تفسير سفر العدد ١٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع عشر
شهوة الرجوع إلى العبوديّة
إذ قدَّم الرجال تقاريرهم عن الأرض وخيراتها وسكانها حدث تذمر وسط الشعب وبكاء مشتاقين إلى الرجوع مرة أخرى إلى العبوديّة تحت قيادة جديدة غير موسى النبي.
- تذمر الشعب 1-4.
- محاولة تهدئتهم 5-10.
- تهديدات الله بإبادتهم 11-12.
- موسى يشفع فيهم 13-19.
- حرمانهم من أرض الموعد 20-35.
- موت الرجال الأشرار 36-39.
- تأديب الرب لهم 40-45.
- تذمر الشعب:
اهتم الشعب بتقرير الرجال الأردياء الذين بعثوا فيهم روح الخوف ولم يسمعوا لكلمة الله ووعوده، فامتلأت حياتهم قلقًا وصاروا يصرخون ويبكون كل الليلة لا ليطلبوا معونة الله وإرشاده بل متذمرين على موسى وهرون، مشتهين التخلص منها والرجوع مرة أخرى إلى العبوديّة. عللوا سرّ قلقهم واضطرابهم بخروجهم من أرض العبوديّة أو قيادة موسى وهرون لهم ولم يدركوا أن ما أصابهم إنما هو من عدم إيمانهم. لهذا يؤكد القدِّيس يوحنا الذهبي الفم أن الإنسان لا يقدر أحد أن يؤذيه ما لم يؤذِ الإنسان نفسه بنفسه[97]. إن سرّ مرارتهم ليس في الظروف المحيطة بهم ولا في القيادة التي تتعهدهم بل في مرض القلب الداخلي وانحراف النفس عن رعاية خالقها.
ما أقسى قلب الإنسان، فإنه عِوَض ذبيحة الشكر التي يقدمها لله الذي حرره من العبوديّة وتعهده في بريّة هذا العالم ليدخل به إلى كنعان الجديدة يتذمر قائلاً: “ليتنا متنا في أرض مصر، أو ليتنا متنا في هذا القفر! ولماذا أتى بنا الرب إلى هذه الأرض لنسقط بالسيف، وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة؟ أليس خيرًا لنا أن نرجع إلى مصر؟” [2-3].
لقد رأوا أن علاج الموقف هو إبادة القيادة الحالية وإقامة قيادة حسب أهوائهم، إذ “قال بعضهم لبعض نقيم رئيسًا ونرجع إلى مصر” [4]. أرادوا أن يتخلصوا من موسى وهرون كما من يشوع وكالب بالرجم (ع 10) ليجدوا قيادة تسلك حسب أهوائهم.
امتدح القدِّيس إمبروسيوس الجاسوسين إذ فضلا أن ينطقا بالحق ولو كان الثمن رجمهما (ع 10) عن أن يفعلا مثل بقية الجواسيس الذين أرضوا الشعب على حساب الحق. يقول القدِّيس: [فضَّلا أن يُرجما كما هددهما الشعب عن أن يتراجعا عن ثباتهما المملوء فضيلة[98]]، [فَضَّل الرجلان الصالحان المجد (الإلهي) عن الأمان، أما الأشرار ففضلوا الأمان عن الفضيلة[99]].
- محاولة تهدئتهم:
لم يكن أمام موسى وهرون إلاَّ أن يسقطا على وجهيهما أمام كل الجماعة علامة العجز التام عن التصرف معهم، ولصرف روح الغضب ليس فقط عن الجماعة المتذمرة بل وعن الله الذي يؤدبهم لا محالة بسبب التذمر المستمر. حقًا ما أجمل روح الاتضاع فهو زينة الراعي، خلاله يصرف كل تذمر عن حياة شعبه، وبه يشفع لدى الله عنهم.
مزج موسى وهرون اتضاعهما بروح الحكمة وقوة الاقناع إذ قدما يشوع وكالب الذين ذاقا عربون الوعد ونظرا الأرض ليشهدا أمام الجماعة. لقد قالا: “الأرض التي مررنا فيها لنتجسسها الأرض جيدة جدًا جدًا. إن سُرَّ بنا الرب يدخلنا إلى هذه الأرض ويعطينا إياها، أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً. إنما لا تتمردوا على الرب ولا تخافوا من الشعب لأنهم خبزنا. قد زال عنهم ظلهم والرب معنا. لا تخافوهم” [7-9].
لقد شهدا لمواعيد الله أنها غنية وصادقة، تعطي للقلوب المملوءة إيمانًا، موضع سرور الله، لا يستطيع عدو الله أن يفقدنا إياها مادمنا نسرع إليها برجاء بغير اضطراب.
أمام هذا الاتضاع وهذه الشهادة للأسف ازداد الشعب تذمرًا فطلبوا رجم الشاهدين الأمينين (ع 10)، أما الله فأعلن مساندته لرجاله المؤمنين النبي ورئيس الكهنة والشاهدين، إذ “ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع لكل بني إسرائيل” [10]. إنها مساندة إلهيّة علانية، حين رفضهم الناس ولو بإجماع كان الله معهم يسندهم ويرافقهم.
- تهديدات الله بإبادتهم:
إذ تمادى الشعب في تذمره كعادته التزم الله بالتهديد قائلاً لموسى: “حتى متى يهينني هذا الشعب؟ وحتى متى لا يصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم؟ إني أضربهم بالوبأ وأبيدهم وأصيرك شعبًا أكبر وأعظم منهم!” [11-12].
كعادته لم ينفذ التأديب في الحال لكنه يعرض الأمر على نبيه موسى، ففي هذا كشف عن معاملات الله مع الإنسان أنه يود أن يصادقه، يكشف له أسراره ويحدثه في تصرفاته خاصة مع البشريّة. هذا ما فعله الله مع إبراهيم حين أراد الله معاقبة سدوم وعمورة، إذ قال: “هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟” (تك 18: 17). بهذا يقدم الله لنا مفهومًا حيًا للرعاية، فإن كان الله كلي الحكمة والراعي الصالح وحده لا يخفي تدابيره عن خدامه، كيف يمكن لإنسان مهما بلغت رتبته الكهنوتيّة أو قامته الروحيّة أن يسلك بفكر فردي دون مشاركة إخوته وشركائه في الخدمة؟
ولعل الله أراد بعرضه هذا الأمر على موسى أن يعطيه الفرصة لينذر الشعب لعلهم يقدمون توبة فيغفر لهم، أو لعله أراد أن يعطي فرصة جديدة لموسى النبي أن يشفع عن الشعب المقاوم له فيتزكى بالأكثر إذ يطلب لهم أكثر مما لنفسه. لقد وقف قبلاً أمام الله حين حمي غضب الله على شعبه وتشفع فيهم قائلاً: “الآن إن غفرت خطيتهم وإلاَّ فامحني من كتابك الذي كتبت” (خر 32: 32). ففاق بحبه هذا في عيني الله عن كل ما فعله من آيات وعجائب، وتزكى في عيني السماء والأرض. لقد تكرَّر الأمر كثيرًا فصارت حياة موسى أشبه ببخور مقدس أو صلاة دائمة عن شعبه. هذا ما أعطاه مكانة لدى الله، حتى صار الله يسمع له، إذ يقول له: “هذا الأمر أيضًا الذي تكلمت عنه أفعله، لأنك وجدت نعمة في عيني وعرفتك باسمك” (خر 33: 17). تضرع موسى لدى الله فغيَّر الله أحكامه، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [إن كان لدى الله أسباب للسخط ضد الإنسان، فإنه بابتهالات الإنسان وتضرعاته يهدأ هذا الغضب، حتى يحصل الإنسان من الله على تغيير الأحكام التي سبق فأصدرها، إذ أن لطف الله الذي يتبع الغضب يُظهِر مكانة موسى لدى الله[100]].
ويرى العلامة أوريجينوس في تهديدات الله للشعب يحمل نبوءة تحققت بمجيء السيد المسيح وقبوله شعب آخر من الأمم غير اليهود، إذ يقول: [هذا التأديب لم يأتِ عن غضب الله إنما هو نبوءة. فإنه يجب أن تُختار أمة أخرى من بين شعوب الأمم، لكن هذا لا يتم بواسطة موسى… لأن الشعب (الجديد) لا يحمل الاسم الموسوي بل اسم المسيح[101]].
- موسى يشفع فيهم:
برز في هذا السفر كما في سفر الخروج شخصيّة موسى كشفيع عن شعبه لدى الله إذ يقول “اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك” [13]. إنها صورة رمزيّة لشفاعة السيد المسيح الكفاريّة عن خطايا البشريّة لدى الآب خلال دمه الكريم، إذ يصرخ على الصليب: “يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون”.
في شفاعة موسى يُذَكِّر الرب أولاً بالشعوب الشامتة التي تتعثر قائلة: “لأن الرب لم يقدر أن يُدخل هذا الشعب إلى الأرض التي حلف لهم قتلهم في القفر” [16]. كما يُذَكِّره برحمته وطول أناته: “فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلاً: الرب طويل الروح كثير الإحسان يغفر الذنب والسيئة لكنه لا يبريء بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع. اصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك” [17-19]. يُذَكِّره بكلماته فإن الله يصفح عن الآباء منتظرًا توبتهم فإن لم يتوبوا يصفح عن أبنائهم أيضًا من أجل طول أناته لكن إن صممت الأجيال التالية على عدم التوبة بل سلكوا طريق آبائهم الشرير عندئذٍ يؤدب[102]. هكذا تظهر طول أناة الله على البشريّة. وللقديس ﭽيروم تعليق جميل على ذلك بالنسبة لطول أناة الله على الإنسان إذ يرى الله لا يعاقب الإنسان في الحال على فكره الطاريء ولا على الجيل الأول حينما يتقبل الفكر إلى حين لكنه يؤدب على الجيل الثالث والرابع حينما تتحول الأفكار إلى أعمال وإلى عادات، إذ يقول: [هذا يعني أن الله لا يعاقبنا في الحال على أفكارنا ونياتنا بل يرسل التأديب على أولادهم أي على الأفعال الشريرة وعادات الخطيئة النابعة عنهم[103]].
- حرمانهم من أرض الموعد:
قَبِل الرب شفاعة موسى النبي فلم يَبِد الشعب لكنه لم يسمح لهم بدخول أرض الموعد، إنما أعطى الوعد لأولادهم إذ يقول: “قد صفحت حسب قولك. ولكن حيّ أنا فتملأ كل الأرض من مجد الرب. إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البريّة وجربوني الآن عشر مرات ولم يسمعوا لقولي لن يروا الأرض التي حلفت لآبائهم، وجميع الذين أهانوني لا يرونها” [20-23]. مستثنيًا يشوع وكالب من أجل إيمانهما بوعده.
الله يصفح عن خطايانا عندما نتوب لكنه يؤدب ليس كأجرة للخطيئة، فقد دفع الثمن بالكامل على الصليب وإنما لكي نتذوق من ثمارها المُرّة فلا نعود إليها. ليس منا من يحتمل ثمرة خطاياه كما هي لأنها موت أبدي لكن من أجل كثرة مراحمه يترك بعض الآثار تعمل لمضايقتنا إلى حين وقدر احتمالنا فنكره الخطيئة، وندرك أنها خاطئة جدًا.
صفح الله لكنه يؤدب عِوَض الأربعين يومًا التي تجسسوا فيها الأرض يبقون أربعين عامًا في البريّة تائهين (ع 34)، يؤدبون فيها سنة كاملة عن كل يوم! قد يتساءل أحدنا: أليس في هذا نوع من القسوة أن يؤدب الإنسان سنة عن اليوم الواحد؟ يجيب العلامة أوريجينوس على هذا السؤال قائلاً: [إن كان الإنسان يجرح بالسيف في أقل من ساعة فيتعرض لآلام كثيرة تصيب جسده وعظامه فيحتاج إلى فترة علاج طويلة، وربما تحدث له مضاعفات وتترك الجراحات آثارًا أو عاهات، أليس هذا ما يحدث أيضًا مع النفس حين يجرحها سيف الخطيئة أو كما يقول الرسول: “سهام الشرير الملتهبة نارًا” (أف 6: 16)!
[آه لو أمكننا أن نرى في كل خطيئة نرتكبها كيف يجرح الإنسان، وكيف تسبب الكلمات الرديئة آلامًا؟ ألم نقرأ: قيل أن السيف في جرحه أهون من اللسان! إذن باللسان تجرح النفس، وبالأفكار الشريرة والشهوات الدنسة تنكسر النفس وتتحطم بأعمال الخطيئة. لو استطعنا أن نرى الأمور كما هي ونشعر بجراحات النفس لكننا نقاوم الخطيئة حتى الموت[104]].
ويُعلِّق العلامة أوريجينوس أيضًا عن هذا التأديب قائلاً: [يجب على كل خاطيء أن يعاني عامًا من الشقاء مقابل كل يوم من الخطيئة، فكم من السنين تقابل الأيام التي نعيشها في الخطيئة يلزم أن نمر بها في العقاب نحن الذين نخطيء كل الأيام ولا يمر علينا يوم بدون خطيئة[105]؟].
على أي الأحوال إذ قبل الشعب “عدم الإيمان” ذاقوا ثماره المُرَّة من حالة رعب، إذ قالوا “لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا” (عد 13: 31)، وحالة خسارة وفقدان إذ حرموا من أرض الموعد (ع 30)، وسقطوا تحت التأديب أربعين عامًا عوض الأربعين يومًا (ع 34)، بل وصاروا تحت حكم الموت، إذ قال الرب: “في هذا القفر يفنون وفيه يموتون” [35]. أما سرّ هذا كله فهو أنه بالخطيئة يفارقهم الرب: “إنكم قد ارتدتم عن الرب فالرب لا يكون معكم” [43]. فقدوا الرب سرّ قوتهم وسلامهم وفرحهم ومكافأتهم بل وحياتهم.
- موت الرجال الأشرار:
إذ كان الشعب في مرحلة الطفولة الروحيّة لا يؤمن إلاَّ بما يعاينه ويلمسه، لهذا سمح الرب بضرب الرجال العشرة بالوباء فماتوا (ع 37) حتى يدرك الكل ماذا يفعل عدم الإيمان بهم.
- تأديب الشعب:
ندم الشعب على تذمره وبكوا جدًا، لكنهم عِوَض الطاعة أصروا على الصعود إلى أرض الموعد. حذَّرهم موسى النبي لكنهم أصروا فأهلكهم العمالقة والكنعانيّون.
حقًا ما أعجب الإنسان أن يطلب الرب منه أن يصعد، فيخاف ويرتعب في عدم إيمان، وإذ يحذِّره من الصعود يخرج من تلقاء ذاته فيهلك!
لقد ضربهم الكنعانيّون مع العمالقة حتى إلى مدينة حرمة التي تعني “موضع مقدّس أو محرّم”، وهي مدينة ليست بعيدة عن قادش. وقد استولى عليها العبرانيّون فيما بعد (عد 21: 3)، وقد صارت من نصيب يهوذا لكنها نُقلت فيما بعد إلى شِمْعون (قض 1: 17، يش 15: 30، 19: 4). وكانت عزيزة لدى داود النبي عندما كان طريدًا، إذ أرسل إلى أصدقائه هناك جزءًا من غنائم صقلغ (1 صم 30: 30).