 46). لكن يليق بالمؤمن حتى في عبادته الجماعيّة أن يدخل في علاقة خفيّة مع الله لا يشعر بها حتى الواقفون بجواره. يقول القدِّيس أغسطينوس: [احترزوا من السلوك بالبرّ لأجل هذا الهدف، فتتركز سعادتكم في نظرة الناس إليكم[27]]. وللأب إسحق تلميذ القدِّيس أنطونيوس تعليق جميل على الصلاة الخفيّة، إذ يقول: [نصلي بأبواب مغلقة، عندما نصلي بشفاه مغلقة في هدوء وصمت كامل لذاك الذي يطلب القلوب لا الكلمات. ونصلي في الخفاء عندما نكتم طلباتنا الصادرة من قلوبنا وأذهاننا المتقدة حيث لا نكشفها إلاَّ لله وحده، فلا تستطيع القوات المضادة (الشياطين) أن تكتشفها. لذلك يجب أن نصلي في صمت كامل، لا لنتحاشى فقط التشويش على إخوتنا المجاورين لنا… وإنما لكيما نخفي مغزى طلباتنا عن أعدائنا الذن يراقبوننا وبالأخص في وقت الصلاة، وبهذا تتم الوصيّة: احفظ أبواب فمك عن المضطجعة في حضنك[28]].
ب. حذَّر الله اللاويّين من غير الكهنة من لمس هذه المقدَّسات أو رؤيتها، فإن الله لا يريد أن يعرف أحد قدسيّة علاقتنا معه سوى كهنته الذين يسندوننا بإرشاداتهم وصلواتهم.
ج. يرى العلامة أوريجينوس في تغطية المقدَّسات بيد الكهنة قبل أن يحملها بنو قهات رمزًا لعمل الكاهن الذي يعرف أسرار حكمة الله ويفهمها لكنه لا يقدمها للضعفاء كما هي لئلا يهلكوا[29]، إنما يقدمها لهم قدر احتمالهم.
د. يرى العلامة أوريجينوس أيضًا في هذا الأمر صورة لما كان عليه رجال العهد القديم الذين حملوا المقدَّسات الإلهيّة على أكتافهم، لكنها مغطاة ومحتجبة خلال الظلال والرموز، أما أبناء هرون الحقيقيّون أي رجال العهد الجديد فقد اكتشفوا الحقيقة وعرفوا أسرارها فعرفوا الفصح الحقيقي والسبت الحقيقي والختان الحقيقي[30]… في هذا يقول إشعياء النبي: “يفنى في هذا الجيل وجه النقاب” (25: 7).
هـ. حملت الأغطية معانٍ جميلة نذكر على سبيل المثال تابوت العهد الذي يوضع عليه غطاء من جلد تُخس يبسطون فوقه ثوبًا كله أسمانجوني (ع 6). إذ يرمز تابوت العهد للسيد المسيح المصلوب. لهذا إن ظهر في الضعف مخفيًا وراء الجلد، لكنه في حقيقته كله سماوي (أسمانجوني). ظهر بالضعف وهو القوي! أما مائدة الوجوه فهي ترمز لربنا يسوع خبز الحياة المُقدَّم للبشريّة، يبسطون عليه ثوبًا أسمانجونيًا (سماويًا) ثم ثوبًا قرمزيًا (علامة الدم) فغطاء من جلد التخس، وكأن السيد هو الخبز السماوي النازل إلينا، يقدم ذاته مكسورًا لأجلنا (القرمزي)، مخفيًا عن الأعين البشريّة فنراه خبزًا ضعيفًا (جلد التخس).
لا أريد أن أكرر الحديث فيما يخص المنارة الذهبيّة والمذبح الذهبي، فإن كلٍ منهما يُغطى بثوبٍ أسماجوني عليه غطاء من جلد التخس. أما المذبح النحاسي فهو وحده الذي يُغطى بثوبٍ من الأرجوان الذي هو لباس الملوك، ثم يبسطون عليه غطاء من جلد التخس. فإن كان المذبح النُحاسي يشير إلى ذبيحة الصليب، فهو العرش الملوكي الذي خلاله يملك الرب على قلوب مؤمنيه.
أخيرًا لم يُشِر الكتاب إلى غطاء للمرحضة وهي تشير للمعموديّة، لكي يراها الكل فتسرع إليها البشريّة كلها!