تفسير سفر الأمثال ٢٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ
فئات يلزم تجنبها!
يقدم لنا هذا الأصحاح فئات معينة يلزم تجنبها:
أولاً: فئة الجهال أو الحمقى [1-12]، الذين يقاومون الحق الإلهي في عنادٍ، ويصرون على عدم التوبة. هؤلاء يصعب تغييرهم [8]، ما لم يدركوا حماقتهم، ويريدون أن يتخلوا عنها بعمل النعمة الإلهية. إنهم لا يقبلون النصح، ولا يفيدهم المديح والتشجيع.
ثانيًا: فئة الكسالى [13-16]، الذين يقدمون لأنفسهم مبررات لتراخيهم وإهمالهم وعدم مبالاتهم، فلا ينمون ولا يتقدمون [14]. يستصعب الكسلان أن يخدم نفسه حتى أن يمد يده ليأكل [15]. مثل هذا من يود أن يعينه في شيء، يفسد وقته باطلاً.
ثالثًا: فئة مثيري الخصام [17-18]. تضم هذه الفئة المتطفلين [17]، والمـازحين [18-19]، والنمامين [20-22]، والمخادعين [23-28].
- الجاهل 1-12.
- الكسلان 13-16.
- التدخل فيما لا يعنينا 17.
- الخداع 18-19.
- النميمة 20-22.
- اللسان الشرير 23-25.
- المكر 26-28.
الجاهل
يبدأ هذا الأصحاح بالحديث عن الجاهل، وكما سبق أن رأينا في دراستنا لسفر الحكمة كما في سفر الأمثال، أنه لا يقصد بالجاهل من يعاني من العجز في القدرة العقلية. إنما الإنسان الأحمق، أي الشرير الذي لا يسلك بروح الاستقامة، فهو يلهو في الخطية، رافضًا الحكمة الحقيقية. قد يكون الأحمق متعلمًا، وعلى درجة عالية من الثقافة، لكن كما يقول المرتل: “قال الجاهل في قلبه لا إله” (مز 14: 1).
الكلمة العبرية المقابلة للجاهل ترجمتها “مخبول”.
كَالثَّلْجِ فِي الصَّيْفِ،
وَكَالْمَطَرِ فِي الْحَصَادِ،
هَكَذَا الْكَرَامَةُ غَيْرُ لاَئِقَةٍ بِالْجَاهِلِ [1].
الثلج نافع في وقته المناسب، أي في الشتاء، لكنه مضر إن سقط في الصيف، والمطر نافع بعد البذر، لكنه مُتلف إن سقط أثناء الحصاد، هكذا الأحمق لا يعرف الوقت المناسب لأفكاره وكلماته وسلوكه، فيسلك بلا تدبير ويحطم نفسه.
الإنسان الأحمق وإن كان يشتهي المجد الباطل والكرامة الزمنية، لكنه متى نال مركزًا قياديًا ويصير له سلطان وكرامة، فإن الكرامة تحطمه كما يحطم الثلج إذا سقط صيفًا في وقت الحصاد، أو انهالت أمطار غزيرة أثناء الحصاد. إنه لا يعرف كيف يستخدم السلطان ويدبر الأمور في وضعها اللائق، وكما يقول عنه المرتل: “الإنسان في كرامة لا يبيت، يشبه البهائم التي تباد” (مز 49: 12).
يرى القدِّيس باسيليوس أن عمل الحيَّة أي الشيطان هو إفساد طبيعتنا فلا ننظر إلى فوق بل ننحني كالحيوانات نحو التراب نطلب الأرضيات، لذا ينصحنا، قائلاً: [لأن رأس البهائم تتطلَّع نحو الأرض، أما رأس الإنسان فقد خُلقت لتنظر نحو السماء، وعيناه تتَّجهان إلى فوق، لهذا يليق بنا أن نطلب ما هو فوق، وببصيرتنا نخترق الأرضيَّات[840].]
V كيف ترى هيئة ذوات الأربع؟ إن رأسها منحنٍ صوْب الأرض، وهي تنظر إلى بطنها، تفتِّش عن الأشياء التي تتلذذ بها. أما أنت أيها الإنسان فرأسك مرتفع نحو السماء، وعيناك تنظران إلى العُلى. فإذا كنت تتلطَّخ بشهوات الجسد، وتتعبَّد لملذَّات الجوف، وللملَّذَّات السُفلية، فأنت بهذا تقترب من الحيوانات التي لا تعقل وتتشبه بها (مز 58: 13).
إني أعرض عليك الاهتمام بأمر آخر يليق بك: اُطلب الأشياء السامية، حيث المسيح قائم (كو 3: 1). وارتفع فوق أعراض الدنيا الفانية، وتعلَّم من تكوينك الجسدي، واجعله قانونًا لحياتك: فمدينتك هي السماء، ووطنك الحقيقي هو أورشليم العليا، ومواطنوك هم الأبكار، الذين كتبت أسماؤهم في السماوات[841].
القديس باسيليوس الكبير
كَالْعُصْفُورِ لِلْفَرَار،
وَكَالسُّنُونَةِ لِلطَّيَرَان،ِ
كَذَلِكَ لَعْنَةٌ بِلاَ سَبَبٍ لاَ تَأْتِي [2].
الإنسان الأحمق يُسرع في صب اللعنات على الآخرين بلا سبب…
غير أن من لا يثق في عناية الله يخشى هذه اللعنات، ويظن أنها تحطمه. أما من يتكل على الله، ويحتمي به، فيدرك أنها ليست إلا كلمات جوفاء تتبدد في الهواء، مثل العصفور الذي يطير أمام الإنسان ولا يؤذيه، وكالسنونة التي تطير وتختفي من أمام وجه الإنسان. هذه اللعنات تضر الأحمق، ولا تضر من يصبها عليهم. لقد صب جليات الجبار اللعنات، لكنها أصابته هو، فقُتل بيد الصبي داود، وصار في خزيٍ وعارٍ. وربشاقي وسنحاريب صبا اللعنات ضد الملك الصالح حزقيا وشعبه، فحلّ الدمار بجيشهما وتمجد الله في حزقيا الملك.
V “كالطيور والعصافير للطيران كذلك لعنة بلا سبب لا تأتي“. مرة أخرى يقول سليمان: “مشيع المذمة هو جاهل” (أم 10: 18). لكنه كالنحلة، فإنها من جهة قوتها فهي ضعيفة، متى لدغت أحدًا تفقد شوكتها، وتصير عالة، هكذا بنفس الطريقة أيضًا كل أذية تمارسونها ضد الغير تُجلب عليكم[842].
قوانين الرسل
اَلسَّوْطُ لِلْفَرَسِ،
وَاللِّجَامُ لِلْحِمَارِ،
وَالْعَصَا لِظَهْرِ الْجُهَّالِ [3].
إذ يسلم الإنسان حياته لله يقوده الرب في طريقه، واهباً إياه روح الحكمة والفهم، وإذ يثبت المؤمن عينيه على الرب يثبت الرب عينيه عليه. أما من يرفض مشورة الله فيصير بلا فهم، ويحسبه المرتل كحيوان، لأن الفهم أو التعقل هو الذي يميزنا عن الحيوانات غير العاقلة. بالمسيح يسوع – حكمة الآب – نرقى لنكون كملائكة الله، وباعتزالنا الله نفقد حتى بشريتنا!
تحتاج الخيول الجامحة والعنيدة إلى سوط يضبط جموحها، والحمار المتعجل وغير المدرك لطريقه يحتاج إلى لجام لضبطه وتوجيهه، هكذا الأحمق يتسم بالجموح والتعجل في غير حكمة، فيحتاج إلى عصا التوبيخ والضيقات لمنعه من العناد. جاء في المزامير: “لا تكونوا كفرسٍ أو بغلٍ بلا فهمٍ، بلجامٍ وزمام زينته، يُكم لئلا يدنو إليك” (مز 32: 9). وإن كان يسهل ترويض الفرس والحمار، لكن يصعب ترويض الأحمق.
V بلجام وزمام يكبح فكوك الذين لا يدنون منك، لأنه تحت ضغط الظروف كما قلت يحنون بالضرورة رقابهم لله ولو بغير إرادتهم[843].
القديس كيرلس الكبير
لاَ تُجَاوِبِ الْجَاهِلَ حَسَبَ حَمَاقَتِهِ،
لِئَلاَّ تَعْدِلَهُ أَنْتَ [4].
يليق بالحكيم ألا ينزل إلى مستوى الأحمق فيحاربه بذات أسلوبه الساخر، وينحدر معه عن روح الهدوء والتعقل والحكمة.
V هروبك يكون صالحًا إن كنت لا تجيب الأحمق حسب حماقته. هروبك صالح إن وجهت خطواتك بعيدًا عن ملامح الأغبياء. حقًا يمكن للشخص أن يضل سريعًا إن كانت القيادة شريرة، فإن أردت أن يكون هروبك صالحًا، انزع طرقك من كلماتهم[844].
V اعتاد داود ألا يجاوب العدو الذي يثيره، الخاطي الساخط عليه. يقول: “وأما أنا فكأصم لا أسمع، وكأبكم لا يفتح فاه” (مز 38: 13). مرة أخرى قيل في موضع آخر: “لا تجب الأحمق حسب حماقته، لئلا تصير مثله“. الواجب الأول هو أن يكون لك معيار صادق لحديثك، بهذا تقدم ذبيحة حمد لله. هكذا فإن المخافة التقية تظهر عند قراءة الأسفار المقدسة. بهذا يُكرم الوالدين. أنا أعرف حسنًا أن كثيرين يتكلمون لأنهم لا يعرفون كيف يمارسون الصمت. دائمًا يصمت الشخص عندما يكون الكلام غير نافع. الإنسان الحكيم عندما يود أن يتكلم، يراعي بعين الاعتبار ماذا يقول، ولمن يوجه الحديث، أيضًا أين، وفي أي وقت يتكلم؟[845]
القديس أمبروسيوس
V (من كلمات أخته القديسة ماكرينا) من الأفضل أن يبقى الإنسان صامتًا بخصوص مثل هذه الأسئلة، ويتطلع بعين الاعتبار إلى حماقتهم وعجرفتهم غير الوقورة التي لا تتأهل للإجابة حيث تمنعنا الكلمات الإلهية، قائلة: “لا تجاوب الجاهل حسب حماقته“. والجاهل حسب النبي هو: “القائل إنه لا إله (مز 53: 1)[846].
القديس غريغوريوس النيسي
جَاوِبِ الْجَاهِلَ حَسَبَ حَمَاقَتِهِ،
لِئَلاَّ يَكُونَ حَكِيماً فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ [5].
يبدو كأن هذين العددين (4، 5) متناقضان، لكنهما في الواقع هما متكاملان. فإنه لا يليق بنا أن نجاوب الجاهل أو الأحمق حسب حماقته، أي بنقاش وحوار فيه روح السخرية والاستخفاف، أي حسب أسلوبه، فنكون بهذا قد انحدرنا نحن إلى مستواه الرديء بدلاً من أن ننتشله. فلا نقابل تهكمه بالتهكم، ولا نمتثل بما يحمله من روح الاستهتار. إنما لنجاوبه بروح الحزم والجدية لأجل بنياننا وبنيانه.
التزم الشعب كأمر الملك حزقيا ألا يجيبوا ربشاقي الذي استخف بالله (2 مل 18: 36)، وهم بهذا تمموا نصيحة الحكيم في العدد 4. أما نحميا ففي حزم جاوب سنبلط الذي أراد تحطيم عمل البناء، قائلاً له: “لا يكون مثل هذا الكلام الذي تقوله، بل إنما أنت مختلقه من قلبك” (نح 6: 8)، ورفض الدخول معه في حوارٍ كطلب سنبلط: “هلم نتشاور معًا” (نح 6: 7).
حينما يسأل إنسان عن وجود تناقضات في الكتاب المقدس، فإن كان الشخص يطلب للسخرية، فالحوار معه يتحول إلى مناقشات غبية، أما إذا كان جادًا في المعرفة فالحوار لازم، وكما يقول الرسول بطرس: “قدسوا الرب الإله في قلوبكم، مستعدين دائمًا لمجاوبة كل من يسألكم عن سبب الرجاء الذي فيكم بوداعةٍ وخوفٍ” (1 بط 3: 15). نفس الأمر إن كان الحوار مع ملحد ينكر وجود الله، فإن القرار بالحوار أو عدمه يتوقف على إدراكنا لنية السائل. فبرفض الإجابة نحرص ألا ننزلق إلى حماقته، وبردنا عليه نود أن نحفظه من الحماقة التي سيطرت عليه.
V يليق بنا أن نتعلم حسنًا في معرفة إيماننا، حتى متى سألنا أحد عنه نكون قادرين أن نقدم إجابة لائقة، وأن نفعل ذلك بوداعة وفي مخافة الرب. فإن من يفعل هذا كأن الله نفسه حاضر يسمعه[847].
القديس ديديموس الضرير
V يخبرنا الرسول أن نكون مستعدين أن نجاوب كل من يسألنا لنشرح له إيماننا، فإن سألني غير مؤمن ٍ عن سبب إيماني ورجائي، وأدرك أنه لا يستطيع قبول هذا ما لم يؤمن، أقدم له ذات السبب لكي يرى كيف أنه لأمر سخيف بالنسبة له أن يدركها دون أن يؤمن[848].
القديس أغسطينوس
V من يقرر أن يفعل هذا لا يفعل أمرًا جديدًا، ولا يقدم شرحًا ما جديدًا، بل بالحري يوضح للسائلين عن إيمانه في المسيح ما هو[849].
القديس كيرلس السكندري
يَقْطَعُ الرِّجْلَيْن،ِ
يَشْرَبُ ظُلْمًا،
مَنْ يُرْسِلُ كَلاَماً عَنْ يَدِ جَاهِلٍ [6].
يخطئ الإنسان حين يبعث برسالة مع رسول أحمق، فيكون كمن قطع رجليه، وصار عاجزًا عن الحركة، أو كمن اختار أن يشرب من كأس سمٍ أو ظلمٍ، يسبب له هلاكًا ودمارًا. فالحكيم يطالبنا باختيار الرسول المناسب حين نبعث برسالةٍ إلى أحدٍ. وقد سبق فنصحنا بذلك: “كبرد الثلج في يوم الحصاد، الرسول الأمين لمُرسليه، لأنه يرد نفس سادته” (أم 25: 13).
سَاقَا الأَعْرَجِ مُتَدَلْدِلَتَانِ
وَكَذَا الْمَثَلُ فِي فَمِ الْجُهَّالِ [7].
المثل الخارج من فم الأحمق لا نفع له، كمثل ساقي رجل أعرج، لا تسندانه على الحركة، إن لم تمثلا ثقلاً لجسمه.
كَصُرَّةِ حِجَارَةٍ كَرِيمَةٍ فِي رُجْمَةٍ،
هَكَذَا الْمُعْطِي كَرَامَةً لِلْجَاهِلِ [8].
من يكرم جاهلاً بكلمات مديح يكون كمن يلقي بحجارة كريمة في كومة، أو يضرب بها بالمقلاع[850]. فمن يستخدم حجارة كريمة في مقلاع، يكون قد أساء استخدام الحجارة الكريمة وفي نفس الوقت لا يعرف أن يستخدم المقلاع.
حين امتدح الشعب هيرودس الملك المتكبر والأحمق، قائلين: “هذا صوت إله لا صوت إنسانٍ” (أع 12: 22)، للحال ضربه ملاك الرب، لأنه لم يعطِ المجد لله، فصار يأكله الدود ومات[851]. من يعط كرامة لأحمق إنما يسلمه سلاحًا ليدمر به نفسه[852].
شَوْكٌ مُرْتَفِعٌ بِيَدِ سَكْرَانٍ،
مِثْلُ الْمَثَلِ فِي فَمِ الْجُهَّالِ [9].
من يسلم غصنًا مملوء بالأشواك في يد إنسانٍ سكران، يسبب له ولمن حوله أذية، هكذا المثل الذي يخرج من فم الأحمق، حين يحتل مركز المعلم، فإنه يدينه ولا ينتفع به هو ولا من هم حوله، بسبب عثرتهم فيه. الإنسان السكران لا يشعر بالألم في لحظات سكره، فيلوح بالغصن المملوء أشواكًا، ويؤذي به نفسه ومن حوله، وهو يضحك ساخرًا. إنه لا يعرف في لحظات سكره كيف يستخدم ما في يده.
جاءت كلمة الرب على فم إرميا النبي ضد شمعيا: “من أجل أن شمعيا قد تنبأ لكم وأنا لم أرسله، وجعلكم تتكلمون على الكذب… هأنذا أعاقب شمعيا النحلامي ونسله” (إر 29: 31-32).
V لا تنزع خطية كل الناس بواسطة الحمل، إن كانوا لا يحزنون ولا يندمون حتى تُرفع عنهم. وذلك كالشوك، ليس فقط يُغرس، بل تصير له جذور عميقة في أيادي كل من صار سكيرًا بسبب الشر، وفقد وقاره. وذلك كالقول الوارد في الأمثال: “الشوك ينمو في يد السكران“. فماذا يليق بنا أن نقوله بالأكثر بخصوص الكارثة الأعظم التي تحل بذاك الذي يتقبل مثل هذه النبات (الشوك) في نفسه his soul؟ فإن من يضيف شرًا في أعماق نفسه إلى مثل هذه الدرجة يلزم أن يُقطع بواسطة كلمة الله الحية الفعَّالة التي توخزه أكثر من سيف ذي حدين، وأكثر قدرة على الحرق من أي نارٍ (عب 4: 12؛ سي 48: 1)، تلك النار التي تكشف عن الشوك[853].
العلامة أوريجينوس
رَامٍ يَطْعَنُ الْكُلَّ،
هَكَذَا مَنْ يَسْتَأْجِرُ الْجَاهِلَ،
أَوْ يَسْتَأْجِرُ الْمُحْتَالِينَ [10].
يليق بالإنسان أن يُحسن اختيار من يعمل معه أو لحسابه، لأن استئجار أناس حمقى أو من عابري السبيل ليقوموا بمهامٍ هامة أمر له خطورته. إذ يكون كمن يرشق سهامًا بلا وعي ولا هدف. إنه يصيب الآخرين، كما يطعن نفسه وهو لا يدري.
كَمَا يَعُودُ الْكَلْبُ إِلَى قَيْئِه،ِ
هَكَذَا الْجَاهِلُ يُعِيدُ حَمَاقَتَهُ [11].
الذين يرجعون إلى حياة الشر، تاركين الشركة مع الله، تصير أواخرهم أشر من أوائلهم. يقول الرسول بطرس: “لأنه كان خيرًا لهم لو لم يعرفوا طريق البرّ من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المُسلمة لهم. قد أصابهم ما في المثل الصادق: كلب قد عاد إلى قيئه، وخنزيره مغتسلة إلى مراغة الحمأة” (2 بط 2: 21-22)
يا لبشاعة الخطية، يجد الخاطي في رجاستها لذة وبهجة، بينما تعوفها نفوس الآخرين. إنها مرض خطير، تجعل ممن تصيبه مريضًا يحب المرض. هذا هو حال من يرجع عن الخطية إلى حين خلال اقتناعه الفكري دون طلب عون الله ونعمته التي تجدد فكرة وقلبه وكل أعماقه. أما الذي يرتمي بالنعمة في الحضن الإلهي، فيسمع الصوت الإلهي: خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها، فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد مني” (يو 10: 27-28).
قد يسقط حمل في الوحل، لكنه لن يستريح حتى يغتسل منه، أما الخنزير فبعدما يغتسل، يلقي بنفسه في الوحل، ويجد في القذارة سعادته.
يرى القديس كيرلس السكندري أن هذا المثل ينطبق على المبتدعين الذين يخترعون الهرطقات دنسة، ويفتحون أفواههم ضد المجد الإلهي و”يتكلمون بأمور ملتوية” (أع 20: 30)[854].
يرى الأب هيلاري أسقف آرل[855] أن القديس بطرس يشير هنا إلى الذين نالوا العماد بعد اعترافهم بالإيمان بالمسيح يسوع، لكنهم عادوا فتركوه، فصاروا كالكلب الذي يعود إلى قيئه.
V ألا تعلمون أن الذين لا يبالون بخلاصهم ويتأرجحون بين الاهتمام به ويسقطون بطيش في شبكة الشيطان يُقارنون في الكتاب المقدس بالكلاب؟ تذكر القول: “من يترك خطيته ثم يعود إليها، هكذا يكون مثل الكلب الذي يعود إلى قيئه”[856].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V فيما نحن على هذا الحال المملوء قلقًا، لم نقدر أن نقرر قرارًا حاسمًا نافعًا لخلاصنا. وإنما بتنهداتنا كنا في مرارة، موبخين أنفسنا من أجل تهورنا (في إعطاء الوعد) كارهين عيب طبيعتنا، شاعرين بثقل الأمر الذي لم يكن أمامنا طريق سواه تحت إلحاح أولئك الذين أعاقونا عما هو لنفعنا وصلاحنا، وذلك بطلب وعد منا بالعودة سريعًا. وقد بكينا لأننا قد صنعنا هذا تحت خطأ هذا العيب الذي قيل عنه: “كما يعود الكلب إلى قيئهِ هكذا الجاهل يعيد حماقتهُ” (أم 11:26)[857].
الأب يوسف
V هذه الأمور يعاني منها – دون شك – رجال الكهنوت والرهبان والعذارى المتكبرون والعصاة والفاترون. ففي بداية حياتهم يجحدون طرق هذا العالم، وبروح ملتهبة يهربون إلى خدمة الدين المقدسة، وبنعمة الله يتخلصون من كل الخطايا. ولكن بعد ذلك لا يمتلئون بالغيرة بسبب إهمالهم وكسلهم، ولا يمتلئون بالنعم الروحية بمعونة الله، فإن الرذائل التي فارقتهم تجدهم فارغين، فترجع مع رذائل أخرى أكثر منها، وتلزمهم للعودة إلى قيئهم. فيتحقق عندئذ ما هو مكتوب: الكلب الذي يعود قيئه يكون مكروهًا، وهكذا الخاطي الذي يعود إلى خطيته[858].
الأب قيصريوس أسقف آرل
أَرَأَيْتَ رَجُلاً حَكِيماً فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ؟
الرَّجَاءُ بِالْجَاهِلِ أَكْثَرُ مِنَ الرَّجَاءِ بِهِ! [12]
الإنسان الذي يظن في نفسه أنه حكيم يغلق على نفسه، فلا يقبل مشورة أحد، ولا يطلب التعلم، وبكبريائه يهلك. يمكن أن نترجى من الجاهل المدرك جهله أن يتعلم ويخلص من حماقته أكثر ممن يظن في نفسه أنه حكيم. لذلك يقول الرسول: “لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” (رو 12: 16).
كأن ما هو أخطر من الغباوة الكبرياء والاعتداد بالرأي وخداع الإنسان لنفسه، فلا يطلب الحكمة من الله، ولا المشورة من أحدٍ. إنه كالمريض الذي يظن أنه في صحة ولا يحتاج إلى طبيب، أو الخاطي الذي يظن في نفسه أنه بار ولا يحتاج إلى المخلص.
V إنه الكبرياء هو الذي يرد الإنسان عن الحكمة، وبالتالي تحل الحماقة بترك الحكمة[859].
القديس أغسطينوس
V يزدادون في خطأهم بادعائهم أنهم حكماء بينما يظهرون أنهم حمقى[860].
ثيؤدورت أسقف كورش
V يوجد شر رأيته تحت الشمس، شخص حكيم في عيني نفسه، ويكون أكثر خطرًا أن يتولى مسئولية تعليم الآخرين شخص لا يعرف جهله[861].
القديس غريغوريوس النزينزي
V الشخص المغرور بنفسه غبي في جهله، ولا يستطيع أن يعرف حكمة الله إذ يلتصق بغباوته حاسباً إياها حكمة[862].
العلامة أوريجينوس
V إنه ليس بالخطأ الهين أن يحسب الإنسان نفسه حكيمًا، وأن يرجع في كل الأمور إلى حكمه… وجه بولس هذا التوبيخ عينه للفلاسفة الوثنيين: “بينما هم يزعمون أنهم حكماء، صاروا جهلاء” (رو 1: 22). هذا هو علة حماقتهم يقول كاتب سفر الأمثال من جانبه: “أرأيت رجلاً حكيمًا في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به”. مرة أخرى، إنه بولس الذي يعطي هذه النصيحة: “لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” (رو 12: 16)[863].
V إذ يظنون في أنفسهم أنهم سامون ولا يكون لهم صبر كافٍ للسلوك في الطريق الذي يأمرهم به الله، يستغرقون في طريقه تفكير لا معني له[864].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الكسلان
قَالَ الْكَسْلاَنُ:
“الأَسَدُ فِي الطَّرِيقِ الشِّبْلُ فِي الشَّوَارِعِ” [13].
سبق أن تحدث عن خطورة الكسل، وعمله في حياة الإنسان (13: 4؛ 15: 9؛ 19: 15؛ 20: 4؛ 21: 25-26؛ 24: 30، 34).
أول سمات الكسلان أن يقدم أعذارًا لكسله، مع شعوره الخاطئ بالمخاطر تحف به إن تحرك للعمل. فيجد في الخمول راحة له وهدوءً لنفسه، وأمانًا لحياته من الأسود والأشبال التي تنتظره. وكأن لا عمل لها سوى أن تترقب خروجه للعمل فتفترسه. أما الإنسان العامل بروح الرب فلا يخاف، إنما يشق فم الأسد لينقذ حملاً كما فعل الصبي داود، ويمزق أسدًا في الطريق كما فعل شمشون.
اَلْبَابُ يَدُورُ عَلَى صَائِرِة،
وَالْكَسْلاَنُ عَلَى فِرَاشِهِ [14].
مازالت الأبواب تدور على محور، فهي تتحرك حول نفسها ولا تنتقل من موضعها. هكذا يظن الكسلان أنه دائم الحركة والعمل، بينما يبقى في خموله كما على فراشه، لا نفع له حتى بالنسبة لنفسه. ينقصه روح الطموح والشعور برسالته.
لا يحمل الكسلان روح خلاَّفة تميل إلى التجديد والابتكار.
اَلْكَسْلاَنُ يُخْفِي يَدَهُ فِي الصَّحْفَةِ،
وَيَشُقُّ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا إِلَى فَمِهِ [15].
يبلغ بالكسلان أن يمد يده إلى الصحفة ليأكل، فيجد صعوبة أن يرفعها لكي يضع الطعام في فمه. إنه يفضل أن يبقى جائعًا، عن أن يحرك يده ليأكل!
نسمع عن هذا الأمر في بعض القبائل في المناطق الاستوائية، حين تشتد الحرارة، فيشعر الشخص بنوعٍ شديدٍ من الخمول، فيرى أمامه الطعام المجاني كالموز وغيره من الفواكه، ويستصعب أن يمد يده ليقطف فاكهة ويأكل!
يرى البعض أن هذا المثل ينطبق على من يشعر بأن الجو قارس البرودة، فيضع يديه في حضنه لتدفئتها، ولا يفكر في إخراجها حتى لكي يأكل.
كما ينطبق أيضًا على بعض الكسالى الذين يتظاهرون بالعجز وعدم الصحة، لكي يطلبوا صدقة ولا يريدون العمل.
اَلْكَسْلاَنُ أَوْفَرُ حِكْمَةً فِي عَيْنَيْ نَفْسِهِ،
مِنَ السَّبْعَةِ الْمُجِيبِينَ بِعَقْلٍ [16].
يظن الكسلان بخموله وفقدان عزمه أنه أكثر حكمة من العاملين، فهو لا ينهك جسده ولا فكره، بل يعيش كمن هو بلا هم! يظن في الخمول اقتصادًا للصحة، وفي عدم العمل حكمة!
V النملة خليقة صغيرة جدًا، لكنها تغامر لتحقيق أشياء تفوق قوتها. إنها لا تُسحب للعمل كعبدة. وإنما بدون إلزام، وفي حرية البصيرة، تهتم بالمئونة الخاصة باليوم القادم. ينصحنا الكتاب المقدس أن نقتدي بمثابرة النملة: “اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن أحكم منها” (راجع أم 6: 6). ليس لدي النملة أرض لفلاحتها. ومع هذا وبدون قائد يحثها على ذلك تهتم بتخزين الطعام. أي حصاد تجمعه في مخزن لها، إنه حصاد تجمعه من بقايا أعمالك بينما قد تكون أنت في عوزٍ لا تحتاج هي إلى شيءٍ. ليس من أهراء مخصصة للنملة، ليس من حراس يصعُب اجتيازهم، ليس من مخازن حنطة لا تُلمس![865]
القديس أمبروسيوس
V لماذا يلزمنا أن نتحدث عن مدى الشر الذي في الكسل، إن كان الرسول يصف بوضوح أن من لا يعمل لا يأكل (2 تس 3: 10). فإن كان القوت اليومي ضروريًا لكل أحدٍ، هكذا العمل أساسي حسب قوة الشخص. يربط الرب بين الكسل والشر، قائلاً: أيها العبد الشرير والكسلان” (مت 25: 26)… لدينا ما يجعلنا نخاف لئلا يقف هذا الخطأ ضدنا في يوم الدين، لأن ذاك الذي وهبنا الإمكانية للعمل يطالبنا أن نعمل حسب طاقتنا[866].
القديس باسيليوس الكبير
يقدم لنا القديس أغسطينوس[867] تفسيرًا رمزيًا لجهاد النملة والتزامنا بالإقتداء بها، فإن كانت النملة تجمع طعامًا في وقت المصيف حيث الحر، تتغذي عليه أثناء الشتاء في البرد، هكذا يليق بنا أن نواظب على قراءة الكتاب المقدس في وقت حرارتنا الروحية. لنجتهد أن نعمل مادام الوقت صيفًا، حتى إذا كما حلّ بنا وقت التجربة، وشعرنا بنوعٍ من البرود الروحي تغتذي نفوسنا على ما قد تمتعنا به وقت التهاب قلبنا بالروح.
- التدخل فيما لا يعنينا
كَمُمْسِكٍ أُذُنَيْ كَلْبٍ،
هَكَذَا مَنْ يَعْبُرُ وَيَتَعَرَّضُ لِمُشَاجَرَةٍ لاَ تَعْنِيهِ [17].
سٍبق أن نصحنا الحكيم أن نهرب ما استطعنا من النزاعات حتى التي تخصنا، ونلجأ إلى الصلح عوض الدخول في المحاكم. بالأولى كثيرًا ألا نتدخل في مشاحنات لسنا طرفًا فيها لئلا نكون كمن يمسك بأذني كلبٍ متوحشٍ، فنعرض أنفسنا للأذى. هذا لا يعني رفضنا صنع السلام بين المتخاصمين، إنما رفض التحيز، والدخول كطرفٍ في خصام لا يخصنا. جاءت في الترجمة السبعينية: “كممسك بذيل كلبٍ”، فإن الكلب يدور ويعضه.
- الخداع
مِثْلُ الْمَجْنُونِ الَّذِي يَرْمِي نَارًا وَسِهَامًا وَمَوْتًا [18].
هَكَذَا الرَّجُلُ الْخَادِعُ قَرِيبَه،
وَيَقُولُ: “أَلَمْ أَلْعَبْ أَنَا!” [19].
يحذرنا الحكيم من التصرفات المخادعة للأقرباء، فتسبب لهم أضرارًا ثم يضحك الشخص في سخرية، قائلاً: إنني كنت أداعبهم. حياة الناس ليست ألعوبة في أيدينا، نسخر بها في استهتار. من يفعل هذا يُحسب كمجنونٍ يلقى بجمرٍ متقدٍ على الغير، أو يضربهم بالسهام، ويتسبب في قتلهم.
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [لكي يغري (هيرودس المجوس) على ذلك تظاهر بالتقوى، مخفيًا السيف وراءها. رسم بالألوان شكل البساطة على حقد قلبه. هذا هو طريق كل فاعلي الشرّ، إذ يخطّطون في الخفاء ليجرحوا الآخرين، فيتظاهرون بالبساطة والصداقة[868].]
- النميمة
بِعَدَمِ الْحَطَبِ تَنْطَفِئُ النَّارُ،
وَحَيْثُ لاَ نَمَّامَ يَهْدَأُ الْخِصَامُ [20].
النميمة تضيف إلى نار الخصام وقودًا، فإذا لم توجد تهدأ النيران وتنطفئ، فحيث لا يوجد وقود أو حطب تنطفئ النار. قيل: “النمام ينجس نفسه، ومعاشرته مكروهة” (سيراخ 21: 31).
V إذا سمعت أحدًا يثلب غيره اهرب منه كهروبك من حية سامة، حتى يخجل ويتعلم ألاَّ يتكلم بهذا مرة أخرى.
القدِّيس جيروم
V يا ترى، ما معنى أن ننقطع عن أكل اللحم، ونحن لا ننقطع عن أكل لحم قريبنا بالنميمة والغيبة؟ وما معنى أن نصوم عن الأكل، ونحن لا ننقطع عن الأفكار الرديئة والزنا والحقد والبغض؟[869]
القدِّيس باسيليوس الكبير
V قال أنبا مقار: “احفظوا آذانكم من سماع كلام النميمة والوقيعة لكي تكون قلوبكم طاهرة، لأنّ الآذان إذا سمعَتْ الحديث النجس لا يمكن حفظ طهارة القلب بدون دنس”.
V قال أنبا مرقس: “كل ما تقوله عن أخيك من ورائه ولا تستطيع أن تقوله أمامه هو نميمة ومذمّة، وكل اهتمامٍ لا يؤدّي إلى صلاح العبادة هو اهتمام دنيوي”.
V قال أنبا شيشوي: “بالنميمة أغوت الحيّة حواء وأخرجتها من الفردوس وآدم معها، هكذا نظير الحيّة تمامًا مَنْ يقع في صاحبه فإنه يُهلِك مَنْ يسمعه ونفسه لا تنجو”.
سُئِل أبّا إشعياء عما هي النميمة، فأجاب: “هي الجهل بمجد الله، وبغضة الآخرين”.
V قال شيخ: “ما تكرهه لنفسك لا تقُله لآخر، فأنت تكره مَنْ ينمّ عليك (أي يُدينك) فلا تنمّ أنت أيضًا على أحد. أنت تُبغض مَنْ يكذب عليك، فلا تكذب أنت على آخر. أنت تُبغض مَنْ يشتمك، فلا تشتم أنت أحدًا. فمن له أذنان فليحفظ هذه وهي تكفيه”.
فردوس الآباء
فَحْمٌ لِلْجَمْرِ وَحَطَبٌ لِلنَّارِ،
هَكَذَا الرَّجُلُ الْمُخَاصِمُ لِتَهْيِيجِ النِّزَاعِ [21].
يدعونا سليمان الحكيم إلى فض النزاع والخصام عند بدء انطلاقه (أم 17: 14؛ 30: 32-33). إن أمكن ألا ندخل في مناقشات ومجادلات قد تلهب الموقف (أم 20: 3).
البعض يميلون في بث روح السلام (أم 12: 20)، وآخرون يجدون مسرتهم في النزاع (أم 22: 10؛ 26: 21). كما يوجد أناس لا يستريحون لأي موقف، فإن غضبوا أو ضحكوا لا يستريحون (أم 29: 9).
يحسب الله صانعي السلام أبناء له (مت 5: 9)، كما تدعونا الحكمة إلى الوداعة وعدم التحزب (يع 3: 13-14).
يوجد أناس أشبه بالفحم الذي يُلقى وسط الجمر المتقد فيزداد اتقادًا، أو كالحطب الذي يُلقى في النيران، فيزيد اشتعالاً. هؤلاء هم مثيرو الخصام أينما وجودوا. إنهم لا ينشغلون بكلمة الله واهبة السلام حتى وإن أكثروا من تلاوتها والكرازة بها.
كَلاَمُ النَّمَّامِ مِثْلُ لُقَمٍ حُلْوَة،ٍ
فَيَنْزِلُ إِلَى مَخَادِعِ الْبَطْنِ [22].
كثيرًا ما يستخدم النمام الكلمات المعسولة، والتظاهر بالصداقة، والاهتمام بمن يتحدث معه، فيلقي بمرارة النميمة في مخادع بطن سامعه، حيث تستقر في أعماقه، وتلهب روح الغضب والسخط فيه.
V غالبًا ما يثير الصبر المتصنع الغضب بأكثر حذاقة مما يثيره الكلام. وبالصمت المؤذي يزيد شتائم الغير بطريقة أكثر مما يثيرها الكلام، وجراحات الأعداء تُحتمل بأكثر سهولة من مداهنة الساخرين المملوءة مكرًا، والتي قيل عنها حسنًا بالنبي: “ليأسر رؤَساءهُ حسب إرادتهِ” (مز 22:105). وفي موضع آخر قيل: “كلام النَّمام مثل لُقَم حلوة فينزل إلى مخادع البطن” (أم 22:26). هنا ينطبق القول: “لسانهم سهم قتال يتكلم بالغش. بفمهِ يكلم صاحبهُ بسلام وفي قلبهِ يضع لهُ كمينًا” (إر 8:9). وعلى أي الأحوال هو يخدع الغير إذ “الرجل الذي يطري صاحبهُ يبسط شبكة لرجليهِ” (أم 5:29)[870].
الأب يوسف
V لا تغتبْ أحدًا من الناس لئلاّ يُبغض الله صلاتك.
القدِّيس أنبا أنطونيوس الكبير
- اللسان الشرير
فِضَّةُ زَغَلٍ تُغَشِّي شَقْفَةً،
هَكَذَا الشَّفَتَانِ الْمُتَوَقِّدَتَانِ وَالْقَلْبُ الشِّرِّيرُ [23].
الذي يستتر بمظهر الحب والصداقة والاهتمام بالغير وينطق بكلمات النميمة، يحمل قلبًا شريرًا، وله شفتان متقدتان بنار الشر المستتر. هذا الإنسان يشبه شقفة أو كسرة من إناء خزفي لا قيمة لها، مغطاة بطبقة خفيفة من الفضة المملوءة زغلاً. يبدو كأنه شيء ثمين لامع، وفي حقيقته تافه للغاية ولا نفع منه.
لعله يقصد هنا إن شفتي النمام متقدتان كأنهما نار ذات بهاء، فتخرج منها كلمات معسولة، لكنها في حقيقتها صادرة عن قلب خبيث شرير. إنه شخص مراءٍ!
بِشَفَتَيْهِ يَتَنَكَّرُ الْمُبْغِضُ،
وَفِي جَوْفِهِ يَضَعُ غِشّاً [24].
يتفكر المبغض حيث يخفي ما في أعماقه من بغضه خلال كلمات مخادعة، أما جوفه أو أعماقه فتحمل غشًا!
V لا تُغطِّ على خطيتك التي صنعتها، اُرفض المجاوبة، ولا تفكِّر في قلبك بشرٍّ على مَنْ يُغضبك أو يُبغضك. لا تُسرِع إلى الغضب. اِحذر من أن تتكلم بكلامٍ فارغ، ولا تسمعه من غيرك لكي تعيه، وليكن كلامك في ذكر الله تعالى واستغفاره.
V أَحسن إلى كل أحدٍ، وإن لم تقدر فأحبّ كل أحد، وإن لم تقدر فلا أقل من أن لا تبغض أحدًا، ولن يتيسر لك شيء من ذلك ما دمتَ تحب العالميات.
القدِّيس أنبا أنطونيوس الكبير
إِذَا حَسَّنَ صَوْتَهُ فَلاَ تَأْتَمِنْهُ،
لأَنَّ فِي قَلْبِهِ سَبْعَ رَجَاسَاتٍ [25].
المرائي يجيد الصوت العذب والكلمات اللينة، لكن لا يؤتمن، لأن قلبه مملوء بسبع رجاسات، أي رجاسات لا تُحصي، لأن رقم 7 يشير إلى الكمال، أو الكثرة في العدد (أم 24: 16).
V يا بُنىَّ، لا تكن مرائيًا ولا كذابًا.
القدِّيس أنبا أنطونيوس الكبير
V سأل أخٌ أنبا بيمين: “مَنْ هو المرائي؟” فقال له الشيخ: “المرائي هو مَنْ يعلِّم قريبه شيئًا لا يُجهِد هو نفسه ليفعله. إنه مكتوبٌ: “لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها … يا مرائي، أخرج أولاً الخشبة من عينك حينئذٍ تبصر جيدًا أن تُخرج القذى من عين أخيك” (مت7: 3-5).
فردوس الآباء
V إذا جلستَ في قلايتك يا بُنيَّ، فلا تكن كالمرائين. لا تملّ من الصلاة فيُسمع لك.
V لا تكن مرائيًا. بل اطلب كلام الرب من رجل الله. لأن الرب قال بالنبي: “يأتون إليك كما يأتي الشعب، ويجلسون أمامك كشعبي، ويسمعون كلامك ولا يعملون به، لأنهم بأفواههم يُظهرون أشواقًا وقلبهم ذاهب وراء كسبهم” (حز 31:33).
أنبا بولا الطموهي
- المكر
مَنْ يُغَطِّي بُغْضَةً بِمَكْرٍ،
يَكْشِفُ خُبْثَهُ بَيْنَ الْجَمَاعَةِ [26].
ليس خفي إلا ويظهر، فمن يخفي بغضه وسخطه وراء مظهرٍ بّراق، لن يدوم هذا، بل ينفضح خبثه على مستوي الجماعة، ويصير في عارٍ.
V إن رجل الخصام الذي لا يهدأ من النزاع هو الذي لا يكتفي بالشقاق الأول فيثور غاضبًا من جديد. أما الذي هو بالعكس ليس رجل خصام، فحينما يشتعل غضبه يرجع إلى نفسه في الحال ويلوم نفسه ويطلب المغفرة من أخيه الذي غضب منه، فيهدأ فيه الخصام لأنه أدان نفسه واصطلح مع أخيه، ولن يجد الصراع له فيه موضعًا كما قلت.
أمَّا الإنسان الغضوب الذي لا يهدأ الشقاق بداخله، والذي إذا غضب لا يدين نفسه بل يثور غضبه بالأكثر دون أن يندم على غضبه قط، بل ولا يكتفي بما قاله في غضبه فيزيد عليه؛ هذا يُدعى رجل خصامولا يهدأ الغضب في داخله، لأن الحقد والمرارة والخبث تتبع الغضب. ليت الرب يسوع المسيح يخلِّصنا من مصير هؤلاء الناس ويهبنا نصيب الودعاء والمتواضعين!
القديس زوسيما
مَنْ يَحْفُرُ حُفْرَةً يَسْقُطُ فِيهَا،
وَمَنْ يُدَحْرِجُ حَجَراً يَرْجِعُ عَلَيْهِ [27].
الصليب الذي أعده هامان لمردخاي، صُلب هو عليه. والخطة التي صاغها عدو الخير للخلاص من رب المجد يسوع، أفقدته سلطانه وحطمت مملكته. بالكيل الذي به نكيل يُكال لنا.
الجب الذي أعده الأشرار لدانيال سقطوا فيه هم وعائلاتهم. وكما يقول المرتل: “يرجع تعبه على رأسه، وعلى هامته يهبط ظلمة” (مز 7: 16)، “تورطت الأمم في الحفرة التي عملوها، في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم… الشرير يعلق بعمل يديه” (مز 9: 15، 16). “حفروا قدامي حفرة، سقطوا في وسطها” (مز 56: 6).
V “من يحفر حفرة لقريبه يسقط فيها“. هذا حدث في ذلك الحين، إذ أرادوا هلاك (يسوع) ليكتموا كرازته، لكن حدث العكس. كرازته انتعشت بنعمة المسيح، بينما كل خططهم بطلت وهلكت. بالحرى خسروا بلدهم وحريتهم وأمانهم وعبادتهم، وحُرموا من كل كرامةٍ ومجدٍ، وصاروا عبيدًا وأسرى. وإذ نعرف نحن هذه الأمور ليتنا لا نضع خططًا ضد الآخرين، إذ نتعلم أننا بفعلنا هذا نجعل السيف حادًا ضد أنفسنا، ونجرح أنفسنا أكثر من جرحنا للآخرين[871].
V هذه علامة محبة الله الحانية أن يجعل الذين ينصبون الشباك يسقطون فيها حتى يكفون عن الصراع وتدبير المكائد ضد إخوتهم[872].
القديس يوحنا الذهبي الفم
اَللِّسَانُ الْكَاذِبُ يُبْغِضُ مُنْسَحِقِيهِ،
وَالْفَمُ الْمَلِقُ يُعِدُّ خَرَاباً [28].
يختم الأصحاح بالتحذير من اللسان الكاذب الذي يؤذي الآخرين ويبغضهم، كما يحذر من الفم الذي يتملق الغير، بينما يخطط الإنسان لخراب من يتحدث معه وهلاكه. يمكننا القول بأن ما يهدف إليه الحكيم هنا أن نواجه حقيقة أعماقنا بصراحة كاملة، فلا نغطي على ما في القلب من بغضة وكراهية بابتسامة مخادعة، أو كلمات تملق، أو كذب وخداع.
V الكذب غريبٌ عنا بصرف النظر عما إذا كان موضوعه خطيرًا أم بسيطًا، وحتى إذا كذب أحدٌ بقصد البلوغ إلى نوعٍ من الصلاح فهذا الكذب مع ذلك غير ممدوح لأنّ المخلِّص يقول إنّ الكذب يأتي من الشرير (مت5: 37؛ يو8: 44).
القديس يوحنا الأسيوطي
V لا تسمح لروح الكذب أن يوجد فيك لئلاَّ يسلِّمك الرب للهلاك.
V إذا سلّمت قلبك له في أحلام كاذبة، فهو يزداد رسوخاً في الفكر الباطل حتى يضلِّل كل الذين يقبلون الروح الذي يحب القول الذي كُتب عنه: «متى تكلَّم بالكذب فإنما يتكلَّم بما له لأنه كذَّاب وأبو الكذاب» (يو 14:8).
أنبا بولا الطموهي
من وحي أمثال 26
لتضمني إلى فئة أولادك!
V قلبي يتهلل بحبك الفائق.
أحببتنا ونزلت إلينا،
لتضم كل البشرية بالحب،
وتقيم من الجميع أبناءً لك.
V لأتجنب فئة الحمقى،
الذين في عنادهم أصروا على مقاومتك!
أعترف لك بجهلي،
لكنك تنير أعماقي بحكمتك.
تهبني فهمًا وحكمة،
فلا أشتهي إلا أن أكون على صورتك،
وأنطق بكلماتك!
لن تخرج من فمي كلمة لعنة،
بل كلمات البركة التي من عندك.
V أعطني حكمة فأعرف متى أتكلم ومتى أصمت.
فلا أنحدر مع الحمقى المعاندين،
ولا أنفعل، فأحمل ذات سماتهم.
لكن بالحكمة أسلك،
فأشهد لك بعملك في داخلي!
لأتجنب فئة الكسالى،
ففي أحضانك لن أعرف الخمول.
أنت والآب تعملان من أجل العالم كله.
بحبك تعمل فيّ وبي لحساب ملكوتك.
V لأتجنب فئة مثيري الخصام.
نزلت إلينا لتصالحنا مع أبيك.
وهبتنا الشركة مع السمائيين،
أقمت من كل القبائل والشعوب شعبًا مقدسًا لك،
لماذا الخصام، وأنت هو السلام عينه.
ليتني أقتنيك، فيمتلئ قلبي سلامًا،
ليتني أقتنيك، فلا تلقي الحية خبثها في فمي أو في قلبي.
ليتني أقتنيك، فتتقدس كلماتي،
لا أجد للنميمة طعمًا،
ولا للكذب موضعًا فيّ،
ولا للكلمة العنيفة احتياجًا لها.
إنما تملح كلماتي بملح روحك القدوس!
تفسير أمثال 25 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 27 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |