تفسير سفر الأمثال ٢٥ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير الأمثال – الإصحاح الخامس والعشرون

 

آية (1): “هذه أيضاً أمثال سليمان التي نقلها رجال حزقيا ملك يهوذا.”

نعلم من (2أي25:29-30 + 2أي21:31) أن حزقيا إهتم أن يعيد الترتيب الذي وضعه داود لخدمة الهيكل. وكان حزقيا ملك قديس محب لله، وقد قام بحركة إصلاح ديني، ولقد كافأه الله بأن إكتشف هذه المجموعة لأمثال سليمان بعد أن ظلت مخفية لمدة 3 قرون وكما اكتشف رجال يوشيا الذي كان قديساً أيضاً نسخة من التوراة (2أي14:34-16) أكتشف رجال حزقيا هذه النسخة لأمثال سليمان والتي تمثل خمسة إصحاحات، لم تكن قد إكتشفت من قبل. ومن (1مل32:4) نعرف أن سليمان نطق بـ3000 مثل وسمح الله في فترة أن يتعامل الناس بهم، ثم رأي الله أن يسجل الكتاب المقدس المجموعة المنشورة في الإصحاحات (1-24) ثم سمح أن يكتشف حزقيا المجموعة من الإصحاحات (25-29) لتكتمل صورة أمثال سليمان التي أراد الله أن تعرف للعالم كله عن طريق نشرها في الكتاب المقدس. ونلاحظ أنه كان في أيام حزقيا عدد من الأنبياء وربما كانوا هم رجاله الذين اكتشفوا هذه الأمثال أو هم الذين سمحوا بإضافتها بوحي من الله (منهم أشعياء وهوشع وميخا).

 

الآيات (2،3): “مجد الله إخفاء الأمر ومجد الملوك فحص الأمر. السماء للعلو والأرض للعمق وقلوب الملوك لا تفحص.”

مشورات الله وخططه لا تستقصي (تث29:29 + رو33:11،34). فكما علت السموات عن الأرض هكذا تعلو أفكار الله عن أفكارنا، والله يخفي مقاصده العجيبة عن حب الاستطلاع البشري التافه. قلوب الملوك لا تفحص= فليس من ملك بشري يكشف فكره وأسراره لرعاياه فهو غير مطالب من أحد، بل هو فوق كل أحد، وهكذا الله لا يكشف أسراره للناس فهم ببساطة لن يحتملوا ما سيعرفونه بل سيحدث إرتباك في كل الأمور وتخبط. وتشبه أفكار الله في علوها بالسماء وفي عمقها بالبحر، ولا أحد من البشر يستطيع أن يرتفع لأعلى السماء ليكتشفها أو ينزل لأعماق البحر ليسبر غورها ويعرف أسرارها، ولكن الإنسان استطاع معرفة النذر اليسير عنها وهكذا حكمة الله، فالله يعطينا أن نعرف على قدر إمكاننا، وما يريدنا أن نعرفه وفقاً لخطته ولتحقيق خطته الإلهية. ولكن الله في محبته اللانهائية يكشف عن أسراره لعبيده ولكن أيضاً على قدر طاقتهم ولكن لمن يكشف الله أسراره، لعبيده الأمناء الذين يحبونه “هل أخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا فاعله”. بل الروح القدس يكشف لنا عن أسرار عجيبة (1كو7:2-12). حقاً فسر الله لخائفيه. ومجد الملك أن يفحص الأمر= تفهم بأن واجب الملك أن يفحص كل الأمور جيداً ليكون قراره سليماً، وهذا مجده أن يفحص هو الأمر ولا يتركه لرجاله بل يتحقق هو الأمر ليتحقق العدل، ومجد الملك أن يعرف مشيئة الله وحكمته ليحكم بهما شعبه بحكمة، كما فعل سليمان نفسه. وهكذا يريد الله من كل واحد من شعبه أن يفحص في كلمات الكتاب المقدس ليكتشف أسراره العجيبة والكنوز المخفية فيه فيكون لنا مجد الملوك أن تكشف هذه الأسرار لنا. والإنسان الروحي هو ملك لأنه يملك ويسيطر على نفسه وعلى شهوته وعلى أولاد الله أن يفحصوا كلمة الله باهتمام وتواضع وبروح الصلاة. فالله مجده في إخفاء الأمر= هذه أخفيت عن الحكماء حتى لا يلقي الله درره قدام الخنازير فتدوسها. وأما أولاد الله المتواضعين الذين يبحثون بجدية وبأمانة وبتواضع وبمخافة الله يكشف لهم الله سر كلماته العجيبة على قدر احتمالهم وبتدريج يتفق وخطة الله في نموهم الروحي.

 

الآيات (4،5): “أزل الزغل من الفضة فيخرج إناء للصائغ. أزل الشرير من قدام الملك فيثبت كرسيه بالعدل.”

إزالة الزغل من الفضة تنتج فضة لها قيمتها ولمعانها، هكذا حين تزيل المشيرين الأشرار من حول الملك. فيثبت كرسيه بالعدل= وهكذا فعل سليمان في بداية حكمه. وهذا ما سيحدث في اليوم الأخير حين يأتي ملك الملوك ويزيل إبليس ومن تبعه في البحيرة المتقدة بالنار ويظهر عدل الله ويملك على محبيه وشعبه ومختاريه للأبد. ونفهم من الآية أيضاً ضرورة عقوبة الأشرار حتى لا يقلدهم الناس، واجب الكنيسة عزل الخبيث وكشفه لكي لا يفسد البار.

 

الآيات (6،7): “لا تتفاخر أمام الملك ولا تقف في مكان العظماء. لأنه خير أن يقال لك ارتفع إلى هنا من أن تحط في حضرة الرئيس الذي رأته عيناك.”

هذه نفسها تعاليم السيد المسيح في (لو7:14-11) ولنعلم أن المتكبر ينال توبيخ قاس والمتواضع يرتفع. والنصيحة هنا أنه إذا وجدت في حضرة رجل عظيم ورأته عيناك فلا تحاول أن تتصور أنك مثله وتضع نفسك في مكانة تساويه، بل تواضع فهناك من يتصور أنه لو وُجِدَ في مكان مع العظماء أنه صار مثلهم وصارت له دالة في وسطهم. وهناك من يتباهى بأنه صديق للأغنياء والعظماء ويحاول كسب ودهم. والسؤال أليس من الأفضل أن يكون أصدقائي من الفقراء والبسطاء وأتشبه بالمسيح (لو12:14-14)، ومن يتواضع يرفعه الله بل يُرفع من الناس. الذي رأته عيناك= من يرى الله حقيقة وعرف عظمته سيتواضع تلقائياً بل من يرفعه الله سيرفعه الناس.

 

الآيات (8-10): “لا تبرز عاجلا إلى الخصام لئلا تفعل شيئاً في الأخر حين يخزيك قريبك. أقم دعواك مع قريبك ولا تبح بسر غيرك. لئلا يعيرك السامع فلا تنصرف فضيحتك.”

هذه الآيات خاصة بالخصام والنزعات مع الأقارب والأصدقاء. فهناك من يفضل نشر أخبار الخصومات في محاولة لاستمالة الناس الذين يسمعونه لقضيته. لكن الحكيم هنا يعطي نصيحة بأن هذا خطأ والأفضل أن أعاتب قريبي في السر وأحل المشكلة سراً وهذا ما دعا إليه المسيح “إذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما” (مت15:18) فكثيراً ما يكون نشر أخبار المشاكل لخزي من ينشرها وآية (8) يمكن ترجمتها هكذا “لا تسرع للخصام خشية أنك لا تعرف ماذا تفعل إذا وضعك قريبك في وضع مخزي”. فكثيراً ما نندفع لعرض المشكلة متصورين أننا على حق ثم يأتي قريبي ويشرح وجهة نظره ويتضح أنني المخطئ ويكون هذا للخزي. والكتاب عموماً لا يحبذ رفع المخاصمات للقضاء (1كو1:6-11).

 

الآيات (11،12): “تفاح من ذهب في مصوغ من فضة كلمة مقولة في محلها. قرط من ذهب وحلي من إبريز الموبخ الحكيم لأذن سامعة.”

كم تكون الكلمة التي تقال في حكمة سواء ملحوظة /توبيخ/ إنذار/ نصيحة.. خصوصاً إذا جاءت في محلها وبطريقة طبيعية وطريقة مناسبة لا يبدو فيها التصنع، كم تكون رائعة مثل تفاحات ذهبية في مصوغ من فضة= أي سلة فضية مضفورة بها تفاحات لونها ذهبي. أو المقصود عمل فني كان منتشراً أيامها وهو لوحات فضية بارزة محلاة بتفاحات ذهب. ومن يسمع هذه الكلمة ويطيع تكون أذنه كأنها ترتدي حلى ذهبية لزينتها.

 

آية (13): “كبرد الثلج في يوم الحصاد الرسول الأمين لمرسليه لأنه يرد نفس سادته.”

كما ينتعش المرء في يوم عمل شاق في موسم الحصاد الحار بكوب ماء مثلج هكذا الرسول الأمين وهكذا يفرح الله بالخادم الأمين في خدمته ورسالته.

 

آية (14): “سحاب وريح بلا مطر الرجل المفتخر بهدية كذب.”

هدية كذب= تترجم موهبة كذب. فهذا العدد يشير للشخص الذي يتفاخر بما يعطي دائماً وهو لا يملك شيئاً ليعطيه، أو من يفتخر ويدَّعي بموهبة ليست عنده. وهكذا كل من يفتخر بموهبة حتى لو كان يملكها، فالحقيقة أن الله أعطاها له ليخدم بها لا ليتباهى ويفتخر بها. وربما إذا تفاخر خادم بموهبته يسحبها الله منه فيصير كالسحاب الذي ينتظر الناس منه المطر ويكون سحاب كاذب بلا مطر.

 

آية (15): “ببطء الغضب يقنع الرئيس واللسان اللين يكسر العظم.”

مثال لهذا داود مع شاول الملك. فغضب شاول على داود كان عنيفاً صلباً كالعظم، وكانت محبة داود ولسانه الحلو اللين وطول أناته هما القادرين على كسر هذا العظم (جدعون مع رجال إفرايم) وهذا المثل دعوة للصبر والكلمة اللينة.

 

آية (16): “أوجدت عسلاً فكل كفايتك لئلا تتخم فتتقياه.”

تناول العسل باعتدال شئ نافع وصحي. وهكذا كل ملذات الحياة التي سمح بها الله علينا أن نكون معتدلين في استخدامها وإلا تحولت إلى معطلات روحية. بل إن المسرات العالمية التي سمح بها الله تفقد بسوء استعمالها. كمن لا يأكل سوى العسل وبكميات كبيرة.

 

آية (17): “اجعل رجلك عزيزة في بيت قريبك لئلا يمل منك فيبغضك.”

هذه ضد إطالة مدة ضيافتك عند أحد الأصدقاء. فلنقضي أوقات فراغنا مع الصديق الذي لا يمل منا ولن نمل منه أي المسيح. وهذه الآية امتداد لآية (16) فقي (16) عدم الاعتدال مع الملذات يضرني شخصياً وهنا عدم الاعتدال في الصداقة يضر الصداقة.

 

آية (18): “مقمعة وسيف وسهم حاد الرجل المجيب قريبه بشهادة زور.”

مقمعة= هي مدق خشبي يضرب به الرأس. هكذا كل شاهد زور ضد الضحية البريئة، التي شهد ضدها. فهل يفكر من يشهد بالزور في الآلام التي يسببها لمن يشهد ضدهم. وعلى من يهتم زوراً ويتألم من هذه الأقوال الكاذبة أن يعتبر هذا تأديباً له من الرب، ربما على أخطاء سابقة وليس للخطأ المتهم به ظلماً. وحين يفكر المظلوم هكذا يحمل الله عنه جراحاته.

 

آية (19): “سن مهتومة ورجل مخلعة الثقة بالخائن في يوم الضيق.”

وضع الثقة في خائن مؤلم للإنسان مثل ألم سن مكسورة أو رجل منقولة من موضعها فالمشي عليها مؤلم.

 

آية (20): “كنزع الثوب في يوم البرد كخل على نطرون من يغني أغاني لقلب كئيب.”

طريقة التعزية قد تكون أكثر إيلاماً على نفس المتألم مما لو تركناه لنفسه، فهل يصح أن نهزر مع متألم، حقاً كلنا معزون متعبون. مثل هذه التعزية تكون كخلع ثوب رجل في يوم بارد، هو سيشعر بالبرد بشدة. وهذا لأنه سيرتجف من البرد فيشبه في هذا من يرتجف من الغيظ حين يهزر أحد مع متألم بحجة أنه يعزيه. وبنفس المفهوم يشبه الحكيم هذا المرتجف من الغيظ وبداخله هياج وفوران من هذا الأسلوب غير المناسب  في التعزية بوضع خل على النطرون. فالنطرون في فلسطين هو صودا معدنية وبوضع الخل عليها تتفاعل وتنتج رغوة.. حقاً لكل شئ تحت السموات وقت.

 

الآيات (21،22): “أن جاع عدوك فأطعمه خبزاً وأن عطش فأسقه ماء. فانك تجمع جمراً على رأسه والرب يجازيك.”

اقتبس بولس هذا القول في (رو20:12،21) فحرارة المحبة تلطف المشاعر الغاضبة (مت44:5). ومن هنا نفهم أن وصية المسيح أحبوا أعدائكم هي وصية قديمة وليست خاصة بالعهد الجديد. تجمع جمراً على رأسه= قطعاً لا يعني هذا إغاظة العدو بل تعني رمزياً جمر نار روح الله الذي ينقي العدو من شوائب الكراهية فيدرك محبتك وتتنقى عواطفه نحوك كما تنقى الفضة من شوائبها في كور الفحم المشتعل، وبحرارة محبتك تذوب كراهيته بل يذوب قلبه، وإن كان قد أخطأ إليك وقدمت له عمل محبة سيخجل من نفسه وتكون مشاعره ملتهبة بالتوبة والخجل والمحبة كما بنار، ولكن إن تقسى قلب عدونا بعد أن قدمنا له المحبة فقد تضاعفت خطيته وعرض نفسه لنيران غضب الله. والرب يجازيكخيراً.

 

آية (23): “ريح الشمال تطرد المطر والوجه المعبس يطرد لساناً ثالباً.”

اللسان الثالب= هو الذي ينشر المذمات والنقائص وينهش بأعراض الآخرين. وواجبنا نحو هذا الإنسان أن نقابله بوجه عابس رافض لأقواله فيخزى ويسكت فلا نشجعه على الاسترسال.

 

آية (25): “مياه باردة لنفس عطشانة الخبر الطيب من أرض بعيدة.”

ما أجمل أن يكون الخبر الطيب المنعش هو كلمة الله نرتوي بها يومياً ضد حرارة آلام العالم (يو14:4).

 

آية (26): “عين مكدرة وينبوع فاسد الصديق المنحني أمام الشرير.”

ما أشد الإحباط الذي يجده المسافر حين يجد عين ماء ولكنه يجدها قذرة غير صالحة للشرب، هكذا كل ابن لله ينجرف وراء الخطية التي أغواه بها الشرير أو كل ابن لله يتحول إلى جبان خائف من الشرير فيجري إليه طالباً رضاه قابلاً الخضوع له منكراً إيمانه من الخوف.

 

آية (27): “أكل كثير من العسل ليس بحسن وطلب الناس مجد أنفسهم ثقيل.”

الإفراط في تناول العسل يكون ضاراً. وهكذا من يسعى كل حياته طالباً المجد الباطل أو طلب الانتفاخ أو طلب ملذات الدنيا بوفرة. مقل هذا يصير سخرية الناس.

 

آية (28): “مدينة منهدمة بلا سور الرجل الذي ليس له سلطان على روحه.”

ضبط النفس فضيلة في منتهى الأهمية. ذكرها معلمنا بطرس تحت اسم تعفف. وكان بولس يقمع جسده ويستعبده (1كو26:9،27). وعكس هذا نجده في حالة نوح حينما سَكِرَ وتعرى وفي حالة موسى حين غضب. ومن لا يضبط نفسه يكون كمدينة معرضة لغزوات الأعداء فهي بلا سور. ومن لا يضبط شهواته يصير كمدينة مفتوحة بلا أسوار أمام إبليس عدوه.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى