تفسير سفر العدد ٣١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الحادي والثلاثون
حرب ختاميّة
أمر الله موسى النبي أن يقاتل المديانيّين الذين أجروا نسوة شريرات لعثرة بني إسرائيل، وذلك كآخر فصل في جهاد موسى النبي.
- مقاتلة المديانيّين 1-7.
- قتل الملوك وبلعام 8.
- الغنائم 9-12.
- قتل النساء الشريرات 13-20.
- تطهير المعادن 21-24.
- توزيع الغنائم 25-54.
- مقاتلة المديانيّين:
أراد الله أن يختم موسى النبي حياته وجهاده بحرب غايتها “التقديس” بإبادة العثرة التي حطمت الشعب. لم يكن هدف الحرب هجوميًا ولا سلب غنائم لكنه أراد قتل الذين انصاغوا لكلمات بلعام فأجّروا نساء يحاربن الشعب بجمالهن والتنجس معهن يجب أن يقاتلوا حتى لا تتكرر العثرة. وكان ذلك إشارة إلى ضرورة بتر العثرة في حياة المؤمنين حتى يعيشوا بروح الغلبة والنصرة.
هذا هو نهاية كل عمل لموسى النبي قبل أن يصعد إلى جبل عباريم ويرى الأرض المقدسة من بعيد. إنه غاية عمل الناموس يكشف العثرة ويسند في الجهاد ضدها لكنه لا يقدر أن يهب البرّ ولا أن يعبر بالمؤمنين إلى حدود الأرض المقدسة. إنه يبعث فينا روح الجهاد ويرتفع بنا خلال الظلّ والرمز لنرى السموات من بعيد، لكنه عاجز أن يحملنا إليها.
أما ملامح هذا الجهاد الروحي المقدس فهو:
أولاً: نزع العثرة: يقول العلامة أوريجينوس: [العثرات التي أُلقيت لأبناء إسرائيل سببها مكيدة المديانيّين، الذين استأجروا النساء لسلب قلوبهم حتى يخطئوا أمام الرب، فكابد بنو إسرائيل عقابًا على ارتكابهم الخطيئة، أما المديانيّون إذ سببوا السقوط في الخطيئة صاروا موضع عقوبة أشد، نتعلم من هذا أننا إذ نُعثر الآخرين فيسقطوا نكون في حالة أشرّ من ارتكابنا الخطيئة هذا ما يعلمنا إياه الرب بقوله: “خير له لو طوّق عنقه بحجر رحى وطُرح في البحر من أن يُعثر أحد هؤلاء الصغار[279]” (لو 17: 2)].
ثانيًا: حين سقط الشعب في الخطيئة انهزم إسرائيل بغير محاربين ظاهرين، إذ لا نسمع عن حرب بينه وبين المديانيّين والموآبيّين، لكن أربعة وعشرون ألفًا ماتوا بالوبأ بغير حرب (25: 9). ولولا غيرة الكاهن فينحاس على المقدسات لفني الشعب كله (25: 11). أما الآن وقد تقدَّس الشعب فلا حاجة لخروج رجال الحرب البالغين أكثر من ستمائة ألف رجل وإنما يكفي اختيار ألف رجل عن كل سبط ليخرج الاثنا عشر ألف رجل فيغلبوا وينتصروا. فهي ليست حرب العدد الكبير ولا الإمكانيات الحربيّة من أسلحة وتخطيطات عسكريّة، إنما هي قوة التقوى والقداسة على الشر والخطيئة. يقول العلامة أوريجينوس: [لم يحصل على النصرة بكثرة عدد الجند وإنما بواسطة برّه وتقواه… فقد قيل: إذا اتَّبعوا ناموس الرب، واحد فقط يطارد ألفًا واثنان يجعلان ألفين يهربون (26: 8). هكذا ترى أن قديسًا واحدًا فقط في صلواته يكون أقوى من جيش لا يُحصى من الأشرار. صلاة البار تخترق السماء، فكيف لا نحصل على النصرة على الأرض؟ لهذا يلزمك أن تبحث أولاً عن برّ الله (مت 6: 33)، فإننا إن وجدنا واحتفظنا به نخضع كل الأعداء بشرط أن نكون لابسين درع البرّ، ممنطقين أحقاءنا بالحق، نحمل خوذة الخلاص وسيف البرّ، نحمل فوق الكل ترس الإيمان الذي به نقدر أن نطفيء جميع سهام الشرير الملتهبة (أف 6: 14-17)… بهذه الأسلحة ينهزم كل معسكر الشياطين وجيشه ونرنم بثقة، قائلين: “إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي، وإن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن[280]” (مز 37: 3)].
ثالثًا: إن كان رقم (12) يشير إلى ملكوت الله على الأرض، حيث يملك الثالوث القدوس في كل جهات المسكونة (3×4) فإن رقم (1000) يشير إلى الحياة السماويّة لأن يومًا عند الرب كألف سنة. إذن فرقم (12.000) يشير إلى ملكوت الله السماوي على الأرض، هذا الذي له الغلبة على روح الشرّ والعثرة. من ينضم إلى العضويّة في مملكة المسيح الروحيّة، حاملاً السمات السماويّة ينهزم أمامه إبليس وكل جنوده.
رابعًا: لم نسمع في هذه الحرب عن قيادات عسكريّة ولا استعدادات بالأسلحة لكننا نقرأ: “فأرسلهم موسى ألفًا من كل سبط إلى الحرب هم وفينحاس بن ألِعازار الكاهن إلى الحرب وأمتعة القدس وأبواق هتاف في يده” [7]. كانت طاقات الحرب هي الألف رجل أي الحياة السماويّة التي تسمو على الخطيّة وترتفع فوق كل إغراءاتها، تحت قيادة فينحاس الكاهن الغيور على مقدسات الله الذي يشير إلى العبادة الناريّة بالروح القدس والملتهبة بلا انقطاع، وأمتعة القدس خاصة تابوت العهد الذي يشير إلى حضرة الله كسرّ تقديسنا ونصرتنا، وأبواق هتاف تشير إلى كلمة الله إذ هي “حيّة وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب 4: 12). هذه هي الإعدادات الحقيقيّة للغلبة في الحرب الروحيّة: الحياة بفكر سماوي، العبادة الملتهبة غير المتقطعة، والشعور بحضرة الله الدائمة، التمسك بكلمة الله.
خامسًا: كانت الحرب موجهة ضد “كل ذكر”. قلنا أن الذكر يشير إلى الفكر أو العقل أو النفس كما أن الأنثى تشير إلى الجسد أو العمل أو العاطفة. ففي حربنا ضد الخطيّة نصوب سهامنا الروحيّة ضد كل فكر شرير هذا الذي يفسد النفس والجسد معًا. نحن لا نعادي الجسد بل نقام الفكر المفسد له ولعواطفه وأحاسيسه.
- قتل الملوك وبلعام:
“وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم: أوي وراقم وصور وحور ورابع. خمسة ملوك مديان وبلعام من بعور قتلوه بالسيف” [8].
بجانب كل ذكر أي كل فكر شرير قتلوا الملوك الخمسة المذكورة أسمائهم أعلاه مع بلعام… من هم هؤلاء الملوك الخمسة ومن هو بلعام؟
أولاً: من هم هؤلاء الملوك الخمس إلاَّ الحواس التي ينبغي أن تموت عن الخطيّة لتتمتع بالحياة المقدسة! فلا حياة لهذه الحواس ما لم تمت أولاً بالصليب عن أعمال الإنسان العتيق. يتحدث العلامة أوريجينوس عن الملوك الخمسة، قائلاً: [بالاختصار الذين يسيرون على الرذائل- حسب الكتاب المقدس- هم خمسة ملوك، بهذا نتعلم بوضوح أن كل رذيلة تسود على الجسد تتبع أحد الحواس الخمسة. إذًا يجب قتل الحواس الخمسة في مملكة المديانيّين لكي يسودهم البرّ عِوَض الرذائل وعِوَض العمل المعثر يصير العمل الصالح الذي للبنيان، لأن هذه الحواس كانت تُستخدم للعثرة لدى المديانيّين. لهذا أمر الرب “إن كانت عينك اليمين تعثرك فاقلعها والقها عنك” (مت 5: 29-30). ها نحن نرى الرب يأمر بنزع الملوك الخمسة وقتلهم، “لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يُلقى جسدك كله في جهنم”. إنه لا يأمرنا بقلع العين الجسديّة وبتر اليد أو الرجل الجسديتين إنما يأمر ببتر الحس الجسداني المنحرف بالشهوات الجسديّة، لكي “تنظر عيناك إلى قدامك وأجفانك إلى أمامك مستقيمًا” (أم 4: 25). لكي ما تسمع آذانك كلمة الله وتلتهمها، وتلمس يداك كلمة الله وتلتصق بها. بهذا فإنه إذ يموت ملوك المديانيّين وتقتلع الرذائل المعثرة يسود برّ سيدنا يسوع المسيح، إذ “منه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله وبرًا وقداسة وفداءً[281]” (1 كو 1: 30)].
هكذا يموت الملوك الخمسة فلا يكون للشيطان سلطانًا على حواسنا لا لنعيش بلا حواس في جحود، وإنما لتنطلق أحاسيسنا ملتهبة بالروح القدس لحساب الملك الجديد رب المجد يسوع.
ثانيًا: هؤلاء الملوك تحمل أسماءهم معانٍ رمزيّة، فالملك “أوي” يشير إلى الرغبة كما يرى البعض. وكأن بدء الملوك بعد “الفكر” هو “الرغبة”، متى سيطر عليها إبليس وملك حطم حياة الإنسان واستعبدها. عمل الروح القدس في حياة الناس هو تحويل “الرغبة” من مملكة الخطيّة إلى مملكة البرّ، أو من أسر إبليس إلى حريّة الحياة في المسيح يسوع ربنا.
غير أن العلامة أوريجينوس يرى أن كلمة “أوي” تعني “حيوان مفترس”، لهذا فمع قتل كل فكر شرير “كل ذكر” يلزم على المؤمن أن يبدد العادات الحيوانيّة المتوحشة، قائلاً: [كيف يمكنك أن تتمتع بالتطويب: “طوبى للودعاء” (مت 5: 5)، ما لم تقتل أولاً أوي وتسلم الغضب المتوحش للموت؟ في رأيي أن الكتاب المقدس لا يذكر هذه الأسماء ليروي قصة، إنما يقدمها لأجل معرفة الحقائق… إن النص السماوي- كما أعتقد تمامًا- تعليم النفوس، إذ يريدنا أن نحارب هذه الأنواع من الرذائل. لنطردها عن مسكنها الذي في داخل أجسادنا. لنطرد هؤلاء الملوك من مملكة أجسادنا. هذا ما يقوله الرسول بوضوح: “لا تملكن الخطيّة على جسدكم الفاني[282]“].
ثالثًا: الملك الثاني الذي ينبغي قتله هو “راقم”، الذي يعني “رقش” أو “تلوين[283]“. إن كان الملك الأول يمثل العنف والشراسة فإن هذا الملك يحارب الروح باتجاه مضاد وهو التلون ومجاراة الناس والمداهنة لاقتناص النفس. الأول يقتل النفس بعنف والثاني يقتلها باللطف المخادع. لهذا يحثنا القدِّيس أغسطينوس أن نحذر الذئب حتى إن لاطفنا أو عانقنا، ولا نخشَ الحمامة حتى إن دخلت معنا في صراع إذ يقول: [الحمامة تحب حتى في صراعها، والذئب يبغض حتى وهو يعانق[284]]. لنقتل هذا الذئب (الشيطان) حتى في ملاطفته إيانا. عن هذا الملك المخادع يقول داود النبي: “أنعم من الزبدة فمه وقلبه قتال، ألين من الزيت كلماته وهي سيف مسلولة” (مز 55: 21).
رابعًا: الملك الثالث يدعى “صور” أي “صخر[285]“، هذا الذي يفقد الإنسان إنسانيته فيكون قلبًا قاسيًا كالصخرة. لهذا يقول الرب: “وأعطيكم قلبًا جديدًا وأجعل روحًا جديدة في داخلكم وأنزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم” (خر 36: 26). إنه يقتل الملك “صور” ليملك بروحه القدوس فيقيم قلبًا لحميًا ومملكة مملوءة حبًا عِوَض العنف والقسوة.
خامسًا: الملك الرابع هو حور، وهو اسم مصري في الغالب مشتق عن الإله حورس. وإن كان البعض يراه اسمًا أكاديًا يعني “طفل”. وهو يقاوم الإنسان لا كالملك السابق بتحجير قلبه وإنما يجعله كطفل يلهو في غير جدية. يمارس عبادته في استهتار واستهانة، ولا يتطلَّع إلى خلاص نفسه وأبديته برجولة ناضجة.
سادسًا: الملك الخامس وهو “رابع” ويعني “الرابع”، ربما يشير إلى الحياة الجسدانيّة الزمنيّة، إذ رقم (4) يشير إلى الأرض باتجاهاتها الأربعة. هذا هو الملك الشرير الذي يربط قلب الإنسان بالأرض فلا تقدر النفس أن تنطلق بجناحي الحمامة إلى الأعالي، بل تنجذب دومًا نحو أمور هذا العالم الزائلة.
هذا الذي قدم المشورة الشريرة لبالاق بإلقاء معثرة للشعب خلال النساء الشريرات… إنه يليق بنا إبادة كل مجال للعثرة!
- الغنائم:
ماذا فعل المنتصرون ببني مديان؟
أولاً: سبوا النساء وأطفالهن وجميع البهائم والمواشي وكل الممتلكات؛ كان ذلك عملاً رمزيًا للإنسان الغالب روحيًا فإنه يسبي الجسد “النساء” ليعمل لحساب الله في اتفاق مع النفس. أما الأطفال فيشيرون إلى الثمار، فعِوَض أن يكون الجسد بأعماله يخدم الشيطان يصير آلة برّ لله، مقدسًا وطاهرًا. أما البهائم وكل الممتلكات فتشير إلى الغرائز والطاقات… هذه التي كانت دنسة تصير مقدسة، وعِوَض أن تكون ثقلاً تصير معينًا لنا في عبادتنا لله.
إيماننا لا يحمل عداوة ضد الجسد ولا ضد أحاسيسه أو عواطفه أو أعماله أو طاقاته ومواهبه، إنما يحمل تحولاً جذريًا له بكل ممتلكاته وأعماله للعمل لحساب مملكة المسيح.
ثانيًا: حرق جميع المدن والحصون بالنار، إذ يغلب الإنسان روحيًا لا يستهين بالصغائر بل يحطم كل موضع فيه عثرة، قاطعًا كل جذور الخطيّة من قلبه، لكي لا يكون لعدو الخير حق الدخول إليه من جديد. إن كل تهاون في تنظيف القلب تمامًا من كل آثار الخطيّة يعطي لها حق الرجوع إلى موضعها في الوقت المناسب لها.
ثالثًا: أخذوا الغنيمة وجاءوا بها إلى موسى وألِعازار الكاهن وإلى الجماعة، “إلى المَحَلَّة، إلى عربات موآب التي على أردن أريحا” (ع 12).
قلنا أن هذه الغنائم تشير إلى تقديس الجسد بكل طاقاته فيتحوَّل من العداوة ضد الروح (غل 5: 17) ليصير بأعضائه “آلات برّ لله” (رو 6: 3)… لكن ما هو سرّ تقديسها؟
أ. جاءوا بالغنائم إلى موسى مستلم الشريعة إعلانًا عن أن الوصيّة أو كلمة الله هي سرّ تقديس الإنسان بكل أعضائه. “كلمة الله حيّة وفعالة…” (عب 4: 12)، يحفظها الإنسان في قلبه فتقدس كل ما له وتنزع عنه الخطيئة: “خبأت كلامك في قلبي لكيلا أخطيء إليك” (مز 119: 11). وجد فيها المرتل سرّ حياته الروحيّة، إذ يقول: “لصقت بالتراب نفسي فأحيني حسب كلمتك” (مز 119: 25)، أي لصقت نفسه بالجسد بكل شهواته وليس من يعين هذه النفس إلاَّ كلمة الله التي تهبه حياة من بعد الموت بالخطيّة.
ب. جاءوا بها إلى ألِعازار الكاهن إلى الجماعة إلى جوار الأردن. هنا إشارة إلى تقديس الجسد بكل طاقاته خلال مياه المعموديّة المقدسة، الأردن، بواسطة الكهنوت وسط الجماعة أي الكنيسة. ففي الجرن المقدس يحطم السيد المسيح إبليس ويعطي للإنسان إمكانيّة الحياة الجديدة، الحياة المُقامة معه (كو 4: 6).
- قتل الشريرات:
سخط موسى على رؤساء الألوف ورؤساء المئات الذين وإن كانوا قد غلبوا المديانيّين وجاءوا بغنائم كثيرة لكنهم احتفظوا بالنساء الشريرات اللواتي كن سبب عثرة للشعب، لهذا أمر بقتل كل امرأة قدَّمت جسدها للشرّ للشعب واعترته. وكأن موسى أراد ألاَّ يترك مجالاً للسقوط مرة أخرى باختفاء العثرة داخل الشعب. لقد قُتلت النساء الشريرات وأطفالهن الذين كانوا ثمرة النجاسة. وكأنه لم يُرد أن يترك أثرًا حتى لتذكار الشرّ حتى لا يعود إليه الإنسان من جديد.
- تطهير المعادن والثياب:
طلب ألِعازار رئيس الكهنة من الجند القادمين من المعركة أن يقدموا المعادن التي يمكن أن تجتاز النار مثل “الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والرصاص” (ع 22) لكي يُجيزونه في النار فيكون طاهرًا غير أنه يتطهر بماء النجاسة (الماء الذي يطهّر من النجاسة ع 19)، أما ما لا يدخل في النار فيُجيزونه في الماء. ورجال الحرب أنفسهم إذ لمسوا المديانيّين وقتلوهم يغسلون ثيابهم في اليوم السابع ليتطهروا وعندئذٍ يدخلون المَحَلَّة (ع 24).
نلاحظ في هذه الشريعة:
أولاً: صورة رمزيّة رائعة لجيش الله الروحي الذي غلب وانتصر على الخطيّة منطلقًا نحو المَحَلَّة الحقيقيّة، أورشليم “مسكن الله مع الناس” (رؤ 21: 3). إنهم ينطلقون نحو عريسهم ليستريحوا معه وفيه في أحضان أبيه القدوس وأعمالهم تتبعهم. يحملون معهم الذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير والرصاص، يحملون معهم ثيابهم وقد غسلوها وبيَّضوها في دم الخروف (رؤ 7: 14). ما هو هذا الذهب الذي اجتاز النار إلاَّ الحياة السماويّة التي انسكبت في حياة المجاهدين خلال الروح القدس الناري. وما هي الفضة إلاَّ الكرازة بكلمة الله التي صُفيت كما بنار سبع مرات (مز 12: 6) وهكذا يدخل المؤمنون إلى المَحَلَّة السماويّة يحملون أتعاب محبتهم، يقدمونها ثمرًا نفيسًا للعريس المتهلل بعروسه المقدسة فيه. أما الثياب المغتسلة بالدم فتشير إلى أجسادنا التي تقوم في يوم الرب العظيم وقد تقدست في دم المسيح لتشارك النفوس إكليلها الأبدي وأمجادها السماويّة.
ثانيًا: العجيب أن الشريعة حسبت هؤلاء المجاهدين الذين صارعوا مع الخطيّة وغلبوا أنهم في حالة نجاسة، يلزمهم أن تغتسل ثيابهم في اليوم السابع ليدخلوا المَحَلَّة. كأن الرب أراد أن يؤكد أن جميع المجاهدين- مهما بلغت قامتهم الروحيّة- يتعرّضون للضعف، وهم محتاجون إلى التستر في دم السيد المسيح المطهّر من كل خطيّة. إنهم وإن حُسبوا أبطالاً لكن دخولهم المَحَلَّة لن يكون قانونيًا إلاَّ خلال السيد المسيح الذي يطهّر البشريّة من كل نجاسة.
- توزيع الغنائم:
يُلاحظ في توزيع الغنائم الآتي:
أولاً: نصف الغنائم تُوزع على رجال الحرب (12.000) بينما النصف الآخر على بقية الشعب (أكثر من 600.000 رجل- 12.000)، وكأن رجل الحرب الغالب يأخذ أكثر من (50) ضعفًا مما يأخذ الإنسان العادي. هكذا يكلل الله المجاهدين الغالبين بامتيازات خاصة، إذ يقول الرب نفسه: “في بيت أبي منازل كثيرة” (يو 14: 2). ويقول الرسول بولس: “لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد” (1 كو 15: 41). وقد رأينا ذلك الأمر واضحًا حتى في تقسيم أرض الموعد (راجع تفسير عدد 26: 55).
ثانيًا: مع أن الغنائم وُزعت عليهم كمكافأة إلهيّة، لكن التزم الكل أن يقدم منها زكاة أو رفائع للرب (ع 28). فالمجاهدون الغالبون يقدمون نفسًا عن كل خمسمائة نفس، وحيوانًا عن كل خمسمائة حيوان، أما البقية فتقدم واحد عن كل خمسين. هكذا في نصرتنا ونحن نتقبل هبات إلهيّة نقدم له من هباته تقدمات حب له، علامة الحب المتبادل. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العطاء هنا تاكيد أن القيادة الحقيقيّة في هذه الحرب كانت للرب نفسه، هو الذي غلب بهم، فنقدم نصيبه في الغنيمة لكهنته وخدام بيته. هنا رقم (500)، ورقم (50) يُذكِّرنا بالمثل الذي قاله السيد المسيح عن الدائن الذي سامح المدينان، الأول عليه خمسمائة والثاني خمسون دينارًا (لو 7: 41-42)، فالأول يحب الدائن أكثر. هذان الرقمان كما سبق فقلنا[286] يشيران إلى الحريّة، حيث في سن الخمسين يتحرر اللاوي من خدمة المسكن المنظور ليستعد للمسكن غير المنظور، وفي يوم الخمسين حلّ الروح القدس ليهب البشريّة الحريّة من الخطيّة في استحقاقات الدم، وفي اليوبيل (السنة الخمسين) تتحرر الأرض ويتحرر العبيد ويتحرر الإنسان من كل دينونة الخ…
إذن ما يدفعه هؤلاء إنما يجعلهم أحرارًا في تصرفهم فيما تبقى لهم.
ثالثًا: شملت الغنائم أنفسًا بشريّة (نساء وأطفال) مع حيوانات إشارة إلى أسر كل فكر فينا إلى طاعة المسيح (2 كو 10: 5). ما كان تحت سلطان ملوك مديان يُنزع منهم ليصير تحت قيادة السيد المسيح نفسه.
رابعًا: أخذ موسى وألِعازار الذهب وأتيا به إلى خيمة الاجتماع تذكارًا للشعب أمام الرب (ع 54). إن كان الذهب يشير للحياة السماويّة فإنه وحده دون غيره من الغنائم يبقى في حضرة الرب، لأن كل ما هو ليس سماوي، حتى وإن كان عطيّة من قِبَل الله سينتهي أمام الفكر السماوي والحياة السماويّة التي تعمل فينا فهي تبقى لنا أمام الرب تشهد عن غلبتنا ونصرتنا لحسابه.