تفسير سفر الأمثال ٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني
مكافاءات الحكمة

خُتم الأصحاح الأول بالكشف عن أن الحكمة تهب تابعيها مكافاءاتها، وجاءت الأصحاحات الثلاثة التالية [2-4] توضح هذه الحقيقة.

في هذا الأصحاح يقدم الله لمؤمنيه دعوة لكي يقبلوا وصاياه وحكمته لكي تدخل إلى أعماق النفس [1،10]. في اللحظات التي ترى النفس جراحات السيد المسيح وجنبه المطعون أبوابًا إلهية للدخول إلى أحشاء الكلمة الإلهي، يشتهي الكلمة أن يدخل إلى أحشائنا خلال أبواب القلب المفتوحة له. يُقدم الله الكلمة نفسه ملجأ لنا وقوة وحكمة لكي نختفي فيه، ونقدم نحن له قلوبنا لكي يختفي هو فينا!

يدخل حكمة الله المتجسد – السيد المسيح – إلى أعماقنا، فيُقيم مملكته فينا، ويملك كما على عرش القلب ليُحرك عواطفنا وأحاسيسنا وأفكارنا وكل أعضاء جسدنا فتعمل لحساب ملكوته، لبنيان نفوسنا وخلاص الكثيرين، لامتداد الكنيسة جسد المسيح.

وفي هذا الأصحاح يكشف لنا سليمان الحكيم أن الذين يبحثون عن الحكمة باجتهاد يجدونها، واعدًا تلاميذه بالمكاسب العظيمة التي ينالها من يتبعون الحكمة [1-9]. الطريق للتمتع بالحكمة الإلهية هو كلمة الله [1-2] مع الصلاة [3-4] والبحث عنها بغيرة متقدة [4]، فنتعرف على الإرادة الإلهية، ونُسر بها ونمارسها بنعمته الفائقة[54]. هذا هو طريق الحكمة.

جاءت الـ22 آية في هذا الأصحاح تطابق الـ22 حرفًا للهجائية العبرية[55].

الحث على طلب الحكمة 1-9.

أولاً: تهب لذة وسعادة لمن يسلكون بها [10،11].

ثانيًا: تنقذ الإنسان من سبل الأشرار الفاسدة [12-15].

ثالثًا: تحفظه من حبائل النساء الفاسدات [16-19].

رابعًا: تجعله في صحبة الأبرار، وفي طريق الصالحين [20].

خامسًا: يسكن آمنًا في الأرض التي يُقتلع منها الأشرار [21-22].

  1. الحث على طلب الحكمة

يتحدث سليمان الحكيم في هذه الفقرة [1-9] مع المؤمن كما مع ابنه الروحي، حيث يحثه على الإنصات إلى كلمة الله التي ينطق بها، ليُخبئها كنزًا في أعماقه، ويميل بأذنه إليها، ويفتح قلبه لها كي تستقر فيه. بهذا يتمتع بمخافة الرب وينال معرفة الله، ويتحصن بأسلحة الله الروحية، ويسلك الطريق الملوكي المستقيم.

يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك…” [1].

يتحدث  “سليمان” كمعلمٍ مع تلميذه حاسبًا إياه ابنه، إذ يقدم له قلبه المملوء حبًا مع كلمة تعليم. ويقول القديس إكليمنضس السكندري: “كل شخص يتعلم، يخضع لمعلمه كابن[56]“.

ليتنا قبل أن نقدم كلماتنا للغير، نقدم قلوبنا المملوءة حبًا لهم، والملتهبة بالشوق الحقيقي إلى خلاصهم ومجدهم.

يطلب الأب من ابنه أن يقبل كلامه وأن يخبئ وصاياه. هذا هو أول درس في مدرسة هذه الحياة، وهو قبول الابن وتجاوبه مع كلمات والديه. وكأنه يرد الحب الأبوي الصادق بالحب البنوي العملي. ليس فقط أن يتجاوب معه، بل ويخفيه في قلبه بكل عناية واهتمام بكونها أثمن الكنوز وأفضلها. يقف المؤمن الحيّ من وقت إلى آخر متطلعًا نحو كنزه الداخلي، متأملاً في الكنوز التي اقتناها، وقام بتخزينها، معجبًا بها كهبات إلهية عاملة في حياته اليومية.

ينصحنا سليمان الحكيم أن نخبئ وصايا الوالدين تلك التي بلا شك في تناغم تام مع وصايا الكتاب المقدس. نخبئها في قلوبنا، حتى متى أتممناها يصدر سلوكنا ممتزجًا بمشاعر القلب الداخلية، نتممها بكامل حريتنا بفرح شديد، وليس كمن يمارسها قسرًا كمن يتمم واجبًا يلتزم به. من يضع الوصية في قلبه، يتممها بقلبه ويرافقه قلبه أينما ذهب، فيجد مسرته في إرادة أبيه السماوي.

يخفي المؤمن في قلبه وصية الله، كنزه الثمين، أثمن ما في حياته، مركز الحب والحياة، وموضع الأمان، فلا يقدر العدو أن يسطو عليه ليغتصبها منه. نخبئ وصية الله، فلا تقدر خطية ما أن تختفي في القلب أو تتسلل إليه، إذ لا يمكن للظلمة أن تجد لها موضعًا حيث يوجد النور. ولعل الحكيم يطلب منا أن نخفي الوصية في قلبنا كي نتأملها وننشغل بها فتهضمها معدتنا الروحية. فكما أن الطعام الذي لا يُهضم لا يفيد الجسم بشيء هكذا من يسمع الوصية ولا يتأملها وينشغل بها لا تنتفع بها نفسه[57].

يقدم أنثيموس أسقف أورشليم ثلاثة أسباب لإخفاء كلام الله في القلب[58]:

[ا – إنه يخفي كلام الله في قلبه ذاك الذي يحذر من الخطأ؛ ليس فقط في العمل الظاهر وإنما أيضًا في الفكر الخفي. مثل هذا يجتنب ليس فقط الفسق وإنما انحراف شهوته وميلها الخفي…

ب – وأيضًا الذي يخفي في قلبه أسرار الإيمان ولا يبيح بها للكفار، عاملاً بقوله: “لا تطرحوا درركم أمام الخنازير”.

ج – كذلك من يخفي أقوال الله في قلبه لئلا تخطفها طيور السماء، أعني بها الشياطين الساقطين من السماء، فلا تسلبها إياها بالشك أوالكبرياء أو بفكر شرير…]

V      من لا يقبل تعاليم الله سطحيًا وظاهريًا كما يخفيها في قلبه حتى يتقوَّم فكره وأيضًا نياته، فيصير خاليًا من الخطية أمام الله الذي يرى الخفيات، فإنه لا يرتكب فقط الزنا بل وكل شهوة شريرة. تطابق هذه الآية الكلمات: “يا ابني إن قبلت كلامي وخبأت وصاياي عندك حتى تميل أذنك إلى الحكمة” (أم 1:2،2)[59].

القديس ديديموس الضرير

V      إن لم نخفِ أقوال الله في قلبنا مثلما نخفي جوهرة يأتي الشرير ويخطفها (مت19:13)[60].

القديس أثناسيوس الرسولي

V      طلب أولاً العون الإلهي لئلا تُخفى كلمات الله في قلبه بلا ثمر، حيث لا يتبعها أعمال البر. لهذا فإنه بعد قوله هذا أضاف: “مبارك أنت يارب، علمني برك” [12].

لأنني أخفيت كلماتك في قلبي لكي لا أخطئ إليك يا من أعطيتني الناموس، هبني أيضًا بركة نعمتك، حتى بعمل ما هو مستقيم أتعلم ما أوصيت به…[61]

القديس أغسطينوس

جيد للإنسان أن يدرس الكتاب المقدس مستعينًا ببعض المراجع الدراسية والتفاسير، لكن لا يوجد كتاب يمكن أن يحل محل كلمة الله. لذا يليق بالمؤمن أن تكون له جلسته الهادئة مع كلمة الله، طالبا من الله أن يتذوقها في أعماقه لكي يعيشها في حياته اليومية أينما وجد.

الاعتماد على الدراسات السابقة نافعة، خاصة كتابات الآباء في الكتاب المقدس ، إذ كانت حياتهم إنجيلاً عمليًا مفتوحًا، لكن إن لم يلتقِِ الإنسان مع الكلمة شخصيًا تصير هذه الدراسات جافة بلا ثمر روحي متجدد.

“حتى تميل أُذنك إلى الحكمة،

وتعطف قلبك على الفهم،

إن دعوت المعرفة،

ورفعت صوتك إلي الفهم” [2،3].

يحثنا الحكيم أن نكرس كل حواس الجسد وأعضائه مع النفس لكي نطلب أن نتعلم الحكمة والمعرفة والفهم. هذا ما نطلبه بكل طاقاتنا، ونصغي إليه، ونحمله إلى قلوبنا. نميل بآذاننا ونفتح قلوبنا ونصرخ بلساننا حتى تدخل حكمة الله إلى أعماقنا، إلى الذهن كما إلى القلب. تهبنا فهمًا، وتشبع قلوبنا.

لنصرخ إلى الله بألسنتنا كما بأصواتنا الداخلية، فإن الله يُسر بصرخات القلب، وهو وحده واهب الحكمة. لقد عبر الرسول بطرس عن شوق المؤمنين إلى الحكمة الإلهية، قائلاً: “كأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به” (1بط2:3). حينما يرى الطفل أمه تعد زجاجة اللبن يتحرك بكل أعضاء جسمه، بلسانه وبيديه وقدميه ورأسه الخ.، ليعبر عن رغبته في الرضاعة. هكذا نحن كأبناء لله نعلن عن لهفتنا إلى لبن الكلمة صارخين إليه.

الصلاة  خاصة من أجل التمتع بالمعرفة الإلهية هي لغة شوق النفس نحو الله. إنها المترجم لاشتياق القلب. لهذا يميز القديس أغسطينوس بين من يقدم بصلاته صوتًا ومن يقدم ضجيجًا لا معنى له. فيقول إنه عندما نصلي بدون حب تكون صلواتنا ضجيجًا لا يُسر الله بها. وعلى العكس فإنه يُسر بالصلاة التي تحمل صوتًا له معنى، إذ تحمل معها حبًا. لهذا كثيرًا ما يستخدم المرتل تعبير “الصوت” عند حديثه عن الصلاة:

بصوتي إلى الرب أصرخ” مز4:3.

“يا رب بالغداة تسمع صوتي” مز3:5.

“فسمع من هيكله صوتي” مز6:18.

بصوتي أدعو فارحمني” مز7:27.

“اسمع يا الله صوتي” مز1:64.

“اصغي إلي صوت صلاتي” مز66:19.

V      من يقدر أن يشك في أن الصرخات التي ترتفع إلى الرب في صوت sound صلاة تكون باطلة إن نطقت بصوت الجسد لا بصوت القلب الثابت في الله؟!

أما إذا صدرت عن القلب فإنها تفلت من ملاحظة البشر إن كان بسبب الضعف الجسداني يكون الشخص صامتًا، لكنها لا تفلت من ملاحظة الله. لذلك عندما نصرخ إلى الرب بصوت الجسد – حيث تتطلب الظروف هكذا – أو بالصمت يلزمنا أن نصرخ من القلب[62].

V      يقول “صوت voice صلاتي” مز 7:140؛ أي حياة صلاتي، أو نفس soul صلاتي، وليس مجرد أصوات sounds كلماتي، إنما ما يهب الكلمات من حياة. لأن كل ضجيج آخر بلا حياة يمكن أن يُدعى أصواتًا sounds وليس كلمات.

الكلمات تخص من لهم نفوس، أي تخص الأحياء، ولكن كيف يصلى كثيرون لله وهم بلا فهم لائق بالله ولا أفكار مستقيمة نحوه؟ مثل هؤلاء ربما يكون لهم صوت sound الصلاة ولا يمكن أن يكون لهم الصوت المفهوم voice، لأن لا توجد حياة في صلواتهم[63].

V      لا يتم الصراخ لله بصوت جسدي، بل بالقلب. كثيرون شفاهم صامتة،  لكنهم يصرخون بالقلب، وكثيرون يقدمون ضجيجًا بشفاههم، أما قلوبهم فصارت عاجزة عن تقديم أي شيء. لذلك إن صرخت إلى الله، أصرخ إليه من الداخل حيث هناك يسمعك[64].

V      يتحدث الفم خلال وساطة الكلمات؛ ويتكلم القلب خلال وساطة رغباته. صلاتك هي رغبة قلبك[65].

V      الله لا يطلب الكلمات بل قلوبكم[66].

V      إننا بالقلب نسأل، بالقلب نطلب، ولصوت القلب ينفتح الباب[67].

V      من يصلي برغبة يسبح في قلبه حتى إن كان لسانه صامتًا. أما إذا صلى (الإنسان) بغير شوق فهو أبكم أمام الله حتى إن بلغ صوته آذان البشر[68].

القديس أغسطينوس

“إن طلبتها كالفضة،

وبحثت عنها كالكنوز” [4].

يُقارن البحث عن الحكمة بالبحث عن الفضة وغيرها من المعادن الثمينة في المناجم العميقة. فالحكمة مثل هذه الكنوز لا تُوجد مصادفة بواسطة عابر طريق، إنما يحتاج الأمر إلى مجهودات ضخمة واكتشاف وحفر. هكذا يليق بنا أن نبحث عن خلاص نفوسنا بغيرة متقدة كما يبحث محب المال عن الغنى. ونخجل من أنفسنا متى كان شوقنا للخلاص والتمتع بالحكمة كغنى حقيقي أقل من بحثنا عن غنى العالم. لنبحث عن الحكمة في اجتهاد غير منقطع النظير ورغبة متقدة وصبر عظيم.

يلاحظ أن كلمة “كنوز” هنا تعني امتلاك ما هو مخفي في الأرض وفي الكهوف، كما يُمكن أن تعني المعادن الثمينة والحجارة الكريمة التي توجد في المناجم. كيف نطلبها؟ بحفر المناجم حتى نبلغ إليها في باطن الأرض.

V      الله لا يريدنا أن نصغي إلى الكلمات والعبارات الواردة في الكتاب المقدس بإهمالٍ، بل باهتمامٍ شديدٍ. هذا ما دفع الطوباوي داود أن يضع العنوان “للفهم” في مواضع كثيرة لمزاميره. كما يقول: “افتح عن عينيّ، فأرى عجائب من شريعتك” (مز42:32، 18:119). ومن بعده جاء ابنه أيضًا يُظهر ضرورة أن نطلب الحكمة كالفضة، ونتاجر فيها كأثمن من الذهب (4:2؛ 14:3) [اقتبس أيضًا: “فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية، وهي تشهد لي” يو39:5]. عندما يحث الرب اليهود أن يفتشوا الكتب يحثنا بالأكثر أن نبحث. فإنه ما كان يقول هذا لو كان ممكنًا أن ندرك الكتب تمامًا فور قراءتها. لا يُفتش أحد ما هو واضح وبين يديه، بل يفتش عمَّا هو مخفي في ظلٍ، والذي يلزم أن نجده بالبحث. هكذا لكي يحثنا على البحث يدعوها “الكنز المخفي” (أم4:2؛ مت44:13). قيلت لنا هذه الكلمات لكي لا نطبق كلمات الكتاب بتراخٍ أو بغير اكتراثٍ، وإنما بدقةٍ عظيمةٍ. فإنه إن أصغى أحد لما يُقال في الكتب دون أن يبحث عن المعنى الروحي بل يقبل المعنى الحرفي، يظن أمورًا غير لائقة بالله، مثل أنه غضوب وثائر، وما هو أردأ من هذا[69].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فحينئذ تفهم مخافة الرب وتجد معرفة الله،

لأن الرب يُعطي حكمة،

من فمه المعرفة والفهم.

يُذخر معونة للمستقيمين.

هو مجن للسالكين بالكمال” [5-7].

في سفر الأمثال يؤكد  سليمان الحكيم العلاقة الوثيقة بين الحكمة ومخافة الرب. فقد سبق فرأينا أن مخافة الرب هي بدء الحكمة، وفي نفس الوقت من يبلغ الفهم ويتمتع بالمعرفة والحكمة يُدرك مخافة الرب ويتلامس معها عمليًا. مخافة الرب ليست شعارًا لسفر الأمثال وحده، بل هي شعار الكتاب المقدس كله. يقولالقديس أمبروسيوس أنه يمكن بناء بيت الحكمة فقط إن تأسس خوف الله بعمق في النفس.

البحث عن الحق يجب أن يرافقه دائمًا سيرة في الحق الذي نجده. بهذا يقدم الله لأتقيائه مفاهيم متجددة للحق، وخبرة حية متزايدة لقوة الحق.

V      أريد أن يكون لي خوف مناسب مؤسس على العقل والإدراك… فلا يكون لنا خوف دون إدراك، ولا إدراك دون خوف[70].

العلامة أوريجينوس

يرى سليمان الحكيم الحكمة صادرة كما من فم الله لتتجه نحو أًذنيّ المؤمن، وتنطلق إلي قلبه كما إلى فكره، وهناك تستقر حيث تُقدس إرادته وأحاسيسه ومشاعره، وبالتالي كلماته وتصرفاته.

الله هو ينبوع كل حكمة ومعرفة وفهم، والحكماء والفهماء الحقيقيون هم قنوات يفيض خلالها الله بالحكمة على كثيرين[71]. الحكمة الإلهية هي مجن لأُناس الله الذين يسلكون باستقامة، أو معين لهم لنوال النصرة. فإننا إذ نتمسك بالحكمة ونحفظها، تتمسك هي بنا وتحفظنا.

V      بالنسبة للذين يتبررون بالفلسفة، تقودهم المعرفة إلى التقوى كمُعين لهم[72].

القديس إكليمنضس السكندري

يعلق العلامة أوريجينوس على ما ورد في الترجمة السبعينية: “يجدون حاسة إلهية” للنص العبري: “تجد معرفة الله” [5]، موضحًا أنه كما يحمل الجسد حواسه الخاصة بالأمور الزمنية هكذا تتمتع نفس المؤمن بحواسٍ إلهيةٍ تخص الأمور السماوية.

V      لكي تتعلم من الكتابات المقدسة أنه توجد حاسة إلهية غير حواس الجسد، اقرأ فقط ما يقوله سليمان الحكيم: “ستجد حاسة إلهية” [5] [73].

V      لئلا يُظن أن قولنا بأنه لا تُعرف الأمور العقلية بالحواس قول غير سليم استخدم سليمان الحكيم مثلاً، إذ يقول: “ستجد أيضًا حاسة إلهية“، مظهرًا بهذا أن هذه الأمور العقلية لا يُبحث عنها بحاسة جسدية، بل بحاسة أخرى معينة يدعوها “إلهية”. يليق بنا أن نتطلع خلال هذه الحاسة إلى كل كائن من الكائنات العاقلة التي نحسبها علوية. بهذه الحاسة تُفهم الكلمات التي ننطق بها، وبها توزن عباراتنا التي نكتبها. لأن الطبيعة الإلهية تعرف تلك الأفكار التي  تدور في داخلنا ونحن في صمت[74].

V      عرف (سليمان) أن في داخلنا نوعين من الحواس: حواس قابلة للموت، يمكن أن تفسد وهي بشرية، والأخرى خالدة وعاقلة، يدعوها “إلهية”.

بهذه الحاسة الإلهية، ليست بحاسة العينين، بل حاسة القلب النقي، الذي هو العقل، يُرى الله للذين يستحقون ذلك. فإنه بالتأكيد تجد في كل الكتب المقدسة، القديمة والجديدة، تعبير “القلب” يتكرر عوض “العقل”، أي القوة العاقلة[75].

العلامة أوريجينوس

يعلق القديس أغسطينوس على العبارة “من فمه (وجهه) المعرفة والفهم” [6]، قائلاً:

V      الإيمان الحقيقي والتعليم الصادق يُعلنان أن كلا النعمتين هما من الله. يقول الكتاب المقدس: “من وجهه المعرفة والفهم“، وفي سفر آخر يقول: “المحبة هي من الله” (1يو7:4) [76].

V      “الرب يُعطي حكمة، من فمه المعرفة والفهم” [6]. منه ينالون الرغبة ذاتها نحو المعرفة، إذا ما تلاحمت (تزوجت) بالتقوى[77].

القديس أغسطينوس

“يذخر معونة للمستقيمين،

هو مجن للسالكين بالكمال.

لنصر مسالك الحق path of judgment

وحفظ طريق أتقيائه saints[7،8].

الله نفسه يحفظ مسالك الحكم paths of judgment التي هي مسالك بره، لكي يسلك فيها مؤمنوه تحت رعايته وحمايته. وهو الذي يحفظ طريق قديسيه الذين يحفظون عهدهم معه. وكأن الله الذي يهب الحكمة والمعرفة والفهم يُعطي أيضًا نصرة لمؤمنيه ويقوم بحمايته إذ يسلكون طريقه.

“حينئذ تفهم العدل والحق والاستقامة،

كل سبيل صالح” [9].

بقوله “حينئذ” يوضح أن الله وهو واهب كل هذه العطايا، إذ نتجاوب مع عطاياه بروح المخافة يهبنا فهمًا أكثر لنُدرك شريعة عدله وحقه وبره. وكأنه تدخل الحكمة أعماقنا فتنير ذهننا لإدراك إرادة الله وأسرار عمله.

مكاسب الحكمة 10-22.

إذ ننصت بخوف الرب ونطلب منه الحكمة والمعرفة والفهم ننعم بهذه العطايا في أعماقنا، هذه التي تقدم لنا المكاسب التالية:

أولا: لذة قلبية وسعادة داخلية مع شبع فكري

“إذا دخلت الحكمة قلبك ولذَّت المعرفة لنفسك” [10].

إذ نميل بآذاننا ونصرخ بأفواهنا إلى الله، تنفتح أبواب قلوبنا لتستقبل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية، فتصير وصايا الله ليست ثقلاً على النفس، ويصير نير المسيح هينًا وعذبًا للنفس. حكمة الله تهب النفس بهجة، إذ تجد في استقبالها للحكمة اتحادًا مع المسيح حكمة الله. هذا الاتحاد هو في ذاته مكافأة يتمتع بها المؤمن عربونًا للمكافأة السماوية. بالحكمة الإلهية يدرك المؤمن أن غاية حياته هي تمجيد الله والسرور به.

ثانيًا: تنقذ الإنسان من سبل الأشرار

“فالعقل (التمييز) يحفظك، والفهم ينصرك،

لإنقاذك من طريق الشرير ومن الإنسان المتكلم بالأكاذيب،

التاركين سبل الاستقامة للسلوك في مسالك الظلمة” [11-13].

يُعلمنا سفر الأمثال أن أُناس الله يجب أن يكونوا حذرين من شخصين خطيرين: الرجل الشرير، والمرأة الغريبة الفاسدة.

أ. الإنسان الشرير، وهو يعطي القفا لله لا الوجه، يسير في طريقه بإرادته الذاتية، مستقلاً عن الله، شاعرًا أنه ليس في حاجة إليه.

ب. المرأة الزانية، وهي تقلب الموازين، فتحول الحب إلى شهوات، والجسد خليقة الله الصالحة إلى أداة للذة مؤقتة، والقلب المتسع إلى الأنانية! إنها تلبس قناع الحب والعاطفة والبشاشة مع شفتين تقطران عسلاً… وتخفي في أعماقها سمًا قاتلاً للنفس وسيفًا ذي حدين. إنها صيادة ماهرة للنفوس الحمقاء التي تحمل صورة البساطة.

نرى في الإنسان الشرير استقلالاً عن الله، وفي الزانية نرى إفسادًا للحياة التقوية الدينية. وكما يكشف لنا سفر الرؤيا عن مملكة ضد المسيح في أواخر الدهور أنها ستحمل هاتين السمتين، لذا يدعوها “بابل العظيمة أم الزواني”.

متى دخلت الحكمة إلى قلوبنا، وصارت موضوع لذتنا، لا ننخدع سريعًا، بل نصير حذرين، قادرين على تجنب الصحبة الشريرة وعدم مشاركتهم في سلوكهم الشرير. بمعنى آخر تقودنا الحكمة بعيدًا عن طريق الأشرار وتحفظنا من عالمهم وإغراءاتهم.

إذ تملك الحكمة على القلب وتسيطر على العقل تحفظهما ضد كل فسادٍ داخلي أو خارجي. تسحب عنا كل رغبة أو ميل نحو طريق الظلمة، إذ ندرك أن هذا الطريق غير مريح ولا آمن.

سبق فرأينا في الأصحاح الأول كيف يجد الأشرار لذتهم في ارتكابهم الخطية كما في إغراء الآخرين على ارتكابها. أما دور الحكمة فهو تقديس القلب والعقل والحواس، فتحفظ المؤمن من الشهوات الجسدية والإغراءات الزمنية، فيتجاوب الجسد والنفس معًا مع عمل روح الله القدوس.

إذ نحب الحكمة الإلهية ننعم بالعقل أو التمييز الذي يحفظ المؤمن بكليته، ويجعله قادرًا على أخذ قرارات حكيمة تنقذه من حبائل الأشرار. هكذا يتمتع المؤمن بحياة مصونة من كل جوانبها، هاربًا من الفساد الذي في العالم خلال الشهوة[78].

الفرحين بفعل السوء،

المبتهجين بأكاذيب الشر.

الذين طرقهم معوَّجة،

وهم ملتوون في سبلهم” [14،15].

كما يفرح المؤمنون الحقيقيون بعطايا الله الحيّة، خاصة الحكمة والمعرفة والفهم، يفرح الأشرار بفعل السوء ويبتهجون بالكذب، لكن يوجد فرق بين فرح داخلي ينمو ويكمل في السماء، وآخر مؤقت ينقلب إلى مرارة وحزن.

بينما يُدعى طريق الرب مستقيمًا وآمنًا؛ إذا بطرق الأشرار معوَّجة تنحرف يمينًا ويسارًا عن الطريق المستقيم، مملوءة بالزوابع المحطمة للنفس.

ثالثًا: تحفظ المؤمن من حبائل النساء الفاسدات

“لإنقاذك من المرأة الأجنبية،

من الغريبة المتملقة بكلامها،

التاركة أليف (قائد) guide صباها،

والناسية عهد إلهها” [16،17].

يُقصد بالمرأة الأجنبية هنا “المرأة الزانية“، إذ أقام الله شريعة خاصة بالمرأة الإسرائيلية التي تُمارس الدعارة، فإنها تخرج بطريقة تلقائية خارج  إسرائيل. وكأن “المرأة الأجنبية” هنا يقصد بها المرأة التي جاءت من الأمم تُمارس الدعارة في وسط إسرائيل.

المرأة الزانية المتملقة hechelikah هي التي تقدم كلمات معسولة لطيفة. فالكلمة العبرية تعني لسانًا زلقًا ينطق بالكلمات كالزيت اللين. بينما الأشرار يُحاولون إغراء الغير بروح الطمع (11:1-19)، إذا بالزانيات يُحاولن إغرائهم بالشهوات الجسدية.

إن كانت الزانية رقيقة بكلماتها المعسولة، لكنها خائنة لمن أحبته وتزوجت به في صباها؛ تنسى عهدها معه كما تكسر عهدها مع الله إلهها. من طبعها الخيانة والغدر حتى في تعاملها مع أقرب من لها، بل ومع الله نفسه. لقد تعهدت أمام الله أن تتزوج رجلها، وأن تترك بيت أبيها، وتخضع بروح الأمانة لمن اختارته قائدًا لها في صباها الذي يحبها ويبذل ذاته لأجلها، وهي تخضع له في الرب.

هنا يربط سليمان الحكيم بين الحياة الزوجية والدخول في عهد مع الله، لأن الزواج أيضًا هو عهد يُقيمه الله نفسه بين الزوجين، ويكون شاهدًا وقاضيًا لهذا العهد المقدس. يقول القديس غريغوريوس النزينزيفي اعتذاره لغيابه عن حضور حفل الزواج بين أولمبياس ونبروديوس: “بالرغم من مرضي أشارككم احتفالكم، إذ أربط أيدي العروسين معًا في يديْ الله[79]”.

“لأن بيتها يسوخ (يميل) إلى الموت،

وسبلها إلى الأخيلة (الموتى)” [18].

إن كانت الحكمة كما الجهل قد رُمز إليهما بامرأتين، لكن من الواضح أن الحديث هنا ليس مجازيًا، إنما يقصد المرأة الزانية، والتحذير منها واضح وصريح، حيث تضم من تغريه إلى بيتها، أي إلى الموت الأبدي، وتسير به في طرق الموتى، فلا يشتم رائحة حياة. هذا ما يدفع المؤمن الحقيقي إلى الهروب من الزنا، متجنبًا المرأة الزانية مهما كلفه الأمر[80]. بينما يسير الإنسان معها إلى بيتها، إذا به ينحدر تدريجيًا نحو الموت الأبدي، يشاركها طريق الخطية المدمّر. واضح أن كلمة “الموت” هنا لا تُعني الموت الذي يخضع له الجميع بل المصير الأبدي[81].

كل من دخل إليها لا يؤوب (يعود)،

ولا يبلغون سبل الحياة” [16].

يُسرع الزنا بالإنسان منحدرًا به إلى طريق الموت بلا رجعة. بمعنى أن من سقط في حبائل الزنا مع شخص ما يصعب بل ويستحيل الخلاص منه، ما لم تتدخل نعمة الله الفائقة لتسنده وتهبه روح التوبة الصادقة. لهذا ينصح كثير من الآباء من يسقط في خطية الزنا ألا يلتقي مع من سقط معه، ولا يذهب إلى الموضع الذي ارتكب فيه الخطية، معلنًا بهذا رغبته الأكيدة وتجاوبه مع روح الله القدوس واهب التوبة والغفران والتقديس.

رابعًا: تدخل به إلى طريق الصالحين

حتى تسلك في طريق الصالحين،

وتحفظ سبل الصديقين” [20].

لا تقف عطايا الحكمة عند السلبيات كالحفظ من طرق الأشرار وإنقاذ المؤمن من النساء الفاسدات، لكنها تقدم ما هو إيجابي، وهو الدخول بالإنسان إلى طريق الصالحين. لأن المسيح “حكمة الله” يحمل مؤمنين ويدخل بهم إليه بكونه “الطريق”. فيه يلتقي المؤمن مع رجال الله القديسين، ويدخل في صحبة الآباء والأنبياء والرسل وجميع القديسين، بل ويشارك السمائيين تسبيحهم وحبهم!

خامسًا: يسكن آمنًا في الأرض التي يُقتلع منها الأشرار

لأن المستقيمين يسكنون الأرض،

والكاملين يبقون فيها،

أما الأشرار فينقرضون من الأرض،

والغادرون يستأصلون منها” [21،22].    

في ظل الشريعة الموسوية نال الأبرار مكافأتهم، وهي أرض كنعان الآمنة. أما في العهد الجديد فقد صارت هذه الهبات رمزًا لهبات سماوية روحية. فالمؤمن وإن لم ينل أرضًا مادية كمكافأة لبره في المسيح يسوع، إلا أنه يرى كل الأرض وهي للرب ولمسيحه صارت له. يعيش عليها مختفيًا في المسيح ملك السماء والأرض، ليملك معه. يقول مع  الرسول بولس: “كأن لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء”. ويترنم مع داود النبي قائلاً: “كل ما يصنعه ينجح. ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعصافة التي تذريها الريح… لأن الرب يعرف طريق الأبرار، أما طريق الأشرار فتهلك” (مز3:1-6).

في رسالة القديس اكليمنضس الروماني إلى أهل كورنثوس يسألهم أن يعيشوا بالاستقامة، بروح الوحدة واللطف حتى يتمتعوا بهذا الوعد الإلهي، إذ يقول:

[يصيبنا ضرر ليس بالقليل، بل نصير في خطر عظيم، إن كنا في اندفاع نخضع لإغراءات الناس الذين يهدفون نحو إثارة نزاعات وفتن لكي يسحبوننا مما هو صالح.

لنكن لطفاء الواحد تجاه الآخر على مثال حِنوّ مراحم خالقنا ولطفه، إذ مكتوب “طيبوا القلب يسكنون الأرض، والكاملون يبقون فيها، أما العصاة فينقرضون عن وجهها[82]“.]


 

من وحي الأمثال 2

لأقتنيك وأحملك في صدري

يا حكمة الله!

V      هب لي يا رب أن أدخل إلى أحشائك،

انطلق إليها خلال جراحاتك،

أتلامس مع أحشاء حبك الملتهبة من نحوي.

فأنعم بالحب الإلهي،

ويلتهب قلبي حبًا ولكل بشر!

V      هب لي أيضًا أن أفتح أبواب قلبي لك!

أنت كلمة الله وحكمته الفائق!

لتدخل ولتقم ملكوتك في أعماقي.

لتحطم عرش إبليس وكل قوته،

لتهدم مملكة الخطية القائمة في داخلي!

مملكتك يا كلي النور تبدد كل مملكة للظلمة!

لتدخل إلى أعماقي فأقتنيك.

أخفيك يا أيها الكنز السماوي!

أنت غناي ومجدي يا واهب كل البركات!

تهبني ذاتك حكمة وفهمًا ومعرفة.

أدرك أسرار حبك، وأتعرف على مجدك.

تشبع أعماقي بك، وتمتلئ معرفة ومجدًا!

كثيرون يكرسون كل طاقاتهم للبحث عن المعادن الثمينة،

يعرضون حياتهم للدمار من أجل الغنى.

هب لي أن أبحث عنك يا حكمة الله!

لأطلبك وأصرخ إلى الله أبيك،

أصرخ بفمي وكل كياني.

أنت هو كنز حياتي!

V      لست أسأل عن مكاسب اقتنائك!

فأنت هو لذة قلبي وسرّ سعادتي.

أنت تحوّل مرارة الحياة إلى عذوبة،

وطريق الصليب الضيق إلى أبواب السماء المفتوحة!

V      من ينقذني من خداعات الأشرار؟

من يحملني حتى لا أسقط في شباك الشريرات؟

من يدخل بي إلى طريق الأبرار؟

أنت هو الطريق الملوكي،

فيك أنعم بالصلاح مع السلام والأمان.

احملني فيك يا أيها الطريق الفريد!

V      في القديم دخلتَ بشعبك إلى أرض الموعد،

واستأصلت الأشرار واقتلعتهم منها.

احملني إلى كنعان السماوية،

ولتدخل بي إلى حضن أبيك.

هناك التقي معك بروحك القدوس.

أصير في صحبة آبائي إبراهيم واسحق ويعقوب،

مع سارة ورفقة وليئة وراحيل،

وأنعم بشركة أطفال بيت لحم الأبرار.

كما التقي بالأنبياء والرسل.

هناك أتعلم لغة السمائيين وأشاركهم تسابيحهم الخالدة!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى