تفسير سفر الأمثال ١ للقمص تادرس يعقوب

القسم الأول

مشورات مقدمة للشباب

أمثال 1-9

مقدمة

يبدأ سفر الحكمة بأحاديث موجهة إلى الشباب، هؤلاء الذين يهتم بهم الله إذ عبروا من مرحلة الطفولة البسيطة وصاروا على أبواب الالتزام بمسئولية الحياة، لذلك يدعوهم الله لكي تمتزج حياتهم العملية بخبرتهم الحيّة مع خالقهم ومخلصهم. قيل: “أذكر خالقك في أيام شبابك”. وفي هذا السن أيضًا يوجه عدو الخير ضرباته لكي يفسد أحاسيسهم النامية وعواطفهم المقدسة، بل ويحطم نظرتهم إلى الحياة الأبدية.

  1. يكشف هذا السفر عن شوق الله إلى الشباب، فبينما تظهر الغباوة أو الجهالة أو الخطية كسيدة مزينة تُغوي بجمالها الظاهري وكلماتها المعسولة الشاب لكي تحتضنه فتهوى به إلى الجحيم، إذا بالله يرسل حكمته، كلمة الله الحيّ، ليُقدم ذاته هبة إلهية مجّانية للشاب. في حديث رمزي تظهر حكمة الله في شكل سيدة تدعو الشاب لكي يقتنيها فيقتني الفهم والمعرفة والتمييز مع الحياة الأبدية، ويدخل إلى وليمتها السماوية.

في هذا القسم تظهر الحكمة كسيدةٍ، وذلك لأن كلمة “حكمة” في العبرية اسم مؤنث. ترتبط النفس المقدسة بالحكمة، لذا يوصينا الحكيم: “قل للحكمة أنتِ أختي، وادع الفهم ذا قرابة” (4:7).

تظهر الحكمة كسيدة تدعو المؤمن للاقتراب منها لتقدسه، وتظهر الجهالة كزانية تدعو البشرية إليها لهلاكهم. 

  1. يُقدم هذا القسم مقابلات بين الحكمة والجهالة، وهي في الواقع مقابلة بين الصلاح والشر. يُقدم الصلاح بكونه الحكمة والأدب والفهم والعدل والحكم والاستقامة والمعرفة والتمييز والعلم والمشورات، لكن علي وجه الخصوص “الحكمة”، التي وردت 17مرة في هذا القسم من سفر الأمثال.
  2. إن كانت عبارة “رأس الحكمة مخافة الرب” (7:1) هي مفتاح هذا القسم بل مفتاح السفر كله، فقد وردت حرفيًا في مز10:111، وجاء اصحاح 28 من سفر أيوب في صلبه يحمل نفس المعني:

“أما الحكمة فأين توجد؟! وأين مكان الفهم؟!

لا يعرف الإنسان قيمتها، ولا توجد في أرض الأحياء.

الغمر يقول ليست فيَّ، والبحر يقول ليست عندي.

لا يُعطي ذهب خالص بدلها، ولا تُوزن فضة ثمنًا لها.

لا تُوزن بذهب أوفير أو بالجزع الكريم أو الياقوت الأزرق…

الله يفهم طريقها، وهو عالم بمكانها.

لأنه هو ينظر إلى أقاصي الأرض، تحت كل السماوات يري

ليجعل للريح وزنًا ويعاير المياه بمقياس،

لما جعل للمطر فريضة ومذهبًا للصواعق.

حينئذ رآها وأخبر بها، وأيضًا بحث عنها.

وقال للإنسان: هوذا مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم” (أي20:28-28).

رأس الحكمة مخافة الرب، وأما رأس الجهالة فهو اعتداد الشاب بذاته وعدم خضوعه بالطاعة للمشورة المقدسة في الرب. الموضوع الرئيسي لهذا القسم هو هذه المقابلة بين مخافة الرب وجنون الإرادة الذاتية التي تحتقر الحكمة الإلهية والتأديب حيث يظن الشخص في هذا تحطيمًا لإرادته وإهانة لشخصيته.

 يُعلن الكاتب بوضوح أن الله يطلب المخافة الربانية ليُقدس إرادة الإنسان، فيسلك حسبما خلقه الله، كائنًا محبوبًا لديه صاحب سلطان، يسلك بتدبير ونظام في علاقته بالله وبوالديه ومرشديه وكل ما حوله، حتى علاقته مع نفسه في داخله. لقد ركَّز على الطاعة للوالدين بكونها صورة حيّة لخضوع النفس لله نفسه، وتمتعها بأُبوة الله الذي يحتضنها بحبه.

  1. عالج هذا القسم الجانب الإيجابي الخاص ببركات التمتع بالحكمة الإلهية، والدخول إليها من باب مخافة الرب والطاعة للوالدين، كما عالج الجانب السلبي الخاص بخطيتين كثيرًا ما ينزلق فيهما الشاب، وهما: العنف والفساد.

فالإنسان الذي يفقد مخافة الرب يظن أنه يؤكد قوة شخصيته واستقلاليته باستخدامه للعنف وانغماسه في الشهوات الجسدية، ويرتبط الاثنان معًا. هذا ما شاهدناه في وقت الطوفان، إذ قيل أن الأرض قد فسدت أمام الله وامتلأت عُنفًا. وهذا أيضًا ما نلاحظه في العصر الحديث حيث تتزايد نسبة الجرائم في العالم جنبًا إلى جنب مع الانحلال الأخلاقي، وذلك تحت ستار الحرية الفردية، وأن الانحلال لا يضر أحدًا.

حقًا إننا في حاجة إلى سفر الأمثال كمرشدٍ إلهي يسندنا في إصلاح أعماقنا الداخلية ومفاهيمنا.

الأصحاح الأول
نداء الحكمة

يرى الملك سليمان أن أهم ما يجب أن نعرفه هو أنه يلزمنا أن نهاب الرب الذي يطلب أن يُقيم عهدًا مع الناس، نهابه كأبناء له. لذلك كثيرًا ما يربط سفر الأمثال بين الحكمة أو المعرفة الروحية ومخافة الرب؛ كل معرفة صادقة تنبع عن مخافة الرب، ومخافة الرب هي كمال المعرفة ومركزها.

في هذا الأصحاح أيضًا يُشار إلى العنف بكونه عصيانًا على الالتزامات التي تطلبها منا إرادة الله. لذلك تصرخ الحكمة بصوتٍ عالٍ لكي يُسمع صوتها، مُعلنة دينونة من يحتقر سبلها[21].

إنه السيد المسيح الذي يبسط يديه للخطاة ويدعوهم إلى خلاصهم ومجدهم، لكنهم إذ يُصرّون على رفضه يدينون أنفسهم، لأنهم رفضوا حكمة الله. إنه يدعو نفسه الحكمة. وهو مركز كل إعلانٍ إلهيٍ، هو حكمة الله التي بها ينطق الآب السماوي متحدثًا مع الناس.

 

العنوان 1

“أمثال سليمان بن داود ملك إسرائيل” [1].

ظهر اسم سليمان في ثلاثة أجزاء من هذا السفر (1:1؛ 1:10؛ 1:25). وقد تطلع المفسرون القدامى إلى السفر كله أنه من وضع سليمان الحكيم. ورد في 1مل32:4 “تكلم بثلاثة آلاف مثلٍ، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا”، ولا يزال بعض الدارسين يأخذون بهذا.

  كلمة “مثل” كما سبق فرأينا تعني في العبرية “يحكم” أو “يدير” الأمر، ويري البعض أنها تعني “تقديم الشيء أو الشخص بما يشبهه”. وكأنه السفر الذي فيه يقدم سليمان الحكيم الحياة الإيمانية كما يديرها الله فينا وبنا خلال الواقع العملي.

يذكر سليمان اسمه وانتسابه لوالده داود وصفته كملك إسرائيل، لكي يعلن شوقه أن نقتدي به فنصير أبناء سلام، ننتسب لابن داود الملك الحقيقي، ونصير به ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ8:1).

يُشير سليمان إلى نفسه في الآية 1 أنه الملك ابن داود. ونحن نتطلع إلى الحَكمة ذاته ابن داود، ملك الملوك، نقتنيه فنحمل الحكمة فينا.

V      إنه ابن حكيم لأب حكيم، لهذا أضاف اسم “داود”، الذي ولد سليمان. لقد تعلم من الطفولة الكتب المقدسة، ونال سلطانه ليس بالقرعة ولا بالعنف، ولكن بحكم الروح وبقرار إلهي[22].

القديس هيبوليتوس

غاية الحكمة 2-7

تخبرنا الآيات 2-6 لماذا كتب سليمان هذه الأمثال. وفي اختصار تسندنا هذه الأمثال لممارسة الحكمة عمليًا، فننعم بالنجاح الحقيقي والسعادة الدائمة. متى كان الشاب مهتمًا بحياته، يريد أن يسلك كما يليق، مُدركًا جهله الذاتي، مُشتاقًا إلى التعلم والتمتع بالمعرفة، عندئذ ينال المعرفة والفهم والتمييز.

اُستخدمت عشرة كلمات في الآيات 2-4 تبدو كأنها مترادفات. حتمًا توجد علاقة بينها، لكن تختلف هذه المرادفات الواحدة عن الأخرى، من بين هذه الكلمات:

أ. الحكمة chochmah: في الكتاب المقدس تعني “القدرة على استخدام المعرفة باستقامة“. اُستخدمت في هذا السفر وحده 37 مرة، وهي كلمة لها أهميتها في الكتاب المقدس. ربما الحكمة تعني ليس فقط العلم الإلهي الذي به يمكننا اكتشاف نهاية حياة الإنسان الفُضلى وكيف يمكننا البلوغ إليها بطرق لائقة، وإنما تعني التعليم السماوي الذي به نكتشف أنفسنا كما نتعرف على الله، فتوجهنا الحكمة إلى كل الحق، وتُشكل التدين الحقيقي بكامله[23]. فالحكمة تدخل بنا إلى المعرفة الحقّة والعملية، إذ يوجد أُناس كثيرون موهوبون ذكاءً خارقًا ولهم معرفة، لكن تنقصهم الحكمة، فيُسيئون استخدام المعرفة.

 الحكمة هو موضوع مدرسة الله وغايتها. والحكمة في العهد القديم تُعني يسوع المسيح بالنسبة للمؤمن المعاصر. “ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمةً من الله وبرًا وقداسة وفداءً” (1كو30:1).

إذ تتعرف على السيد المسيح ترفض اللهو بالجهالة والفساد، وتصير حكيمًا. وإذ تقبل السيد المسيح في حياتك تدخل في خبرات جديدة في المعرفة وتحسب بالحق حكيمًا[24].

ب. أدب musar instruction: تظهر 26 مرة في سفر الأمثال. المعنى اللغوي يعني التعليم أو الإصلاح بالتأديب كما جاء في (أم24:13) “من يمنع عصاه يمقت ابنه، ومن أحبه يطلب له التأديب” (راجع أم11:3؛ 15:22).

التأديب هنا للتعليم وليس للعقوبة والانتقام[25] (أف14:4؛ 2بط6:1). فالله في حبه للإنسان الخاطي يسلمه لثمرة أعماله إلى حين لا لينتقم منه، إنما ليختبر ما تقدمه الخطية من مرارة وموت، فيرجع إلى نفسه ويعود إلى الله مخلصه الذي ينتشله من الخطية، بهذا تُصلح النفس. هذا ما يجب أن نفعله نحن أيضًا كآباء أو قادة، أن نحمل روح الحب والبذل حتى مع من نؤدبه، فإنه للأسف أحيانًا يُلقى المجرمون في السجن لتهذيبهم، بينما نُعاقب أولادنا بغضبٍ وعنفٍ. نؤدب المجرمين لإصلاحهم، بينما نعاقب أولادنا كأننا ننتقم منهم. هذا نوع من التشويش وعدم اتساع قلبنا للأجيال الجديدة.

ج. المعرفة: هي معلومة صادقة ونافعة. اُستخدم الفعل “يعرف” حوالي ألف مرة في العهد القديم.

يؤكد الكتاب المقدس أن الإيمان لا يُضاد المعرفة، إذ يقدم الإيمان للإنسان ككائن عاقل يحرص على التمتع بالمعرفة الحقة. ويقول القديس اكليمنضس السكندري: “هنا توجد الملاحظات التي تشكّل غنوصيتنا (معرفتنا): أولاً التأمل، بعد ذلك إتمام الوصايا، وأخيرًا قيام الصالحين بالتعليم. عندما تتحقق هذه الأمور في شخصٍ ما يصير غنوصيًا (ذا معرفة)[26].”

د. الفهم: المؤمن الذي يقبل السيد المسيح “الحكمة” في حياته، ويتجاوب مع التأديب ينال فهمًا لخِطّة الله في حياته.

V      الفهم هو عين النفس، لذلك فإن كلمة “إسرائيل” معناها: “الذي يرى الله، أي ذاك الذي يفهم الله[27][28].

القديس اكليمنضس السكندري

هـ. العدل: وهو البرّ، ويعني السلوك باستقامة.

و. الحكم (الحق): تعني أن نصدر أحكامًا أو نأخذ قرارات حكيمة بكوننا أبناء الله نتمم إرادته. في كل يوم يقف المؤمن في مفترق الطرق ليأخذ قرارًا أين يسير في حياته. هذا يحتاج إلى عونٍ إلهيٍ وحكمةٍ سماويةٍ.

ز. الاستقامة equity: وتعني التكامل الروحي. هنا يُشير إلى مبدأ أكثر منه سلوك.

أولاد الله لا يخضعون لأحكام، بل تُوهب لهم مبادئ ترشدهم في الطريق. وكما جاء في رو22:14: “طوبى لمن لا يدين نفسه فيما يستحسنه”. فالمؤمن يحمل مشاعر قوية داخلية تقوده نحو الحق، وإن كان يُدرك أنه في مرات كثيرة يسير على قشر بيض[29]، فهو في حاجة إلى عون داخلي يقوده حتى لا يسقط.

ح. التدبير (التمييز): تعني التمييز بين الصالح والشرير، الثمين والتافه، النافع والضار. يلتحق المؤمنون بمدرسة الله لكي يصيروا أولاد الله الحكماء، والأبرار، والمكرمين.

“لمعرفة حكمة وأدب لإدراك أقوال الفهم” [2].

يبدأ بالمعرفة لتأكيد ارتباط الإيمان بالمعرفة؛ ثم يربط بين الحكمة والأدب، فإن كانت الحكمة هي مدرسة الله التي تترجم المعرفة الحقة إلى سلوكٍ مستقيمٍ (حكمة عملية)، فإنه لن يبلغ المؤمن ذلك بدون الانحناء لتأديبات الله التي تقَّوم النفس وتنمي الفهم. فالمؤمن يحتاج إلى تعليم وتدريب وتهذيب، بهذا ينال فهمًا صادقًا لخطة الله بالنسبة له.

V      أما عن الحكمة والأدب [2] قيل إن الحكمة هي علم كل الأمور البشرية والإلهية وعلاتها، لهذا من كان لاهوتيًا عاملاً يعرف الحكمة. “لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون، بل نتكلم بحكمة الله في سرّ. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا” (1كو6:2،7)[30].

القديس باسيليوس الكبير

“لقبول تأديب المعرفة والعدل والحق والاستقامة” [3].

هنا يوضح العبارة السابقة مؤكدًا أن غاية الحكمة هي قبول التأديب بفرح لنوال المعرفة المشبعة للقلب والفكر، والبرّ الذي هو السلوك بروح الاستقامة، واقتناء الحق والاستقامة.

هكذا يكشف الحكيم عن العلاقة الحية بين المعلم الإلهي والتلميذ المؤمن. فإن غاية المعلم ليس مجرد اقتناء سلوكٍ نبيلٍ، وإنما تمتع بالمعرفة والبرّ الإلهي والحق السماوي في حياة متكاملة مستقيمة تمس كيان المؤمن كله: قلبه وفكره وإرادته وأحاسيسه وكل تصرفاته الخفية والظاهرة. هي تمتع التلميذ بأيقونة معلمه الإلهي، الحكمة ذاته!

يرى القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن هذه العطايا الإلهية من معرفة وعدل وحق واستقامة تحول النفس إلى بستانٍ مملوءٍ ثمرًا روحيًا ، أو إلى عروسٍ تحمل جمال عريسها.

V      يا لبهجة هذا البستان الذي ثماره تمثل جمال العريس!

إنه هو النور الحقيقي، والحياة الحقيقية، والبرّ الحقيقي وما إلى ذلك كقول الحكمة.

عندما يصير للشخص هذه الصفات بأعمال صالحة، ينظر إلى عنقود (الفضائل الذي) لضميره، ويرى العريس هناك يعكس نور الحق بحياته الطاهرة[31].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

لتعطي الجهال ذكاء، والشاب معرفة وتدبيرًا” [4].

جاءت كلمة “تدبير” في العبرية في الجمع “تدابير“، وهي تستخدم بالنسبة لربان السفينة الذي يمسك بيده دفّة السفينة يحركها ويوجهها كما يشاء. هكذا بالحكمة يصير المؤمن قائدًا لأفكاره ومدبرًا لحياته الداخلية، يقود سفينة حياته بروح الله القدوس في الطريق الملوكي.

وتستخدم الكلمة أيضًا بالنسبة لرعاية الغنم، حيث يرعى الإنسان كل طاقاته وإمكانياته كقطيع غنم يسمع إليه.

يرى آدم كلارك أن كلمة “الجهال simple” تُستخدم في أكثر من معنى. فهي تعني البسطاء، هؤلاء الذين يسلكون بوضوح وانفتاح، والذين يُظهرون في الخارج ما هم عليه في الداخل. هنا البساطة تحمل معنى البراءة وعدم الخبث، وعدم أذية الغير. لكن إذ صار قلة قليلة جدًا من الناس يحملون هذه السمة أُسيء استخدام الكلمة، فتحولت إلى مفهوم الغباوة وعدم الحكمة وعدم الخبرة. هنا تُستخدم الكلمة بالمعنى الأخير[32].

يسمع الحكيم فيزداد علمًا، والفهيم يكتسب تدبيرًا” [5].

كُتبت هذه الأمثال ليس فقط للشباب وإنما أيضًا للحكماء، إذ يليق بهم أن ينموا في الحكمة بكونهم مستعدّين للتعليم. يليق بهم أن يكونوا راغبين في الاستماع وغير مكتفين بأنفسهم. فإنهم حتى في إرشادهم للغير يلزمهم أن يسمعوا ويتعلموا. وكما يقول القديس أمبروسيوس تحتاج البشرية كلها أن تتعلم، الله وحده يُعلِّم ولا يحتاج أن يتعلَّم.

الإنسان في اتضاع ينحني ليُنصت إلى صوت الحكمة، شاعرًا بالحاجة إلى النمو الدائم في المعرفة. بهذا يقول مع القديس بولس الرسول: “يتكلم بحكمة بين الكاملين” (1كو6:2). وكما يقول السيد المسيح أن الذي له يُعطى فيزداد، فالحكيم باشتياقه للتعلم يزداد حكمة، والجاهل برفضه التعلم يزداد جهلاً وغباوةً.

“لفهم المثل واللغز أقوال الحكماء وغوامضهم” [6].

إن كانت الحكمة تنادي على المرتفعات وتنزل إلى الأسواق لتُقدم دعوة الخلاص المجانية في بساطة لكل إنسانٍ، فإنها تحتفظ ببعض الأسرار المخفية، تقدمها هدية للجادين في البحث عنها وطلبها من الله.

الله لا يبعثر اللآلئ على الأرض، والجواهر الثمينة يخفيها عن أعين البشر لكي يطلبوها فيجدوها. الذهب واللآلئ وكل ما هو ثمين يُبحث عنه في المناجم وأعماق الأرض، والبترول يُستخرج من الأعماق. هكذا يخفي الله أسراره لنُدرك أنها تستحق البحث عنها بالدراسة مع الصلاة. وكما يقول السيد المسيح: “فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكن حياة فيها[33]”.

دعوة سفر الأمثال لنا اليوم: أحفر! ادرس بعمق لكي تُعلن لله اشتياقك الجاد في التمتع بعطية الحكمة والفهم، فيكشف لك أسرار كلمته”.

ماذا يعني بالغوامض (chidoth) dark sayings؟ يعتقد البعض أنه يقصد بذلك الأمثال parables التي قدمها ربنا يسوع المسيح.

بعد أن استعرض غاية الحكمة، قدم لنا شعار السفر كله وهو:

مخافة الرب رأس المعرفة، أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب” [7].

هذه الآية هي مفتاح السفر. وقد سبق أن أشرت إلى معنى “مخافة الرب”.

توجد هنا مقابلة بين مخافة الرب التي تحث المؤمن على التعلم، والجهالة التي لا تريد التعلم من الحكمة بل ترفضها كما ترفض الأدب.

الأساس الأول الذي يجب أن يوضع لإقامة البناء الروحي هو مخافة الرب. أما ما يحطمه فهو جنون الاعتماد على الإرادة الذاتية وعدم الرغبة في التعلم مع العصيان ورفض كل مشورة وكل تأديب. فبجانب معرفة ما هو صالح وما هو شرير، الأمر الذي تحققه مخافة الرب يلزم الخضوع للنظام الذي وضعه الله بضبط الإرادة وتقديسها بالخضوع للوالدين والقادة الحقيقيين والمشيرين.

ما هي العلاقة بين مخافة الرب والحكمة الحقة؟

أما يوجد بين الملحدين أو على الأقل منكري الإيمان من بلغوا درجات عالية من المعرفة؟ إننا لا ننكر أن بعضًا من الذين يتجاهلون وجود الله، بل ويُجدفون على اسمه، ويحتقرون كلمته، لهم معرفة عالية بكثير من اللغات، أو لهم باع في المعرفة العلمية أو نالوا درجات علمية في الفلسفة أو السياسة أو التاريخ الخ. هذه المعرفة قد تكون نافعة وأحيانًا تضر إن دفعت الإنسان إلى الكبرياء والتشامخ حتى على الخالق نفسه. أما المخافة الحقة فتسند الإنسان في علاقته بالله وباخوته، بل وحتى بجسده ونفسه، كما تفتح أمامه أبواب الرجاء في السماويات، فيعيش بروح الفرح والتهليل، بهذا يُحسب الإنسان حكيمًا حقيقيًا.

V      إن كان القانون يجلب خوفًا، فإن معرفة القانون هي بدء الحكمة، فالإنسان لا يكون حكيمًا بدون القانون. فمن يحتقر القانون غير حكيم وبالتالي يحسب شريرًا[34].

القديس اكليمنضس السكندري

V      الشخص المتعجرف والغضوب يصير فريسة لأهوائه المتلاحقة بسبب فقدان الحكمة، لهذا يقول النبي: “ليست في جسدي صحة، جراحاتي فاحت وأنتنت بجهلي” (مز3:38،4)، مُظهرًا أن كل الخطايا تبدأ بالجهالة. هكذا الإنسان الفاضل الذي له مخافة الرب يفهم أكثر من غيره، وكما يقول الحكيم: “مخافة الرب بدء الحكمة” [7]. فإن كان من يخاف الرب ينال حكمة، والشرير ليس له هذه المخافة، لذا فهو محروم من الحكمة الحقيقية. وإذ يفقد ما يُدعى بالحكمة الحقة يصير أكثر جهالة من غيره. ومع هذا يُعجب الكثيرون بالأشرار ظانين أنهم قادرون أن يظلموا ويضروا الغير، ولم يعرفوا أن هؤلاء بالحق يجب أن نحسبهم أشقياء أكثر من كل البشر، هؤلاء الذين إذ يظنون أنهم يضرّون الغير يضربون بالسيف ذواتهم. هذا عمل غاية في الجهالة، أن يضرب إنسان نفسه وهو ولا يدري، ظانًا أن يؤذي الغير بينما هو يقتل نفسه[35].

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      “مخافة الرب بدء الحكمة“، الشعور بالخطية يقود إلى التوبة، ويهب الله حنوه على التائبين.

القديس إيرينيؤس

V      يقول (الفلاسفة) أنه يلزم ألا يُخاف من الله، ففي نظرهم كل الأشياء حرة وبلا ضابط يحكمها.

لماذا لا يُخاف من الله إلا لأنه غير موجود؟

إن كان الله غير موجود فالحق أيضًا لا يوجد…

لكن حيث يوجد الله توجد مخافة الله التي هي بدء الحكمة.

وحيث توجد مخافة الله تكون هناك الجدية، والاجتهاد المكرم المتزن، مع حرص بحذر، وارتباط معتبر (بالخدمة المقدسة)، وشركة معًا مملوءة أمانًا، تقدم خدمة صالحة، وخضوعًا (للسلطة)، وإنصاتًا تقويًا، وجريًا متضعًا، وكنيسة متحدة، ويكون الله في كل شيء[36].

العلامة ترتليان

يرى كثير من الآباء حاجة المؤمن، خاصة في بدء الطريق إلى المخافة الربانية، فهي قائد الجسد والنفس مع الفكر وكل الطاقات للسلوك في الطريق الملوكي، والعبور بالشخص إلى الحضرة الإلهية، والتمتع بالشركة الحية مع الله. لهذا يحذرنا القديس غريغوريوس النزينزي من البدء في حياتنا الروحية بالتأمل في الإلهيات دون الالتزام بالمخافة.

V      يليق بنا ألا نبدأ بالتأمل ونترك المخافة (لأن التأمل دون ضابط ربما يدفعنا نحو التهور)، لكن يلزمنا أن نتأسس ونتنقى ونصير بالخوف خفيفين، فنرتفع إلى الأعالي. فإنه حيث يوجد الخوف تُحفظ الوصايا، وحيث تُحفظ الوصايا تُوجد طهارة الجسد الذي هو السحابة التي تغطي النفس وتحجب عنها رؤية الشعاع الإلهي. وحيث تُوجد الطهارة تكون الاستنارة، وحيث تُوجد الاستنارة تُشبع رغبات المشتاقين إلى الأمور العظيمة، وإلى أعظم الأمور، أي الله الذي يفوق كل عظمة[37].

القديس غريغوريوس النزينزي

إن كان سفر المزامير قد دعي في العبرية “تهاليم” أي “التهليلات”، لأنه سفر النفس المتهللة بالرب حتى في وسط آلامها وأحزانها، لهذا كثيرًا ما يتكرر فيه تعبير “مخافة الرب”. إذ يرتبط خوف الرب بالهتاف المفرح فيقول المرتل: “اعبدوا الرب بخوفٍ، واهتفوا برعدةٍ” (مز11:2). وفي المزمور 11:115 يُدعى المؤمنون الحقيقيون خائفي الرب: “يا خائفي الرب اتكلوا على الرب”؛ وقيل عن السيد المسيح نفسه كلمة الله المتجسد “ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوة، روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب” (إش2:11،3). وكأن النبي يدعونا أن نشترك في هذه السمة باتحادنا بالكلمة، فنحمل روح مخافة الرب بلذة وفرح. 

أما الجاهلون فيحتقرون الحكمة والأدب” [7].

كلمة “الجهال” تعني الأشرار، أي الأشرار في قلوبهم وفي أفكارهم وفي طرقهم، هؤلاء الذين يعتمدون على إرادتهم الذاتية، وهم متحجرون لا يريدون أن يصغوا إلى أية نصيحة. وكما أن الحكيم يريد أن يتعلم بشغفٍ، فإن الجاهل أيضًا هو ذاك الذي لا يطيق أن يسمع إرشادًا يقوده نحو النجاح والسعادة الحقيقية.

تحذير من الارتباط بالجماعات المخربة gangs 8-19

 

اسمع يا ابني تأديب أبيك، ولا ترفض شريعة أمك” [8].

توجه الأصحاحات السبعة إلى: “ابني“. هذا التعبير الذي اُستخدم حوالي 15 مرة. إذ نستمع في هذه الأصحاحات إلى ضربات قلب والدٍ يود لابنه أفضل حياة. إنه صوت الأب الروحي، كما هو صوت الوالدين، أي صوت الكنيسة وصوت كنيسة الأسرة.

يليق بنا أن ندرك أن العلاقة بين المعلم الحقيقي وتلميذه هي علاقة أبٍ بابنه. فالتعليم في الكنيسة الأولى هو عمل أسقفي، أو عمل أبوي. التعليم ليس مجرد تقديم لعقائدٍ وتعاليمٍ، بل هو تقديم خبرة حية للحياة الجديدة في المسيح يسوع، يختبرها التلاميذ مع آبائهم.

لقد دُعي إبراهيم واسحق ويعقوب “آباء” (بطاركة)، أو آباء إسرائيل (تك24:1 LXX، خر13:3؛ تث8:1؛ أع13:3؛ 2:7،12؛ رو12:4،16؛ 2بط4:3). وبحسب التقليد اليهودي كان اللقب الرسمي للكتبة هو “أب”. وفي كنيسة العهد الجديد كان اليهود والوثنيون عند استشهاد القديس بوليكربوس أسقف سميرنا يصرخون: “هذا هو أب المسيحيين[38]”. وعندما أشار البابا أثناسيوس الرسولي إلى القديسين ديونسيوس السكندري وديونسيوس الروماني وغيرهما استخدم كلمة “الآباء[39]”.

كان التعليم والتلمذة لا ينفصلان عن بعضهما البعض. خلال الأبوة الصادقة كان الأساقفة والكهنة يتطلعون إلى التعليم ليس ثمرة لعقائد نظرية، بل هو ثمرة لمحبتهم الأبوية، حيث يرددون كلمات القديس بولس: “لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” 1كو15:4[40].

V      عندما يتعلم شخص من فم آخر، يُقال عنه أنه ابن ذاك الذي يعلمه، ويُدعى الآخر والده[41].

القديس إيرينيؤس

V      الكلام هو ابن للنفس، لذلك ندعو الذين يعلموننا آباءنا[42].

القديس اكليمنضس السكندري

يشير هنا إلى الوالدين، وليس إلى الأب وحده. فقد قامت الأمهات والجدات بدورٍ رئيسي في كل عصرٍ حتى عصرنا الحاضر. كثير من عظماء الرجال تمتعوا بغنى البركات التي تعلموها من ركب أمهاتهم. من بين هؤلاء الأمهات والجدات العظيمات حنة وزوجة منوح وأم ليموئيل ولوئيس وافنيكي والأم دولاجي والقديسة رفقة والقديسة مونيكا.

ليس فقط يليق بالأبناء أن يُكرموا والديهم، وإنما يليق بالآباء أيضًا أن يُدركوا مسئوليتهم نحو تعليم أبنائهم وتدريبهم. يُفترض في الوالدين أن يكون لهما مخافة الرب، قادرين على تقديم أفضل نصيحة لأبنائهم، وأن يُقدما لهم مثالاً دقيقًا للحياة التقوية. فإن نصيحة الوالدين تكون باطلة إن كان سلوكهما غير مستقيمٍ.

عادة يُقدم الأب تعليمات ويوقع التأديبات لكنه غير موجود دائمًا في وسط الأسرة بسبب العمل، أما الأم فغالبًا ما تكون داخل الأبواب، لذلك فإن نظام الأسرة يرتبط بها، وهي التي تقدم لأبنائها الشريعة.

لأنهما إكليل نعمة لرأسك وقلائد لعنقك” [9].

جاءت هذه العبارة في الترجمة السبعينية: “فتنال إكليل نعم لرأسك، وقلائد عنقك”(LXX)

الاحترام والطاعة البنوية يخلقان كرامة ومجدًا وجمالاً روحيًا في حياة الابن الحكيم. تهب الطاعة زينة النعمة لرأسه إكليلاً وتاجًا وقلائد ذهبية ولآلئ.

كان أولاد النبلاء والأشراف يضعون قلادة حول أعناقهم لتمييزهم عن بقية الشعب. وهنا يوجه سفر الأمثال أنظارنا إلى أن من يستمع إلى أبيه ويقبل تأديباته يصير نبيلاً من النبلاء.

V      يُصنع الإكليل أيضًا من مادة عجيبة… من مراحم الله الحانية، إذ يقول المرتل”: باركي يا نفسي الرب، الذي يتوجك بالمراحم والرأفات” (مز2:103،4).

ويُصنع أيضًا من المجد: “بالمجد والكرامة توجته” (مز6:8)؛ “بالبركة تكللنا بتُرسٍ” (مز12:5 LXX).

وأيضًا من النعمة: “تنال إكليل نعمة على رأسك” (أم9:1 LXX).

انظروا هذا التاج من بين أكاليل كثيرة يفوق غيره في النعمة[43].

القديس يوحنا الذهبي الفم

في سفر نشيد الأناشيد نرى العروس قد تزين عنقها بقلائد الطاعة والخدمة للآخرين فقيل عنها: “ما أجمل خديك بسموطٍ (كحمامة) وعنقك بقلائد” (نش9:1). عنق الإنسان بغير زينة غالًبا ما يشير إلى غلاظة الطبع البشري، أما إذا تزين بمواهب الروح القدس فيصير رمزًا للجمال الروحي والرقة في احتمال الآخرين… هذه هي القلائد الكنسية (الكردان أو العقد). فقد كان عنقنا يحمل عارًا وخزيًا بسبب عصياننا وكبريائنا ، أما الآن فيحمل نير المسيح، ويقبل طاعته، فصار يحمل الجمال الروحي الفائق[44].

V      “ما أجمل خديك كخدي حمامة، وعنقك بقلائد”  (نش9:1)…

لنفسر عنق العروس… أنها تشير إلى النفوس التي قبلت نير المسيح القائل: “احملوا نيري عليكم… لأن نيري حلو”(راجع مت29:11،30).

دٌعي”عنقا” من أجل طاعتها.

وقد صار عنقها جميلاً كما بقلائد، وبالحق هو هكذا.

فإن كان العصيان الذي للتعدي جعله قبلاً معيبًا، فإن طاعة الإيمان جعلته الآن جميلاً ورائعًا…

دُعي الخضوع والطاعة عنقًا، لأنه يُقال عن العنق أنه يقبل نير المسيح ويقدم طاعة الإيمان خزينة.

عنقها، أي طاعتها، هي المسيح. لأنه هو نفسه أولاً أطاع حتى الموت (في 8:2)، وكما بعصيان إنسانٍ واحدٍ، أي آدم، صار كثيرون خطاة، هكذا بطاعة واحدٍ، أي المسيح، يصير كثيرون أبرارًا (رو19:5).

هكذا فان زينة الكنيسة وقلادتها هي طاعة المسيح[45].

العلامة أوريجينوس

يا ابني إن تملقك الخطاة فلا ترضَ” [10].

تشير الآيات 10-19 إلى أن الحياة مملوءة بالإغراءات. هنا نلاحظ جماعات (العصابات) الخاصة بالشباب في زوايا الطرق تدعو شابًا ليشترك معهم في سرقة مسلحة. فإن الأشرار متحمسون لخداع الآخرين حتى يسلكوا الطريق المدمر. يحب الخطاة الصحبة في الخطية، ولهم أسلوبهم المغري جدًا. لذلك يليق بالشباب أن يكونوا حذرين للغاية.

يقول: “لا ترضَ“. إنهم لا يستطيعون أن يسببوا لك ضررًا ما لم ترتبط بهم بكامل إرادتك. فإن غاية الله السرمدية بالنسبة للإنسان أن يمارس حرية إرادته، أو بالأحرى الإرادة التي هي أساسًا حرة لا يمكن لقوةٍ ما أن تُلزمها بأمرٍ ما. فالشيطان نفسه لا يقدر أن يقود إنسانًا ما إلى الخطية ما لم يوافق الإنسان على ذلك. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إنه لا يقدر أحد أن يؤذي إنسانًا ما لم يوذِ الإنسان نفسه.

إن قالوا: هلم معنا لنكمن للدم، لنختفِ للبريء باطلاً” [11].

هذا هو أسلوب الأشرار في كل العصور، وهو دعوة الآخرين للاشتراك معهم في ممارستهم للشر ضد الأبرياء. يجدون لذتهم لا في اضطهاد الأتقياء فحسب، بل وفي اشراك الكثيرين معهم في هذا العنف.

ينطبق هذا القول على الشعب اليهودي الذي كرَّس كل طاقاته، خاصة على مستوى القيادات الدينية لقتل السيد المسيح البريء الذي بلا خطية وحده. لقد أرادوا قتله واغتنام ممتلكاته، أي الكنيسة، لا لكي يغتنوا بها، بل ليُحطموها.

V      لقد فهم (الحكيم) هذه الأمور عن شعب اليهود، وجريمتهم الخاصة بسفك دم المسيح، إذ ظنوا أن مواطنته هي على الأرض فقط[46].

القديس هيبوليتس

V      ما نقرأه في الأمثال عن الأشرار القائلين: “لنختفِ للبريء…” ليس بالأمر الغامض الذي لا يُفهم. فإنه لا يحتاج إلى جهد في تفسيره إذ ينطبق على المسيح وما يمتلكه، أي الكنيسة. حقًا جاء المثال الوارد في الإنجيل عن الكرَّامين الأشرار يُظهر أن ربنا يسوع المسيح نفسه قال ما يشبه ذلك: “هذا هو الوارث، هلموا نقتله ونأخذ ميراثه” (مت38:21)[47].

القديس أغسطينوس

V      اقبل نصيحتي يا صديقي وكن متباطئًا في صنع الشر ومسرعًا في خلاصك. فإن الاستعداد للشر والتباطؤ في عمل الخير كليهما متساويان في الرداءة.

إن دُعيت إلى التمرد لا تُسرع إلى ذلك.

وإن كان إلى الارتداد فأقفز هاربًا.

إن قال لك صحبة الأشرار: “هلم معنا لنكمن للدم، لنختفِ للبرئ باطلاً” [11]، لا تمل إليهم حتى بأذنيك.

بهذا تنال مكسبين عظيمين: يعرف الآخر خطيته، وتُسْلِم نفسك من صحبة الأشرار.

إن كان داود العظيم يقول لك: “هلم نفرح في الرب”، أو نبي آخر يقول: “هلم نصعد إلى جبل الرب”، أو الرب مخلصنا نفسه يقول: “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”، أو “قم، اذهب فتُشرق بالبهاء وتتلألأ أكثر من الثلج، وأكثر بياضًا من اللبن وتُضيء أكثر من الياقوت الأزرق”، ليتنا لا نُقاوم ولا نتأخر[48].

القديس غريغوريوس النزينزي

لنبتلعهم أحياء كالهاوية،

وصحاحًا كالهابطين في الجب،

فنجد كل قنية فاخرة نملأ بيوتنا غنيمة” [12،13].

 إنهم “يسرعون كالموت، حيث تنشق الأرض وتبتلعهم فجأة”.

يبدو أنه يشير هنا إلى دمار مدينة بأكملها، كأن الأشرار يقولون: “لنُهلِك الرجل والمرأة والطفل، وعندئذ نمد أيدينا ونحمل كل ممتلكاتهم فننال غنيمة عظيمة”.

تشَّبه الجماعات المخربة نفسها بالأرض التي انشقت لتبتلع قورح وجماعته الذين قدموا نارًا غريبة (عد30:16، 33)، أو ما قيل بالمزمور: “ليبغتهم الموت، لينحدروا إلى الهاوية أحياء، لأن في مساكنهم في وسطهم شرورًا” (مز15:55). هكذا يبتلعون كل شخص يقبل مشورتهم مقدمين نارًا غريبة عن الله، فعوض نار الحب الإلهي يوقدون نار الشر والعنف.

لعله يشير هنا إلى الجماعات المخربة كقبور تنفتح علي الدوام لتبتلع النفوس الميتة بالشر دون أن تشبع! لهذا يليق بنا أن نصرخ مع المرتل: “إليك يا رب أصرخ يا صخرتي، لا تتصامم من جهتي لئلا تسكت عني، فأشبه الهابطين في الجب” (مز1:28). “بين الأموات فراشي، مثل القتلى المضطجعين في القبر الذين لا تذكرهم بعد، وهم من يدك انقطعوا” (مز5:88). أنهم يريدون أن يكون نصيبه مع إبليس الذي قيل عنه: “وأما أنت فقد طُرحت من قبرك كغصن أشنع، كلباس القتلى المضروبين بالسيف، الهابطين إلى حجارة الجب كجثة مدوسة” (إش19:14).

إنهم لن يشيروا قط إلى النتائج السلبية لجرائمهم، بل بالأحرى يقدمون ما يبدو مكافآت ومزايا. هذا هو طريق الخطية المغري. يُبرز الشيطان ما يبدو حسنًا، ويترك الجانب المُظلم بقبحه مخفيًا، يُكتشف بعد فوات الأوان.

تُلقى قرعتك وسطنا،

يكون لنا جميعًا كيس واحد” [14].

كيف يلقون قرعته وسطهم ليعرف نصيبه، وفي نفس الوقت لهم جميعًا كيس واحد؟ في بساطة يؤكدون له أمرين، الأول أنه سيكون كواحدٍ منهم، لا يظلمونه في شئ، إنما ينال نصيبه بالقرعة مثلهم. وفي نفس الوقت لن يُترك معتازًا إلى شيء حيث لهم كيس واحد، يأخذ كل منهم حسب احتياجه.

يا ابني لا تسلك في الطرق معهم،

امنع رجلك عن مسلكهم” [15].

تشير هذه الآية إلى طريقين أو سبيلين، وهذا يذكرنا بطريقي الحياة كما جاء في مزمور 1، طريق الأبرار الذي يعرفه الرب ويحبه، وطريق الأشرار الذي يقود إلى الهاوية.

بعد وصفه لإغراءات الأشرار المستمرة، يقدم الحكيم لابنه مشورة صالحة وتحذيرًا معطيًا لذلك ثلاثة أسباب.

  • أما السبب الأول لتحذيره فهو:

لأن أرجلهم تجري إلى الشر وتسرع إلى سفك الدم” [16].

كلماته هنا تحمل نغمة السرعة. فالفعلان “تجري وتسرع” يضربان ناقوس “الطوارئ”. وقد استخدم إشعياء النبي في 7:59 نفس التعبيرين عند وصفه للأشرار: “أرجلهم إلى الشر تجري وتسرع إلى سفك الدم”. وهكذا أيضًا القديس بولس في رو15:3 “أرجلهم سريعة إلى سفك الدم”.

  • والسبب الثاني لتحذيره هو:

لأنه باطلاً تُنصب الشبكة في عيني كل ذي جناحٍ” [17].

يستخدم سليمان الحكيم هذا المثل بمعنى خاص. فإن الأشرار يترصدون خفية لاصطياد الأبرياء. بهذا وحده يأملون في تحطيمهم والاستيلاء عليهم، لأنه إن عُرفت خططهم، سيتخذ الأبرياء حظرهم منهم. إذ باطلاً تُنشر الشباك أمام أعين الطيور التي يريد الإنسان أن يقتنصها.

  • والسبب الثالث لتحذيره هو:

أما هم فيكمنون لدم أنفسهم، يختفون لأنفسهم” [18].

يحصد الأشرار ما يزرعونه. الكامنون يكمنون لأنفسهم حيث يسقطون في الفخ. ومن يهاجمون في أماكن مختفية إنما يهاجمون أنفسهم. الخطط الشريرة تنفجر وتحمل أخبارًا شريرة للمجرمين، أما الأخبار الصالحة فتُقدم لمن يقاوم هذه الأعمال.

هكذا طرق كل مولعٍ بكسبٍ، يأخذ نفس مقتنيه” [19].

يحذرنا سليمان الحكيم من محاولة الاغتناء بواسطة العنف أو الخداع. فإن الطمع هو خطية كل ساعة.

V      إنك مسبي لأموالك وعبد لها، إنك مقيد بسلاسل الطمع ورباطاته، أنت الذي حلك المسيح مرة، صرت في قيود أشد. أنت تحتفظ بمالك، هذا الذي إذ تحفظه لا يحفظك[49].

الشهيد كبريانوس

في اختصار يقدم لنا الحكيم صورة للصَديق الشرير تتلخص في النقاط التالية:

  1. متملق يغري صديقه [10]: يبدو من الخارج رقيقًا، لكنه في الداخل يقدم سمًا.
  2. في داخله عنف: “لنكمن في الدم” [11].
  3. يخطط [12].
  4. طماع [13].
  5. يقيم فخًا لنفسه وهو لا يدري.

نداء الحكمة 20 -30

في أمثال20:1، 1:8؛ 3:9 تقدم الحكمة دعوة. وكأن كلاً من الحكمة والجهل يطلبان لهما أتباعًا، ولكن بصفة عامة نرى الحكمة تقدم نداءها علانية في الشوارع، وميادين المدينة ومداخلها، أما الجهل والميل إلى الشر فهما مخفيان وسرّيان. تقف الحكمة لتنادي بصوتٍ عالٍ في مناطق استراتيجية هامة حتى يسمع الكل صوتها.

الحكمة تنادي في الخارج، في الشوارع تُعطي صوتها” [20].

هنا تظهر الحكمة كشخصٍ، وصوتها يقف في مضادة لصوت الأشرار المخادعين، هؤلاء الذين سبق الإشارة إليهم في الآيات [10-19]. يُسمع هذا الصوت في كل موضع، في الأماكن العامة والخاصة، في الشوارع كما في الحجرة الخاصة.

تدعو في رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب،

في المدينة تبدي كلامها، قائلة:

إلى متى أيها الجهال تحبون الجهل والمستهزئون يُسرّون بالاستهزاء،

والحمقى يبغضون العلم” [21-22].

كثيرًا ما يشتكي الإنسان أن الله يتحدث إليه وهو في سمواته، لا يشعر بالضعف البشري ولا يلمس الحياة علي الأرض. لكننا هنا نجد حكمة الله تنزل إلى رؤوس الأسواق في مداخل الأبواب حيث يمارس البشر علاقاتهم الاجتماعية. فعند مداخل أبواب المدينة اعتاد القادة أن يجتمعوا للقضاء (23:31؛ را 11:4؛ أي7:29)، وفي رؤوس الأسواق يجتمع التجار والشعب معًا للمعاملات التجارية. وكأن حكمة الله تلتقي بالبشر في واقع الحياة، في مجالس القضاء كما في الأسواق، لتقودهم إلى الحق العملي. حكمة الله المتجسد، يسوع المسيح ، نزل إلينا، وحلّ بيننا كواحدٍ منا.

إذ أظهر سليمان الحكيم مدى خطورة الاستماع إلى صوت إبليس، يُعلن هنا عن خطورة عدم الاستماع إلى نداءات المسيح بكونه حكمة الله.

يُشير سفر الحكمة إلى أربعة أنواع من الجهال، سبق لنا الحديث عنهم في المقدمة (ص 20،21) وها هنا يدعو السيد المسيح ثلاثة منهم:

  1. البسطاء أو الجهال pethayim، هؤلاء لا يستطيعون أن يميزوا بدقة بين الحق والباطل، لأنهم فاقدون القدرة على التمييز. يمكن بسهولة خداعهم لأنهم سذج، ويسهل التأثير عليهم في الأمور الصالحة كما في الشريرة.
  2. المستهزئون: أناس متكبرون وساخرون، يحولون كل شيء إلى هزل. يضحكون على الحكمة، ويستخفون بمشورتها. ليس في نظرهم شيء ما مقدسًا أو جادًا. عندما يحذرهم أحد مما يرتكبونه من شر يقولون: “هذا لن يحدث لنا”.
  3. الحمقى: يبغضون التعلم، ويحملون كراهية دفينة للتقوى. بإرادتهم يجهلون الحكمة، ويعيشون حسب هواهم. إنهم لا يبالون في أي شيء إن كان صالحًا أو شريرًا. كل ما يهمهم هو: “ماذا ينفعني في هذا الأمر؟”
  4. المتمردون: يكرهون الحكمة حتى يمكن القول بأنهم غير مؤمنين وثائرون.

ارجعوا عند توبيخي.

هأنذا أفيض لكم روحين،

أعلمكم كلماتي” [23].

عبارة “ارجعوا عند توبيخي” يُمكن فهمها بطريقتين.

الأولى ربما تعني: حيث أنكم لا تريدون أن تصغوا إلى دعوتي، ارجعوا الآن وأصغوا إلى توبيخي. إني أسكب روحي عليكم لتكتشفوا حكمي الذي يحل عليكم.

والمعنى الثاني هو: ارجعوا وتوبوا عند توبيخي. إني أسكب روحي عليكم ليعينكم في توبتكم.

لأني دعوت فأبيتم،

ومددت يدي وليس من يبالي” [24].

بل رفضتم كل مشورتي ولم ترضوا توبيخي” [25].

إنها لكارثة أن الله يريدنا أن نكون حكماء ونحن لا نريد. رفض الإنسان للحكمة الإلهية يجعل منه شخصًا عنيدًا، بل ويصير كما لو كان كائنًا غير عاقلٍ. في القديم رفض إسرائيل الله (إش4:1؛ 24:5)، وفي العهد الجديد رفضوا المخلص (مت37:23). إنه يبسط يديه على الدوام (إش 65:2).

فأنا أيضًا أضحك عند بليتكم،

أشمت عند مجيء خوفكم” [26].

إذا جاء خوفكم كعاصفة،

وأتت بليتكم كالزوبعة، إذا جاءت عليكم شدة وضيق” [27].

تبدو أن هذه الكلمات وما تليها تخص أولئك الذين سبق وصفهم في العبارات 10-19، هؤلاء الذين يرفضون التراجع عن طرقهم الشريرة حتى يسقطوا في قبضة العدالة الإلهية.

لا يحمل الضحك هنا أثرًا للقسوة أو الانتقام، إنما هو لغة رمزية تكشف عن غباوة الإنسان الذي يسخر بالله القدير فيكون كحشرة تسخر بلهيب النار.

إنهم صاروا على أبواب الدخول في المعاناة من متطلبات الشريعة. يلزم أن يموتوا، لأن جرائمهم صارت ضدهم، والعدالة تتركهم بين يديْ آثامهم التي لا تعرف الرحمة. يصير خرابهم كعاصفةٍ، كهبوب ريحٍ مقاومٍ.

حقًا إن محبة المسيح والوعود الإلهية الممتزجة معًا مع توبيخاته يجب أن تكون موضع انشغال كل أحدٍ.

الآن يعيش الخطاة في الحياة السهلة، لكن كارثتهم قادمة. الآن الله مستعد أن يستمع إلى صلواتهم، لكنهم فيما بعد يصرخون باطلاً. هل لازلنا نحتقر الحكمة؟ لننصت باجتهاد ولنطع ربنا يسوع المسيح حتى ننعم بالسلام والثقة في الله، نتحرر من الشر في هذه الحياة وننعم بالمجد الأبدي.

حينئذ يدعونني فلا استجيب،

يبكرون إليّ فلا يجدونني” [28].

V      كثيرون يدعونه لكن ليس في الحق[50].

القديس أغسطينوس

إن كان الله محب للخطاة، إنما لأجل توبتهم وتقديسهم ومجدهم برجوعهم إليه، لهذا فهو يرفض أن ينصت إلى الخطاة المُصرِين علي عدم التوبة، كما فعل مع إسرائيل (تث 45:1؛ إش 15:1). إنهم يبكرون إليه لا ليتمتعوا به، بل لنوال بركات زمنية دون التمتع به لذلك لن يجدوه، لأن من يجد الحكمة يجد الحياة والبركة (13:3؛ 17:8،35). برفضه صلواتهم يحثهم علي العودة إليه فيجدوا فيه قيامتهم من الموت ومجدهم الأبدي وفرحهم الدائم وشبعهم الداخلي.

لأنهم أبغضوا العلم،

ولم يختاروا مخافة الرب” [29].

الحياة الحاضرة هي فترة اختبار، أما في الأبدية فتصير الحياة ثابتة دائمًا بلا تقلب، هناك يبقى المذنب مذنبًا على الدوام.

ليته لا يقسي أحد قلبه بسبب طول أناة الله، لأنه إن مات في خطاياه لن يكون بعد مع الله. وعندما تُغلق عليه النيران التي لا تنطفئ لن يطلب رحمة، إذ يرى بوضوح ويشعر أن رجاءه في الخلاص قد انقطع تمامًا.

فلذلك يأكلون من ثمر طريقهم،

ويشبعون من مؤامراتهم” [31].

لكل إنسانٍ أن يحدد خياراته في الحياة، لكنه لا يصير حُرًا في اختيار نتائج هذه الاختيارات، فما يزرعه إياه يحصد (غلا7:6؛ أم20:18،31:31؛ أش10:3). كثيرًا ما نسمع عن الله الذي ينتقم أو الذي يميت. أنه يتحدث معنا بلغتنا البشرية. لكن الله الكلي الحب وواهب الحياة لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا. الذي ينتقم أو يميت في الواقع هو خطايانا التي تجلب ثمرها. فعندما ينزع الله نعمته عنا يرفع مراحمه، وإذ نُصر علي عدم تجاوبنا معه نشرب من كأس أعمالنا.

لأن ارتداد الحمقى يقتلهم،

وراحة (غنى) الجهال تبيدهم” [32].

صارت هذه الشهادة ضدهم، عندما صاروا في غناهم وفيما يظنوه أمانًا لهم إذا بهم يُسحبون بسهولة إلى ثمرة آثامهم ويفقدون حياتهم.

V      فإنه تحت رمز الأدوميين الذين سمحوا لأنفسهم أن ينهزموا بوفرة غناهم.

الذين يفرحون بنجاح هذا العالم يوبخون بالقول: “الذين جعلوا أرضي ميراثًا لهم بفرح كل القلب والفكر” (حز5:36). يُلاحظ في هذه الكلمات أنهم وُبخوا بعنف، ليس فقط لأنهم يفرحون، وإنما لأنهم يفرحون بكل القلب والفكر. لهذا يقول سليمان: “لأن ارتداد الحمقى يقتلهم، وغنى الجهال تبيدهم” [32]. ينصحنا بولس قائلاً: “الذين يشترون كأنهم لا يملكون، والذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه” (1كو30:7،31)[51].

الأب غريغوريوس (الكبير)

أما المستمع لي فيسكن آمنًا،

ويستريح من خوف الشر” [33].

من هبات الله الفائقة الأمان الداخلي، إذ نجد فيه حصنًا لأعماقنا، فنكون فيه كما في مساكن السلام. هذا ما سبق فوعد به: “ويسكن شعبي في مسكن السلام، وفي مساكن مطمئنة وفي محلات أمينة” (إش18:32)، أما سّر الطمأنينة فهو فيض خيراته الروحية علينا مع تحريرنا من سبى الخطية: “وتعطي شجرة الحقل ثمرتها، وتعطي الأرض غلتها، ويكونون آمنين في أرضهم، ويعلمون إني أنا الرب عند تكسيرى رُبُط نيرهم، وإذا أنقذتهم من يد الذين استعبدوهم” (خر27:34).

من يستمع إلى صوت الحكمة، مفضلاً إياه عن إغراءات الأشرار يسكن آمنًا، أي يصير في أمانٍ تامٍ، ويستريح من خوف الشر، متمتعًا بغنى برّ المسيح وحمايته له.

V      ما هو صالح بالحقيقة يُرى أنه مبهج، وينتج ثمرًا شهيًا: هدوء النفس!

قيل: “أما المستمع إليّ فيسكن آمنًا، ويستريح من خوف الشر” [33]. “اتكل على الله من كل قلبك وكل فكرك على الله”[52].

القديس اكليمنضس السكندري

V      “لكننا نشتهي أن كل واحدٍ منكم يظهر هذا الاجتهاد عينه ليقين الرجاء إلى النهاية… حيث دخل يسوع كسابقٍ لنا لأجلنا، صائرًا على رتبة ملكي صادق رئيس كهنة إلى الأبد” (عب11:6-30). بنفس الطريقة بولس الرسول المملوء حكمة يقول: “أما المستمع لي فيسكن آمنًا واثقًا في رجاء”…

بالنسبة للتعبير “يسكن” أُضيف بطريقة جميلة “واثقًا”، مظهرًا أن من ينال راحة يتمتع بالرجاء فيما قد ترجى، لذلك أضيف: “يستريح من خوف الشر[53]”.

القديس اكليمنضس السكندري

  —–

من وحي الأمثال 1

هب لي ذاتك

يا أيها الحكمة الإلهي!

V      نفسي تشتاق أن أكون بالحق حكيمًا.

أنت هو مدرسة الحكمة،

أنت هو الحكمة الإلهي.

أعرفك فأحبك وأقتنيك وأحيا بك.

V      بك أتعرف على الحب الإلهي وسط تأديباتي!

أدرك اتساع القلب الإلهي،

وأجد لي فيه موضعًا.

تتحول أحزاني إلى مدرسة فلسفة،

تُقيم مني إنسانًا حكيمًا!

V      خلقتني كائنًا عاقلاً!

هب لي المعرفة، أقتنيها وأحيا بها.

هب لي المعرفة، فاتضع أمامك ولا أنتفخ!

هب لي المعرفة، فأدرك أسرارك الفائقة.

V      مع كل صباح أسمع عن اكتشافات جديدة.

الكل يفرح بالمعارف الجديدة.

ماذا عن معرفتنا للسمويات!

بنورك اكشف لي عن سمواتك،

فأنعم بإشراقات مجدك،

وأنال فهمًا فائقًا لا يُعبر عنه!

V      أدخلني إليك، فاختفي فيك.

أنت معلمي ومهذب نفسي.

أنت وحدك تحكم على أعماقي،

فلا أخشى من حكم الغير، مادمت داخلي!

V      هب لي روح التمييز والإفراز،

فأسلك في الطريق الملوكي،

ولا انحرف يمنة أو يُسرة.

بل أنطلق كملك نحو ملك الملوك!

V      هب لي الحكمة،

فأُوازن بين كل احتياجاتي.

أُعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

أعرف ماذا أُعطي لجسدي، وماذا لفكري،

وأيضًا ماذا لروحي…!

أحيا في تكاملٍ وتوازنٍ دائم.

V      أبقى كل حياتي متعطش إليك،

بك أزداد حكمة وعلمًا وتدبيرًا.

بك أُدرك الغوامض والأسرار!

بك أنعم بالمخافة الربانية مانحة التهليل!

بك أهرب من كل إغراء بشري!

V      أرى الأشرار في جهلهم فتحزن نفسي.

بروح الطمع يظلمون الأبرياء ويفسدون الأرض!

بروح الشر يحفرون لأنفسهم فخاخًا تدخل بهم إلى الهاوية!

من ينقذني منهم إلا أنت يا أيها الحكمة الإلهي!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى