تفسير سفر الأمثال ٢١ للقمص تادرس يعقوب
القسم الثالث
وصايا للقادة
خاصة الملوك والرؤساء
أمثال 21-30
الأصحاح الحادي والعشرون
طريق الملوكية!
أدرك سليمان الحكيم أنه قد نُصِّب ملكًا بأمر إلهي، ونال ما ناله من حكمةٍ ومجدٍ وغنى، وبناء هيكل الرب من قِبل الرب نفسه. ففي محبته لإخوته في البشرية اشتهى أن يكون الكل ملوكًا روحيين، وقد عبَّر عن ذلك في سفر الحكمة بقوله: “يا صانع كل شيء بكلمتك، ومكوِّن الإنسان بحكمتك، لكي يسود الخلائق التي صنعتها. ويسوس العالم بالقداسة والبرّ، ويجري الحكم باستقامة نفسٍ” (حك 9: 2-3).
إنه يود أن يحمل كل إنسان – أيَّا كان مركزه أو عمره أو إمكانياته – روح القيادة الحقيقية. وقد جاء حديثه في هذا الأصحاح يبرز كيف يتمتع الإنسان بروح الملوكية، ويتحاشى طريق المذلة.
- التناغم مع الإرادة الإلهية 1-4.
- الاجتهاد بروح البرّ 5-8.
- التمتع بالسلام الأسري 9.
- علاقات اجتماعية حكيمة 10-12.
- روح العطاء 13.
- سلوك مقدس 14-30.
- نصرته في الرب 31.
- التناغم مع الإرادة الإلهية
قَلْبُ الْمَلِكِ فِي يَدِ الربِّ،
كَجَدَاوِلِ مِيَاهٍ حَيْثُمَا شَاءَ يُمِيلُهُ [1].
في الليلة الأخيرة من مملكة بابل أراد دانيال النبي أن يكشف لبلشاصر الملك أن الله وراء قيام كل مملكة، له خطة خاصة في حياة كل ملك، هذا الإله الذي دنس بيلشاصر آنية بيته (دا 5: 1-4)، فقال له: “أنت أيها الملك، فالله العلي أعطى أباك نبوخذنصر ملكوتًا وعظمة وجلالاً وبهاءً..” (دا 5: 18 الخ).
كل الملوك الأتقياء والأشرار، المؤمنون وغير المؤمنين، لن يتحركوا بدون سماح الله أو إرادته. كثيرون منهم يظنون أنهم قادرون على العمل على مستوى عالمي مثل فرعون مصر، وملوك أشور وبابل وقياصرة روما وإسكندر الأكبر ونابليون بونابرت. ولم يعلموا أنهم لن يستطيعوا العمل بدون سماح الله. لقد أعلنوا علانية أو سرًا استقلالهم عن الله. هذا ما يشعر به كثير من القادة، بل ومن الشعب أنهم يفعلون ما يشاءون. إننا في حاجة أن نحتفل يوميًا بإعلان اتكالنا على الله القدير وليس استقلالنا عنه.
لقد أدركت أستير هذا وصرخت مع شعبها، وحرك الرب قلب الملك كما جاء في كل السفر، خاصة حين طار نوم الملك منه، وقرأ في سفر تذكار الأيام عما فعله مردخاي، وتحركت الأحداث لحساب شعب الله (دا 6).
حركت يدّ الله كورش الفارسي، إذ قيل: “هكذا يقول الرب لمسيحه، لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه أممًا…”
إن كان هذا هو عمل الله حتى مع الملوك الأشرار، فكم يكون دوره في حياة مؤمنيه، إذ يقول لإرميا النبي: “قبلما صوَّرتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيًا للشعوب” (إر 1: 5).
كوازن للقلوب هو الطبيب الوحيد المتخصص في إصلاح القلب وتجديده، لذا نصرخ إليه في مقدمة الصلاة في كل ساعة: قلبًا نقيًا اَخلقه فيّ يا الله” (مز 51).
من هو الملك الذي قلبه في يد الرب؟
- القائد البار: كل قائد بار يشعر أن دوره القيادي لا يقوم على نواله مركزٍ معينٍ، سواء على مستوى المجتمع أو الكنيسة، أو العمل أو الأسرة الخ، إنما يتحقق حين يقتني في داخله قلبًا ملوكيًا، باتحاده بالرب ملك الملوك. يسلك القائد في تواضعٍ وتسليمٍ بين يديّ الله الذي يوجِّه قلبه وعقله ومشاعره وأحاسيسه. فدوره القيادي في حقيقته هو سلوك حسب إرادة الله قائده.
- القائد الشرير: يرى البعض أن الله يسمح به لتأديب الأشرار الخاضعين له ولتزكية أولاد الله، فيستخدمه الله للبنيان. بهذا فإن قلبه في يد الرب. وذلك كما قيل عن نبوخذنصر وغيره من الملوك الذين أذلوا شعب الله لتأديبهم، فدُعي نبوخذنصر الوثني الشرير عبد الرب.
- كل نفس مقدسة تُحسب في عينيّ الله ملكة أو ملكًا، وكما يقول القديس يوحنا الحبيب: “وجعلنا له ملوكًا وكهنة لله أبيه” (رؤ 1: 6). يقول الحكيم: “نفوس الأبرار في يد الله” (حك 3: 1).
V سلِّم نفسك في يديّ الرب. ليس فقط عندما ترحل من الجسد، بل وأيضًا عندما تكون في الجسد، إنها في يديّ الرب، وإن كنت لا تراها ولا ترى مصدرها ولا مكان بلوغها. إنها فيك ومع الرب. لهذا فإن “قلب الملك في يد الرب“، هذا الذي يقودها ويسود عليها. القلب أيضًا ممتلئ بالروح، لأن الروح هي الجزء الحاكم في النفس، وهي قوة النفس. أقول إن القوة لا تكمن في الذراعين، بل في المشورة، وفي ضبط النفس، والتقوى، والعدل. إن كان قلب الإنسان في يد الرب فبالأكثر تكون نفسه[653].
القديس أمبروسيوس
V إن كان “قلب الملك في يد الله“، فإنه لا يخلص بقوة الأذرع بل بالقيادة الإلهية. الآن ليس أي إنسان عشوائيًا هو في يد الله، وإنما من كان مستحقًا لاسم الملك[654].
القديس باسيليوس الكبير
V بالتأكيد لا يشير النبي إلى ملوك هذا العالم، إذ هو مكتوب: “قلب الملك في يد الله“.
هل تظن ولو إلى لحظة أن قلب يوليانوس الجاحد في يد الله؟ حاشا!
أو قلب نيرون أو مكسيميانوس أو ديوسيوس المضطهدين؟ حاشا!
إنه يتكلم عن أولئك الذين يتحكمون على الخطية، فالآن هؤلاء قلوبهم في يد الله ينتصرون على الرذائل وشهوات نفوسهم ويغلبون الخطية[655].
V هل قلوب يوليانوس المضطهد أو نيرون أو ديوسيوس في يد الله؟ لا!
القلوب التي في يد الله هي قلوب الذين يسيطرون على أجسادهم ويخضعونها ويستعبدونها، لئلا وهم يكرزون للآخرين هم أنفسهم يُرفضون (1 كو 9: 27).
هؤلاء هم الملوك الذين يقول عنهم الحكمة في سفر الأمثال: “يعطي ملوكية للملوك” (راجع أم 8: 15)[656].
القديس جيروم
V الله وحده الذي يعرف أسرار الإنسان. اسمع ما يقوله النبي: “أنت وحدك تعرف القلوب” (2 أي 6: 30)، وأيضًا: “الله يفحص القلوب ويملك” (مر 7: 9)، ويقول إرميا: “القلب عميق فوق كل الأشياء، وهو إنسان، من يعرفه؟!” (أم 21: 9). ينظر الإنسان الوجه، وأما الله فينظر القلب” (1 صم 16: 7)[657].
V معرفة أسرار الناس تخص الله وحده… “القلب عميق أعمق من كل الأشياء، أنه إنسان، من يقدر أن يعرفه؟!” (أم 21: 9 LXX)[658].
القديس يوحنا الذهبي الفم
كُلُّ طُرُقِ الإنسان مُسْتَقِيمَةٌ فِي عَيْنَيْهِ،
وَالربُّ وَازِنُ القُلُوبِ [2].
أول عائق للتناغم مع إرادة الله الصالحة تبرير الإنسان نفسه، فيظن أن كل ما يفكر فيه وكل ما يسلكه هو حق، لهذا يقول الرسول بولس: “فإني لست أشعر بشيءٍ في ذاتي، لكنني لست بذلك مبررًا، ولكن الذي يحكم فيَّ هو الرب” (1 كو 4: 4).
يبرر الإنسان موقفه أمام نفسه كما أمام الناس، لكنه لا يقدر أن يبرر نفسه أمام الله وازن القلوب وفاحصها. يقول إرميا النبي: “القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس، من يعرفه؟” (إر 17: 9).
V أليس أولئك الذين يدينون خطاياهم مسيحيين حقيقيين أفضل من الذين يفكرون في الدفاع عنها؟ الإنسان البار يتهم نفسه في بدء كلماته (أم 18: 17 ). من يتهم نفسه عندما يخطئ فهو بار، وليس من يمدح نفسه[659].
القديس أمبروسيوس
كوازنٍ للقلوب، يهتم الله باستقامة قلوبنا واتساعها بالحب الحقيقي واتسامها بالرحمة، فيقول: “أريد رحمة لا ذبيحة” (هو 6: 6؛ مت 9: 13؛ مت 12: 7).
V تُفتح الأبواب لكل شخصٍ يرجع إلى الله بالحق وبكل قلبه، ويتقبل الآب الكلي البهجة ابنه التائب حقيقة. والتوبة الحقيقية هي عدم الارتباط بعد بالخطايا التي جحدها… بل يستأصلها تمامًا من نفسه. فباقتلاعها يجعل الله مسكنه فيك. فقد قيل يوجد فرح عظيم بفيض، وعيد في السماويات مع الآب والملائكة عندما يرجع خاطئ ويتوب. هذا هو السبب الذي لأجله يصرخ “أريد رحمة لا ذبيحة”[660].
القديس إكليمنضس السكندري
فِعْلُ العَدْلِ وَالحَقِّ أَفْضَلُ عِنْدَ الربِّ مِنَ الذبِيحَةِ [3].
إن كان الله هو القائد الخفي، فإنه يليق بالمؤمن أن يتعرف على إرادته خلال كلمته ليسلك حسب مشيئته الإلهية.
V يقول الله نفسه أنه يفضل الطاعة لوصاياه عن تقديم ذبائح الله. يعلن الله هذا، ويقوم موسى بإعلانه لشعب إسرائيل، ويكرز بولس بهذا للأمم. افعل ما تراه أفضل حاليًا[661].
القديس أمبروسيوس
طُمُوحُ العَيْنَيْنِ وَانْتِفَاخُ القَلْبِ نُورُ الأَشْرَارِ خَطِيَّةٌ [4].
إن كانت كلمة الله تسند المؤمن – كملكٍ – فيملك الله على قلبه ويقوده حسب مشيئته الإلهية، فإن أخطر عدو يفسد القلب هو العيون العالية والقلب المتشامخ، حتى وإن قدم الإنسان أعمالاً تبدو مجيدة، أو نورًا، ما لم يرجع بروح التواضع إلى الله في توبةٍ صادقةٍ. لو أن حاكمًا لولاية تمرد على الإمبراطور، أو على رئيس الدولة، فإنه مهما فعل من أعمال تبدو مجيدة، يُوصَم بالتمرد، ما لم يرجع ويسلم أسلحته للإمبراطور أو الرئيس. هذا ما اتهم به بولس الرسول إسرائيل: “أشهد لهم أن لهم غيرة الله، ولكن ليس حسب المعرفة، لأنهم إذ يجهلون برّ الله ويطلبون أن يثبتوا برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله” (رو 10: 2-3).
من تتعالى عيناه على إخوته، فينظر إليهم باستخفافٍ، حتى وإن لم ينطق بكلمةٍ واحدةٍ ضدهم، ينظر الله إلى أعمال برّه الذاتي كخِرقة الطامث. وكما يقول إشعياء النبي: “قد صرنا كلنا كنجسٍ، وكثوب عدة كل أعمال برّنا” (إش 64: 6).
V إن كان لأحد حب نحو الله، لكنه لا يعرف أن الحب يستلزم أن يكون صبورًا، لطيفًا، غير حاسدٍ، لا يصنع خطأ، ولا تشامخ، ولا يكون طماعًا، لا يطلب ما لنفسه وهكذا، فإنه إذ لا يكون له هذه الأمور في محبته، وإنما يحب الله بعواطفه المجردة، فبحقٍ يُقال عنه أن له محبة الله ولكن ليس حسب المعرفة[662].
العلامة أوريجينوس
V إذ ينقاد كثيرون بروحهم واثقين في فضائلهم الذاتية، مكتفين فقط بالاستماع للناموس دون طلب معونة النعمة، هؤلاء ليسوا أبناء الله. أمثال هؤلاء يقول عنهم الرسول: “إذ كانوا يجهلون برّ الله، ويطلبون أن يثبتوا برّ أنفسهم، لم يخضعوا لبرّ الله” (رو10: 3). قال هذا عن اليهود الذين في اعتدادهم بذواتهم احتقروا النعمة ولم يؤمنوا بالمسيح.
إنه يقول إنهم أرادوا أن يقيموا برّهم، هذا البرّ الذي من الناموس. لا أنهم ينفذون الناموس، بل يقيموا برّهم في الناموس عندما يحسبون في أنفسهم أنهم قادرون على تنفيذ الناموس بقوتهم، جاهلين برّ الله، لا البرّ الذي لبولس الرسول، بل البرّ الذي يمنحه الله للإنسان[663].
القديس أغسطينوس
- الاجتهاد بروح البرّ
أَفْكَارُ المُجْتَهِدِ إِنَّمَا هِيَ لِلخِصْبِ،
وَكُلُّ عَجُولٍ إِنَّمَا هُوَ لِلعَوَزِ [5].
يليق بالمؤمن كقائدٍ روحي أن يكون مثالاً حيًا بسلوكه العملي، دائم العمل باجتهادٍ وأمانةٍ وفي غير تسرعٍ. فالاجتهاد فضيلة، بينما التسرع وعدم التروي خطأ. يليق بالمؤمن في اجتهاده أن يعرف ماذا يعمل، ومتى يعمل، وإلى أي مدى، بل ومتى يتوقف. فلا يليق به أن يفسد وقته وطاقاته وإمكانياته بدون حكمة. “العامل بيدٍ رخوة يفتقر، أما يد المجتهدين فتُغني” (أم 10: 4). “يد المجتهدين تسود، أما الرخوة فتكون تحت الجزية” (أم 12: 24)، “الرخاوة لا تمسك صيدًا، أما ثروة الإنسان الكريمة فهي الاجتهاد” (أم 12: 27). “نفس الكسلان تشتهي العسل ولا شيء لها، ونفس المجتهدين تسمن” (أم 13: 4).
هذا لن يتحقق بالتسرع في العمل. وكما يقول الحكيم: “المستعجل برجليه يخطئ” (أم 19: 2). “أرأيت إنسانًا عجولاً في كلامه، الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به” (أم 29: 20).
V يلزم كل واحد أن يستخدم بالكمال كل ما لديه لأجل الصالح العام. فإن كان لديك حكمة أو قوة أو غنى أو أي شئ آخر، فلا يكون ذلك لدمار العبيد زملائك ولا لدمارك أنت[664].
V من أين يأتي التباين الكبير في أحوال الحياة؟ من طمع الأغنياء وغطرستهم[665].
القديس يوحنا الذهبي الفم
جَمْعُ الكُنُوزِ بِلِسَانٍ كَاذِبٍ،
هُوَ بُخَارٌ مَطْرُودٌ لِطَالِبِي المَوْتِ [6].
الغنى في ذاته ليس شرًا، لكن جمعه بالكذب والاحتيال بروح الطمع مدمر للإنسان روحيًا واجتماعيًا وأحيانًا جسديًا. يروي كل من Vernon McGee, Henry Ironside في تعليقهما على هذه العبارة، قصة البدوي الذي كان يحتضر جوعًا، ووجد في طريق إحدى القوافل حقيبة، فظن أنه يجد فيها طعامًا أو علب عصير فاكهة. فتحها بسرعة ليعرف ما بها، فأُصيب يحالة من الإحباط الشديد وهو يقول: “يا للآسف إنها لآلئ!” حقًا إنها كنز ثمين، لكنها لا تقدر أن تشبع من يتضور جوعًا!
V لاحظ كيف أنه لا يوجد نزاع على الأشياء المشتركة، بل الكل يستخدمها في سلام. لكن بمجرد محاولة أحد أن يقتني شيئًا ويجعله حكرًا له، يظهر النزاع. كما لو كانت الطبيعة نفسها تحتج على هذا التصرف. فبينما يجمعنا الله بكل وسيلة نسعى نحن لننقسم وننفصل عن بعضنا، وذلك عن طريق تخصيص أشياء مع استخدام الكلمتين الباردتين “لي ولك”. عندئذ تظهر الصراعات والبغضة، وحيث لا يحدث هذا لا يظهر نزاع أو صراع.[666]
V لنتعلم من دروس الحكمة الحقيقية ونقول: إننا لا نمنع طلب الغنى، وإنما نمنع الثروات المكتسبة بطريقة غير مشروعة. فإنه لأمر شرعي أن تكون غنيًا، لكن بدون طمعٍ أو نهبٍ أو عنفٍ، وبدون سمعةٍ رديئةٍ لدى كل الناس.[667]
القديس يوحنا الذهبي الفم
اِغْتِصَابُ الأَشْرَارِ يَجْرُفُهُمْ،
لأَنَّهُمْ أَبُوا إِجْرَاءَ العَدْلِ [7].
قد يقتني الإنسان الكثير بالظلم والاغتصاب، لكنه يفقد حياته وسعادته، بل ويهلك، إذ يرفض إجراء العدل. لا يقبل الله الاغتصاب، حتى لو قدم الإنسان ما اغتصبه للفقراء أو للكنيسة.
V ليتنا نضيف بصلواتنا أجنحة التقوى لصدقاتنا، ونصلي لكي تطير بسرعة أعظم إلى الله. علاوة على هذا فإن النفس المسيحية تدرك أهمية تجنب سرقة خيرات الآخرين، بإدراكها أن عدم مشاركة ما يزيد عن الحاجة مع المحتاجين هو نوع من السرقة.[668]
القديس أغسطينوس
V عدم إعطاء الإنسان جزءِ من ممتلكاته للغير يُحسب بالفعل نوعًا من اللصوصية… يقول الرب: “أخذتم ما للفقراء”. هذا ما يقوله ليوضح للأغنياء أن ما يمتلكونه يخص الفقراء, حتى وإن كان ميراثًا من آبائهم، أو حصلوا على بعض الأموال من أي مصدرٍ. يقول في موضع آخر: “لا تسلب الفقير معيشته” (سي 4: 1)[669].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V يلزمك أن تتجنب خطية الجشع، ليس برفض الاستيلاء على ما يخص الغير فحسب، وإنما أيضًا بعدم تعلقك بممتلكاتك الخاصة التي لا تصبح ملكك فيما بعد. يقول الرب: “وإن لم تكونوا أمناء في ما هو للغير، فمن يعطيكم ما هو لكم” (لو 16: 12). الذهب والفضة ليسا لنا، الذي لنا هو الميراث الروحي[670].
القديس جيروم
طَرِيقُ رَجُلٍ مَوْزُورٍ هِيَ مُلْتَوِيَةٌ،
أَمَّا الزكِيُّ فَعَمَلُهُ مُسْتَقِيمٌ [8].
تنعكس علاقة الإنسان بالله على حياته، فإن كان متمردًا وعنيدًا تصير طرقه ملتوية كالحية، مقدمًا أعذارًا وتبريرات لتصرفاته. أما من له شركة مع الله، فيسلك بروح الله في استقامة، وينفر من كل خبثٍ واعوجاجٍ.
يقدم لنا الكتاب المقدس أمثلة للصنفين، فمن الذين تمردوا أخاب الملك وتبعه الشعب في هذا المسلك. لهذا “تقدم (إيليا) إلى جميع الشعب وقال: حتى متى تعرجون بين الفرقتين، إن كان الرب هو الله فأتبعوه، وإن كان البعل فأتبعوه” (مل 18: 21). ومن الذين سلكوا باستقامة دانيال النبي الذي حاول الوزراء والمرازبة أن يجدوا عليه علة للخلاص منه، “لم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنبًا، لأنه كان أمينًا، ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب” (دا 6: 4).
V بالحقيقة ليس شيء يجعل الناس أغبياء هكذا مثل ممارستهم عادات شريرة، عندما يكون الإنسان مخادعًا، عندما يكون ظالمًا، عندما يكون فظًا (وهذه بالتأكيد هي أشكال مختلفة لفعل الشر)، عندما يسدد ضربات مؤلمة دون سبب… عندما يستتر على تحايل، كيف لا يُظهر علامات غباوة كاملة؟[671]
القديس يوحنا الذهبي الفم
V من يبني منزله من الظلم إنما يبني لِذاته شهادة الهلاك[672].
القديس مار أفرآم السرياني
- التمتع بالسلام الأسري
اَلسُكْنَى فِي زَاوِيَةِ السطْحِ،
خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مُخَاصِمَةٍ وبَيْتٍ مُشْتَرِكٍ [9].
إذ كان قلب ميكال ابنة شاول مشغولاً بالمجد الباطل لم تستطع أن ترى رجلها – داود – يرقص متهللاً عند إحضار تابوت العهد إلى أورشليم، فقالت له في استخفاف: “ما كان أكرم ملك إسرائيل اليوم، حيث تكشف اليوم في أعين إماء عبيده كما يتكشف أحد السفهاء” (2 صم 6: 20).
مَثل آخر لزوجة تحمل روح المخاصمة، وهي امرأة أيوب، التي عوض أن تشدد رجلها في وقت الضيق، قالت له: “أنت متمسك بعد بكمالك، بارك (العن) الله ومت” (أي 2: 9).
لأهمية اختيار شريك حياة مقدس في الرب تكررت هذه العبارة في أمثال 25: 24، 21: 9.
لم يطلب الحكيم من الرجل أن يطرد الزوجة المخاصمة، إنما يحسب البيت للزوجة، ولا طلب منه أن يطلقها، ولا أن يدفعها للسكنى على سطح البيت، بل يقوم هو بالسكنى على السطح بعيدًا عن المحاورات الغبية، لعلها ترجع عن روح الخصام، ويعيش الاثنان بروح الحب في سلام.
V قلوب الأحبّاء لها أجنحة… الحب يمكن أن يتحوّل إلى بغضة، إن زحف إليه أسباب هامة لعدم الاحترامالمتبادل.
القدّيس إكليمنضس السكندري
V إذ يعدّد الحكيم الأمور التي تُحسب بركات يذكر ضمنها “زوجة تتّفق مع رجلها” (سي 25: 1): وفي موضع آخر يذكر بين البركات أن تسكن امرأة في انسجام مع زوجها (سي 40: 23).
في الحقيقة من البداية أظهر الله اهتمامًا خاصُا بهذه الوحدة، وحسب الاثنين واحدًا. لقد قال: ذكرًا وأنثى خلقهما الله (تك1: 27)، وقيل: “ليس ذكر وأنثي” (غل 3: 28). أنه لا توجد علاقة بين إنسانٍ وآخر في قوّة العلاقة التي تقوم بين الرجل وامرأته، إن كانا مرتبطين معًا كما ينبغي!
لذلك عندما أراد الحكيم أن يعبّر عن الحب الفائض في حزنه علي شخص عزيز لديه… لم يشر إلى أب أو أم أو ابن أو أخ أو صديق، بل إلى ماذا أشار؟ إنه يقول: “محبتك لي أعجب من محبّة النساء” (2 صم 1: 26). حقًا إن هذا الحب عنيف أكثر من أي عنف، لأن الأنواع الأخرى (من الحب) قويّة، لكن هذا الود ليس فقط قويًا بل لا يذبل أيضًا.
يوجد حب معين مستقر في العمق، في طبيعتنا، يربط أجساد بعضنا البعض بطريقة لا تُدرك.
من البداية عينها خرجت المرأة من الرجل، وبعد ذلك يخرج كل رجل وامرأة من الرجل والمرأة معًا (1 كو 11: 8).
أتدرك شدة الرباط وقوّة العلامة؟! كيف أن الله لم يسمح لطبيعة مغايرة أن تتدخّل من الخارج. لاحظ كيف امتلأت التدابير من العناية الإلهيّة؟! فإنه سمح للرجل أن يتزوّج أخته، لا ليس أخته بل ابنته، ليس ابنته بل ما هو أكثر من ابنته، إنها جسده! (هنا يشير إلى زواج آدم بحواء).
هكذا خلق الله الكل من بداية واحدة، فيجتمع بعضهم البعض كالحجارة في المبنى في وحدةٍ واحدةٍ.
لم يخلقها من الخارج حتى لا يشعر الرجل أنها غريبة عنه، ولا أوقف الزواج عندها وحدها، حتى لا تقتصر علي نفسها، وتظن أنها مركز الكل (هنا يقصد لا تقدر أن تنجِب بدون الرجل، وإلا لتشامخت عليه، ولما قامت المحبّة بينهما، إنّما شعورها بالحاجة إليه للإثمار يجعل من البنين علامة الاتحاد والحب بينهما). ليس هناك شيء يلحم حياتنا مع بعضنا البعض هكذا مثل حب الرجل وزوجته[673].
القدّيس يوحنا الذهبي الفم
V إنكم تفضّلون خبزًا يابسًا يؤكل في البرية والملح والماء للشرب أفضل من الترف ومسرات الحياة في المدن المقترنة بمشاغلها وهمومها: “لقمة يابسة ومعها سلامة خيرٌ من بيت ملآن ذبائح مع خصام” (أم 17: 1). وكاتب سفر الأمثال – بقوله هذا منذ زمانٍ طويلٍ – كان يُنبئ عنكم، أيها الرهبان المحبوبون جدًا عند الله، أنكم أحرار من كل شيء. لا توجد عندكم امرأة لتغريكم بحليِّها، ولا بنون ولا بنات يثقِّلون عليكم بمطالبهم المتعدِّدة، ولا عبد يسرق نقودكم ويهرب بها، ولا اهتمامات لأجل الثراء لتحرمكم من نومكم، وكما يقول الجامعة: “أما الذي هو متخمٌ بالثروة فلن يتيسر له النوم” (جا 5: 11).
القديس أنبا سيرابيون أسقف تميّ
- علاقات اجتماعية حكيمة
نَفْسُ الشرِّيرِ تَشْتَهِي الشرَّ.
قَرِيبُهُ لاَ يَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ [10].
يعكس الإنسان ما في قلبه على ما حوله وعلى من هم حوله، فكل شيء طاهر للطاهرين، ونجس للنجسين (تي 1: 15). فالشرير يرى كل شيء شريرًا، لا يرى إنسانًا فاضلاً أو تقيًا، ليس من يجد نعمة في عينيه. إنه لا يكف عن أن يدين كل أحدٍ.
V قال الأب إشعياء: “إذا خطر على بالك فكر دينونة على قريبك بسبب خطأ ما، فتفكّر أولاً في نفسك أنك خاطئ أكثر منه بكثير، والصلاح الذي تعتقد أنك تفعله لا تظن أنه أرضى الله، وبذلك فلن تتعرّض لخطر إدانة قريبك”.
V وقال أيضًا: “لا تُدِن قريبك واحتقر ذاتك، وبذلك تشعر براحة الضمير”.
بستان الرهبان
بِمُعَاقَبَةِ المُسْتَهْزِئ يَصِيرُ الأَحْمَقُ حَكِيمًا،
وَالحَكِيمُ بِالإرْشَادِ يَقْبَلُ مَعْرِفَةً [11].
بينما يحتاج الأمر إلى الشدة والحزم مع المجرمين المستهترين ليكونوا عبرة لغيرهم، فإن الحكماء وإن أخطأوا يحتاجون إلى النصح والإرشاد، فبروح الإقناع والحوار يُمكن تهذيبهم. لقد استخدم الرسول بولس الحزم الشديد مع المستهتر المقاوم للحق عليم الساحر (أع 13: 8-13) بينما اكتفى بالحوار مع بطرس وبرنابا.
سبق أن قدم سليمان الحكيم ذات المفهوم بقوله: “اَضرب المستهزئ فيتزكى الأحمق، ووبخ فهيمًا فيفهم معرفة” (أم 19: 25). ويقول الرسول بولس: “الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع لكي يكون عند الباقين خوف” (1 تي 5: 20).
V هنا توجد معضلة، كثيرًا ما تحدث. إن عاقبت إنسانًا ربما تهلكة، وإن لم تعاقبه ربما تُهلك إنسانًا آخر. أضيف بأنني أخطئ في هذا الأمر كل يوم[674].
القديس أغسطينوس
V الحنو الزائف للشرير هو خيانة للحق، وعذر بالمجتمع، ووسيلة ليتعود الإنسان على التهاون مع الشر… “الذين يخطئون وبخهم” يقول الرسول، وقد أضاف في الحال السبب، قائلاً: “لكي يكون عند الباقين خوف”[675].
القديس باسيليوس الكبير
اَلبَارُّ يَتَأَمَّلُ بَيْتَ الشرِّيرِ،
وَيَقْلِبُ الأَشْرَارَ فِي الشرِّ [12].
يرى بعض الدارسين مثل Joseph Parker أن البار هنا يُقصد به الله القدير Righteous One، فمع طول أناته على الشرير وكل أهل بيته، يتركه يزدهر إلى حين لعله يتوب، فإن لم يتب يرجع شره إليه.
غير أن البعض مثل متَّى هنري يرون أن البار هنا هو الحاكم أو القاضي البار، فإنه يبحث بكل اجتهاد قضية الشرير في دقةٍ حتى متى حكم عليه لا يظلمه.
على أي الأحوال فإن الإنسان البار يرى بيت الشرير يزدهر دون أن يتضايق ولا يضطرب لنجاحه، إنما يُصر على شركته مع الله مهما كانت تكلفتها، دون أن ينحرف مع الشرير، فيصير بذلك شاهدًا وديانًا للشرير يوم انهياره في يوم الرب العظيم، أو في الحياة الحاضرة، لأن نجاح الشرير لن يدوم.
- روح العطاء
مَنْ يَسُدُّ أُذُنَيْهِ عَنْ صُرَاخِ المِسْكِين،ِ
فَهُوَ أَيْضًا يَصْرُخُ وَلاَ يُسْتَجَابُ [13].
في أمثال 19: 17 تأكيد من جانب الله أن من يرحم الفقير يُقرض الرب، الذي يرد له هذا القرض كضامنٍ لمخلوقه الفقير. هنا يحذر من سد الأذنين عن صرخات المسكين، فإن صرخاته هو أيضًا لا يُستجاب لها.
V من لا يرحم لا يُمكن أن يتأهل لمراحم الله، ومن لا يكون عطوفًا على طلبة الفقير لا ينال أية طلبة من الحب الإلهي بصلواته[676].
الشهيد كبريانوس
V الإحسانات المُقدمة للمحتاجين من مكاسب ظلم غير مقبولة لدى الله. بل والذي يمتنع عن ممارسة الظلم ولا يشرك أحدًا في الخيرات التي يملكها لا يتأهل للمديح… إن كنت تقدم لله من ثمار الظلم والنهب، فكان من الأفضل ألا تملك مثل هذه الثروة عن أن تملكها وتعطي تقدمة[677].
القديس باسيليوس الكبير
V ألاَ تتفقوا بأن الفقر- كما قلت – أكثر قسوة من أي حيوان مفترس؟ لهذا يلزمكم أن تساعدوا الذين يسقطون تحته.
أميلوا أذانكم للفقراء، وأصغوا إليهم، كما هو مكتوب: “من يسد أذنيه، فهو أيضًا يصرخ ولا يُستجاب” (أم 21: 13). أعطوا لكي تنالوا، اسمعوا لكي يُسمع لكم، اَغرسوا القليل الذي لديكم فتحصدوا الكثير. بجانب هذا فإن لذة الجسد هزيلة ومؤقتة وتنتهي بالفساد. أما من يمارس العطاء والمحبة للفقراء فيكلل بمجد من قبل الله، ويقودانه إلى السعادة غير الفاسدة التي يمنحها المسيح للذين يحبونه[678].
القديس كيرلس الكبير
V إن العلاج لاستعطاف الله قد أُعطى لنا في كلمات الله نفسه، إذ تعلم التعاليم الإلهية الخطاة ما يلزمهم أن يفعلوه، وهو أن الله يكتفي بأعمال البرّ (خلال دم المسيح). فبالرحمة يستحقون غفران الخطية. وقد جاء في سليمان: “اغلق على الصدقة في أخاديرك (في قلب الفقير)، وهى تنقذك من كل شرٍ” (سي 29: 15).
وأيضًا “من يسد أذنيه عن صراخ المسكين، فهو أيضا يصرخ ولا يُستجاب” (أم 21: 13). لأن من لا يرحم لا يقدر أن يتأهل لمراحم الرب. ومن ليس لديه إنسانية تجاه طلبات الفقير، لا يستدر بصلواته أي نصيب من العطف الإلهي. هذا ما أعلنه الروح القدس في المزامير مؤكدًا “طوبى للذي ينظر إلى المسكين، في يوم الشر ينجيه الرب” (مز 41: 1).
تذكر أية وصية قدمها دانيال لنبوخذنصر الملك عندما كان قلقًا وخائفًا من الحلم الخطير، مقدمًا له علاجًا ليحصل على عون إلهي ينتزع الشرور، إذ يقول: له “لذلك أيها الملك فلتكن مشورتي مقبولة لديك، وفارق خطاياك بالبرّ، وآثامك بالرحمة للمساكين…” وإذ لم يطعه الملك سقط تحت المصائب والشرور التي رآها، والتي كان يمكنه أن يهرب منها بالصدقات.
ويشهد روفائيل الملاك بمثل هذا حاثًا على إعطاء الصدقة باختيار وسخاء، إذ يقول: “الصلاة جيدة مع الصوم والصدقة، لأن الصدقة تنجي من الموت، وتطهر عن الذنوب” (طو 12: 8-9). إنه يظهر أن صلواتنا وأصوامنا ما لم تعينهما الصدقة تصير أقل نفعًا. لأن من يفعلها دون أن يسندها بالأعمال الصالحة تكون قوتها ضعيفة في بلوغ طلبته.
أعلن الملاك وأوضح وشهد بأنه بالصدقات تصير توسلاتنا فعّالة، وتصير الحياة بلا خطر، وتتخلص الروح من الموت[679].
الشهيد كبريانوس
- سلوك مقدس
اَلهَدِيَّةُ فِي الخَفَاءِ تَفْثَأُ الغَضَبَ،
والرشْوَةُ فِي الحِضْنِ تَفْثَأُ السخَطَ الشدِيدَ [14].
ليس ما يهدِّئ غضب الإنسان مثل تقديم هدية ممن غاضب عليه، على أن تُقدم بفكرٍ نقيٍ ونيةٍ صادقةٍ مشفوعة بروح التواضع ومساندة الرب له. تُقدم في الخفاء، وليس علانية مما يشكك الغاضب في نية مقدمها. ولعل في تقديمها في الخفاء لا يعطي للأشرار فرصة تشويه هذا العمل.
تقديم الهدايا بروح طيبة حتى بين أعضاء الأسرة تعطي سلامًا أفضل من كثرة الحوار والجدال ودفاع الإنسان عن نفسه. أما من يقدم الهدية كرشوةٍ لإفساد العدل، ونوال ما لا حق له فيه فهي مخزية ومعيبة.
يربط القديس أوغريس بين الهدية المادية والنية الصادقة والحياة المستقيمة.
V “هدية الإنسان” تُدعى الحياة المستقيمة. هذه الهدية تجعل له موضعًا، وتؤهله إلى كل ملء الله (أف 3: 19). إنها هي بعينها التي تُدعى عرش القوات المقدسة. بالحق عرش العقل هو الحالة السامية التي يبلغ أولئك الذين يجلسون في حالة ثابتة لا تتزعزع[680].
القديس أوغريس
إِجْرَاءُ الحَقِّ فَرَحٌ لِلصدِّيقِ،
وَالهَلاَكُ لِفَاعِلِي الإثْمِ [15].
يفرح الصديق بالحق حتى وإن كان فيه خسارة مؤقتة، فإنه يثق في مكافأة الله له. أما الشرير فلا يتناغم مع الحق، إذ يتراءى له شره ويخشى العقاب الذي يتوقعه.
صاحب العمل الأمين وإن مرّ بضيقات مالية لكنه سينجح، أما المخادع والشرير فإنه وإن كسب الكثير سيخسر كل ما جمعه ظلمًا.
يفرح الصديقون لتحقيق العدالة في القضاء ومن جانب الحاكم، أما الشرير فيخشاها لئلا يحل يوم القضاء ضده!
لا يُعجب الصديق بنجاح الأشرار وسلوكهم مهما كان مركزهم الاجتماعي، أو قرابته له أو صداقته معه. إنه يعجب بالعدل والبرّ، لذلك قيل: “رفع وجه الشرير ليس حسنًا” (أم 18: 5).
V ليس حسنًا أن نُعجب من الأشرار، حتى وإن كان أحدهم له مركز هام، أو يغطي على ما هو حق بحديثٍ مُقنع. من يعجب بسلوك الأشرار إنما يُقر بالإثم الذي يوحي به الشيطان[681].
القديس يوحنا الذهبي الفم
اَلرجُلُ الضالُّ عَنْ طَرِيقِ المَعْرِفَةِ،
يَسْكُنُ بَيْنَ جَمَاعَةِ الأخِيلَةِ [16].
من يضل عن طريق الحق يفقد طعم الحياة مهما نال من كرامات أو أمجاد أو ممتلكات، فيصير كمن يعيش في مجتمع الأرواح الشريرة “الأخيلة”، أو مجتمع الموتى. هذا ما حدث مع يهوذا حين خان سيده، فحسب نفسه في عدا د الموتى، وجاء انتحاره ترجمة واقعية لما يعيشه في داخله ويتخيله.
V ضلالة الرجل ألا يعرف الكتب؛ ويضل ضلالاً مضاعفًا من يعرفها ويتهاون بِها[682].
القديس مار أفرآم السرياني
مُحِبُّ الفَرَحِ إِنسَانٌ مُعْوِزٌ.
مُحِبُّ الخَمْرِ وَالدهْنِ لاَ يَسْتَغْنِي [17].
يقصد بالفرح هنا الانغماس في الملذات والأفراح الزمنية، فيظن الإنسان أن لا طعم للحياة بدون الإسراف في الملذات، فيحل به الفقر المادي، والحرمان من الفرح الداخلي. هذا كان مصير الابن الضال المسرف، لكن رجوعه إلى حضن أبيه أنقذه مما حلّ به.
عبَّر عن الانغماس في الملذات هذا بحب الخمر والأطياب المبالغ فيها.
V يستخدم الكتاب المقدس الخمر دومًا بمعنى سري، كرمزٍ للدم المقدس، ويمنع أي إفراط في استخدامه[683].
القديس إكليمنضس السكندري
V كل الذين أُعدوا ليصيروا تلاميذ يسوع يلزمهم الامتناع عن الخمر المسكر[684].
القديس باخوميوس
V يصير الذين يأكلون الخبز السماوي سمائيين دون شكّ! تعلمنا الخمر أنها تجعل الذين يشغفون بها يشبهونها، فهي تبغض المولوعين بها، وتجعلهم سكرى وفي خبلٍ وموضوع سخرية[685].
القديس مار أفرآم السرياني
V “محب الفرح إنسان معْوَز؛ محب الخمر والدهن لا يستغني” (أم 21: 17).
إنه في كمال الوضوح لا يستطيع أحد أن يقترب من طهارة الله ونقاوته دون أن يتطهَّر أولاً. لذلك لابد أن نقيم فواصل عالية وقويَّة بيننا وبين الملذَّات الجسديَّة، لأننا حين نقترب من الله ينبغي ألاَّ تتدنَّس طهارة قلوبنا ثانيةً. يعلِّمنا المختبرون أنه كما تنفصل المياه إلى تيَّارات كثيرة من جدولٍ واحدٍ. فاللذَّة تنشر نفسها على محبِّيها من خلال الحواس والطرق المؤديَّة إليها. والشخص الذي يخضع للذَّة خلال أيَّة حاسة، يكون قد جرح نفسه بتلك الحاسة. وهذا يتَّفق مع تعليم المسيح: من ارتضى باللذَّة عن طريق العين يكون قد تلقَّى الخطيَّة في القلب. لذلك يمكننا أن نضيف إلى قوله: من يسمع… من يلمس، أو من يستخدم أيّة حاسة لخدمة ملذَّاته يكون قد أخطأ في قلبه… ولكي نمنع ذلك لابد أن نضبط ذواتنا وحياتنا. يجب علينا ألاَّ ندع عقولنا تسكن حيث تقع الشهوة. في كل شيء نفعله يجب أن نختار ما يفيدنا. ونترك الباقي الذي قد يؤذي الحواس[686].
القدِّيس غريغوريوس النيسي
الشرِّيرُ فِدْيَةُ الصدِّيقِ،
وَمَكَانَ المُسْتَقِيمِينَ الغَادِرُ [18].
تقتضي العدالة معاقبة الشرير المجرم، فيخلص الإنسان البار أو الصديق، ويلزم معاقبة الغادر حتى يجد المستقيمون لهم موضع راحة.
لعله يشير هنا إلى نزع الخميرة الشريرة حتى لا يفسد العجين كله. اضطر يشوع بن نون إلى معاقبة عخان بن زارح حتى يرجع الرب عن حمو غضبه (يش 7: 17-26). وخرب فينحاس الكاهن الرجل الإسرائيلي ومعه المرأة الوثنية المديانية اللذين دخلا إلى خيمة الاجتماع، فامتنع الوباء عن الشعب (عد 25: 6-11).
V أيها الحبيب منذ حداثتك اختر التأديب، فتجده في شيخوختك عقلاً وفهمًا[687].
القديس مار أفرآم السرياني
شكرًا الله الذي في محبته بذل ابنه القدوس ليهبنا برَّه، فصار كلمة الله المتجسد ذبيحة إثم عنا.
السكْنَى فِي أَرْضٍ بَريَّةٍ،
خَيْرٌ مِنِ امْرَأَةٍ مُخَاصِمَةٍ حَرِدَةٍ [19].
ليس شيء أمر من أن يعيش الإنسان في بيت فيه خصام، فالسكنى في زاوية السطح [9] أو في برية قاحلة [19] أفضل من الوجود في بيت فيه خصام.
V “السكنى في أرضٍ برية خير من امرأة مخاصمة خردة” (أم 21: 19). لذلك فلتظهرن أيتها الزوجات تقواكن بتواضعكن ووداعتكن لكل الذين هم خارج الكنيسة، سواء كانوا رجالاً أو نساءً، وذلك لهدايتهم وتقدمهم في الإيمان. وإذ نحن نحذركم ونرشدكم في اختصار، إذ نعتبركن أخوات وبنات وأعضاء لنا، لتسلكن بحكمة، وتحفظن أنفسكن في طريق الحياة بلا لوم. لتطلبن أن تعرفن مثل هذا النوع من التعلم الذي به تبلغن إلى ملكوت ربنا وتسرن إياه، وتسترحن إلى أبد الأبد[688].
قوانين الرسل
كَنْزٌ مُشْتَهى وَزَيْتٌ فِي بَيْتِ الحَكِيمِ،
أَمَّا الرجُلُ الجَاهِلُ فَيُتْلِفُهُ [20].
يتطلع الإنسان الحكيم إلى المستقبل، حين تضعف قدرته على العمل فيجد ما قد اكتنزه في أيام شبابه، يجد مصباح حياته لا ينقصه زيت. أما الجاهل فيسرف في اللهو، ويتلف ما كسبه، ويصير في عوزٍ. هكذا يعيش أولاد الله، إذ يتطلعون إلى المستقبل الأبدي، ويجمعون كنوزًا خلال عمل النعمة الإلهية بالحب لله وللقريب، فمتى جاء العريس السماوي يجد له موضعًا مع العذارى الحكيمات اللواتي يأخذن زيتًا في آنيتهن مع مصابيحهن، ويدخل العرس السماوي (مت 25: 4-7).
يري البابا غريغوريوس (الكبير) أنه يفهم من الكنز هنا الهدايا التي قدمها المجوس من ذهبٍ ولبانٍ ومُرٍ هدايا روحية. فالذهب يشير إلى تقديم كلمة الحكمة الصادرة من فهم المؤمن، واللبان هو الصلاة، والمُر هو إماتة الجسد.
V يوجد ما يفهم بالأكثر من جهة الذهب والبخور واللبان والمر. يشهد سليمان أن الذهب يرمز للحكمة عندما يقول: “كنز مُشتهى يكمن في فم الحكيم” (أم 21: 20 LXX). يشهد المرتل عن البخور أنه الصلاة المقدمة لله، إذ يقول: “لتصعد صلاتي كبخور أمام عينيك” (مز 140: 2 LXX). ويشير المُر إلى إماتة أجسادنا حيث تتحدث الكنيسة المقدسة عن العاملين فيها، المجاهدين حتى الموت من أجل الله: “يداي تقطران مُرًا”. هكذا نحن نقدم ذهبًا عندما نتلألأ أمام عينيه ببهاء الحكمة التي من فوق. وأيضًا نقدم له بخور إن كنا نحرق على مذبح قلوبنا أفكارنا البشرية بإتباع الصلاة، فتقدم رائحة طيبة يشتمها الله برغباتنا السماوية. ونقدم المُر إن كنا نميت رذائل أجسادنا بإنكار الذات[689].
البابا غريغوريوس (الكبير)
V (عن الحيوانات الطاهرة والحيوانات الدنسة) هكذا أولئك الذين يسمعون بإهمال، يمكن القول إنهم يبتلعون ما يسمعونه، فلا يعودون يتذوقونه في أفواههم، بل يدفنون ما يسمعونه تحت النسيان. أما الذين يتأملون في ناموس الرب نهارًا وليلاً (مز 1: 2)، فإنهم يجترونه، كمن يتمتعون بنكهة الكلمة بنوع من حاسة التذوق للقلب[690].
القديس أغسطينوس
اَلتابِعُ العَدْلَ وَالرحْمَةَ،
يَجِدُ حَيَاةً حَظًّا وَكَرَامَةً [21].
بالشركة مع القدوس يتمتع المؤمن ببرّ المسيح، وينعم بسمة الرحمة، فيقوم كما من الموت إلى الحياة، ومن عار الخطية إلى كرامة أولاد الله ومجدهم. البرّ والرحمة يرفعان راية المؤمن بل والشعوب، والخطية تحدر الإنسان إلى الهاوية والعار الأبدي.
اَلحَكِيمُ يَتَسَوَّرُ مَدِينَةَ الجَبَابِرَةِ،
وَيُسْقِطُ قُوَّةَ مُعْتَمَدِهَا [22].
الحكمة فوق القوة، فكم من دول عظيمة كانت تعتمد على حصونها وجيوشها وقدراتها لكنها انهارت أمام أناس حكماء.
إن كان عدو الخير يظن في نفسه أنه رئيس هذا العالم، فبحكمة الصليب انهار، إذ به “جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا، ظافرًا بهم” (كو 2: 15).
V “الشخص الحكيم يهاجم المدن القوية، ويحطم الحصون التي يعتمد عليها الأشرار” (راجع أم 21: 22)؟ هل تظن أن سليمان عندما قال هذا يريد أن يعلمنا أن الشخص الحكيم يهاجم مدنًا ويحطم حصونًا مبنية من الحجارة؟ بل بالحري أنه يشير إلى المدينة والأسوار التي هي تعاليم الأشرار والقياسات المنطقية للفلاسفة التي بها يضيفون كل شرٍ مضاد للشريعة الإلهية والتي يمارسها الوثنيون والبرابرة وتلك الأمور التي يضعها الهراطقة كبراهين مقتبسة من الكتاب المقدس كجبالٍ عالية. يلزم أيضًا اعتبار هذه بين المدن المحصنة والمقامة على الجبال، مثل هذه المدن يحطمها الإنسان الحكيم الذي يعلن كلمة الحق[691].
العلامة أوريجينوس
مَنْ يَحْفَظُ فَمَهُ وَلِسَانَهُ،
يَحْفَظُ مِنَ الضيقَاتِ نَفْسَهُ [23].
كثيرًا ما يردد سفر الأمثال، بل الكتاب المقدس ككل، ضرورة ضبط اللسان وتقديس الفم، حتى يصرخ المرتل طالبًا حراسة إلهية على فمه: “ضع يا رب حافظًا لفمي، وبابا حصينًا لشفتيّ”. مع كل صباح يجدد المؤمن هذه الطلبة في صلاة باكر.
V يقف اللسان في الوسط مستعدًا لأي الاستعمالين، وأنت هو سيده. هكذا يوجد أيضًا السيف في الوسط، إن استخدمته ضد العدو يصير أداة لإنقاذك، وإن جرحت به نفسك يصير علة موتك، ليس السيف بل عصيانك للناموس. لنفكر في اللسان بنفس الكيفية، كسيفٍ في الوسط. اجعله حادًا لتتهم نفسك على خطاياك، ولا تستخدمه لجرح أخيك.
لهذا فقد أحاط الله اللسان بحائط مزدوج – بحاجز من الأسنان وسورٍ من الشفتين – حتى لا تنطق بسهولة، وتسرع بكلمات لا يجوز النطق بها[692].
القيس يوحنا الذهبي الفم
المُنْتَفِخُ المُتَكَبِّرُ اسْمُهُ “مُسْتَهْزِئٌ،
عَامِلٌ بِفَيَضَانِ الكِبْرِيَاءِ [24].
يرى الحكيم الإنسان المتشامخ في زهو الكبرياء غارقًا في فيضان مُهلك، تلعب به أمواج الكبرياء وهو لا يدري. إنه موضوع سخرية واستهزاء.
V لا يوجد شيء تتكبر به، فإن من يغطس إلى حالة الكبرياء ينال النتائج الواردة في النص: “قبل الكسر يتكبر قلب الإنسان، وقبل الكرامة التواضع”. هذه الكلمات أيضًا تخص النص: “اسمعوا واصغوا، لا تتعظموا لأن الرب تكلم” (إر 13: 15)[693].
العلامة أوريجينوس
V لأنه في الكبرياء يسكن القائل: “اصنع بقوتي وبحكمة فمي اَنتزع تخوم الأمم واَرتقي قوتِهم وأزلزل مدنًا مسكونة، وأتناول المسكونة كلها بيدي مثل عش، وأحملها كبيضٍ مهملٍ ولا يفلت أحد مني أو يقاوم قولي”. لكن الرب الإله رب الأجناد يرسل إلى كرامتك هوانًا وإلى شرفك نار متوقدة تحرق. وأيضًا أنت قلت في ذهنك لأصعد إلى السماء وأضع كرسيَّ فوق نجوم السماء، وأجلس في الجبل الشامخ على الجبال الشاهقة نحو الشرق، واَرتقي فوق الغيوم، أكون نظير العليّ. فالآن إلى الهاوية تنزل، وإلى أساس الأرض. لنهرب منذ الآن من الكبرياء التي يبغضها الرب، ولنحب تواضع العقل، الذي به أرضى جميع الصديقين الرب، لأن تواضع العقل قربان جسيم قدره، وشرف عظيم، ونجاح نفيس، وكرامة جزيلة للذين قد اقتنوه، لأن فيه سعي لا يُمسك وحكمة كاملة، لأنه باستعلاء الرأي ذل قدر ذلك الفريسي، وبتواضع العقل اِرتفع شأن العشار الذي معه[694].
القديس مار أفرآم السرياني
شَهْوَةُ الكَسْلاَنِ تَقْتُلُهُ،
لأَنَّ يَدَيْهِ تَأْبَيَانِ الشُّغْلَ [25].
اَليَوْمَ كُلَّهُ يَشْتَهِي شَهْوَةً،
أَمَّا الصدِّيقُ فَيُعْطِي وَلاَ يُمْسِكُ [26].
ينشغل الإنسان الكسلان بالأفكار والأوهام، وشهوته أن يجمع ويكنز، وإن كان يأنف من العمل، حاسبًا في الخمول صحة لجسده، وقدرة على ابتزاز الغير. أما الصديق فيتشبه بالله الدائم العمل، كقول السيد المسيح نفسه: أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو 5: 17). يتشبه الصديق بمخلصه الذي يعطي بسخاء. يقول الرسول: لا تنظروا كل واحدٍ إلى ما هو لنفسه، بل كل واحدٍ إلى ما هو للآخرين أيضًا. فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا” (في 2: 4-5).
V عدم وجود شر نهائيًا أمر يخص الملائكة، وأن توجد شهوات شريرة أحيانًا، وأحيانًا أخرى لا توجد فهذا يخص البشر. وأن توجد شهوات شريرة على الدوام فهذا يخص الشياطين. تعبير “اليوم كله” يعني يوم الحياة. لهذا أيضًا: “كن في مخافة الرب اليوم كله” تعني الحياة كلها[695].
القديس مار أوغريس
ذَبِيحَةُ الشرِّيرِ مَكْرَهَةٌ،
فَكَمْ بِالحَرِيِّ حِينَ يُقَدِّمُهَا بِغِشٍّ! [27].
لا يمارس الإنسان الشرير الشركة مع الله، ولا يطيع وصاياه، ويخضع له، فلا يقبل الله ذبيحته وعبادته، لأنها تصدر عن الرياءً، فماذا لو أضاف إلى شره الغش حتى في الذبيحة نفسها أو العبادة. إنها مكرهة في عينيّ الله.
شَاهِدُ الزُّورِ يَهْلِكُ،
وَالرجُلُ السامِعُ لِلْحَقِّ يَتَكَلَّمُ [28].
الإنسان الشرير في وقاحة وجه لا يعتد بالوصية الإلهية ولا يبالي بالقوانين الوضعية للمجتمع، إنما يسلك في طريق الشر المعوج ولا يبالي. أما الإنسان المستقيم فيجد في الوصية الإلهية لذته، ويخضع للقوانين الوضعية برضاه، لأنها تسنده في طريق استقامته.
قد يبلغ شاهد الزور إلى هدفه لكن إلى حين، غير أن هلاكه قادم لا محالة. أما من ينطق بالحق، فكلمته وإن قاومها البعض إلى حين لكن سيُسمع له.
لقد شهد الأشرار كذبًا على السيد المسيح (مت 26: 59-64؛ 27: 11-14)، وصُلب السيد حسب خطة رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين، لكن هلك الشهود وظهر بطلان شهادتهم. واعترف السيد المسيح الاعتراف الحسن في محاكماته، ولم يبالِ أحد به، لكن تمجد السيد المسيح، وبلغت الكرازة به إلى أقصى الأرض.
V يوجد شهداء حقيقيون وشهداء كاذبون، حيث يوجد شهود حقيقيون وشهود كاذبون. لكن الكتاب يقول: “شاهد الزور لا يتبرأ (من العقاب)” (أم 19: 5). إن كان شاهد الزور لن يهرب من العقوبة، فإنه الشاهد الحقيقي لا يحرم من الإكليل. حقًا أنه من السهل أن تحمل شهادة للرب يسوع المسيح، وللحق، لأنه هو الله، أما أن تفعل هذا (أي تشهد له) حتى الموت، فهذا عمل عظيم[696].
القديس أغسطينوس
اَلشرِّيرُ يُوقِحُ وَجْهَه،
أَمَّا المُسْتَقِيمُ فَيُثَبِّتُ طُرُقَهُ [29].
لَيْسَ حِكْمَةٌ وَلاَ فِطْنَةٌ وَلاَ مَشُورَةٌ تُجَاهَ الربِّ [30].
لا تقف حكمة بشرية ولا فهم ولا مشورة ضد الله، وكما يقول الرسول بولس: “لأننا لا نستطيع شيئًا ضد الحق، بل لأجل الحق” (2 كو 13: 8).
كان شاول الطرسوسي يظن أنه قادر على تحطيم الحق الإنجيلي، لكنه في الوقت المناسب سمع الصوت الإلهي يقول له: “أنا يسوع الذي أنت تضطهده، صعب عليك أن ترفس مناخس” (أع 9: 5).
يقول البابا غريغوريوس (الكبير) إن هيرودس ظن أن يخطط ضد المسيح، لكنه فشل في أن يجده، إذ صدر تحذير للمجوس في الحلم ألا يرجعوا إلى هيرودس (مت 2: 7). [هكذا عجز هيرودس عن أن يجد يسوع الذي كان يطلبه. يرمز هيرودس إلى كل الذين يطلبون الرب باطلاً، فإنهم لن يبلغوه[697].]
V وأكثر من هذا يسأل داود الله طالبًا الفهم حتى يدرك وصايا الله، بالرغم من معرفته معرفة تامة أنها مكتوبة في كتاب الشريعة، فيقول: “عبدك أنا، فهِّمني فأعرف شهاداتك” (مز 119: 125).
بالتأكيد كان لدى داود الفهم الموهوب له بالطبيعة، كما كان لديه إلمام تام بمعرفة وصايا الله المحفوظة في كتاب الشريعة، ومع هذا نجده يظل مصليًا إلى الله لكي يعلمه الشريعة بإتقان، فما حصل عليه من فهم حسب الطبيعة لا يكفيه، ما لم يُنر الله علي فهمه يوميًا، لكي يفهم الشريعة روحيًا، ويعرف وصاياه بوضوح.
كذلك أعلن الإناء المختار هذا الأمر “لأن الله هو العامل فيكم، أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرَّة” (في 2: 13). أي وضوح أكثر من هذا أن مسرتنا وكمال عملنا يتم فينا بالكمال عن طريق الله؟! وأيضًا “لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح، لا أن تؤمنوا به فقط، بل أيضًا أن تتألموا لأجله”، وهنا يعلن بأن توبتنا وإيماننا واحتمالنا للآلام هذا كله عطية من الله.
يعلم داود أيضًا بذلك، فيصلي مثله لكي يوهب له هذا من قبل رحمة الله، قائلاً: “أيّد يَا الله هذا الذي فعلتهُ لنا” (مز 68: 28)، مظهرًا أنه لا يكفي فقط أن يوهب لنا بداية الخلاص كهبة ونعمة من قبل الله، بل ويلزم أن يكمل ويتمم بنفس تحننه وعونه المستمر.
لأن ليس بإرادتنا الحرة، إنما “الرب يطلق الأسرى”،
ليس بقوتنا، لكن “الرب يُقوّم المُنحنين”،
ليس بالنشاط في القراءة، بل “الرب يفتح أعين العُمْي”،
ليس نحن الذين نعتني بل “الرب يحفظ الغرباءَ”،
ليس نحن الذين نُعضد، إنما الله “يُعضد اليتيم والأرملة” )مز 146: 7-9(.
ما أقوله هذا لا يعني أننا نستهين بغيرتنا وجهودنا ونشاطنا كأنها غير ضرورية، أو نستخدم الحماقة، بل ينبغي علينا أن نعرف أننا لا نستطيع أن نجاهد بدون معونة الله، ولا يصير لجهادنا أي نفع للحصول علي عطية النقاوة العظمى، ما لم توهب لنا بواسطة المعونة والرحمة الإلهية، لأن “الفرس مُعدّ ليوم الحرب. أما النُصرة فمن الرب” (أم 21: 31)، “لأنهُ ليس بالقوَّة يغلبُ إنسان” (1 صم 2: 9).
يلزمنا أن نسبح مع الطوباوي داود قائلين: “قوتي وترنُّمي” ليس بإرادتي الحرة ذاتها. ولكن “هو الرب وقد صار لي خلاصًا”[698].
الأنبا بفنوتيوس
- نصرته في الرب
اَلفَرَسُ مُعَدٌّ لِيَوْمِ الحَرْبِ،
أَمَّا النُّصْرَةُ فَمِنَ الربِّ [31].
الاتكال على الله، والثقة في أنه يهبنا النصرة، لا يدفعنا للخمول والتواكل، بل للعمل بإعداد الفرس ليوم الحرب، مع تأكدنا أن النصرة هي من الرب. لقد أدرك داود النبي ذلك، فترنم قائلاً: “الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟ الرب حصن حياتي، ممن أرتعب؟ وإن نزل عليّ جيش لا يخاف قلبي. إن قامت عليّ حرب، ففي ذلك أنا مطمئن” (مز 27: 1-3).
عندما وقف آسا الرجل الصالح أمام زارح الكوشي بجيشه الضخم، دعا آسا الرب إلهه، وقال: أيها الرب، ليس فرقًا عندك تُساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة، فساعدنا أيها الرب إلهنا. لأننا عليك اتكلنا، وباسمك قدمنا على هذا الجيش (2 أي 14: 11).
نصرتنا في حربنا ضد إبليس وكل قواته، وضد الخطية كما ضد العالم الشرير هي من الرب.
V لقد فقدتم الفردوس، لكن الله وهبكم السماء، حتى يؤكد حنوه، وأنه يهزم إبليس، مظهرًا أنه حتى إن أتقن عشرات الألوف من الخطط ضد الجنس البشري، فإنها لن تفيده، حيث يقودنا الله دائمًا إلى كرامة أعظم.
أنتم فقدتم الفردوس (جنة عدن)، والله فتح لكم السماء.
لقد سقطتم تحت الدينونة بالتعب إلى حين، وقد كُرمتم بالحياة أبديًا.
يأمر الله الأرض أن تنبت شوكًا وحسكًا، أما تربة الروح، فتنبت لكم ثمرًا. ألا ترون أن الربح أعظم من الخسارة؟[699]
القديس يوحنا الذهبي الفم
V في اللحظة التي فيها لا نزال وسط المعركة نُحارب ونُجرح، نسأل أنفسنا: من الذي يغلب؟
الغالب أيها الاخوة هو ذاك الذي يعتمد علي الله الذي يسنده وهو يحارب، ولا يعتمد علي قوته. للشيطان خبرته في الحرب، لكن إن كان الله معنا فسنغلبه.
يحارب الشيطان بذاته، فإن حاولنا أن نفعل ذات الأمر، فسيغلبنا. إنه مُحارب مُختبر، لهذا يليق بنا أن نستدعي القدير ليقف ضده.
ليقطن فيك ذاك الذي لا يُغلب، فستغلب ذاك الذي اعتاد أن ينتصر. من هم الذين يغلبهم؟ أولئك الذين قلوبهم فارغة من الله[700].
V يعرف الله سعيكم وإرادتكم الصالحة، وينتظر جهادكم، ويسند ضعفكم، ويكلل نصرتكم[701].
القديس أغسطينوس
من وحي أمثال 21
هب لي روح الملوكية يا ملك الملوك!
V قلبي وفكري وكل كياني في يدك.
تقودني إرادتك الإلهية،
فأتمتع بروح الملوكية.
V تحملني فيك يا أيها الطريق، فتطمئن نفسي بك،
وتعبر بي إلى الأحضان الإلهية.
V تهبني برَّك، فتتحول حياتي إلى ذبيحة تسبيح وشكر.
يهرب من قلبي كل تشامخ،
ويملك تواضعك عليه.
V لا أعود اشتهي شيئًا من أمور العالم.
اَقتنيك فأحسب كل شيء بخارًا ونفاية.
اَقتنيك يا أيها اللؤلؤة الكثيرة الثمن.
V بك لا أطيق الظلم ولا الغش، مهما قدَّما لي من إغراءات.
فأنت هو غناي وكنزي.
V يحل سلامك في قلبي، فلا أعرف إلا الحب لكل من هم حولي!
أحب الجميع وأُكرِّم من له الكرامة.
لا اَعتدّ بذاتي، بل أطلب مشورة آبائي.
V أجد سعادتي في العطاء، فمما لك أعطيك.
أراك في كل فقير ومحتاج.
أحبهم وأقدم لهم مما وهبتني.
اشتهي أن أعطي الجميع،
ليس لمكسبٍ ماديٍ، ولا لنوال كرامةٍ.
إنما لأني أراك تعطي الجميع بسخاء.
V لتحل بالإيمان في قلبي،
فلا يجسر الضلال أن يتسلل إليه.
ولا تقدر لذة جسدية أن تجتذبني.
V تصير سور نار تحفظني يا قدوس.
تقدس جسدي ونفسي وكل كياني!
تهبني روح القوة والنصرة على الشر!
V أعود فأردد:
بك أحمل روح الملوكية يا ملك الملوك!
تفسير أمثال 20 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 22 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |