تفسير سفر الأمثال ٩ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير الأمثال – الإصحاح التاسع

 

رأينا في الإصحاح الثامن، المسيح أقنوم الحكمة، ومن يتبعه يجد حياة، ومن يرفضه يموت. وهنا نجد الحكيم يشدد على هذه الفكرة. ويُصَّوِرْ هنا صراع بين المسيح (الحكمة) وبين إبليس (عدو الخير الذي هو الجهالة والحماقة). وكلاهما يتنافسان في جذب النفس البشرية ليملكا عليها. والقصد من هذه الصورة أن يوضح أن الحياة والموت، الشر والخير كلاهما أمام كل واحد منا. ونحن أحرار أن نختار أيهما لنسلم له القلب. والتصوير تم هنا بأن كلاً منهما أقام وليمة للنفس ويدعوها لتقبل إلى وليمته.

ولنلاحظ كم أن نفوسنا غالية عند المسيح وماذا يصنع حتى لا يفقد أي نفس. ونلاحظ أيضاً كم هو شديد حقد إبليس ضدنا فهو لا يريد خلاص نفس أحد بل هلاك كل واحد.

الآيات (1-6) المسيح يدعونا لوليمته، وليمة الشركة، المائدة المقدسة لجسده ودمه.

الآيات (7-11) يشرح أن الحكيم هو من يستجيب لدعوته.

الآيات (12) الطريقان أمامنا وكلٌ بحرية يختار أيهما (هو نفس ما قيل في تث15:30)

الآيات (13-16) وليمة بابل الزانية (رؤ2:17)، وليمة إبليس للنفس، وتُصوَّر الخطية هنا على أنها امرأة تدعو الجميع لها وتغريهم بملذات، هي تمتع وقتي بالخطية، ومن يستجيب يسقط في شباكها.

 الآيات (18) الموت عاقبة من يستجيب للخطية.

 

الآيات (1-6):

“الحكمة بنت بيتها نحتت أعمدتها السبعة. ذبحت ذبحها مزجت خمرها أيضاً رتبت مائدتها. أرسلت جواريها تنادي على ظهور أعالي المدينة. من هو جاهل فليمل إلى هنا والناقص الفهم قالت له. هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها. اتركوا الجهالات فتحيوا وسيروا في طريق الفهم.”

في الإصحاح السابق قدم المسيح نفسه كخالق للعالم، وهنا يقدم نفسه كفادي لهذا العالم، مقدماً نفسه كذبيحة ليؤسس كنيسته ويجعلها خليقة جديدة.

الحكمة بنت بيتها= سبق أن رأينا للحكمة أبواب يقف عندها طالبي الحكمة (34:8). وطالما لها أبواب، فهي إذن لها بيت يقف عند أبوابه الحكماء ساهرين منتظرين أن يتعلموا وربما يشير البيت الذي بنته الحكمة إلى الهيكل الذي بناه سليمان ولكن سليمان كان يرمز للمسيح، والهيكل كان يرمز لجسد المسيح الذي هو كنيسته (يو18:2-22 + أف30:5) وسليمان هنا يدعو الناس للعبادة في الهيكل الذي بناه، والمسيح يدعو الناس للاشتراك في جسده والثبات فيه “إثبتوا فىّ وأنا أيضاً فيكم” والثبات في جسد المسيح يحتاج منا أن نترك الخطية= اتركوا الجهالات. وبنفس المفهوم يطلب سليمان أن يترك الناس أماكن وبيوت الشر ويأتوا للهيكل. إذاً بيت الحكمة هو بيت المسيح أي كنيسته (1تي5:3) وهو أسسها على صخرة الإيمان به كابن الله الحي (مت16:16-18). نحتت أعمدتها السبعة= الكنيسة تؤسس وهي مستندة دائماً على عمل روح الله القدوس وهو عمله الكامل (رقم 7 رقم الكمال). ونلاحظ في (رؤ1:3) أن المسيح له سبعة أرواح الله، والمسيح هو الذي أرسل الروح القدس للكنيسة، وهو العامل في أسرار الكنيسة السبعة ليؤسس بهم جسد المسيح أي بيته أي كنيسته، هو روح الحكمة روح الرب (أش2:11). والروح القدس أُرِسلَ للكنيسة باستحقاقات دم المسيح= ذبحت ذبحها= فلولا الصليب الذي به تم الصلح بين الله والإنسان ما حل الروح على الكنيسة. مزجت خمرها= الخمر الممزوجة هي خمر أضيفت إليها بعض الأطياب لتجعل لها طعماً لذيذاً ورائحة طيبة، ولاحظ أننا رائحة المسيح الذكية. هي خمر ليست للخلاعة والسكر بل خمر الفرح، رمز لعمل الروح القدس في الكنيسة وفي النفس (نش4:2 + غل22:5 + أف18:5). ورتبت مائدتها= هي مائدة عشاء دعا لها الرب (لو16:14-18). هي مائدة التناول من جسد الرب ودمه، الذي يعطينا الشبع الروحي والفرح الروحي. والمسيح بعد أن قدم ذاته ذبيحة= ذبحت ذبحها. وقدم ذاته مأكلاً ومشرباً= رتبت مائدتها وصلب وقام وصعد للسموات وأرسل الروح القدس ليؤسس الكنيسة= الحكمة بنت بيتها أرسل المسيح تلاميذه المملوئين من الروح ليبشروا كسفراء له= أرسلت جواريها تنادي يدعون الناس لوليمة العرس (مت1:22-4). هم أكملوا العمل الذي بدأه المسيح (عب3:2) ومن يقبل الدعوة يأخذ حياة ويكون حكيماً. وخدام الله يدعون من هو جاهل= قارن مع (يو41:9 + 1كو26:1-31). والجاهل معناها الإنسان البسيط الذي يشعر في نفسه بالاحتياج لأن يتعلم، يشعر في داخله أنه لا شئ وأنه محتاج للمسيح، يشعر في داخله أنه عطشان وجوعان “إن عطش أحد يقبل إلىّ.. ” (يو37:7) “طوبى للجياع والعطاش” (مت6:5) أما حالة الشعور بالإكتفاء فهي تقود للفتور والشيخوخة الروحية ثم الكبرياء (رؤ17:3،18) فكل حكيم حقيقي هو جاهل في عيني نفسه يريد أن يتعلم وخاطئ في عيني نفسه محتاج لغفران خطاياه، والمسيح أتى لمثل هؤلاء، لمن يشعرون أنهم خطاة يحتاجون الغفران والمرضى الذين يحتاجون للطبيب، ولم يأتي للأصحاء فهم لا يحتاجونه. وماذا بعد التناول، علينا أن نكمل حياتنا بلا خطية ونترك الشر= اتركوا الجهالات= هذه هي التوبة السلبية، ترك الشر، هي دعوة لتغيير كامل في أسلوب الحياة. وسيروا في طريق الفهم= عمل الخير هو توبة إيجابية. وهذا هو نفس مفهوم عيد الفطير سبعة أيام بعد تقديم الفصح، أي بعد الصليب علينا أن نكمل حياتنا بلا خطية (1كو7:5،8).

 

الآيات (7-9):

“من يوبخ مستهزئاً يكسب لنفسه هواناً ومن ينذر شريراً يكسب عيباً. لا توبخ مستهزئاً لئلا يبغضك وبخ حكيماً فيحبك. أعط حكيماً فيكون أوفر حكمة علم صديقاً فيزداد علماً.”

هذه الآيات آيات معترضة بين الوليمتين أو الدعوتين، فيهما يُصوِّر الوحي نوعين من البشر [1] الحكماء وهؤلاء يفرحون بالتعليم. [2] الجهال وهؤلاء يستهزئون به وكأن هذه الآيات هي للرسل تكشف لهم أنواع الناس الذين سيقابلونهم في دعوتهم حتى لا يندهشوا إذا وجدوا رفضاً لهم بينما هم يشعرون بأن كلمتهم فيها كل الحق:

1)       الحكماء: الحكيم هو الذي يقبل التعليم. فالحكيم يرى نفسه دائماً أنه جاهل، يريد المزيد من العلم، وهو يقبل توبيخ الروح القدس وتوبيخ خدام الله الذين يقدمون له تعليم الله فيستفيد ويتوب ويذهب ويرجع للمسيح. مثل هذا يفرح بالتوبيخ لأنه يسعى للكمال ويفرح بمن يكشف له ضعفاته ليتركها فيصير كاملاً، بل مثل هذا يحب من يوبخه.

2)  الجهلاء: الجاهل الفارغ يكون حكيماً في عيني نفسه، مستهزئاً بكل ما يقدم له من نصائح. فهو يشعر أن لا أحد يعرف أكثر منه، ومثل هذا الإنسان لأنه يرفض كل تعليم يصبح مضيعاً لوقت الخدام فهي يستهزئ بكل ما يقدم له ولن يستفيد بأي تعليم أو توبيخ (أمثلة 2أي10:30 + مت6:22).

وعموماً فمن يستهزئ بكلمة الله لن يقبل أي تعليم. والبدء أن يخاف الإنسان الله ليكون هناك فائدة من أي تعليم. وهذا كأنه دعوة للرسل والخدام أن يعرضوا عن مثل هذا الهازئ لدعوتهم. ويمتنعوا عن توبيخه، ومن هو نجس فليتنجس بعد (رؤ11:22) أي يصبح كل إنسان مسئولاً عن نفسه. ولا تلقوا بدرركم قدم الخنازير.

 

الآيات (10-12):

“بدء الحكمة مخافة الرب ومعرفة القدوس فهم. لأنه بي تكثر أيامك وتزداد لك سنو حياة. إن كنت حكيما فأنت حكيم لنفسك وأن استهزأت فأنت وحدك تتحمل.”

الحكمة الحقة تتلخص في هذا “بدء الحكمة مخافة الرب” بينما الجاهل يظن في جهله أن منتهى الحكمة هو أن يتحرر من قيود وصايا الله. وأيضاً نجد الفهم الصحيح هو في معرفة أمور الله المقدسة، وبعيداً عن المعرفة المقدسة الحقة يكون الإنسان ميتاً في نظر الله. إن كنت حكيماً فأنت حكيم لنفسك= الله في قداسته اللانهائية لن يزداد قداسة بقداستنا، بل هو لصالحنا أن نستجيب لصوته ونتقدس، هو حقاً يفرح برجوع الخاطئ لكنه لن يزداد شيئاً بهذا. والعكس صحيح فهو لن يخسر شيئاً من خطيتنا، بل خطيتنا وعنادنا وإصرارنا على عدم التوبة يكون لهلاكنا ونتحمله وحدنا.

 

الآيات (13-18):

“المرأة الجاهلة صخابة حمقاء ولا تدري شيئاً. فتقعد عند باب بيتها على كرسي في أعالي المدينة. لتنادي عابري السبيل المقومين طرقهم. من هو جاهل فليمل إلى هنا والناقص الفهم تقول له. المياه المسروقة حلوة وخبز الخفية لذيذ. ولا يعلم أن الأخيلة هناك وأن في أعماق الهاوية ضيوفها.”

في مقابل الوليمة السمائية التي أقامها يسوع. نجد هنا وليمة الخطية وهي وليمة حقيرة، مسروقة، محرمة، غادرة ويذهب ضيوفها للهلاك. وليمة ملذات في بيت المرأة الخاطئة (رمز لإبليس والخطية عموماً التي تخاطب شهوة الجسد) ولاحظ أن الخطية لا ترسل جواري لدعوة الناس، لأن الشهوة الخاطئة داخل كل منا كفيلة بهذا. بل هي جالسة عند بيتها تدعو المارة، أي من يسير في طريق مستقيم أن يميل إليها، إلى مسكن خطيتها وعارها ولكن من يدخل فهو في طريقه إلى الهاوية=القبر والجحيم. والأخيلة= هم الموتي في قاع الجحيم.

مواصفات المرأة الجاهلة:

1)     جاهلة: عكس الحكمة، بلا منطق مقبول ولكنها لا تخاطب سوى الغريزة.

2)     صخابة: دائماً تنادي على الشباب بإغراءاتها.

3)  تقعد عند باب بيتها على كرسي في أعالي المدينة: تجلس كملكة تنتظر فريسة لتسود عليه، تجلس كمن لها سلطان في الأماكن العالية في المدينة، ولكن سلطانها هو على كل من يستسلم لها، ومن يستسلم لها هم الجسدانيون فقط الذي صاروا مديونين لها بما قبلوه من يدها من شهوات. أما من رفض إغراءاتها يصير حراً ولا يكون لها سلطان عليه “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيّ شئ” لماذا؟ “من يبكتني على خطية”

ومن الذين تدعوهم لبيتها:

الشباب المقومين طرقهم= أي الذين يحاولون التوبة، فهي لا تريد أن تترك فرصة لأحد أن يتوب، وهي تتهمهم ظلماً بأنهم جهلة، ناقصي الفهم إذ يتركون طريق اللذة الذي تعرضه عليهم هي، طريق التحرر من قيود الوصايا الإلهية.

إغراءاتها:

المياه المسروقة حلوة= هي تدعوهم إلى اللذات المحرمة، والإنسان المتمرد يحلو له اللذة المحرمة أكثر من اللذة التي يسمح بها الله. وهكذا آدم وحواء اشتهوا ما حرمه الله. ولاحظ هذا هو ما تعرضه الزانية في مقابل مائدة الرب التي تقدمها الحكمة. وهي مياه مسروقة، لأنها تحدي لوصايا الله، وكأن سارق اللذة كسر أولاً سور الوصية ليسرق شيئاً حرمه الله. وهي تحدي للعنة التي لعنها الله للخاطئ. وكأن شرب المياه المسروقة في الخفاء أو أكل خبز الخفية هو نوعاً من الاختباء الجاهل من لعنة الله. إلا أنه دائماً ما يسقط الإنسان في هذه الخطية وهو واقع تحت خدعة أن هذه اللذة المسروقة لا يدانيها لذة في العالم، وهو لا يدري مصير سارق اللذة الرهيب.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى