عظات حول التطويبات للقديس غريغوريوس النيصي

التطويبة السادسة

طوبى لأنقياء القلوب

الله صخر عال

1 الشعور الذي نحس به على قمة صخر عال يشرف على البحر، حين نلقي أنظارنا إلى وساعة المياه، هو ذاك الذي يهزنا من علو أقوال الرب المنحدرة كما من قمة جرف، حين نشاهد الغمر اللامحدود في نطاقاته.

على شاطئ البحر نرى مرارا حافة صخرية ترتفع فتقدم للأمواج مساحة شديدة الانحدار من أعلى إلى أسفل، والتي تشرف قمتها فوق هوة عميقة. والدوار الذي يسيطر علينا من هذا العلو، حين نلقي أنظارنا على اللجج البحرية، تُحس به نفسي أيضا حين يوقفها كلام الرب فوق اللجج : «طوبى لأنقياء القلوب فإنهم يعاينون الله». فالرب يقدم ذاته لأنظار الذين قلوبهم نقية. ولكن قال قديسنا يوحنا : «ما من أحد رأى الله يوما» (يو 1: 18). وأكد بولس هذه الفكرة فتحدث عن ذاك الذي «لم يره أحد من البشر ولا يستطيع أن يراه» (1 تي 6: 16). فالله هو هذا الصخر الناتئ والسريع الانحدار الذي لا يسمح لمخيلتنا أن تمسك به. وموسى أيضا دعاه في شرائعه : ما لا نستطيع الوصول إليه : وهكذا أثبط عزيمة كل محاولة اقتراب . وكانت تهديداته منعا واضحا من أن نطلبه. قال : «ما من أحد يستطيع أن يرى الرب ويحيا» (خر 33: 20). أو يبقى على قيد الحياة.

ولكن ماذا؟ الحياة الأبدية هي رؤية الله. ولكن أكد عمد الإيمان، يوحنا وبولس وموسى ، أن هذه مستحيلة ! أي دوار! أمام الغمر وما يحيط به. إني أحس بقواي تخور…

إن كان الله هو الحياة، فمن لا يراه لا يرى الحياة أيضا. وأنبياؤنا ورسلنا الملهمون شهدوا أننا نستطيع أن نشاهد الله. إذا في ماذا لا ينحصر رجاؤنا؟

الأمل بأن نرى الله

٢ غير أن الرب ينعش هذا الأمل. أما أعطى البرهان بالنسبة إلى بطرس؟ تحت رجلي هذا التلميذ الذي اقترب من الغرق، ثبت الأمواج وجعلها صلبة (مت 14: 30-31). أما تمتد إلينا أيضا يد الكلمة الإلهي، نحن الغارقين في هذه اللجج، فتشددنا في هذه الوجهة أو تلك؟ عندئذ نطمئن لأن يد الكلمة الإلهي تقودنا بثبات : «طوبى لأنقياء القلوب لأنّهم يعاينون الله».

مثل هذا الوعد يتجاوز أدق أفراحنا : فبعد هذه السعادة، أي شيء آخر نستطيع أن نرغب فيه؟ أما نناله كلنا من ذاك الذي نراه؟ ففي الكتاب المقدس، أن نرى الله يعني أن نمتلكه. مثلاً: «ترى سعادة أورشليم» (مز 129: 5)، حيث فعل رأى يعني شارك. وإذ قال أيضا : «يزول الشرير ولا يستطيع أن يرى مجد الرب» (إش 26: 10) بيّن بهذه العبارة أن ذاك سوف يستبعد كل الاستبعاد.

وهكذا، ذاك الذي يرى الله يمتلك بهذه الرؤية كل الخيرات التي يمكن تخيلها : حياة لا نهاية لها. عدم فساد في استمرار. فرحا لا ينفد (ماؤه مثل نبع يتدفق). افتتانًا أبديا. نوراً حقيقيا. أقوال الروح العذبة. مجدا لا يضاهيه مجد. ابتهاجا لا يتوقف أبدا. وبمختصر الكلام، جميع الخيرات. فكم تقدم لنا هذه التطويبة من آمال كبيرة وجميلة !

طهارة مستحيلة

ولكن نقول : تتعلق رؤية الله بطهارة قلوبنا. وهكذا يأخذني الدوار من جديد. فماذا إذن؟ طهارة قلبي أما هي مستحيلة؟ أما تتجاوز قواي؟ قيل: تجعلنا نرى الله. ولكن موسى وبولس لم يستطيعا أن يرياه، وشهدا أنّه لا هما ولا أي شخص يستطيع أن يشاهد الله. عندئذ يبدو أن الوعد الذي وعدنا به الكلمة الإلهي في هذه التطويبة ، لا يمكن أن يتحقق. ما يهمنا أن نعرف كيف نرى الله، إن لم تكن لنا وسيلة لذلك؟ من العجب أن نطير في السماء. قد نستطيع القول أيضا، فنشاهد في العلى جمالات نجهلها على الأرض. إذا، علمنا وسيلة الطيران في السماء فيفتن سامعوك بأن يعلموا أن هذه الخبرة أمر خارق. ولكن ما دمنا لا نستطيع أن نرتفع في الجو، لماذا الكلام على سحر هذا الصعود؟ مقابل هذا، ها نحن حزانى جدا حين نفكر بهذه الأفراح الممنوعة علينا. والرب، أما يحثنا أيضا في هذه الوصية السامية، على خبرة أبعد منا وتتجاوز إمكاناتنا؟

كلا. كما أنّه لا يطلب من الحيوانات التي لم يمنحها جناحين، أن تطير. ولا أن تعيش في الماء تلك التي أعدها لتعيش على الأرض، فالناموس يتكيف في كل الأحوال مع إمكانيات أولئك الذين يقتبلونه. فهو لا يتصرف بعنف مع طبيعتهم. من هنا نستنتج أن هذه التطويبة ليست وعداً وهمياً. فلا يوحنا ولا بولس ولا موسى ولا أي واحد من أشباههم، حرموا من هذا الفرح الذي يتفجر من مشاهدة الله. ولا ذاك أيضا الذي قال: «ينتظرني إكليل البر، ويمنحني إياه الديان العادل» (2تي 4: 8). ولا ذاك الذي مال على صدر يسوع (يو 21: 10)، ولا ذاك الذي ناداه فقال له : «عرفتك بين الجميع» (خر 33: 17). فهؤلاء الرجال الذين أعلنوا أن التمسك بالله يتجاوزنا ، يستحقون بلا جدال، لقب مطوبين. وسعادتهم هي رؤية الله التي ترتبط بطهارة القلب. هو برهان بأن طهارة القلب التي تؤسس هذا الفرح، ليست ما لا يمكن أن يتحقق.

بعد ذلك، نستطيع ، دون أن نعارض نفسنا بنفسنا أن نؤكد مع الناس أن مشاهدة الله تتجاوز قوانا، ومع الرب طهارة القلب هي وعد برؤية الله.

الله يعرف عن ذاته بنشاطاته

 3 أظن أنه من النباهة أن نبدأ فنذكر بعض المفاهيم التي تتيح لنا أن نتقدم في بحثنا ، بطريقة منهجية. إن طبيعة الله في ذاتها، في بحثنا، جوهرها الخاص، تتجاوز كل تمثل وكل تصور: ما من أحد يستطيع الاقتراب منها. فهي تتوارى أمام كل محاولات التعبير عنها. والإنسان ما وجد في نفسه إمكانية تجعله يفهم ما لا يمكن فهمه. فهو لا يمتلك وسيلة تحول أمورا لا تصور إلى مفاهيم واضحة. لهذا تكلم الرسول العظيم عن طرق الله : «هي لا تدرك» (رو 11: 33). فدل بذلك أن الطريق التي تقود إلى معرفة الله هي مقفلة أمام عقولنا. وبمختصر الكلام، ما من أحد قبلنا سار مسيرة حياته وما ترك آثار تمثل أو تفكر يستطيع أن يعطينا فكرة تتجاوز ذهننا.

وبما أن كيان الله يتجاوز كل كيان، هناك طرق أخرى لكي نرى ونمسك ذاك الذي لا يسمح لنا بأن نراه ونمسكه. فالطرق التي تبلغنا إلى معرفته جد متنوعة. فالحكمة التي سبقت وظهرت في المسكونة ، تساعدنا على تمثل ذاك الذي «خلق الجميع بالحكمة». وأعمالنا نحن أما تعطينا فكرة ولو بسيطة عن الفنان الذي نفذها؟ والأسلوب أما يظهر في المؤلف؟ عندئذ لا نرى أبدا شخص العامل، لكن الفن الذي يشهد له عمله. وكذلك ، حين نتطلع إلى النظام الذي يبرز من الخليقة، نكون فكرة لا عن شخص هذا الخالق الحكيم، بل عن حكمته .

ولنتأمل أيضا لماذا نحن موجودون : ما كان الله مجبرا بأن يخلق الإنسان، فصنعه في اندفاع حب. في هذا المعنى نستطيع القول إنّنا نرى الله ! نحن لا نمتلك إحساسًا بجوهره، بل البرهان على جودته. وسائر العناصر كلها التي تسير بفكرنا نحو الكمال والتجاوز، تشكل اقترابا من الله، لأن كلاً من هذه الصفات تساعدنا على الإحاطة بالله : القدرة، الطهارة، اللاتحرك، الابتعاد عن كل شر. كل هذه السمات تحفر في قلوبنا صورة التسامي الإلهي.

تبين لنا هذه الاعتبارات أن الرب يقول الحقيقة حين يعد بأن يتجلّى للذين قلبهم طاهر، وفي الوقت عينه، أن القديس بولس لم يخطئ حين قال في رسالته : «ما من أحد رأى الله ولا هو يستطيع أن يراه» (1تي 6: 16). الله لا منظور في جوهره، ولكنّه يتجلى في نشاطاته التي تظهر في بعض ما يحيط به.

غير أن هذه التطويبة لا تعني نستطيع أن نتمثل الله انطلاقا من الأعمال التي يقوم بها. فحكماء هذا العالم يستطيعون هم أيضا أن يكتشفوا في نظام المسكونة الرائع الحكمة والقدرة اللتين تتجاوزان الإنسان. أما تطويبتنا فتبدو لي أكثر روعة أيضا لمن يعرف أن يتقبل ما يطلب ويفهمه : فهي تحمل في ذاتها نصيحة. وها أنا أوضح فكري فقط أننا بواسطة الأمثلة.

شعاع من الله هو في قلب الإنسان

4 الصحة خير لحياة الإنسان. أما السعادة فلا تقوم بأن نعرف ما هي الصحة، لكن أن نحيا أصحاء، معافين. فإنني حين أمتدح الصحة وآخذ طعاما لا يهضم، قادرًا أن يتلف مزاجي، فأي خير آخذ من هذا المديح وأنا المديح وأنا في مواجهة أمراضي؟ لنطبق هذا البرهان عينه على الله. فالرب يقول إن الفرح لنا لا يقوم بأن نستشف الله، بل أن نمتلكه في ذواتنا. لا أظن أن الله يسلم ذاته وجها لوجه إلى نظر من يكون طاهرا. هذه العبارة السامية ربما تفهمنا ما تقوله كلمة أخرى في ألفاظ أكثر وضوحا : «ملكوت الله هو في داخلكم» (لو 17: 21). هنا نفهم أنه مع قلب منقى من كل خليقة ومن كل شعور بدني (على مستوى اللحم والدم)، نرى في جمالنا الخاص صورة الطبيعة الإلهية. في هذه العبارة القصيرة، يرسل الكلمة الإلهي نداء كبيرا: «يا من تتوقون لرؤية الخير الحقيقي، حين يقولون لكم إن عظمة الله جالسة على عرش فوق السماء، وأن مجده لا يعبر عنه وطبيعته لا محدودة ، لا تقعوا في اليأس فتظنوا أنكم لن تقدروا أن تشاهدوا ذاك الذي تطلبون». ففيك، في شكل من الأشكال، إمكانية أن ترى الله : فالذي خلقك وضع في كيانك قوة عظيمة. والله حين خلقك، حبس فيك ظل صلاحه الخاص، كما يطبع رسم الختم في الشمع. ولكن الخطيئة أخفت أثر الله، فأضحى هذا الخير بدون فائدة وهو مخفي تحت حجب مدنسة. هل تمحو، وأنت تعيش الخير، اللطخة التي  توسّخ قلبك؟ عندئذ يشع فيك من جديد الجمال الإلهي.

فأنت مثل قطعة من حديد. يزول الصدأ تحت الحجر الذي تسنه به. كانت سوداء، وها هي تعكس بهاء الشمس وتشع بدورها. مثلها ، الإنسان الباطني، القلب، كما يقول معلمنا (الإلهي). حين يتخلّص الصدأ الذي يلطخ جماله، يستعيد الصورة الأولى ويصبح صالحا. لا شيء يسعه أن يشبه الخير إن لم يكن خيرا. وهكذا الإنسان. حين ينظر إلى نفسه يرى في ذاته من كان يبحث عنه. وها هو الفرح السامي الذي يملأ القلب المنقى : ينظر نقاوته الخاصة فيكتشف الموديل في الصورة. فحين ننظر الشمس في مرآة، وحتّى إن لم نرفع عينينا إلى السماء نرى الشمس في بهاء المرآة وكأننا ننظر القرص الشمسي بالذات. لا تستطيعون أن تشاهدوا النور في ذاته. ولكن إن وجدتم صورة النعمة الموضوعة فيكم منذ البداية، تمتلكون في ذاتكم موضوع رغباتكم.

النقاوة، الارتفاع فوق الأهواء، الابتعاد عن كل شر، ذاك هو الله . فهل هذه الفضائل موجودة فيك؟ يكون الله فيك أيضا. هل قلبك بمنأى عن كل رذيلة، وحر من كل هوى، ونقي من كل نجاسة، فأنت مطوب لأنك ترى بوضوح. حين تكون طاهرا تشاهد أمورا تفلت من عيون غير طاهرة. والضباب الذي يعميك تبدد وفي سماء قلبك النقية جدا تشاهد مشاهدة لا محدودة الرؤية السعيدة. وما هي؟ هي نقاوة، قداسة، بساطة، شعاعات مضيئة خارجة من الطبيعة الإلهية، وهي ترينا الله.

مسيرة صعبة

5 هذه الاعتبارات تشدد اعتقاداتنا، وما أزالت بعد من قلبنا قلقا يُطبق عليه من البداية. فالذي يجد نفسه في السماوات، يثمن أفراحها. ولكن بما أنه يستحيل عليه أن يطير إلى فوق، فما الفائدة من امتداحها؟ كذلك ، نظن بسهولة أن قلبا مطهرا يجعلنا نعرف الفرح السامي. ولكن تنقية القلب هذه تبدو وهما مثل الصعود إلى السماء. فأين نجد سلم يعقوب والمركبة النارية الشبيهة بتلك التي حملت إيليا إلى السماء، ليقاد قلبنا نحو الجمالات السماوية ويتحرر من كل ثقل أرضي؟ (2مل 2: 11).

ففكروا إذا في كل الأهواء التي لا تقاوم، تروا أنه يستحيل طرد جميع الرذائل المرتبطة بعضها ببعض. فمنذ الولادة نبدأ نخطأ، ونكبر مع الخطيئة. وفي الخطيئة تنتهي أيضا حياتنا. فكأن البشر، الذين استقبلوا الخطيئة في البداية، حين تجاوزوا الوصية، نسجوا الشر في جوهرنا.

فالطبيعة تريد لكل نوع من الحيوان أن يستمر فينقل إرثه إلى صغاره بحيث تظهر الصغار ذات الطبائع التي نالتها من الحيوان الذي ولدها. ومثلها، يلد الناس ناسا ويحملون، حين يلدون، وهن الناس وخطايا الناس. فتبدو الخطيئة جزءا من الإنسان. تولد معه، وتنمو معه ، ولا تتركه إلا في ساعة الموت.

فنحن لا نبلغ بدون صعوبة إلى الفضيلة. كم من العرق والمحن ! كم من المجهودات والعذابات! ومرارًا ما يذكرنا بذلك الكتاب المقدس : طريق الملكوت «ضيقة ومنحصرة». أما الخطيئة فتقودنا إلى هلاكنا في طريق واسعة، سهلة، منحدرة. ومع ذلك، يؤكد لنا الكتاب أنّنا نستطيع البلوغ إلى هذه الحياة السامية، حين يورد لنا مآثر عدد كبير من الناس.

والوعد بأن نرى الله يأتي في معنيين: من جهة، تُدعى إلى معرفة الطبيعة المتسامية، ومن جهة ثانية، لكي ننضم إليها بحياة نقية. والكتاب يعلمنا أن إحدى طرق هذه المعرفة هي مستحيلة، ولكن الرب يعد بالأخرى جميع الناس فيقول: «طوبى لأنقياء القلوب ، انهم يعاينون الله».

التمرس بالنقاوة

6 كيف نصير أنقياء؟ ذاك ما تعلّمنا العظة على الجبل في كل مكان تقريبا. فاقرأوا الوصايا التي فيها، الواحدة بعد الأخرى، تكتشفوا الفن الحقيقي في تنقية الإنسان نفسه.

ويميز الرب نوعين من الخطيئة : تلك التي تظهر في الأفعال، وتلك التي تولد في الفكر. ففي الشريعة القديمة، كان الله يعاقب الإثم الذي يظهر في الأعمال. واليوم يهاجم الشكل الثاني من الخطيئة ، فيعلن شريعة، ويسعى لا أن يعاقب الذنوب التي اقترفناها، بل أن يدمر الشر في جذوره بالذات. فهل نستطيع أن نحمي الحياة من الخطيئة دون أن نقتلعها من الضمير؟ فالخطايا كثيرة ومتنوعة. وعلى كل وجهة من وجهاتها يجعل الله سلاحًا، واحدة من وصاياه. 

والغضب، مرارا، هو أسرع أهوائنا. إذا نبدأ فنعالج شرا جامحا مثل هذا الجموح، وشريعته الأولى حث على الوداعة. قال البر: «تعلمت في الشريعة القديمة : لا تقتل» (خر 20: 13). فتعلم الآن، أن تطرد من قلبك كل غضب ضد الذين يخصونك. هو لا يندد هنا بكل نوع من أنواع الغضب، لأن انفجارًا واحدا قد يبرر أحيانا، بل بالغضب الذي يجعلنا نقف ضد واحد من إخوتنا دون أن يفيده بشيء: «كل من غضب على أخيه من دون سبب» (مت 5: 22). وإذ حدد «بدون سبب» بين كيف أن الغضب يمكن أن يكون في محله إذا انفجر بشكل توبيخ. فالكتاب المقدس لا يتنصل من النوع من الغضب : إن فنحاس هدَّا التهديد الذي رماه الله على الشعب حين قتل المذنبين (عد 25: 11).

ثم إن المسيح يهاجم الشبق، وتنبيهاته تقتلع من القلب انجذابات الزني المجنونة. وهكذا نلاحظ أن الرب يصلح في وصاياه جميع الرذائل، الواحدة بعد الأخرى، ويعارض كلاً منها بواحد من نواميسه. هو لا يتحمل أن نرد على الشتيمة بالشتيمة، بل يفرض علينا أن نتقبلها. ويرذل هوى الطمع حين يأمرنا بأن نترك لذاك الذي يأخذ منا حتّى الشيء الذي لم يطلبه. ويشفينا من تراخينا حين يفرض علينا أن نتجاوز الخوف من الموت. وبمختصر الكلام، ترون في جميع وصاياه أن سكة كلامه تقتلع من عمق قلوبنا جذور الخطيئة الشنيعة، وهكذا ننتهي مع حصاد الأشواك هذا. 

أجر مجهودنا

تلك هي الحسنات التي يغدقها الله على طبيعتنا : في الوقت الذي يعدها بالسعادة يعلمها ويكونها لنجاح هذا الوعد. لا شك في أننا لا نصل إلى السعادة بدون تعب. ولكن قابل هذه الأتعاب مع الحياة تبعدك عنها، فترى كم أن الرذيلة متعبة بشكل أكبر، إن لم يكن في الحال فعلى الأقل في الحياة الآتية. وحين نعرف ما هي جهنّم ، نقتلع نفوسنا بدون دموع ولا أسف من هذه الملذات المستنكرة. فالخوف الذي يجتاح عقولنا يكفي وحده لكي يثبط عزيمة أهوائنا. وأكثر من ذلك، إذا اكتشفتم وراء الكلمات التي لُفظت تلك التي ما  قيلت، لن تكونوا – من أجل أكبر خير لكم – إلا أكثر حرارة : «طوبى لأنقياء القلوب».

وكم يكونون تعساء أولئك الذين امتلأت عقولهم بالنجاسات ! فهم لا يرون وجها آخر سوى وجه العدو. أما وجود بار فمطبوع في صورة الله. أتحسّون أن حياة منحرفة تأخذ لها نموذجا سمات العدو؟ فالله موضوع المعارف المتعددة يدعى بكل الألفاظ التي تدل على كماله : الحياة، النور، اللافساد وسائر المزايا. مقابل هذا، الألفاظ جميع المعارضة تنطبق على صاحب الشر: الظلمة، الموت، الفساد وسائر الألفاظ المشابهة.

نحن نعرف السمات التي ترتديها حياة الخطيئة أو حياة البر. وأمام الخيار لنا الحرية في أن نختار. إذا لنهرب من وجه إبليس ولنقتلع قناعه البغيض. وإذ نرتدي صورة الله، ننقي قلبنا. هكذا نمتلك الفرح، وتشع فينا صورة الله بفضل طهارتنا، في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد إلى دهر الدهور. آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى