تفسير سفر العدد ٢٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع والعشرون
(تابع) نبوات بلعام
يحوي هذا الأصحاح:
- نبوته الثالثة 1-14.
- نبوته الرابعة 15-19.
- نبوته الخامسة 20-25.
- نبوته الثالثة:
إذ جاء بالاق ببلعام إلى رأس الملذات ليعزله عن الرب فينطق بلعناته الخاصة عِوَض بركة الرب أدرك بلعام على العكس أنه لن يقدر أن يتصرف من ذاته فتنبأ للمرة الثالثة، بظروف اختلفت عن النبوتين السابقتين من جهة:
أ. لم يستخدم الفأل أي السحر كعادته (ع 1).
ب. لم ينسحب إلى مكان منعزل بل ذهب مباشرة متجهًا نحو الشعب ومعسكرهم (ع 2).
ج. حلّ عليه روح الرب فانفتحت عيناه لرؤية الموقف في أكثر وضوح (ع 2، 4).
أ. عدم استخدامه الفأل: توقف بلعام عن استخدام كل فنون سحره ليس حبًا في الله وإيمانًا به، وإنما غالبًا إدراكًا لعجز شياطينه تمامًا عن مساندته في تمكينه من النطق بلعناته. يقول العلامة أوريجينوس: [نستطيع أن نتساءل بماذا عرف بلعام أنه قد حسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل؟ لقد لاحظ أنه عندما أحرق الذبائح لم يتقدم شيطان واحد ولا تجاسرت سلطة معادية أن يظهر بالقرب من ضحاياه، فقد ابتعد خدام الشرّ الذين اعتادوا على مساعدته في تقديم لعناته[224]]. ولعل شهادة الكتاب “رأى بلعام أنه يحسن في عيني الرب أن يبارك إسرائيل” (ع 1)، أولاً تعلن شوق الله لمباركة إسرائيل الجديد أي الكنيسة، كما يرى البعض فيها نبوة عن عودة اليهود عن جحودهم وعدم إيمانهم فيقبلوا السيد المسيح في آخر الأزمنة، ويتمتعوا بالبركة الروحيّة عِوَض العنصريّة الصهيونيّة.
ب. انسحابه ليرى معسكر الجماعة المقدسة، إذ تنبأ قبلاً عن التجسد (النبوة الأولى) ثم عن أحداث الصلب والقيامة (النبوة الثانية) انفتحت عيناه لرؤية الكنيسة المتحدة بالمسيح المتمتعة ببركة الخلاص، لهذا انطلق مباشرة ليعاينها.
ج. حلول الروح عليه، لما كانت النبوة الثانية تخص يوم البنطيقستي، يوم ميلاد الكنيسة المتمتعة بالخلاص بالمسيح يسوع خلال عمل الروح القدس لهذا “كان عليه روح الرب”. لكن للأسف كشف الروح له عن أسرار الله في معاملته للبشريّة، فانفتحت عيناه دون قلبه، وعِوَض التوبة ازداد عجرفة وكبرياء، قدَّم معرفة دون اتضاع، وامتلأ قلبه جفافًا بسبب محبته للفضة
أما موضوع النبوة فشمل أمرين: الشعب الذي يراه بعينيه الجسديتين كنواة مقدسة، والشعب الذي يراه بعيني النبوة بكونه كنيسة العهد الجديد التي تقوم بواسطة الروح القدس في يوم البنطيقستي كجسد المسيح يسوع.
فمن جهة الشعب الذي يراه أمامه بعينيه الجسديتين يرى فيه: شعبًا مملوءً جمالاً “ما أحسن خيامك يا يعقوب…”، مثمرًا على الدوام “كأودية ممتدة كجنات على نهر”، يحمل كرامة “يتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته”، مملوئين قوة في الماضي “الله أخرجه من مصر” وفي الحاضر، “مثل سرعة الرئم” وفي المستقبل القريب “يأكل أممًا”، وأخيرًا عن أثره على من هم حوله واهتمام الله به- هذه نبوة تحققت فعلاً في بدء انطلاق هذا الشعب، لكنها نزعت عنهم بإنكارهم المسيَّا المخلص، فصارت هذه النبوة ميراثًا لإسرائيل الجديد، الكنيسة التي جاءت من الأمم. وفيما يلي شرح مبسط للنبوة.
“وحيّ بلعام بن بعور، وحيّ الرجل المفتوح العينين،
وحيّ الذي يسمع أقوال الله،
الذي يرى رؤيا القدير مطروحًا وهو مكشوف العينين” [3-5].
يُعلِّق العلامة أوريجينوس هكذا: [من المدهش أن يمتدح بلعام بمثل هذا المديح… كيف يكون بلعام مفتوح العينين هذا الذي سلَّم نفسه للعِرافة والسحر؟… لقد استحق هذا المديح العظيم إذ قيل عنه “فكان عليه روح الله”، “ووضع الرب كلامًا في فمه” (23: 16)، الأمر الذي لا نجده حتى في موسى أو في نبي آخر، أن يرتفع إلى مكانٍ عالٍ هكذا[225]].
جاءت كلمات بلعام عن نفسه “الرجل المفتوح العينين” تشير إلى حالة المؤمن في كنيسة العهد الجديد حيث رفع البرقع، فانكشفت أعماق الشريعة وحلّ الحق عِوَض الظلّ، وتحققت النبوات. صار الإنسان “يسمع أقوال الله” ليس خلال حروف بل مسجلة بالحب على الصليب في ابنه الوحيد، و”يرى رؤيا القدير” لا خلال أحلام كدانيال أو إعلانات رمزيّة بل كما قال الرسول “ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة تتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2 كو 3: 18).
لقد صار الإنسان بالخطيّة مفتوح العينين إذ تعرف على الشرّ ومارسه، وبالمسيح يسوع ربنا صار مفتوح العينين يتعرف على الأمور الإلهيّة السماويّة ويعيشها في حياتنا اليوميّة. يقول العلامة أويجينوس: [قالت الحيّة لحواء بأن الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما] (تك 3: 5)، فأكلت ويقول الكتاب: “وانفتحت أعينهما” (تك 3: 7). لكن يوجد نوعان من الأعين: “الأعين التي تنفتح بالخطيّة، وأعين نظر بها آدم وحواء قبل أن تنفتح هذه الأعين[226]”. وقد جاء السيد المسيح ليفتح البصيرة الداخليّة الروحيّة التي كانت عمياء، ويعمي هذه الأعين التي تتعرف على الشرّ وتشتهيه. لهذا يقول: “لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون (أي تنفتح البصيرة الروحيّة) ويعمى الذين يبصرون (أي تغلق أعين الشرّ التي فتحها الشيطان بناء على نصيحة الحيّة)” (يو 9: 39). ما أحوجنا أن يفتح الرب أعيننا على السمويات ويغلقها نحو الشرّ!!
خلال نصيحة الحيّة انفتحت عيني الإنسان على الشرّ فصار أعمى، وخلال السيد المسيح انغلقت عينيه عن الشر لتنفتحا على الإلهيات فصار بصيرًا أو مستنيرًا.
إذ انفتحت عيناه قال: “ما أحسن خيامك يا يعقوب، مساكنك يا إسرائيل” [5]. في الترجمة السبعينيّة “ما أحسن مساكنك يا يعقوب، خيامك يا إسرائيل”. إن كان المسكن يشير إلى حالة الاستقرار فإن الخيمة تشير إلى حالة التحرك المستمر. فالكنيسة في حالة استقرار بكونها جسد المسيح السري، مستقرة في حضن الآب، وفي نفس الوقت هي دائمة الحركة والنمو، تنطلق بالروح القدس من مجد إلى مجد لكي يبلغ أعضاؤها إلى قياس ملء قامة المسيح. بالمسكن أراد إعلان دخولنا إلى الاتحاد مع الله في ابنه يسوع المسيح بواسطة روحه القدوس فتعرفنا على أسرار معرفة الثالوث القدوس كخبرة نعيشها ونمارسها، وبالخيام أراد تأكيد حالة النمو المستمر في المعرفة، ننطلق بقيامنا من خبرة إلى خبرة، وندخل من معرفة إلى معرفة… بهذا “نمتد إلى ما هو قدام” (في 3: 13) كالبدو الرحل لا نتوقف عن طلب المزيد من المعرفة الروحيّة البناءة حتى نراه وجهًا لوجه.
“كأودية ممتدة، كجنات على نهر، كشجرات عود غرسها الرب، كأرزات على مياه. يجري ماء من دلائه، ويكون زرعه على مياه غزيرة ويتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته” [6-7].
يا لها من صورة حيّة ليوم البنطيقستي، يوم ميلاد كنيسة المسيح المقدسة بالروح القدس! لقد وهبها الاستقرار كمساكن مقدسة وأعطاها حيويّة النمو الدائم كخيام دائمة الحركة. الآن يراها بلعام أودية بلا حدود وجنات مثمرة على الدوام!
جاءت الترجمة السبعينيّة: “كحدائق (غابات صغيرة) مظللة، كجنات على نهر، كخيام نصبها الله، كأرزات على مياه. يأتي رجل من زرعه ويحكم على أمم كثيرة، وتتسامى مملكة جوج، وتتزايد مملكته” (ع 6-7). هنا يبرز عمل الروح القدس في حياة الكنيسة، فيجعلها كالغابات المظللة التي تستضيف الحيوانات والطيور، وكجنات على نهر تفرِّح قلب الإنسان وتعيد إليه سلامه المعهود، وكخيام نصبها الله فصارت مقدسة تتحرك نحو صانعها لتستريح فيه، وكأرزات مرتفعة ومستقيمة، وكرجل يحكم بسلطان لا يقدر الشيطان بكل جنوده عليه!
يُعلِّق العلامة أوريجينوس على هذا النص، قائلاً: [يقدم بلعام صورة ساحرة وعجيبة: “كغابات صغيرة مظللة، كجنات على نهر، كخيام نصبها الله، كأرزات على مياه“. الذين يتعبون في الطريق يسيرون خلال “الأشجار المظللة” التي هي جماعة الأبرار وطغمة الأنبياء القدِّيسين. هؤلاء تتذوق أرواحهم الرطوبة تحت ظلّ المعاني التي يجدونها في كتاباتهم وفي سيرهم في تعاليمهم، متلذذين من عمق الأشجار!… إنهم كجنات على نهر، يحملون صورة الفردوس حيث يوجد فيه شجرة الحياة على الأنهار أي الكتابات الإنجيليّة والرسوليّة… مخلصنا هو النهر الذي يُفرِّح مدينة الله (مز 46: 5). بالروح القدس أيضًا لا يصير لنا فقط النهر بل ينبوع مياه توهب لنا في بطوننا (يو 4: 13). أيضًا الآب يقول: “تركوني أنا ينبوع المياه الحيّة” الذي هو مصدر هذه الأنهار (المياه). لهذا ينصب الإسرائيليّون خيامهم ليستقوا من هذه الأنهار، هذه الخيام التي نصبها الله نفسه[227].
ما أجمل الكنيسة وما أعظمها فقد نصب الله نفسه خيامها على الأنهار المقدسة لتستقي من ينابيع معرفة الثالوث القدوس، تفرح بالآب “ينبوع المياه الحيّة” والابن “نهر الحياة” والروح القدس الذي يفجر ينابيع مياه حيّة داخل النفس!
ماذا يعني نصب الخيمة على المياه المقدسة إلاَّ غرس المؤمنين في مياه المعموديّة المقدسة، حيث يخلع الإنسان كل وصمة للخطيّة ويحمل الإنسان الجديد على صورة خالقه. في الجرن يغرس عضوًا في جسد المسيح، يصير هيكلاً للروح القدس، ويتمتع بحق الاستقرار في حضن الآب بكونه ابنًا له.
بهذا تتحول الكنيسة إلى غابات مظللة، يلجأ إليها كل إنسان ليستريح تحت ظلالها من ضربات شمس التجارب الحارقة للنفس. وتصير كجنات على نهر، تناجي عريسها قائلة: “ليأتِ حبيبي إلى جنته ويأكل ثمره النفيس” (نش 4: 16). ويجيبها العريس متهللاً: “قد دخلتُ جنتي يا أختي العروس، قطفتُ مري مع طيبي، أكلتُ شهدي مع عسلي، شربتُ خمري مع لبني. كلوا ايها الأصحاب، اشربوا واسكروا أيها الأحباء” (نش 5: 1).
تصير كأرزات على مياه، وكما يقول العلامة أوريجينوس: [هذه الخيم هي أيضًا كأرزات على مياه. الأرز هنا لا يحمل الكبرياء الشرير، إنما هو “أرز الله” الذي يسند فروع الكرمة التي نقلت من مصر (مز 80: 8)، لكي ينضج الثمر ويغطي ظلها الجبال[228]].
إذ رأى عمل الروح القدس في حياة الكنيسة تحدَّث عن دوره في حياتها الكرازيّة، فقال: “يأتي رجل من رزعه ويحكم على أمم كثيرة” فإن السيد المسيح يأتي متجسدًا من بيت إسرائيل، هذا الذي يملك روحيًا على أمم كثيرة خلال عمل روح الله القدوس في كنيسته. يقول العلامة أوريجينوس: [إنه المسيح الذي خرج من ذريّة إسرائيل حسب الجسد. كيف يملك على الأمم؟ هذا لا يحتاج إلى شرح، خاصة إن قرأنا ما يقوله الآب: “اسألني فأعطيك الأمم ميراثًا لك، وأقاصي الأرض ملكًا لك” (مز 2: 8). لكن ماذا يعني: “يتسامى ملكه على جوج؟ إن “جوج” تعني فوق السطوح، فلا نأخذ هذا النص بكونه اسم شعب معين… إنما يعني “يتسامى مملكته فوق السطوح وتنمو مملكته”. التسامي فوق السطوح يخص الكاملين والنمو يخص جميع المؤمنين. عند الكاملين تسمو مملكة المسيح فوق السطوح، أي فوق الذين يشغلون الأجزاء الفضلى ويسكنون المرتفعات العالية… لهذا السبب أظن أن المخلص يقول: “والذي على السطح فلا ينزل ليأخذ من بيته شيئًا” (مت 24: 17)، محذرًا الذين بلغوا درجات الكمال العُليا ألاَّ ينزلوا عنها إلى الأماكن السفلى والدنيئة في هذا العالم… إما نمو مملكته فيعني تزايد الكنائس وتكاثر المؤمنين، فترتفع مملكته إلى أن “يضع الآب جميع الأعداء تحت قدميه، آخر عدو يبطل هو الموت[229]” (1 كو 15: 25-26).
إذن تنمو الكنيسة في اتجاهين، نمو كل مؤمن نحو الكمال ليرتفع فوق السطوح ويبلغ السمويات، ونمو ليضم الكثيرين إلى معرفة الله، أي الكرازة في العالم.
أما علامات هذه الكرازة فهي: “الله أخرجه من مصر“، كأن غايتها انطلاق النفس وعبورها من أرض العبوديّة متجهة نحو أرض الموعد كما انطلق الشعب القديم. ويرى البعض في هذه العبارة إشارة إلى هروب السيد المسيح إلى أرض مصر، لكي يُدعى من مصر فيعبر بالأمم إلى طريق الإيمان. يقول العلامة أوريجينوس: [أخرجه الآب من مصر، وجعله يأتي إليه، لكي يفتح الطريق للذين هم من مصر هذا العالم فيصعدون نحو الله[230]].
يكمل قائلاً: “له سرعة الرئم”، وقد رأينا في تفسيرنا الأصحاح السابق (23: 22) أنها تشير إلى الكرازة بالسيد المسيح بقوة ليملك روحيًا إلى أقاصي الأرض (تث 33: 17).
“يأكل أممًا مضايقيه ويقضم ويحطم سهامه” [8]. خلال هذه الكرازة يحطم الروح القدس أفكار الشر في الإنسان التي كانت كالأمم المقدومة للنفس، يقضم عظامهم أي الشهوات الجسديّة، ويحطم سهام التجارب الشريرة. بهذا ينقل الروح القدس الإنسان نفسًا وجسدًا إلى الحياة المقدسة، واهبًا إياه روح الغلبة والنصرة.
أما موضوع الكرازة فهو: “جثم كأسد ربض كلبوة، من يقيمه؟ مباركك مبارك ولاعنك ملعون” [9]. يحدث العريس والعروس معًا، لأنهما متحدان، فقد جثا العريس كأسد على الصليب وربضت معه عروسه، من يقيمهما؟ يقوم السيد بسلطانه، إذ قال “لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها”، واهبًا عروسه قوة القيامة. بهذا حملت الكنيسة إمكانيات عريسها، فصار من يباركها يتبارك بعريسها، ومن يلعنها يحمل غضب عريسها.
اشتعل غضب بالاق على بلعام وصفق بيديه علامة الحيرة الشديدة والعجز عن التصرف، لم يبقَ له إلاَّ التهديد… “اهرب إلى مكانك… هوذا الرب منعك من الكرامة!”. وشعر بلعام أنه لا علاج للموقف لهذا قرر أن يرجع إلى شعبه، لكنه قبل أن ينطلق نطق بنبوتين أخرتين (الرابعة والخامسة) دون أن يطلب منه بالاق أن يتكلم.
- النبوة الرابعة
قلنا أن النبوة الأولى ركزت بالأكثر على رؤية إسرائيل الجديد من خلال التجسد، والثانية من خلال الصلب والقيامة، والثالثة من خلال الروح القدس، والآن يوضح بالأكثر عن الكنيسة الكرازي دون أن يفصل هذه الأعمال الخلاصيّة عن بعضها البعض.
بدأ مقدمته بذات الكلمات التي نطق بها في مقدمة النبوة السابقة لكنه يضيف هنا عبارة عجيبة لا يجرؤ نبي أن ينطق بها: “ويعرف معرفة العلي” (ع 16). لماذا نطق بهذه الكلمات؟ هل لأنه ما رآه وتعرَّف عليه يفوق كل إدراك بشري، لم يكن يتوقعه قط فحسب في نفسه أنه قد أدرك معرفة العلي؟ أو لأنه تعرَّف على أسرار الابن الوحيد الذي قال “لا أحد يعرف الآب إلاَّ الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” (مت 11: 27)، وكأنه يريد أن يؤكد أن الابن المتجسد والذبيح يكشف له أسرار الآب؟ أو لأنه دخل خلال النبوة إلى يوم البنطيقستي والتقى بالروح القدس الذي “يفحص كل شيء حتى أعماق الله؟” (1 كو 2: 10) أو لعله كإنسان قد تمتع بهذه العطايا وأدرك هذه الأسرار أراد أن يميز بين معرفته السابقة ومعرفته الحالية، قبلاً كان يستخدم فنون السحر والعِرافة ويعتمد على الشياطين مدعيًا معرفة المستقبل، أما نبواته هذه فهي عطيّة الله، إنها معرفة الله الصادقة لا الشياطين المضللة. ويرى البعض أن بلعام كإنسان غير نقي القلب إذ تمتع بعطايا الله ومعرفته تحوَّل إلى الكبرياء والاعتداد بالذات عِوَض الاتضاع والانسحاق.
يقول: “أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبًا” [17]. من الذي يراه ولكنه كمن هو بعيد؟
“يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل،
فيحطم طرفي موآب، ويهلك كل بني الوغى.
ويكون أدوم ميراثًا، ويكون سعير أعداؤه ميراثًا.
ويصنع إسرائيل ببأس.
ويتسلط الذي من يعقوب ويهلك الشارد من مدينة” [17-19].
يقول “أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريبًا”، وبحسب الترجمة السبعينيّة يقول “سأشير إليه ولكن ليس الآن، أباركه ولكنه لم يقترب” رآه بروح النبوة او أشار إليه لكنه بعيد عنه، إذ بقي أكثر من 1500 عامًا على تجسده حين نطق بلعام، إنه يشير إليه من بعيد حتى يأتي ملء الزمان (غل 4: 4) فيقترب إلى الأمم ويفهم المجوس هذه الكلمات. حينئذٍ يباركون الرب مقدمين قلوبهم وحياتهم مع ذهبهم ولبانهم ومُرّهم. يقول بلعام “أبارك” لكنه لم يقترب بعد، يأتي وقت فيه يقترب الرب فتنفتح ألسنة الأمم بكلمات التسبيح والبركة.
أما قوله: “يبرز كوكب من يعقوب، يقوم قضيب (إنسان) من إسرائيل”، فيحمل نبوة عن لاهوت السيد وناسوته، فهو الكوكب السماوي الذي جاء متجسدًا ليملك (قضيب) على قلوب البشريّة. وكما سبق فقلنا أن هذه النبوة سجلت في كتب أبناء المشرق، خلالها تعرف المجوس على الملك المولود حين ظهر لهم النجم في المشرق.
بظهوره كوكبًا منيرًا في قلوب الأمم خلال الكرازة بالإنجيل “يحطم طرفي موآب”. إن كان رؤساء موآب يعني تحطيم عمل الشيطان وخداعاته اليمينيّة (البر الذاتي) والشماليّة (الخطايا والنجاسات). الكرازة بالإنجيل تحرر موآب من رؤسائه، أو كما يقول العلامة أوريجينوس: [“هذا المولود من إسرائيل يحطمهم عندما يجرد الرياسات والسلاطين ويشهرهم جهارًا على صليبه” (كو 2: 15)، فيخلص الموآبيّين ويقودهم إلى معرفة الرب[231]].
“ويهلك بني الوغى”، وفي الترجمة السبعينيّة: “ويهلك بني شيث”. يرى العلامة أوريجينوس أنه بعد قتل هابيل أنجبت حواء “شيث” الذي خرج منه كل جنس البشر، أما نسل قايين فأهلكه الطوفان. هذا الجنس صار غنيمة للشياطين. لهذا إذا جاء السيد وصارت كلمة الكرازة بالإنجيل حطم الشيطان وسبى هؤلاء الذين كانوا تحت قبضته، فصار كغنيمة للسيد (أف 4: 8). هنا يهلك السيد الشرّ الذي فيهم ويقتنيهم أسرى الخلاص، ليدخل بهم إلى سمواته. لهذا يقول العلامة أوريجينوس: [إني أشتهي أن أكون أنا أيضًا أسير المسيح، يقتادني مع غنائمه، ويحفظني مقيدًا برباطاته، فأستحق أن يقال عني: “أسير يسوع المسيح” (أف 3: 1)، كما كان الرسول بولس يقول مفتخرًا[232]].
يقول بلعام: “ويكون أدوم ميراثًا، ويكون سعير (عيسو) أعداؤه ميراثًا” (ع 18). قلنا قبلاً أن أدوم هو بعينه سعير الذي هو عيسو. فإن كانت كلمة “أدوم” تعني إنسانًا دمويًا محبًا للقتال، وسعير تعني “شعر”. فإن أدوم ربما تشير إلى النفس البشريّة وقد فسدت بالخطيّة فصارت محبة للقتال، وسعير تشير إلى الجسد المملوء شعرًا وكأنه بالكرازة بالإنجيل يملك الله على النفس والجسد معًا، فينزع عنا الإنسان العتيق العامل في نفوسنا وأجسادنا ونوهب الإنسان الجديد كميراث الله فينا.
يرى العلامة أوريجينوس أن أدوم كما سعير يشيران إلى الجسد، بكون أدوم يشير إلى الدم (الجسد) وشعير إلى الشعر. لهذا يُعلِّق قائلاً: [أدوم هو الجسد الذي يقاوم الروح (غل 5: 17)، عدو الروح. ولكن في مجيء المسيح إذ نخضع الجسد للروح برجاء القيامة يحصل الجسد أيضًا على الميراث. لأنه ليس فقط النفس كانت عدوًا للروح بل والجسد أيضًا، فبإطاعته للروح القدس يكون له نصيب في الميراث الآتي[233]].
أما قوله: “يصنع إسرائيل ببأس” (ع 18)، فإن المؤمن وقد خضع بنفسه وجسده لعمل الروح القدس وصار ميراثًا للرب، يصير رجل بأس لا يقدر عدو الخير على مقاومته. حقًا لا يعود يحارب جسده وعواطفه وأحاسيسه، بل تتجند هذه جميعها لا لمحاربة النفس بل لمحاربة الخطيّة، ويصير الجسد الذي كان ثقلاً على النفس معينًا لها.
لهذا يكمل قائلاً: “ويتسلط (يظهر) الذي من يعقوب ويهلك الشارد من مدينة” (ع 19). من هو هذا الذي يظهر أو يتسلط إلاَّ السيد المسيح الذي خرج من إسرائيل، يتجلى في حياة الإنسان المؤمن ببهاء مجده، ويهرب الشيطان الشارد من مدينة الله (القلب). يدخل السيد المسيح إلى القلب بصليبه فيهلك الشيطان ولا يكون له موضع في داخل النفس. يتسلط الإنسان الجديد الحامل سمات المصلوب ويهرب الإنسان القديم بأعماله.
- النبوة الخامسة:
لقد رأى عماليق فنطق بالنبوة الخامسة والأخيرة، وإن كان البعض يعتبرها جزءًا لا يتجزأ من النبوة الرابعة.
يقول: “عماليق أول الشعوب، وأما آخرته فإلى الهلاك” [20]. إن أول حرب تمت في البريّة كانت ضد عماليق أول الشعوب وقد بقوا في حرب مستمرة مع هذا الشعب حتى انتهى عماليق في أيام حزقيا (1 أي 4: 43).
إن عدنا إلى سفر التكوين (14: 7) نسمع عن الملوك رجعوا إلى عين مشفاط (الدينونة) التي هي قادش (مقدس) وضربوا كل بلاد العمالقة. لهذا حيث تقوم الدينونة ويفرز الشرّ عن البرّ، والنجاسة عن التقديس يقتل العمالقة في قادش أي في المقدسات. وكأنه حيث توجد القداسة لا يمكن أن يوجد العمالقة (جنود الشر). يقول العلامة أوريجينوس: [إذًا الذين يلتفون حول المقدسات (قادش) ويهتدون إلى التقديس والطهارة يقتلون عماليق ويزيلونه هذا الذي يقتنص الشعب بسرعة ويجعله منحرفًا… في القداسة (قادش) التي هي عين شفاط (الدينونة… وبقلب طاهر يتأمل عقاب الخطاة وسعادة الأبرار، بهذا يصارع ليطرح أمراء عماليق. أما الذين لا يهتدون إلى قادش أي القداسة ولا إلى عين الدينونة فلا يتأملون يوم الدينونة القادم، هؤلاء يخضعون لأمراء عماليق. يخطفهم عماليق بسرعة ويفترسهم وينحرف بهم بعيدًا عن الله[234]].
إن عدنا إلى التكوين (36: 11-12) نسمع أيضًا عن عماليق بن أليفاز بكر عيسو الذي ولدته أمه تمناع. هذا هو عماليق المقاوم لأولاد الله الذي ينبغي مقاومته، والده أليفاز الذي يعني (إلهي شتتني[235])، وأمه تمناع التي تعني (ممتنعة)… هنا عماليق ثمرة الاضطراب والتشتت بعيدًا عن الله والامتناع عن الرجوع إليه. إنه يمثل حالة التغرب عن الله والامتناع عن اللقاء معه. لهذا حسب أول عدو لشعب الله لأنه مقاوم لله ولشعبه، يلتقي بأولاد الله في البريّة ليهلكهم.
إن كان عماليق يمثل باكورة المقاومة لله في شعبه، فإن السيد المسيح يمثل باكورة الطاعة لله فيهم، لهذا جاء السيد الذي هو الباكورة (1 كو 15: 32) ليهلك باكورة الشرّ أي عماليق. لهذا يقول بلعام “وأما آخرته فإلى الهلاك” وفي الترجمة السبعينيّة “وأما زرعه فيهلك”. هذا الزرع كما يقول العلامة أوريجينوس هو [الاعتقاد الذي جعله راسخًا في ذهن الناس أن ينحرفوا بعيدًا عن الرب. هذا هو الروح الفاسد، والعقيدة البغيضة، الزرع الذي غرسه فيهم. هذا يهلك خلال الرجوع بتنهدات ليخلصوا[236] (إش 45: 22)].
يكمل بلعام النبوة قائلاً: “ثم رأى القيني… وقال ليكن مسكنك متينًا وعشك موضوعًا في صخرة“. ماذا يعني (القيني) إلاَّ المقتني أو المالك (تك 14: 7) فإن كان يلزمنا إبادة روح الشرّ عماليق وكل زرعه أي معتقداته وشروره إنما يجب أن نقتني آخر أو نكون نحن موضوع اقتنائه، ألا وهو السيد المسيح الصخرة ففيه نجد مسكنًا متينًا، وندخل إليه كالعصفور الذي يجد له فيه عشًا! يقول العلامة أوريجينوس: “يستطيع القيني أن يخلص إن نصب عشه على الصخرة، أي وضع رجاءه في المسيح، فلا يلتفت إلى خداعات الهراطقة الذين حوله[237]…].
يقول: “لكن يكون قاين حتى متى يستأسرك أشور” [22]. إنه يحذر من دخل إلى السيد المسيح ووجد له فيه مسكنًا، إن عاد يتطلع إلى أشور (الهراطقة) ينحرف عن الحق فيهلك. إن كان عماليق يمثل الخطر خارج الكنيسة (الخطيّة والشرّ) فإن أشور يمثل الخطر داخل الكنيسة خلال الهرطقات تحت اسم المسيح.
يقول: “آه! من يعيش حين يفعل ذلك؟” [23]. لقد أدرك أنه يتنبأ عن العصر الماسياني الذي يبعد عنه أكثر من 1500 عامًا، كما أدرك أنه بعيد من جهة التصديق إذ تحدث أمور فائقة للعقل.
نختم نبوته بالقول: “وتأتي سفن من كتيم (كريت) وتخضع أشور وتخضع عابر فهو أيضًا إلى الهلاك” [24]. لقد رأى بروح النبوة أحداثًا كثيرة منها:
أ. ما فعله إسكندر المقدوني قادمًا من جزيرة كريت (الحاكم اليوناني)، ويرى البعض أنه يشير إلى الاستعمار الروماني قادمًا من الغرب حيث كانت كتيم تشير لا إلى كريت وحدها بل كل الغرب.
ب. تشير إلى خضوع العبرانيّين (عابر) للسبي البابلي (أشور).
ج. يرى البعض في خضوع عابر للهلاك إشارة إلى رفض العبرانيّين شخص السيد المسيح ودخولهم إلى الهلاك خلال عدم الإيمان.