تفسير سفر الأمثال ١٢ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثاني عشر
وصايا الحكمة عن السلوك المتناقض
بعد أن قدم الحكيم مقابلة بين البار أو الصديق والشرير، أو بين الحكمة والجهالة (ص 10)، ثم أوضح سمات البار وبركات البرّ على المؤمن (ص 11)، يقدم لنا في هذا الأصحاح مقارنة بين سلوك الصديق وسلوك الشرير. تكاد كل عبارة أو آية أن تُعلن عن خبرة عملية عن السلوك المتناقض للصديق والشرير.
- قبول التأديب ورفضه1.
- الإنسان الصالح ورجل المكايد2-3.
- المرأة الفاضلة والمرأة المخزية4.
- أفكار وتدابير الصديقين والأشرار5-8.
- المظاهر الكاذبة الفارغة9.
- مراحم الصديق وقسوة الأشرار10.
- العمل والكسل11.
- شهوة الشرير اصطياد الأبرار12.
- الكلمات الخبيثة واللسان العذب13-14.
- سامع المشورة حكيم15.
- قمع روح الغضب والستر على الآخرين16.
- لسان الحكماء ولسان الجهلاء17-22.
- هدوء مع معرفة وليس جهل مع ثرثرة23.
- المثابرة والتراخي24.
- القلق والفرح25.
- طريقا البرّ والشر26.
- قبول التأديب ورفضه
“من يحب التأديب يحب المعرفة،
ومن يبغض التوبيخ فهو بليد” [ع 1]
من يقبل الأدب (التأديب) إنما يرغب في الحق. أما من يكره التوبيخ فيكون أشبه بحيوان (بليد) لا يُقَّدر الإصلاح (أم 10: 17). إنه يفضل إرادته الجامحة، حتى وإن كانت ضد التعليم السليم. قبول التأديب مؤشر صادق للرغبة في التقدم والإصلاح، وبالتالي الرغبة في التمتع بالمعرفة الصادقة. يقول المرتل: “ليضربني الصديق برحمة، وليوبخني فزيتٌ للرأس” (مز 141: 5). ويقول الرسول بولس: “كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر برّ للسلام” (عب 12: 11).
من يرفض التأديب يكون كالحيوان الذي يرفس من يقدم له أدوية للشفاء أو يعضه، لأنه لا يدرك ما وراء الألم، إنما يطلب الراحة الوقتية ولو على حساب صحته ومنفعته.
V إنَّني ملزم بوعظكم، وبالأخص استخدام التوبيخ معكم. لأن مثلما تُذيب النار الشمع، كذلك يلين الخوف من العقوبات قلوب الخطاة، ولا يفعل هذا فحسب، بل ويحرق خطاياكم بتوبتكم ورجوعكم إلى الفادي، ويغني عقولكم ويزيد دالَّتكم وجهادكم.
V إن هذا الأمر نصيحة لا حكم، دواء لا قصاص، تقويم لا تعذيب… علاج روحي لشفاء الخطاة وحفظهم من خطايا جديدة.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
V التأديب (أو التوبيخ) هو دليل على الرعاية المُحبَّة، وهو يقود إلى الفهم.
ويظهر المعلِّم هذا التوبيخ حين يقول في الكتاب: “كم مرَّة أردتُ أن أجمع أولادك، كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا” (مت 23: 37).
ويقول الكتاب أيضًا: “زنوا وراء الأصنام والحجر، وقرَّبوا محرقاتهم للبعل“. إنه لدليل عظيم على حبِّه، فمع أنه يعرف خزي الذين رفضوه وأنهم جروا بعيدًا عنه، مع ذلك يحثَّهم على التوبة… باهتمامه بالشعب وبَّخهم في إشعياء قائلاً: “هذا الشعب أكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمُبتعد عنِّي” (إش 29: 13). ويقول أيضًا: “باطلاً يعبدونني، وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس“. (مت 15: 9) هنا رعايته المُحبَّة تظهر خطاياهم والخلاص جنبًا إلى جنب[347].
القدِّيس إكليمنضس السكندري
- الإنسان الصالح ورجل المكايد
“الصالح ينال رضى من قبل الرب،
أما رجل المكايد فيُحكم عليه” [ع 2]
ينال الإنسان الصالح نعمة ونفعًا من قبل الرب، لأن كل صلاح فيه ليس من عنده، إنما هو عطية الرب له خلال النعمة المجانية. وإذ يخضع بالطاعة له ينمو صلاحه ويزداد. أما صلاح الله فمطلق من طبيعته، لا يتغير.
يرى البعض أن الترجمة الحرفية لكلمة “رضى” هي “الإرادة الصالحة”، فهي من عند الرب.
لا نصنع شيئًا صالحًا بأنفسنا وإنما بمشيئة الله ننال هذا الخلاص؛ ونحن مدعوّون (قديسين) ليس لأننا نستحق ذلك، وإنما لأن في ذلك مسرته[348].
القديس يوحنا الذهبي الفم
إن وَجدتَ أشياء أخرى تُدعى في الكتاب المقدس صالحة مثل الملاك (طو 5: 21، 2 مك 11: 6)، أو إنسان (أم 12: 2، مز 37: 23، مت 12: 35)، أو خادم (سي 7: 21، لو 19: 17) أو كنز (طو 4: 9، لو 6: 45)، أو قلب صالح (يهوديت 8: 28، حك 1: 1، سي 26: 4، لو 8: 15)، أو شجرة صالحة (2 مل 3: 19، مت 7: 17-19)، هذه كلها دعيت هكذا باستخدام غير دقيق للكلمة، حيث أن الصلاح الذي فيهم عارض وليس جوهريًا[349].
V المسيح هو الصلاح الذي كان ينتظره الشعب[350].
العلامة أوريجينوس
V إن فعلت الصلاح تحيا في الله، ويحيا أيضًا الذين يفعلون الخير مثلك[351].
هرماس
“رجل المكايد” لا يعني صانع المكايد بالأعمال والكلمات فحسب، وإنما من حمل في قلبه أو فكره الرغبة في تدبير المكايد ضد أخيه، حتى وإن لم يحقق ذلك بسبب عجز إمكانياته.
وجْه الرب يشرق على الإنسان الصالح، فيصير الإنسان ثابتًا لا يتزعزع (رو 14: 4). أما الشرير فلا يثبت في الدينونة، ولا الخطاة في مجمع الأبرار (مز 1: 5). راجع حوشاي وأخيتوفل (2 صم 15: 32؛ 16: 15، 17: 23).
V يموت البار وهو في قوة بساطته، وفي كامل سيادته على إرادته، له نفس ممتلئة كما من مروجٍ. أما الخاطي وإن كان في رغد العيش، تفوح منه العطور الذكية يختم حياته في مرارة نفسه، ويجتاز يومه الأخير دون أن يأخذ شيئًا من الخيرات التي تنعم بها يومًا ما، لا يحمل شيئًا سوى أجرة شره[352].
V يجيب القديس أيوب: لا تظنوا أنكم سعداء وأنتم منغمسون في الملذات، لأن ضربات الله لم تحل عليكم في هذه الحياة. “سراج الأشرار ينطفئ”. إنه يعطي ضوءً إلى زمنٍ، لكنه لا يحمل نورًا أبديًا. وبالرغم من أن العالم يحابي مثل هؤلاء الناس لأنهم يمارسون إرادة الله صاحب السلطان على العالم (يو 14: 30)، لكن عادة ما تحل لحظة التحول في الأحداث، حيث تأتي الأحزان من قبل غضب السماء وسخطها، حيث يُغربَلْ الأشرار “كالتبن قدام الريح”. يُغربل الظالمون كالقشٍ، والأبرار كحنطةٍ. التفتوا إلى الرب القائل لبطرس: “هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك” (لو 22: 31: 32)[353].
القديس أمبروسيوس
“لا يثبت الإنسان بالشر،
أما أصل الصديقين فلا يتقلقل” [ع 3]
V الإنسان الذي يؤسس حياته على الشر يكون كمن يبني بيته على الرمل كقول السيد المسيح، فينزل المطر وتجيء الأنهار وتهب الرياح، وتصطدم ذلك البيت، فيسقط، ويكون سقوطه عظيمًا (مت 7:27). أما الحكيم البار فيؤسس حياته على السيد المسيح – الصخرة – فينزل المطر، وتجيء الأنهار، وتهب الرياح، وتسقط على ذلك البيت، فلن يتزعزع.
لا يمكن لفيض الأنهار كما في بلاد مصر وأشور أن تؤذيهم، إنما الذين يبنون على الرمل، أي يمارسون حكمة العالم يصيبهم الضرر. الرياح التي تهب هي مثل الأنبياء الكذبة. هذه كلها تحل معًا في موضع واحد، وتضرب البيت. فإن كان مؤسسًا على الصخرة لا يصيبهم أذى، إذ لا يوجد طريق للحية على الصخرة (أم 30: 19)[354].
العلامة أوريجينوس
V الذين يسمعون كلمات الرب يشبهون رجلاً حكيمًا يبني على الصخر. الذين لا يتبعون كلمات الرب يشبهون إنسانًا غبيًا يبني بيته على الرمل.
V من يمارس الفضيلة يصير قادرًا بالمسيح الذي يقويه (في 4: 13). إننا نتقبل كل شيء من الله الذي يضع كل الأمور في نصابها. منه تأتي الحكمة والبصيرة والاتحاد مع كل ما هو صالح.
V لا يقدر الإنسان الشرير أن يتهم الله كعلةٍ لشروره ولغباوته. إنه يجعل من نفسه مثل غبي عندما ينسحب مما يصدر إليه حسب الطبيعة، فينحرف إلى ما هو على خلاف الطبيعة[355].
القديس كيرلس الكبير
V يتحدث يسوع عن الظروف البشرية والمصائب كالإشارة إلى المطر والطوفان والرياح، مثل الاتهامات الباطلة والسلب والموت وفقدان أعضاء الأسرة، والسب الصادر عن الغير، وكل الأمور البشعة في الحياة التي يمكن للإنسان أن يتكلم عنها. ويقول يسوع إن النفس التي تتبع طريق السمو لا تستسلم لهذه الكوارث المحتمل حدوثها. سرّ هذا أن النفس مؤسسة على الصخر.
يشير “الصخر” إلى الاعتماد على تعاليم ربنا يسوع، فإن وصاياه أقوى من أيَّة صخرة. إنهم يؤسسون في هدوء فوق كل الأمواج البشرية للحياة. من يحفظ هذه الوصايا بعناية يسمو، ليس فقط على الكائنات البشرية عندما يعلمونهم بخبثٍ، بل وفوق الشياطين أنفسهم بخططهم[356].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- المرأة الفاضلة والمرأة المخزية
“المرأة الفاضلة تاج لبعلها،
أما المخزية فكنخرٍ في عظامه” [ع 4]
من الخطورة أن نحد الفضيلة عند البتولية وحدها. فالمرأة الفاضلة تشرق منها سمات كثيرة كما جاء في أم 31. هذه بحق تاج رجلها. أما المرأة الجاهلة والكسلانة فتسبب له عارًا، وتحدره إلى الشيخوخة.
V يلزم أن يُحسب تاج المرأة زوجها، وتاج الزوج هو زواجه، فإن لكليهما زهرة اتحادهما وهو الطفل الذي بالحقيقة مروج الجسد. تاج الشيوخ أحفادهم، ومجد الأطفال آباءهم كما قيل (راجع أم 17: 6). مجدنا هو أب الجميع، وتاج كل الكنيسة هو المسيح[357].
القديس إكليمنضس السكندري
V عندما تذهب لتختار زوجة لا تتطلع إلى صاحبة لك في الحياة فحسب، وإنما صاحبة لك أيضًا في الفضيلة.
إنه لأمر محتم أن زوج المرأة الفاسدة يهلك معها في طريقها. لهذا تطلع إلى الفضيلة، لا إلى المال. فتصير الزوجة الفاضلة تاج المجد، لأنها قوية. أما الشريرة فكأن دودة تقطن في قلبها تسبب خرابًا تدريجيًا في صمتٍٍ.
أي شيء أكثر خطورة من هذا، إنها لا تظهر في الخارج، إنما هذا النوع من الزوجات يحقن السم في داخل النفس البائسة ويهلكها. وعلى العكس فإن الفضيلة تزيِّن من يتبعها، أما الشر فيحمل الشرير أكثر بغضته[358].
القديس يوحنا الذهبي الفم
شتان ما بين سارة التقية التي تشارك رجلها حياته الصالحة، وامرأة أيوب التي طلبت منه أن يلعن الله ويموت! يقول الرسول بطرس: “كما كانت سارة تطيع إبراهيم داعية إياه سيدها، التي صِرتنَّ أولادها، صانعات الخير، وغير خائفات خوفًا البتة”.
V عندما يكونا (الرجل وزوجته) في توافق، وأبناؤهما في تربية صالحة، وأهل بيتهما في تدبير صالح، يَشتَم الجيران رائحة الاتفاق الحلوة، ومعهم الأصدقاء والأقرباء. أما إذا كان الأمر على خلاف ذلك فكل شيء ينقلب ويصير في ارتباكٍ[359].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- أفكار وتدابير الصديقين والأشرار
“أفكار الصديقين عدل،
تدابير الأشرار غش” [ع 5]
أفكار الصديقين بسيطة وواضحة تهدف إلى ما هو لبنيان النفس والآخرين، فهي مستقيمة في عينيّ الله والناس. تترجم الأفكار الصالحة إلى كلمات صالحة وسلوك بار، ويكافئها الله محب البرّ والصلاح. أما الأشرار فتمتزج أفكارهم بالغش والخداع على حساب أقربائهم كما على حسابهم إذ يهلكون بسببها..
V تصدر الأفكار من ذواتنا إذ بطبيعتنا نتذكر ما نفعله أو فعلناه أو سمعناه. ويقول عن ذلك الطوباوي داود: “تفكرت في أيام القدم السنين الدهرية. اذكُر ترنميْ في الليل. مع قلبي أناجى وروحي تبحث” (مز 77: 5-6). مرة أخرى يقول: “الرب يعرف أفكار الإنسان أنها باطلة” (مز 94: 11)، “أفكار الصدّيقين عدل…” (أم 12: 5). وفي الإنجيل يقول الرب للفريسيين: “لماذا تفكرون بالشرّ في قلوبكم؟!” (مت 9: 4)[360].
الأب موسى
V قدر ما تهمل في مراعاتك لذهنك (أفكارك) تصير المسافة بعيدة بينك وبين يسوع.
هيسخيوس الأورشليمي
Hesychius of Jerusalem
V بالملاحظة الطويلة وجدنا فارق بين الأفكار التي تأتى من الملائكة والأفكار التي تأتى من الناس والأفكار النابعة عن الشيطان، ذلك الفارق هو:
تعمل الأفكار التي من الملائكة على كشف طبيعة الأشياء ومفاهيمها الروحية. كأن تكشف عن:
لأي غرض ُوجد الذهب؟!
ولماذا هو مبعثر كالرمل في الأودية؟
ولماذا يحصلون عليه بمشقة كبيرة وجهاد؟
وكيف أنه عند اكتشافه لا يغسل بماء بل بنار، وبعد ذلك يوضع بين أيدي صناع يصيغون منه شمعدانات ومجامر لبيت اللّه (2 أخبار 19:4-21)، تلك الأواني التي بنعمة اللّه لم يكن ملك بابل قادرًا على استخدامها الشخصي له (دا 3:5)، لكن كليوباس يقدم قلبًا ملتهبًا بهذه الأسرار (لو 32:24).
أما الفكر النابع عن الشياطين فلا يعرف هذا ولا يفهمه، لكنه بدون حياء يعرض فقط تملك الذهب، موهمًا إيانا بالسرور والمجد اللذين نحصل عليهما باقتنائنا للذهب.
أما الفكر البشرى (المجرد) فإنه لا يطلب حيازة الذهب ولا يشغف نحو فهم المعاني (الروحية لوجوده واستخدامه للخير…)، إنما يقدم للذهن صور الذهب دون شهوات ولا مطامع.
وإذا طبق الإنسان بعقله هذا الأمر في الأمور الأخرى (غير الذهب) فسيجد نفس الشيء.
القديس أوغريس
“كلام الأشرار كُمون للدم،
أما فم المستقيمين فينجيهم” [ع 6]
يلقى الأشرار كلماتهم في خبثٍ، وكأنها شباك لاصطياد الآخرين وسفك دمائهم. لكن المستقيمين يقدمون كلماتهم لإنقاذهم من الشباك المنصوبة لهم من الأشرار.
لقد حاول الفريسيون اصطياد السيد المسيح بكلماتهم، وجاءت إجابته تفحمهم وتبطل حيلهم الشريرة. “حينئذ ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة” (مت 22: 15، مر 12: 13، لو 11: 54).
V احفظوا ألسنتكم من أن تقول على إخوتكم شرًّا، لأنّ الذي يقول على أخيه شرًّا يُغضِب الله الساكن فيه. إنّ ما يعمله كل واحدٍ برفيقه فهو بالله يعمله.
V نفس الإنسان غير الكامل في الفضائل تجدها نقية كالشمس قبل أن تلحقه كلمة رديئة، فإذا سمع كلمة رديئة أو نميمة فللوقت تطغى الشياطين على عقله ويحجبون عنه النور، ويصيِّرونه شقيًّا بسبب أنّ نفسه متزعزعة وفضائله ناقصة.
القديس مقاريوس الكبير
V قال شيخ: “إن اللسان مملوء نارًا وهو يدنّس الجسد كله، فالذي يحب حياته فليشفق على لسانه. احرس شفاهك يا رجل الله والجم لسانك وأنت تنتفع بجميع أتعابك، فالذي يحفظ لسانه له كرامات كثيرة، فطوبى للذي يسود على لسانه، فإن أهراءه (أي مخازنه) تمتلئ من الخيرات”.
V قال شيخ: “إن كانت حركات لسانك غزيرة فقد انطفأت من قلبك الحركات الطاهرة، أما إن كان لسانك ساكتًا وقلبك يغلي بالحركات الطاهرة فطوباك لأن حركته بالروح ترفعك إلى هدوء الحياة. سكِّت لسانك ليتكلم قلبك، وسكِّت قلبك ليتكلم فيه الروح”.
فردوس الآباء
“تنقلب الأشرار ولا يكونون،
أما بيت الصديقين فيثبت” [ع 7]
قد يزدهر الأشرار، ويبدون ناجحين أصحاء لهم أبناء يرثونهم ويخلدون ذكراهم، لكن إن آجلاً أو عاجلاً يكتسحهم الشر، ويُفقدهم كل شيءٍ، وتهلك نفوسهم. أما الصديقون وإن عانوا من تجارب وآلام غير أن بيتهم يثبت.
إذ حلت التجارب المُرة بأيوب وفقد أولاده وبناته دفعة واحدة، ظن أصدقاؤه أن هذا شهادة صادقة وأكيدة عن شره الخطير وريائه. لكن تمجَّد أيوب وتمتع برؤية الله، ونال ضعف ما فقده، بل ولازالت ذكراه حية إلى اليوم في السماء وعلى الأرض، وكأن بيته لا يزال ثابتًا، أما أصدقاؤه فلا يعلم العالم عنهم شيئًا.
القابلتان اللتان طلب منهما فرعون قتل ذكور العبرانيات أثناء ولادتهم سلكتا بروح مخافة الله، لذلك قيل عنهما: “فأحسن الله إلى القابلتين… وكان إذ خافت القابلتان الله أنه صنع لهما بيوتًا” (خر 1: 21). كما قال ناثان النبي لداود الملك: “الرب يخبرك أن الرب يصنع لك بيتًا” (2 صم 7: 11). هكذا إذ ننعم بمخافة الرب يبني الله بنفسه لنا بيتًا روحيًا من صنع يديه ليسكن بنفسه فيه.
V بدون خوف الله لا يمكن أن يُبنى بيت. إن كان بخوف الله بُنيت بيوت بواسطة الذين لم يرتكبوا خطية، بل أقاموا المباني حسب مسرة الله، فماذا نفعل نحن الذين أُسرنا (بالخطية)؟ أصغ أيها الخاطي، يلزمنا أن نخاف الله لنتجنب الخطية، ولكن بعد حدوث ضياع لنا وانكسار لسفينتنا، يوجد قارب نجاة آخر وهو التوبة[361].
القديس جيروم
يرى البابا غريغوريوس الكبير: أن الشرير إذ ينقلب أو يتغير لا يكون، ليس بمعنى أنه يفقد وجوده أو كيانه، إنما لا يعود بعد قائمًا في حالة الشر التي كان عليها[362].
ظن فرعون الشرير أنه قادر أن يبيد شعب الله، فأمر بطرح أطفالهم في النهر، ولم يدرك أن شره يرتد على أسرته بعد 80 عامًا ويحطم جيشه، بينما يصنع الله عجائب لشعبه.
V أمر فرعون بطرح الأطفال في النهر. لو لم يُطرح الأطفال لما أُحضر موسى في القصر. حينما كان الطفل موسى في الأمان لم يكن مكرمًا، وعندما طُرح في النهر صار مكرمًا. صنع الله ذلك ليُظهر غنى وسائله وطرقه[363].
القديس يوحنا الذهبي الفم
“بحسب فطنته يُحمد الإنسان،
أما الملتوي القلب فيكون للهوان” [ع 8]
ليس ما يُكرِم الإنسان مثل الحكمة السماوية، إذ تعكس عليه بهاءً سمائيًا داخلي، ويحمل في داخله روح الحق. كل البشر يفضلون الحكمة، والعالم يكرِّم التعقل والفهم الروحي، وإن كان الذي يتمسك بهذه الأمور يتعرض لإضطهادات ومقاومة.
أما الإنسان الملتوي الذي يظن في نفسه أنه حكيم وقادر على البلوغ إلى هدفه بطرق ملتوية، فلا يُسر به الله، بل وحتى البشر يكتشفون حقيقة شخصيته ويستخفون به، ويهزأون بأسلوبه الملتوي.
V مفجِعٌ ومميتٌ سمّ العدو هذا، فبه أعمى كثيرين وطرحهم على حين غِرّةٍ، لأنه يوحي للنفس بفكرٍ زائفٍ ومُهلِكٍ حتى تتصوّر أنها أدركت أمورًا غير مدرَكة عند معظم الناس، وأنها متفوِّقة في الصوم. كما أنه يوحي للنفس بأعمالٍ بطوليةٍ عديدةٍ، ويُضلّها بجعلها تنسى كل خطاياها لكي تشعر بتفوُّقها على مَنْ هم حولها. إنه يسرق من قلبها ذكر أخطائها، وهو لا يفعل ذلك لمنفعة النفس بل حتى لا يمكنها أن تنطق بهذا القول الشافي: “إليك وحدك أخطأتُ، ارحمني” (مز51: 4و1)، ولا يسمح لها أن تقول: “أحمد الرب بكل قلبي” (مز111: 1). بل كما قال الشيطان نفسه في قلبه: “أرفع كرسيي فوق كواكب الله” (إش14: 13)، وهكذا يخدع الإنسان بالاتجاه إلى السيطرة والمناصب العالية، وأيضًا بمناصب التعليم والتباهي بالشفاء. وهكذا تهلك النفس بالخداع إذ تُصاب بجرحٍ يصعُب شفاؤه.
الأم سنكليتيكي
V لا تقبل إليك المجد الباطل، فإنك لا تقدر أن تحتمل خداعه وجنون نفاقه إذ يجلب عليك الأفكار الغاشة.
V إذا أسلمت قلبك له في أحلام كاذبة، فهو يزداد رسوخًا في الفكر الباطل حتى يضلِّل كل الذين يقبلون الروح الذي يحب القول الذي كُتب عنه: “متى تكلَّم بالكذب فإنما يتكلَّم بما له لأنه كذَّاب وأبو الكذاب” (يو 14:8).
أنبا بولا الطموهي
- المظاهر الكاذبة الفارغة
“الحقير وله عبد خير من المتمجد ويعوزه الخبز” [ع9]
يقول بأن الإنسان الذي يبدو حقيرًا، ليس له صيت أو شهرة، ولا مظاهر العظمة والأبهة، لكن لديه خادم أو عبد يقدم له خدمة متواضعة، أفضل ممن يمجد نفسه ويهتم بالعظمة الباطلة، وليس لديه ما يعيش به، حتى الضروريات. حينما أراد شاول أن يعطي ابنته زوجة لداود، لم يتشامخ داود، بل قال لعبيد الملك: “هل هو مُستخف في أعينكم مصاهرة الملك، وأنا رجل مسكين وفقير” (1 صم 18: 23).
جاءت الترجمة بلاتينية (الفولجاتا) “الرجل الفقير الذي يعول نفسه خير، من المتكبر وينقصه الخبز”.
المثل بوجه عام يعني أنه خير للإنسان أن يبدو فقيرًا لكن أعماقه لا ينقصها شيء، من إنسانٍ ينشغل بالمظاهر الخارجية، والمجد الباطل ويعاني من الفراغ.
V في هذه الحبائل يسقط الضعفاء… إذ بينما هم غير مبالين بخلاصهم، وفيما هم محتاجون تعليم الآخرين وإرشادهم، ينخدعون بحيل الشيطان تحت ستار إرشاد وحث الآخرين على التوبة. هكذا إذا ما حصلوا على ربح من حديثهم مع الآخرين يفقدون صبرهم في الأمور اللازم اقتنائها. وهكذا يصير لهم ما قاله حجي النبي: “زرعتم كثيرًا ودخَّلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأُون. والآخذ أجرةً يأخذ أجرةً لكيسٍ مثقوب” (حج 1: 6). لأنه بالحقيقة الإنسان الذي يضع أجرته في كيس مثقوب يخسر كل ما بدا أنه قد ربحه من حديثه مع الآخرين، بسبب فقدانه لضبطه نفسه، ولارتباكه الذهني كل يوم. وتكون النتيجة أنه بينما يظن أنه يقدر أن يقتني ربحًا عظيمًا بتعليمه للغير، إذ به في الحقيقة يحرم نفسه من النمو، لأنه “يُوجَد مَن يتغانَى ولا شيءَ عندهُ، ومَن يتفاقر وعندهُ غنًى جزيل”، “الحقير وله عبد خير من المتمجّد ويعوزهُ الخبز” (أم 13: 7، 12: 9)[364].
الأب إبراهيم
V إذا تسربلت بالمسكنة في هذا العالم مع التواضع، فسوف تكون مع ابن الله في ملكوته.
V طوبى للمسكين الفقير الذي يحفظ السكون. فهو يكون صديقًا لله مثل إبراهيم، لأن الرب لا يصنع أمرًا إلاَّ وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء (عا 9:3).
V ليكن تعبك بينك وبين الله، حتى يظهره الله في القيامة ويمجِّدك من أجله وسط جميع الأبرار والصديقين.
V لا تقبل إليك المجد الباطل، فإنك لا تقدر أن تحتمل خداعه وجنون نفاقه إذ يجلب عليك الأفكار الغاشة.
V أيها المسكين، اقتنِ الصبر وكن متواضعًا فتبلغ إلى هذه الكرامة. وليفكِّر قلبك في السمائيات وليس فيما على الأرض. وثق أن القديسين سيأتون عندك. وتمثَّل بتلاميذ يسوع المسيح، الذي له المجد والقوة إلى الأبد. آمين.
أنبا بولا الطموهي
- مراحم الصديق وقسوة الأشرار
“الصديق يراعي نفس بهيمته،
أما مراحم الأشرار فقاسية” [ع 10]
لا يستطيع الإنسان البار إلا أن يكون مترفقًا حتى مع الحيوانات. أما الشرير فيصير مفترسًا عندما ينال سلطة على غيره. العنف والشر أخوان يعملان معًا.
V “الصديق يترفق على نفس حيواناته“. إنه تدريب للحنو البشري، عندما يعتاد شخص ما أن يظهر الرحمة على زملائه البشريين خلال ممارسته لها على حيواناته. حتمًا من يحنو على الحيوانات يميل بالأكثر إلى الحنو على إخوته… هل الصديقون يحنون على نفوس حيواناتهم؟ مطلقًا! فإنه بالتأكيد يلزم أن ينقل إليهم منافع، فيمارس بالأكثر ذلك مع زملائه البشر. حسنًا أمر الله أن نهتم بالحيوانات المجروحة ونرد الضال منها، وألا نكم فاه ثورٍ (تث 22: 1-4). يطلب منا أن نحفظ سلامة الحيوانات تمامًا، أولاً لأجلنا نحن، ثانيًا لكي تقوم بخدمتنا. وفي نفس الوقت هذا فيه تدريب على الاهتمام بالغير وعمل ما هو نافع لهم. حقًا من يتحنن على الغرباء بالأكثر يتحنن على من يعرفهم. ومن يحنو على خَدمِه بالأكثر يحنو على إخوته، ربما تقول: يمدك الحيوان بخدمة مفيدة، أما أخوك ففي أي شيء ينفعك؟ أقول إنه معين لك، أكثر منه وذلك في نظر الله. إنك تستطيع أن ترى هذا عندما نعتني هكذا بحيواناتنا، فإننا لا نحسب هذا عملاً وضيعًا. فإننا إذ نفعل هذا لسنا نخدمهم وحدهم بل نخدم أنفسنا أيضًا[365].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V عندما يكتسب أي إنسان محبة الصلاح التي تكلمنا عنها، والتي بها نتشبه بالله، حينئذ يوهب له قلب الله الحنون، فيصلي من أجل المسيئين إليه، قائلاً على نفس المثال: “يا أبتاهُ اِغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34).
هناك علامة واضحة تكشف النفس التي لم تتطهر بعد كلية من رواسب الخطية، وهى عدم حزنها من أجل أخطاء الآخرين في حنو، إنما تحكم عليهم كديان في لوم عنيف.
لكن، كيف يقدر أن ينال كمال نقاوة القلب من لا يُنفذ الوصايا التي يظهرها الرسول “احملوا بعضكم أثقال بعضٍ، وهكذا تمِّموا ناموس المسيح” (غل 6: 2)، ومن ليس لديه فضيلة المحبة التي هي: “لا تُقبِح… ولا تحتدُّ… ولا تظنُّ السوءَ… وتحتمل كلَّ شيءٍ، وتصبر على كل شيءٍ” (1 كو 13: 4-7)؟! لأن “الصدّيق يراعينفس بهيمتهِ، أما مراحم الأشرار فقاسية” (أم 12: 10).
هكذا يسقط الإنسان (الراهب) في نفس الأخطاء التي يدين فيها غيره بقسوة بغير ترفق،لأن “الرسول الشرير يقع في الشر” (أم 13: 17)، و”مَن يسدُّ أذنيهِ عن صراخ المسكين فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجَاب” (أم 21: 13)[366].
الأب شيريمون
يسألنا القديس أغسطينوس أن يكون لنا نزاع الحمام وليس قبلات الذئاب. فالحمام حتى في نزاعه لا تصيب الواحدة الأخرى، إنما تستخدم منقارها لتهاجم منقار الأخرى دون أذية، وبعد النزاع يطير الحمام معًا ويأكلون معًا في انسجام. أما الذئاب، حتى إن أردت أن تُقبِّل تهجم وتؤذي. هكذا المؤمن يحمل الحنو نحو الكل، والشرير يفيض عنفًا وقسوة.
V من يستخدم العنف أشر من الذي يسرق[367].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V قد أُوصيت أن تنقذ الحمار أو الثور الملقى في الوحل. هل ترى مسيحيًا مثلك خلُص بدم المسيح ملقيًا في بالوعة السكْر، ويتمرغ في وحل التبذير، وتقف صامتًا؟ هل تعبر ولا تمد يد الرحمة؟ هل تقف عند الصراخ والتوبيخ أم ترتعب من أجله؟[368]
الأب قيصريوس اسقف آرل
V إن كانت الشريعة لن تسمح لك أن تفصل الحيوان غير العاقل الصغير من أمه قبل أن يرضع اللبن (لا 22: 27 الخ)، كم بالأكثر يجب إعداد البشرية ضد العنف[369].
القديس إكليمنضس السكندري
- العمل والكسل
“من يشتغل بحقله يشبع خبزًا،
أما تابع البطالين فهو عديم الفهم” [ع 11]
كلمة الله حقل يحتاج إلى فلاحة مستمرة (2 تي 2: 15). كل لحظة نكرسها لكلمة الله لها ثمرها في حينه. أما من يضيع وقته في أمور غير لائقة فلا يتمتع بالمعرفة الحقيقية، لأنه لا يُفلح حقل الكتاب المقدس، وبالتالي يُحرَم من خبز الكلمة.
يليق بالمؤمن أن يحرث أرض الكتاب كل يوم لكي يشبع من الخبز السماوي.فإن من يسلك في طريق الكتاب يركض نحو السماء وينمو في كل عمل صالح.
يمثل تيموثاوس الإنسان النامي خلال الكلمة (2 تي 3: 14-17)، ويهوياقيم يمثل المقاوم للكلمة (إر 36: 22-32).
V بلغني أن إنسانًا كسلذان أخذ في حضنه الكتاب المقدس من الساعة السابعة (أي الواحدة بعد الظهر) حتى غروب الشمس ولم يقدر أن يفتحه البتّة وكأنه مربوط برصاص. لكن أنبا أنطونيوس فعل كما أظهر له الملاك: فتارةً كان يجلس ولعمله ممارسًا، وتارةً أخرى ويقوم للصلاة ملازمًا، وتارةً يجلس ولكلام الله قارئًا. وقد حظيَ باستنارة لدرجة أنه قال لأحد فلاسفة زمانه: [يكفيني أن أتأمل في طبيعة المخلوقات دائمًا، وأتلو في أقوال الرب حتى ظلمة الليل.] إلى هذا الحدّ كان يتصل بالله، وكان ليله يضيء كالنهار كما قيل: “الظلمة أيضًا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء” (مز 139: 12).
القديس نيلوس السينائي
- شهوات الشرير شريرة
” شهوات الشرير شريرة،
وأصل الصديقين يجدي” [ع 12 LXX]
شهوات الشرير ِشريرة، كأنه يفيض بما في قلبه حتى على شهواته الداخلية وسلوكه الظاهر. إنه كمن يلقي بالشباك في كل موضع لكي يقتنص الشرور، وهو لا يعلم أنه وهو يصطادها تصطاد نفسه في حبائلها.
أما الصديق، إذ هو أصيل في فكره ومبادئه يتحرك باتزانٍ لخير الجميع، يحتملهم بالحب ولا يدينهم.
V كان رجلٌ شريفٌ له مدين، فظلّ يطالبه بالدين لمدة عشر سنوات ولم يُجبه، وكان الدائن يصبر عليه بطيب قلبه. وكان له صديق، فقال له: “إنني متعجّبٌ منك، كيف لم تحقد عليه، لأن لك زمانًا وأنت تطلب منه ولم يستجب؟”
فقال له: “أنت تعجب من أنني أطلت روحي عليه عشر سنوات، وهوذا الله يطلب مني أكثر من خمسين سنة أن أحفظ وصاياه، وحتى الآن لم أستجب له ولم أتمم مشيئته، وهو بطيب قلبه يصبر عليَّ. فإن كنتُ أنا الإنسان لم أستجب لله، وهو لا يغضب عليَّ، فلا عجب إن كان إنسانًا مثلي لا يستجيبني وأطيل روحي عليه”.
V اِشتكى أحد الإخوة إلى شيخ قائلاً: “ماذا أصنع يا أبي، فإنّ أخي يُحزنني لأنه دوّار؟” فقال الشيخ: “اِحتمله يا حبيبي، فإنّ الله يردّه إذا رأى صبرك ومعاملتك له بالرفق واللين، وأبعد عنك القسوة، فإنّ شيطانًا لا يطرد شيطانًا. وبرفقك وصبرك يرجع، لأنّ الله إنما يردّ الإنسان بطول روحه وطيبة قلبه واحتماله”.
فردوس الآباء
- الكلمات الخبيثة واللسان العذب
“في معصية الشفتين شرك الشرير،
أما الصديق فيخرج من الضيق” [ع 13]
يصدر الحكم على الأشرار في يوم الرب العظيم خلال كلماتهم الخبيثة التي نطقوا بها. ما حملوه في حياتهم من عصيان للوصية الإلهية، ومن شهوة للشر يدينهم، ولا يفلتون من الشباك التي نصبوها لأنفسهم وهم لا يدرون. أما الإنسان البار فيقف في يوم الرب العظيم متهللاً؛ يشعر أن ما احتمله من ضيقات وتجارب وآلام صارت سرّ مجدٍ أبديٍ له.
V ولا ترافق ذا اللسان القاسي ولا متعظِّم القلب.
أنبا بولا الطموهي
V قال شيخ: “إذا شتم الراهب أخاه بذكر شيء من الخطايا كأن يقول له: يا زاني أو يا سارق أو يا كذاب، فإن سكت المشتوم وغفر للشاتم، وقال في نفسه: بالحقيقة إنني خاطئ، فإن الخطية التي شُتم بذكرها وقال عنها إنه خاطئ تُغفَر له، وتصير على الشاتم لأنه بدلاً من الاعتراف بخطيته أظهر خطية أخيه، ولكون المشتوم احتمل إشهار خطيته يُحسَب له اعترافًا، ولكونه غفر لأخيه نال المغفرة”.
فردوس الآباء
V لا يُستعمل الوعاء الذهبي للأشياء الدنيئة لغِلوّ ثمنه، فكم بالحري الفم، فهو أثمن من الذهب والمرجان، فلا يجوز أن ندنِّسه بالكلام القبيح والشتم وطعن الآخرين.
V السكوت هو نموٌ عظيمٌ للإنسان وراحة لنفسه. السكوت يعطي القلب عزلةً دائمة. السكوت يجلب الدموع للإنسان، السكوت يُبعِد الغضب، السكوت قرين النسك، السكوت يولِّد المعرفة، السكوت يحرس الحب، السكوت لا يوجع قلب إنسان ولا يشكِّك أحدًا، السكوت يعمل عمله بدون تذمُّر، السكوت يحفظ الشفتين واللسان ولا يُبقي في القلب شيئًا من الشرّ، السكوت هو كمال الفلسفة، فمَنْ يتمسّك بالسكوت يستطيع أن يتمسّك بجميع الحسنات. الذي يلازم السكوت بمعرفةٍ فقد خُتِم بخاتم المسيح، والذي يحفظه فإنه بلا شكٍّ يرث ملكوت السماوات.
القديس يوحنا الذهبي الفم
الإنسان يشبع خيرًا من ثمر فمه،
ومكافأة يديّ الإنسان تُرد له” [ع 14]
كثيرًا ما يركز الحكيم على اللسان، فالبار يشبع بالخيرات خلال لسانه العذب المقدس لحساب ملكوت الله، وما يمارسه يرتد إليه. هكذا باللسان كما بالعمل يزرع الإنسان ليحصد ثمرًا حسبما زرع. “فإن الذي يزرعه الإنسان، إياه يحصد أيضًا” (غل 6: 7).
V إن الصمت من أجل الله جيد، كما أن الكلام من أجل الله جيد.
الأب بيمين
- سامع المشورة حكيم
“طريق الجاهل مستقيم في عينيه،
أما سامع المشورة فهو حكيم” [ع 15]
الإنسان الغبي الذي تنقصه الحكمة الإلهية معتد بنفسه، لا يطلب مشورة الله، ولا يلجأ إلى أبٍ أو مرشدٍ. أما الحكيم ففي تواضعه يلجأ إلى الله، ويستشير، غير متشبث دون حوارٍ لائق.
V من يعتمد على رأيه الذاتي، ولو كان قدِّيسًا، فهو مخدوع، وخطر خداعه أخطر من خطر المبتدئ الذي سلََّّم تدبيره بيد غيره.
فالأول يشبه ربَّان سفينة ألقى بنفسه في مركبٍ بلا شراعٍ ولا مجدافٍ في وسط البحر، متَّكلاً على حذاقته وفن تدبيره. والثاني أي المبتدئ يشبه من لا خبرة له في سفر البحر، فيطلب من نوتي ماهر أن يُركبه في سفينته العامرة بكل لوازمها واحتياجاتها.
فلا ينخدع أحدكم ويهرب من نير الطاعة اللين، عازمًا أن يتمسَّك برأيه في الأمور الروحيَّة، مثل الصوم والصلاة وغير ذلك من علامات الإيمان والنسك، ظانًا أنه بذلك يخلص!
القديس يوحنا الذهبي الفم
V إن طريق الطاعة هو أقصر المسالك، وإن يكن أكثرها صعوبة. ولا يوجد إلاَّ طريق واحد متى سلكنا فيه ضللنا: وهو الذي ندعوه “الاتِّكال على الذات وعلى إرادتنا الشخصيَّة”.
V الطاعة احتجاج أمام الله. فإن سئلت منه: لماذا فعلت هذا؟ تجيبه: “أنت يا سيِّد أمرت بالطاعة، وأنا فعلت ما أمرت به”، فتجاوبه هكذا وتتبرَّر.
إن السفر بهذه السفينة فيه أمان من الغرق. فيسافر الإنسان وهو نائم، كما يسافر الإنسان في السفينة نائمًا ولا يلتزم بتدبيرها، لأن مدبرها حاضر. هكذا حال الإنسان السائر تحت الطاعة، يسافر نحو السماء والكمال وهو نائم من غير تعبٍ ولا تفكيرٍ فيما ينبغي أن يفعل. لأن الرؤساء هم مدبِّرو هذه السفينة والساهرون من أجله. حقًا، إنه ليس بالأمر الهيِّن بل هو عظيم جدًا. فالإنسان يجتاز بحر هذا العالم وهو على ساعد غيره وذراعه! هذه هي النعمة الكبرى التي يفعلها الله مع السالك تحت الطاعة.
القدِّيس يوحنا الدرجي
V ابتدأ أبونا القديس يؤنس حياته الرهبانية بالطاعة الكاملة والتواضع لكي بهما يهدم أصول الخطية، وكان أنبا أموي يؤدِّبه بناموس الرب، وكان كل ما يعلِّمه إياه يتمِّمه ويحفظ المشورة وهو طائع جدًا، لذلك فقد كانت نعمة الله تؤازره.
V كان القديس يؤنس يقول للإخوة: “اخضعوا بطاعةٍ كاملةٍ حسب سيرة آبائنا. اقبلوا المشورة بإيمانٍ وبالأخص بتواضع ونقاوةٍ وخوف الله والثبات في الله والانشغال به، هذه الأمور هي أسمى من كل الفضائل وتجعل النفس تضيء بالله باستقامتها”. وقد ذكر الآباء عنه أنه كما أن الأرض لا يمكنها أن تسقط كذلك كان أنبا يؤنس القصير لا يمكنه أن يسقط بسبب عظم تواضعه، فقد أكمل طاعةً عظيمةً وهو تحت الخضوع لأبيه الروحاني إذ كان متّقدًا بنار الروح القدس.
فردوس الآباء
- قمع روح الغضب والستر على الآخرين
“غضب الجاهل يعرف في يومه،
أما ساتر الهوان فهو ذكي” [ع 16]
V يجدر بنا أن نقمع كل حركة من حركات الغضب ونلطفها تحت إرشاد التمييز (الحكمة)، حتى لا نتهور بالغيظ الأعمى، الأمر الذي قال عنه سليمان: “الجاهل يُظهر كل غيظهِ، والحكيم يسكنهُ أخيرًا” (أم 11:29). بمعنى أن الإنسان الجاهل يلتهب بانفعال الغضب لينتقم لنفسه، أما الحكيم فبسبب نضوج مشورته ولطفه يطفئ الغضب شيئًا فشيئًا ويتخلص منه.
يقول الرسول أمرًا مشابهًا: “لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباءُ، بل اِعطوا مكانًا للغضب. لأنهُ مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الربُّ” (رو 12: 19). بمعنى لا تسمحوا لقلوبكم أن تُحبس في مضايق عدم الصبر والجُبن، حتى متى ثارت أية عاصفة عنيفة للغضب لا تقدر أن تحتملها، لكن لتكن قلوبكم متسعة تتقبل موجات كلمات الغضب في تيارات الحب المتسعة التي “تحتمل كلَّ شيءٍ… وتصبر على كل شيءٍ” (1 كو 13: 7). وهكذا تتسع أذهانكم بطول الأناة والصبر ويكون فيه أعماق المشورة الأمينة التي تستقبل دخان الغضب وتبيده.
يمكن أن تفهم العبارة بالمعنى التالي: إننا نضع مكانًا للغضب، وذلك بقدر ما نخضع بذهنٍ متواضعٍ هادئ لانفعال الآخرين، وننحني لعدم صبر الثائرين، كما لو كنا نستحق كل صنوف الخطأ (كتأديبٍ لنا).
أما الذين يشوِّهون معنى الكمال الذي يتحدث عنه الرسول مفسرين “وضع مكان الغضب” بأنه الابتعاد عن الإنسان في وقت غضبه، يبدو لي أنهم بهذا لا يقطعون أسباب الغضب، بل يهيجون بواعث النزاع. لأنه ما لم نصلح غضب القريب في الحال بإصلاحٍ مملوء تواضعًا فإن الابتعاد يثير القريب أكثر…
يتكلم سليمان عن أمرٍ كهذا قائلاً: “لا تسرع بروحك إلى الغضب، لأن الغضب يستقر في حضن الجهال” (جا 7: 9). و”لا تبرز عاجلاً إلى الخصام لئَلاَّ تفعل شيئًا في الآخر حين يخزيك قريبك” (أم 25: 8). وهو بهذا لا يلوم التسرع في النزاع بمعنى أنه يمدح النزاع المتأخر.
بنفس الطريقة يجب أن نفهم القول: “غضب الجاهل يُعرَف في يومهِ. أما ساتر الهوان فهو ذكيّ” (أم 12: 16)، لأنه لا يعنى أن الحكيم يخزن انفجار الغضب خفية، إنما يلوم انفجار الغضب المتهور… يلزمه أن يخفي الانفجار بهذا السبب، وهو أنه عندما يتركه إلى حين يُهدئ روح الغضب إلى الأبد. لأن هذه هي طبيعة الغضب، عندما يترك له مكان (أي لا نتسرع به) يضعف ويبيد، أما إذا عُرض الغضب في حالة الثورة فإنه يحرق أكثر فأكثر.
يجب على القلوب أن تتسع وتنفتح حتى لا تنحصر في مضيقات الجُبن وتمتلئ بالغضب المتزايد، وتصير غير قادرة على تقبُّل وصايا الله، بما يدعوه النبي “اتساع القلب أو الاتساع الفائق”. إذ يقول النبي: “في طريق وصاياك سعيت عندما وسَّعت قلبي” (مز 119: 32).
لأن بطء الغضب هو حكمة، نتعلمها بواسطة أقوال الكتاب المقدس الواضحة لأن “بطيء الغضب كثير الفهم، وقصير الروح معلّي الحمق” (أم 14: 29). لذلك يقول الكتاب المقدس عن من طلب من الرب عطية الحكمة: “وأعطى الله سليمان حكمةً وفهمًا كثيرًا جدًّا ورحبة قلب، كالرمل الذي على شاطئِ البحر” (1 مل 4: 29)[370].
الأب يوسف
الجاهل في غباوة يفضح الآخرين كمن هو أفضل منهم، وأما الحكيم فيستر على الآخرين.
إذ سكر نوح وتعرَّى أخبر حام أخويه خارجًا (تك 9: 22). أما سام ويافث فأخذا رداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء، فلم يبصرا عورة أبيهما (تك 23: 9).
V جلب حام بن نوح على نفسه اللعنة، لأنه ضحك عندما رأى عورة أبيه. أما اللذين سترا عورة أبيهما فقد نالا البركة[371].
القديس أمبروسيوس
V لا تقل إن فلانًا رديء بطبعه، وفلانًا جيد في طبعه. لأنه إن كان صالحًا بطبعه ألا يمكنه قط أن يصير رديئًا، وإن كان رديئًا بطبعه ألا يمكن قط أن يصير صالحًا؟ وأما الآن، فنحن نرى الانتقال يصير بسرعة من حالٍ إلى آخر… هذا لم نره فقط في الأسفار المقدسة، أعني أن العشارين صاروا رسلاً، والتلميذ صار مسلمًا لسيده، والزانيات صرن عفيفات، واللصوص صاروا من الفائزين، والمنجمين صاروا ساجدين لله، والكفار انتقلوا إلى حسن العبادة… هذا حدث في العهد القديم والعهد الجديد، بل وفي كل يوم يمكن لكل أحد أن يرى هذه الأمور حادثة… فلا يزمع أحد أن يبكت آخر قائلاً: أيها الشرير المستسلم لآلام الخطية.
V إن كان يُحسب شرًا ألا يرى الإنسان خطاياه، فإن شرّه يكون مضاعفًا إذ يجلس على كرسي إدانة الآخرين بينما يحمل خشبة في عينيه[372].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
- لسان الحكماء ولسان الجهلاء!
في الآيات التالية [ع 17-22] يتحدث الحكيم عن لسان الحكماء وما يقابله من لسان الأشرار الكاذب. ينطق الحكماء بالحق، ولا يعرفون الكذب، هذا هو موضع سرور الله نفسه بكونه الحق الذي لا يعرف الباطل. أما الأشرار فيستعذبون الكذب ويُسرون به، وهو مكرهة الرب الذي لا يطيق الباطل ولا الكذب ولا الخداع أو الخبث.
“من يتفوَّه بالحق يظهر العدل،
والشاهد الكاذب يظهر غشًا” [ع 17]
غالبًا ما يكشف اللسان عمَّا في القلب. فالناطق بالحق يشهد للبرّ أو العدل القائم في قلبه. أما من ينطق بالكذب فيكشف عمَّا في قلبه من التواء وغش.
V “قال الأب بيشوي الشماس: قلتُ لأبوينا الروميين (مكسيموس ودوماديوس) مرةً: لو كنتما الآن في القسطنطينية فبالتأكيد كنا نجدكما ملكين الآن‘. فأدارا وجهيهما نحوي، وقالا لي بوداعةٍ: ’أين هي روحك أيها الأخ حتى قلتَ هذه الكلمة؟ لقد قلنا لك عدّة مرات يا أخ بيشوي إنه سواء كنتَ جالسًا معنا أو كنتَ في مسكنك يجب أن تتمسّك دائمًا باسم الخلاص الذي لربنا يسوع المسيح بلا انقطاع، لأنه بالحقيقة لو كان هذا الاسم الأقدس في قلبك لما قلتَ هذه الكلمة التي نطقتها الآن. لأننا لو أهملنا هذا الاسم الأقدس نموت بالتأكيد في خطايانا. فلنبغض الحرية (في الكلام) والمزاح والكلمات الباطلة التي تبدِّد كل ثمار الراهب. عندما كنا في سوريا كان الناس يحاولون إسعادنا دون أن يتركونا نفكر في خطايانا، ولكن الغربة والسكوت بفهم واحتمال الشدائد هذه هي خصائص جنسنا. فالشدّة تلد الصلاة في طهارة، والصلاة تلد مخافة الله والمحبة، وهذا ما يُنشئ الرجل، لأنه بالتأكيد لا جاه ولا غِنى ولا شجاعة مكرّمة عند الله، ولكن النفس القديسة التي تبحث عنه وعن ذبيحته وتضحيته، هذا هو خلاصنا”.
فردوس الآباء
V لا تسمح لروح الكذب أن يوجد فيك لئلاَّ يسلِّمك الرب للهلاك.
القديس أنبا بولا الطموهي
“يوجد من يهذر مثل طعن السيف،
أما لسان الحكماء فشفاء” [ع 18]
من يبث كلمات جارحة أو لطيفة – تحت مظهر المزاح والمرح – إنما يبث سمومًا، ويكون كمن يطعن الآخرين بالسيف، كما يطعن نفسه. أما الكلمات الجادة التي لها مسحة الروح الهادئ فتشفي الجراحات وتسند الآخرين، وأيضًا تبني نفسه.
V الدالّة والمزاح والضحك تشبه نارًا تشتعل في قصبٍ وتُهلِك.
أنبا أغاثون
V لأننا لا نتحفظ من الزلاّت الصغار نقع في الكبار. فمثلاً ضحْك إنسانٍ في غير وقت الضحك يجرّ غيره إلى الضحك، ثم يقول: ما هو الضرر من الضحك؟ وحينئذٍ تبدأ مخافة الله تنقلع منه، ثم يتولد من الضحك المزاح، ومن المزاح الأقوال القبيحة، وهذه تنتج عنها الأفعال المذمومة. فالعدو المخادع يسهِّل علينا الزلاّت الصغار، ومنها يسحبنا إلى الخطايا الكبار، ومن هنا يقودنا إلى اليأس. فبهذا التدرُّج يستدرجنا إلى الأمور بطريقةٍ مستورة. فيجب علينا أن نطرد هواجسه من بدايتها وألاّ نتهاون بالصغائر لأنّ العدو يكمن فيها ليجرّنا إلى الكبائر. لأنه لو كان يحاربنا بطريقةٍ ظاهرةٍ لكان قتاله سهلاً علينا وقهره متيسِّرًا لنا، لكنه ينصب لنا كمائنًا وفخاخًا لا نقدر أن نتخلّص منها سريعًا.
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
“شفة الصدق تثبت إلى الأبد،
ولسان الكذب إنما هو إلى طرفة العين” [ع 19]
من ينطق بالحق يثبت في الله الحق، وتصير كلماته خالدة تصحبه حتى الأبدية كسرّ مجد له. أما اللسان الكاذب فيلتصق بإبليس الكاذب وأب الكاذبين، وفي لحظة أو في طرفة عين ينكشف كذبه وخداعه، فتتدمَّر خططه كما تتدمَّر حياته.
“الغش في قلب الذين يفكرون في الشر،
أما المشيرون بالسلام فلهم فرح” [ع 20]
ما ينطق به الإنسان يرتد إليه، ويتفاعل مع أعماقه أكثر من أثره على الغير، فمن ينطق بالشر يحصد في قلبه وفكره غشًا وشرًا، ومن يقدم مشورة سلام يتمتع في أعماقه بالفرح الداخلي.
لا يصيب الصدِّيق شر،
أما الأشرار فيمتلئون سوءًا” [ع 21]
يبذل الأشرار كل الجهد لمضايقة الصدِّيق وإصابته بأضرار، لكن شرورهم ترجع إليهم، ولا تصيب الصدِّيق بأذى. ويبذل الصدِّيق كل الجهد ليقدم خيرًا للآخرين، وأول من ينتفع بهذه الخيرات الصدِّيق نفسه.
“كراهة الرب شفتا كذب،
أما العاملون بالصدق فرضاه” [ع 22]
كل كلمة ننطق بها سواء لصالح الآخرين وخيرهم أو لضررهم يحسبها الله موجَّهة إليه شخصيًا، فيُسر بالناطقين بالحق، ولا يطيق الكذب والغش.
- هدوء مع معرفة وليس جهل مع ثرثرة
“الرجل الذكي يستر المعرفة،
وقلب الجاهل ينادي بالحمق” [ع23]
الإنسان الحكيم وإن نطق بكلمات قليلة إنما تخفي وراءها معرفة صادقة مُكرَّمة، أما الجاهل فينادي بأعلى صوته وفي ثرثرة يكشف عما في قلبه من جهالة وحماقة. إنه يفضح نفسه بكثرة كلماته.
- المثابرة والتراخي
“يد المجتهدين تسود،
أما الرخوة فتكون تحت الجزية” [ع 24]
كثيرون أصحاب مواهب وقدرات، لكن إذ هم متراخون ومتكاسلون لا ينتفعون شيئًا بمواهبهم، بل تصير دينونة عليهم، وبكسلهم يصيرون في مذلةٍ كمن هم تحت الجزية. فإن حياتنا على الأرض هي وقت للعمل الجاد.
ولعلّ أهم الخطايا التي تبدو هيّنة لكنها محطِّمة، هي التهاون أو الكسل، وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [إذ يعرف بولس أن الكسل هو باب الهلاك يقول: “ويل لي إن كنت لا أبشر” (1 كو 9: 16)[373].]
لِنَصْحُ ولنسهر حتى لا يكون نصيبنا مع تلك التي رآها هرماس إذ نظر النفس الخاملة كعجوزٍ خائرةٍ مسترخيةٍ على كرسي عاجزة عن الحركة، فلما سأل عن السبب قيل له [لأن روحكم الآن عجوز قد فقدت قوتها بسبب ضعفاتكم وشكوكم. لقد صارت كالشيوخ الذين فقدوا الأمل في تجديد قوتهم، ولم يعودوا بعد يتوقعون سوى أنهم يغطون في نومهم الأخير، وهكذا ضعفتم بسبب الانشغالات العالمية، وأسلمتم نفوسكم للخمول، ولم تلقوا همكم على الله (١ بط ٥: ٧)[374].
V “أتريد أن تبرأ؟” (يو 5: 6)… سأل السيِّد (مريض بيت حسدا)، لا لكي يعرف (إن كان يريد الشفاء)، فإنه لم يكن محتاجًا إلى ذلك، وإنما أراد إبراز مثابرة الرجل، وأنه بسبب هذا ترك الآخرين وجاء إليه…
مثابرة المفلوج مذهلة، له ثمانٍ وثلاثون سنة، وهو يرجو في كل عام أن يُشفي من مرضه. لقد استمر راقدًا ولم ينسحب من البركة…
لنخجل أيها الأحباء، لنخجل ونتنهد على شدة تراخينا.
ثمانٍ وثلاثون سنة وهو ينتظر دون أن ينال ما يترجاه، ومع هذا لم ينسحب. لم يفشل بسبب إهمال من جانبه، وإنما خلال ضغط الآخرين وعنفهم ومتاعبهم. هذا كله لم يجعله متبلدًا. بينما نحن أن ثابرنا في الصلاة لمدة عشرة أيام من أجل أمرٍ ما ولم ننله تثبط غيرتنا[375].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- القلق والفرح
“الغم في قلب الرجل يحنيه،
والكلمة الطيبة تفرحه” [ع 25]
يقول القديس أنطونيوس إنه كما يحتاج الجسم إلى طعامه ليقوته وينعشه، تحتاج النفس إلى الفرح. أما الكآبة والقلق والاضطراب فيحني النفس ويحطمها.
يليق بالمؤمن أن يفرح ويُفرح قلوب الآخرين بالكلمة الطيبة، وكما يقول الرسول بولس: “شجِّعوا صغار النفوس” (1 تس 5: 14). ويقول أيوب: “ما أشد الكلام المستقيم” (أي 6: 25).
- طريقا البرّ والشر
“الصدِّيق يهدي صاحبه،
أما طريق الأشرار فتضلهم” [ع 26]
من كان مخلصًا ونقي القلب يسند نفسه كما يبني أخاه، أما الشرير فيهدم حياته ويضل عن الطريق الحقيقي.
“الرخاوة لا تمسك صيدًا،
أما ثروة الإنسان الكريمة فهي الاجتهاد” [ع 27]
من يسلك طريق البرّ يعيش أمينًا ومجتهدًا، وأما من يسلك طريق الشر فيعيش متراخيًا. الأول يحمل كنزًا في قلبه، إذ يكون أمينًا في القليل، مجتهدًا وجادًا في حياته، فينطلق من نجاحٍ إلى نجاحٍ. أما الثاني فمتكاسل، ومهما بلغت إمكانياته وقدراته إنما يصطاد الهواء.
كانت راعوث تلتقط السنابل الساقطة طول النهار حتى المساء (را 2: 17)، فصارت سيرتها مسجلة في الكتاب المقدس، وتأهلت أن تلد عوبيد أب يسَّى والد داود النبي الذي جاء من نسله السيد المسيح متجسدًا!
العبد الكسلان الذي دفن وزنته في التراب تأهَل للعقاب الأبدي (مت 25: 14-30).
“في سبيل البرّ حياة،
وفي طريق مسلكه لا موت” [ع 28]
طريق البرّ أو الحب يشرق يومًا فيومًا حتى يحل يوم الرب، فيتأهل السالكون فيه للحياة الأبدية. يتحول موتهم الجسدي إلى عبور للأبدية. يترنمون قائلين: “لأن الله هذا هو إلهنا إلى الدهر والأبد. هو يهدينا حتى إلى الموت” (مز 48: 14).
حقًا طوبى للمؤمن الذي يعبر خلال سبيل البرً وسط هذا العالم الشرير، فينطلق بالحب للحميع إلى مدينة الله، أورشليم العليا.
V لكي لا نكون بين القتلة أو بين الأحياء الأموات، لنجاهد أن نحب، ليس فقط أصدقاءنا، بل وأعداءنا. بهذا يمكننا أن نلتقي بالرب الرحوم المتحنن بضميرٍ بسيطٍ يتفق مع رباط عربونه[376].
V طرق الأشرار الذين يفكرون في الأذية هي موت (أم 12: 28). “لا تفكر في أذية أخيك” (لا 19: 18 LXX). وأيضًا: “إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا (في الوحل) لا تعبر به ما لم ترفعه أولاً” (راجع خر 23: 5). يلزم على كل واحد أن يضع بعين الاعتبار أنه لا يجوز أن يترك حمار عدوه في الوحل، فكيف يكره الإنسان المخلوق على صورة الله أو يتجاهله؟ لقد لاحظت في الطوباوي أيوب المحبة الصادقة الكاملة بكل أمانة حتى تجاه أعدائه، فاستطاع أن يفرح، ويقول بضميٍر صافٍ للرب: “إن كنت قد فرحت ببلية مبغضي، أو شمتُّ حين أصابه سوء وقلت في قلبي: حسنًا!” (أي 31: 29)[377].
V بحبك لإنسان هو عدوك تصير صديقًا لله؛ في الحقيقة ليس صديقه فقط بل وابنه، كما يقول الرب نفسه: “أحبوا أعداءكم احسنوا إلى مبغضيكم، هذا يبرهن أنكم أبناء أبيكم السماوي” (راجع مت 5: 44-45)… لنجاهد أن نعمل كأطباء نحو كل الأشرار. لنكره أعمالهم الشريرة، لا الناس أنفسهم. لنصلي من أجل كل الصالحين لكي ما يرتفعوا دومًا إلى حياة أفضل، ومن أجل الأشرار لكي ما يتمتعوا سريعًا بحياة صالحة خلال أدوية التوبة. عندما نصلي من أجل هذا، فإنه يهبنا نحن ذلك[378].
V حزن (إستفانوس) بالأكثر على خطاياهم، أكثر من حزنه على جراحاته. حزن على شرورهم أكثر من حزنه على موته. تصرف بحق؛ بالتأكيد يوجد في تصرفهم الشرير ما يلزم النوح عليه، بينما لم يوجد شيء في موته ليُحزن عليه. الموت الأبدي تبع شرهم، بينما الحياة التي بلا نهاية تبعت موته… ليتنا نحب إخوتنا في الكنيسة بذات الروح التي بها أحب إستفانوس أعداءه[379].
الأب قيصريوس أسقف آرل
V لماذا نصرف مزيدًا من الوقت في الاستشهاد بالوصايا الرسولية والإنجيلية، في حين أن الناموس القديم الذي يُظن أنه متساهل بعض الشيء يحذر من نفس الشيء، حين يقول: “لا تبغض أخاك في قلبك”، وأيضًا: “لا تحتد على أبناء شعبك” (لا 17: ، 18-19). وكذلك يقول: “طرق الذين يحتدون تؤدي إلى الموت” (راجع أم 12: 28). هكذا ترى أن الشر منهي عنه، ليس بالفعل فقط، بل ومن خفايا الفكر أيضًا، وفقًا للوصية التي تنص على استئصال الشر من القلب، لا الانتقام عن الإساءة إلينا فحسب، بل ومجرد التفكير فيها[380].
القديس يوحنا كاسيان
من وحي أمثال 12
قدسني، فأعبر إليك
V من يقدر أن يقودني إليك؟
نعمتك هي قائدة حياتي.
لتمتد وتعمل فيَّ بالحنو كما بالتأديب.
V يعمل روحك القدوس في قلبي كما في فكري.
يهبني الصلاح، فتمتلئ أعماقي بحب الخير للجميع.
لا يقدر الخبث أن يتسلسل إليَّ.
ولا يجد الشر له موضعًا فيَّ.
V لأتحد بك، وأحب وصيتك وكلمتك.
فتُبنى أعماقي على صخرة تعاليمك.
لا تقدر زوابع العوالم أن تهزني.
لا تتزعزع أساسات نفسي،
لأنها مبنية عليك يا صخر الدهور!
V روحك يجمِّل نفسي ويجددها،
يقيم منها عروسًا جميلة، مزينة بثمر الروح.
يقيم منها ملكة متوجة، يكرمها السمائيون.
V روحك يقدس أفكاري وكلماتي وأعمالي،
فأشهد لبرّك، وأتمتع بخلاصك.
يبني هيكلاً مقدسًا لا يهدمه الموت،
ولا يفسده الزمن،
إنما يزداد بهاءً ومجدًا يومًا فيومًا.
V ليس لي ما أطلبه سوى الحكمة الإلهية.
فأسألك باستقامة حتى أعبر إليك.
لا أطلب شيئًا من العالم،
فأنت تُشبع كل كياني!
V هب لي حبك، فأتحنن حتى على الحيوانات العجماوات،
حتى في نزاعي لا يصدر عني سوي الحنو.
ليس للعنف سلطان على أعماقي.
هب لي نزاع الحمام الوديع،
وليس قبلات الذئاب الخادعة المفترسة.
V نفسي تئن بالحب من أجل الخطاة.
نصبوا شباكًا لي، فسقطوا فيها.
أرادوا اصطيادي، فصاروا فريسة شرورهم.
تحوَّلت مكائدهم إلى إكليل مجدٍ لضعفي.
الكأس التي ملأوها لي شربوها.
وما زرعوه حصدوه.
تفسير أمثال 11 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 13 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |