تفسير سفر الأمثال ١٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع عشر
وصايا الحكمة عن مخافة الرب
يبدأ هذا الأصحاح بالمقابلة بين المرأة الحكيمة التي تخاف الرب والمرأة الجاهلة المستهترة، التي لا تحمل روح المخافة والتقوى. كما يقدم لنا نصائح عملية عن السلوك بالاستقامة، وفاعلية الكلام، والجدية في الجهاد مهما كانت التكلفة، والشهادة الصادقة والشهادة الزور الخ.
- المرأة الحكيمة والمرأة الحمقاء 1.
- السلوك بالاستقامة 2.
- فاعلية الكلام 3.
- الجدية في الجهاد 4.
- الشاهد الأمين وشاهد الزور 5.
- طلب الحكمة 6.
- الصداقة 7.
- الإفراز والتمييز 8-12.
- فرح القلب وشبعه 13-14.
- التدقيق 15-16.
- الغضب 17.
- المعرفة والجهل 18.
- انهيار الأشرار 19.
- المحاباة 20-21.
- نهاية الشر 22.
- العمل والتعب 23.
- غنى المعرفة 24.
- الشهادة الأمينة 25.
- مخافة الرب 26-27.
- القيادة الشعبية 28.
- طول الأناة 29.
- الجسد 30.
- الاهتمام بالمساكين 31.
- الفضيلة تحمل مكافأتها 32.
- ليس خفي لا يًُُعلن 33.
- البر يرفع شأن الأمة 34.
- كرامة الحكيم 35.
- المرأة الحكيمة والمرأة الحمقاء
المرأة الحكيمة تبني بيتها،
والحمقاء تهدمه بيدها [ع 1].
إن كان العالم الحديث يهتم جدًا بحقوق المرأة، فإن هذا الاهتمام هو وليد الفكر الإنجيلي الحي، غير أن ما يشغل الكثيرون هو الحقوق المادية والشكلية. أما الكتاب المقدس بعهديه فيتطلع إلى المرأة سواء بكونها زوجة أو أمًا أو أختًا، أنها العمود الفقري للأسرة، لها فاعليتها القوية على بقية أعضاء الأسرة، وعلى خلق جوٍ من الحب والدفء العائلي والوحدة.
في سلطان المرأة أن تبني بيتها وفي سلطانها أن تهدمه؛ ليس بجمال الجسد ولا بالإمكانيات المادية تُقيم المرأة بيتها، وإنما بالحكمة، كما بالجهالة والحماقة تهدمه. إن حملتْ مسيحها – حكمة الله – في داخلها إنما تجتذب رجلها وأولادها إليه، وينمو بيتها كنيسة مقدسة متهللة، أما إن سلكت خارج المسيح، وعاشت لأجل ملذات العالم، فتحدر بيتها إلى الهاوية.
خلال الحياة المقدسة الحكيمة في الرب تبني الكنيسة كما النفس البشرية مسكنها السماوي بالنعمة الإلهية، أما النفس الشريرة فتهدم المجد المُعد للمؤمنين بيدها، أي بحياتها الشريرة وسلوكها غير اللائق وتمردها.
V مكتوب: “المرأة الحكيمة تبني بيتًا، وأما الحمقاء فتهدم بيديها” (أم 14: 1). هذا يعني أن المرأة الحكيمة تشجع قريبتها في مخافة الرب، والمحبة التي في قلبها نحو أختها وأخواتها. ولكن من جانب الآخر المرأة الجاهلة تحطم بكلماتها المملوءة مرارة وكراهية وشرًا واستخفافًا، كما هو مكتوب: “في فم الجاهل قضيب لكبريائه اما شفاه الحكماء فتحفظهم” (راجع أم 14: 3)[406].
القديس ويصا
V هنا (لقاء السيد المسيح مع المرأة السامرية يو4) أعلنت امرأة عن المسيح للسامريين، وفي نهاية الأناجيل أيضًا امرأة رأته قبل كل الآخرين تخبر الرسل عن قيامة المخلص (يو ٢٠: ١٨)[407].
العلامة أوريجينوس
V “النساء الحكيمات يبنين بيوتهن“. الكنيسة تبني بيتها بصبرها ورجائها في المسيح، أي تنهض الداخلين فيها وتصلحهم بتعليمها وإيمانها. “الجاهلة تهدمه بيدها“. هذه هي الهرطقة التي تصير علة لموتهم الأبدي[408].
V إذ يتحدث عن مجد الرجل، يقيم بولس الآن توازنًا هكذا، فلا يفتخر الرجل فوق الحد اللائق، ولا يُضغط على المرأة. ففي الرب المرأة ليست مستقلة عن الرجل، ولا الرجل مستقل عن المرأة. إن كنت تسأل من الذي جاء بعد الآخر، فإن كل منهما هو علة الآخر، أو بالأحرى ليس كل من الآخر بل الله هو علة الكل[409].
V وقفت النسوة عند الصليب، الجنس الضعيف الذي ظهر أكثر قوة، وهكذا تغيرت كل الأمور تمامًا[410].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V واحدة هي الفضيلة عند الرجل والمرأة، بما أن خلقهما أُحيطا بشرفٍ متساوٍ. اسمعوا سفر التكوين: “خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرا وأُنثى خلقهم” (تك 1: 27). فبما أن طبيعتهما واحدة ولهما نفس الأفعال، فمكافئاتهما يجب أن تكون أيضًا واحدة[411].
القديس باسيليوس الكبير
V هذه التي كانت قبلاً خادمة للموت قد تحرّرت الآن من جريمتها بخدمة صوت الملائكة القدّيسين، وبكونها أول كارز بالأخبار الخاصة بسرّ القيامة المبهج[412].
القدّيس كيرلس الكبير
- السلوك بالاستقامة
السالك باستقامته يتقي الرب،
والمعوِّج طرقه يحتقره [ع 2]
يقول ربنا يسوع: “أنا هو الطريق” (يو 14: 6)، وهو الغاية التي نصل إليها. فكل من الاستقامة في الطريق والانحراف عنه يرتبطان بعلاقتنا به. إن ثبتنا فيه وهو فينا نسلك الطريق الملوكي، وإن تجاهلناه في حياتنا ننحرف عن الطريق كما عن تحقيق الهدف.
المستقيم في طريقه يحمل مخافة إلهية (تقوى في الرب) تسنده فلا ينحرف يمينًا ولا يسارًا، بمعنى أنه لا يسقط في الشرور، ولا يفتخر متكبرًا كبارٍ. أما من يسلك باعوجاج عن الطريق الملوكي فيستهين بالله ولا يخشى الدينونة الأخيرة.
امشِ معه، فتصل إلى الله. به تسير، وإليه تذهب.
لا تتطلع إلى أي طريق آخر به تذهب إليه.
لو لم يقبل بنعمته أن يصير الطريق لبقينا في تيهٍ دائمٍ.
لست أقول لكم أن تتطلعوا على الطريق، فالطريق نفسه جاء إليكم؛ قوموا؛ سيروا[413].
V أيها الأحباء، نهاية كل الطرق هي المسيح، فيه نصير كاملين، لأن كمالنا هو أن نعود إلى بيتنا فيه.
لا تطلبوا شيئًا آخر غيره. هو غايتكم، وإليه أنتم راحلون، وإذ تبلغون إليه لا تطلبوا أمرًا آخر. فإنكم لا تستطيعون أن تشتهوا ما هو أفضل من أن يكون بيتكم فيه.
إنه يقودنا بكونه هو نفسه طريقنا، ويجتذبنا إليه بكونه بيتنا. نأتي بالمسيح إلى المسيح، خلال الكلمة الذي صار جسدًا، إلى الكلمة الذي هو في البدء كان الله ومع الله، إذ يقول: “أنا هو الطريق، وإليّ تأتون”[414].
القديس أغسطينوس
V السالك باستقامة يخاف الرب“. ليس كل خوف يجعل البشر يسلكون باستقامة، وإنما مخافة الرب… الحياة المُدعمة بالفضيلة هي شهيرة جدًا، أما إضافة مخافة الرب إليها فتجعل الأشخاص أكثر تقوى[415].
V “أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي” يو 6:14…
إن كنت أنا الطريق، فإنكم لا تحتاجون إلى أحد يمسك بأيديكم…
إنه يقول: “إن كنت أنا هو السلطة الوحيدة التى تُحضر إلى الآب، أنتم بالتأكيد تأتون إليه، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بطريق آخر[416]”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
V يقول إشعياء: “ما أجمل على الجبال أقدام المبشرين بالخير” (إش 52: 7). إنه يرى كم هو جميل وملائم إعلان الرسل الذين قد ساروا (في المسيح)، وهو القائل: “أنا هو الطريق” (يو 14: 6). يمتدح أقدام السائرين في الطريق المفكرين في يسوع المسيح، ويذهبون من خلال هذا الباب إلى الله (الآب).
إنهم يعلنون عن الخيرات، عن الأقدام الجميلة، أي يسوع[417].
العلامة أوريجينوس
- فاعلية الكلام
“في فم الجاهل قضيب لكبريائه،
أما شفاه الحكماء فتحفظهم” [ع 3]
فم الجاهل عرش يجلس فيه ملك متعجرف يأمر وينهي، يطلب ما لكرامته وليس ما لصالح الآخرين، أما الحكيم فشفتاه تخرجان كلمات بنَّاءه تحفظه وتسنده.
فم الإنسان يحكم عليه، فالجاهل يحكم على نفسه بنفسه خلال الكلمات الخارجة من فمه، والصادرة عن كبرياء قلبه. أما الحكيم، فتشهد له كلماته الرقيقة والمملوءة بالحق الذي لا ينفصل عن الحب الذي في قلبه. الحكيم بطول أناته يواجه الغضب بالجواب اللين فيصرفه، تصدر أحكامه صادقة لأنه بطيء في الكلام، ومسرع في الاستماع.
في كبرياء وتسرع قال جليات الجبار لداود الصبي الصغير: “تعال إليَّ، فأعطي لحمك لطيور السماء ووحوش البرية” (1 صم 17: 44). أما داود ففي تواضع مع إيمان بقوة الله قال له: “أنت تأتي إليَّ بسيفٍ وبرمح وبترسٍ، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم” (1 صم 17: 45).
V أي حكم أكثر قسوة مما يصدر عن قلوبنا حيث به يقف كل واحدٍ مقتنعًا ومتهمًا نفسه بالضرر الذي سببه خطأ ضد أخيه؟ هذا ما تتكلم عنه الأسفار المقدسة بكل وضوح: قائلة: “في فم الجاهل قضيب الإثم“، إذن تُدان الحماقة إذ تسبب إثمًا. ألا يليق بنا أن نتجنب هذا أكثر من الموت، أو الخسارة، أو العوز، أو السبي أو المرض؟ من لا يحسب أن العيب الجسدي أو فقدان الميراث أقل بكثير من بعض عيوب النفس وفقدان السمعة؟[418]
القديس أمبروسيوس
- الجدية في الجهاد
“حيث لا ثيران فالمعلف نظيف،
وكثرة الغلة بقوة الثور” [ع 4]
حيث لا توجد ثيران يكون المعلف نظيفًا لكن بلا نفع، أما من لديه ثور قوي فيضع غلال كثيرة ويحتاج المعلف إلى تنظيف. هكذا من لا يعمل لا يُخطئ، لكنه لا يقتني خبرة ولا يكون له ثمر، أما من يخدم ويعمل فيُخطئ ويتعلم من خطئه وينال خبرة.
يوجه هذا المثل نظرتنا إلى خطورة التهور في معاملتنا للمخطئين. فإنه ليس من اللائق قتل ثورٍ يسبب عدم نظافة المعلف. حقًا بقتله يتحقق الهدف، وهو بقاء المعلف نظيفًا، لكن يفقد الشخص ثوره النافع له في الزراعة. كثيرون يتسرعون في طلب نقاوة الكنيسة باستقصاء المخطئين في تسرعٍ وتهورٍ، وفي غير طول أناة.
إن كان الله يهتم حتى بالثيران، فيأمرنا ألا نكُم أفواهها (1 كو 9: 9)، فكم بالأكثر يليق بنا أن نهتم بإخوتنا، ولا نكتم أنفاسهم دون السماع لهم ، والحوار معهم.
كتب القديس أمبروسيوس رسالتين، الأولي وجهها إلى أتباع نوفاتيوس الذين رفضوا قبول توبة الذين أنكروا الإيمان نتيجة الخوف من العذابات أو غيرهم ممن ارتكبوا خطايا لا تقبل التوبة عنها في نظرهم، وهي رسالة تكشف لنا جميعًا عن مقدار حب الله للخطاة، وفتحه أبواب الرجاء بلا حدود، وسهولة طريق التوبة والرجوع إلى الله، والتزامنا بطول الأناة معهم حتى نربحهم لملكوت الله. والثانية وجهها إلينا نحن الخطاة لئلا نستهين بمراحم الله، ونحول الرجاء في التوبة إلى فرصة للتراخي والتأجيل.
V اللطف هو اقتداء بحنان السماء نحو البشر، يهدف نحو خلاص الجميع، باحثًا عن هذه الغاية بوسيلة تحتملها آذان البشر، دون أن تخور قلوبهم أو تيأس نفوسهم.
فمن أُلقي على عاتقه إصلاح الضعفات البشرية، عليه أن يحتملها ولا يلقي بها عنه، حتى وإن أثقلت كتفيه، فالكتاب المقدس يذكر عن الراعي أنه يحمل الخروف الضال ولا يلقيه عنه… لأنه كيف يتقدم إليك من تزدري به، هذا الذي سيجد نفسه موضع تبكيت طبيبه. بدلاً من أن يكون موضع عطفه؟!
تحنن يسوع علينا حتى لا يخيفنا منه بل يدعونا إليه. جاء في وداعة، في تواضع… وبهذا قال: “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28). وبهذا أنعشنا الرب ولم يغلق علينا أو يطردنا.
وفي اختياره للتلاميذ، اختار من يترجمون إرادته، فيجمعون شعب الله دون أن يشتتوه. فالذين يجرون وراء آراء قاسية متعجرفة، ولا يكونون لطفاء وودعاء لا يُحسبون من تلاميذ الرب. هؤلاء الذين بينما يطلبون لأنفسهم مراحم الله ينكرونها بالنسبة لغيرهم. هؤلاء أمثال معلمي بدعة نوفاتيوس، الذين يحسبون أنفسهم أبرارًا…
أية قسوة أشر من أن يعاقبوا الآخرين بلا هوادة، ويرفضوا الغفران لمن يحثونهم لقبول التأديب والتوبة؟!
V يجب أن نعرف أن الله إله رحمة، يميل إلى العفو لا إلى القسوة. لذلك قيل: “أريد رحمة لا ذبيحة” (هو 6: 6)، فكيف يقبل الله تقدماتكم يا من تنكرون الرحمة، وقد قيل عن الله إنه لا يشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع (حز 18: 32)؟!
القديس أمبروسيوس
- الشاهد الأمين وشاهد الزور
“الشاهد الأمين لن يكذب،
والشاهد الزور يتفوه بالأكاذيب” [ع 5]
دعوتنا هي أن نتبع ذاك الذي هو بالحق “الآمين، الشاهد الأمين الصادق” (رؤ 3: 14).
ترى قوانين الرسل في هذه العبارة صورة للشهداء الحقيقيين الذين يتمسكون بالحق ولن يكذبوا، مقدمين دماءهم شهادة حية للإيمان الحق.
هكذا يليق بنا إذ نثبت في الشاهد الأمين، أن نكون شهود حق لإنجيل المسيح، ننطق بالحق، ولا يكون للكذب موضع فينا.
يوصينا الكتاب المقدس أن نشهد بالحق، ولا نكون شهود زورٍ: “لا تقبل خبرًا كاذبًا، ولا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم” (خر 23: 1). كما يطالبنا ألا نصمت أمام شاهد زورٍ ضد أحدٍ ونحن نعرف الحقيقة، بل نشهد لننقذه: “وإذا أخطأ أحد وسمع صوت حلف وهو شاهد يبصر أو يعرف، فإن لم يخبر به حمل ذنبه” (لا 5: 1).
V تثبت شهادة المسيح فينا إن كنا نستطيع القول مثل الرسول بولس: “فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله في المسيح يسوع ربنا” (رو 8: 38-39). أما إذا كنا نضطرب لأتفه الأمور التي تحدث فلا تكون شهادة المسيح ثابتة فينا تمامًا[419].
العلامة أوريجينوس
V كل من القَسم الباطل والكذب يُعاقبان بحكم إلهي، وكما يقول الكتاب: “الفم الذي يكذب يقتل النفس” (حك 1: 11). فمن ينطق بالحق يحلف، فقد كتب: “الشاهد الأمين لا يكذب” (أم 14: 5)[420].
الأب خروماتوس
- طلب الحكمة
“المستهزئ يطلب الحكمة ولا يجدها،
والمعرفة هينة (سهلة) للفهيم” [ع 6]
الإنسان الذي يستهزئ بأخيه أو يسخر بخلاص نفسه وخلاص إخوته لا مكان لمخافة الرب في قلبه. قد يطلب الحق والحكمة بلسانه، أما قلبه وفكره فلا يباليان بالإجابة. لهذا لن يكون حكيمًا حتى إن سعى وراء الحكمة، فإنها لن تسكن في قلب غير محبٍ ولا جاٍد، أما الذي يفهم الأمور، ويدرك دوره في الحياة، في جدية فالمعرفة ليست بعيدة عنه، طريقها سهل بالنسبة له.
الإنسان الساخر لا يجد في كلمة الله ينبوع حياة يتمتع به، إنما يسخر حتى من كلمة الله، وينتقدها، بل ويتعثر حتى في شخص السيد المسيح مخلص العالم. وكما قال السيد المسيح نفسه: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم” (يو 15: 22). كما قيل عن السيد المسيح: “ها أنا أضع في صهيون حجر صدمة وصخرة عثرة، وكل من يؤمن به لا يخزى” (رو 9: 33). “نحن نكرز بالمسيح المصلوب لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة” (1 كو 1: 23).
V يتعثر الناس عندما يتوقفون عن التفكير إلى أين هم ذاهبون، ويتطلعون إلى أمورٍ أخرى. هذا هو ما حدث مع اليهود، إذ كانوا مشغولين بأمورٍ خارج الناموس، فلم يدركوا الحجر الذي تنبأ عنه الأنبياء[421].
الأب ثيؤدورت أسقف قورش
- الصداقة
“اذهب من قدام رجل جاهل،
إذ لا تشعر بشفتيّ معرفة” [ع 7]
ليهرب الإنسان من حضرة الجاهل الذي لا ينطق بكلمات المعرفة كمن يهرب من عدوه، لأنه يسبب متاعب ويضر من حوله.
يدرك الإنسان المسيحي قيمة كل ثانية من ثواني حياته، فمع محبته لكل البشرية، لا يسمح لنفسه أن يفسد وقته بالصداقة مع الأغبياء الأشرار، الذين يرون في الحياة كأنها لهو لا قيمة لها. وفي تركه لصداقتهم لا يستخف بهم ولا ييأس من خلاصهم، إنما يبذل بالحب كل ما استطاع لأجل بنيانهم، لكن ليس على حساب نفسه.
V “الصديق الأمين دواء الحياة” (سي 6: 16).
لا يوجد علاج مؤثر في شفاء الأوجاع مثل الصدِّيق الصادق الذي يعزيك في ضيقاتك، ويدبرك في مشاكلك، ويفرح بنجاحك، ويحزن في بلاياك. من وجد صديقًا هكذا فقد وجد ذخيرة. فالصديق الأمين لا شبيه له، فوزن الذهب والفضة لا يعادل صلاح أمانته (انظر ابن سيراخ 6: 14، 15).
بحق ليكن لك صديق تدعوه “نصف نفسي”.
V لا توجد صداقة حقيقيّة، ما لم تجعلها كوصلة تلحم النفوس، فتلتصق معًا بالحب المنسكب في قلوبنا بالروح القدس.
القدّيس أغسطينوس
V يرتبط القوي بالضعيف فيسنده، ولا يسمح بهلاكه.
مرة أخرى إن ارتبط بشخصٍ متكاسلٍ يقيمه ويدفعه للعمل. قيل: “أخ يعينه أخ هو مدينة قوية”. هذه لا يفوقها بعد المسافة ولا السماء ولا الأرض ولا الموت، ولا أي أمر آخر، إنما هي أقوى وأكثر فاعلية من كل الأشياء. هذه وإن صدرت عن نفسٍ واحدةٍ، قادرة أن تحتضن كثيرين دفعة واحدة.
اسمع ما يقوله بولس: “لستم متضايقين فينا بل متضايقين في أحشائكم. كونوا أنتم أيضًا متسعين“[422].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الإفراز والتمييز
“حكمة الذكي فهم طريقه،
وغباوة الجهال غش” [ع 8]
الذكي في حكمة يعرف طريقه ويدرك رسالته، أما الجاهل فيغش نفسه، ولا يدرك إلى أين يذهب. أقصى أنواع الخداع هو خداع الإنسان لنفسه. فالجاهل يظن أنه يعرف كل شيءٍ، ولا يحتاج إلى معينٍ يرشده، بينما يجهل حتى نفسه. أما الحكيم فمع ما وُهب له من حكمة، يتعطش إلى حكمة الله، فيطلبها بلا توقف، ويحترم حكمة الآخرين ويقدرها بروح التمييز.
V “حكمة القادرين تفهم طرق الحكمة، وغباوة الجهال تسير في اتجاه مضاد“. تقول النبوة: “وإلى هذا أنظر، إلى الوديع والهادئ والمرتعد من كلماتي” (راجع إش 66: 2). إننا نتعلم أنه يوجد ثلاثة أشكال للصداقة. الشكل الأول وأفضلهم يقوم على الفضيلة، فإن الحب الصادر عن العقل ثابت. الشكل الثاني يقوم وسطًا بين الاثنين، أساسه المبادلة، حيث تتم المشاركة المتبادلة وهي نافعة للحياة. الصداقة على أساس العطاء المجاني هي مبادلة. الشكل الثالث والأخير نمارسه خلال العادة. يقول البعض إن هذا الشكل يزول ويتغير لأنه مؤسس على اللذة[423].
القديس إكليمنضس السكندري
“الجهال يستهزئون بالإثم،
وبين المستقيمين رضى (نعمة)” [ع 9]
يستخف الجهال بالخطايا، فيشربونها كالماء، وفي استهتارٍ لا يندمون على ما يرتكبونه. أما المستقيمون فيدركون قيمة حياتهم، ويشعرون بالالتزام، فينالون نعم إلهية، ويتمتعون بالبركات ويكونون موضع مسرة الله ورضاه.
كمثال للجهال أولئك الذين حملوا إرميا إلى مصر، وأصروا على عبادة الأوثان، وإذ وبخهم الرب على لسان النبي، قالوا: “إننا لا نسمع لك الكلمة التي كلمنا بها باسم الرب، بل سنعمل كل أمرٍ خرج من فمنا، فنبخر لملكة السماوات، ونسكب لها سكائب، كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم، فشبعنا خبزًا، وكنا بخيرٍ ولم نرَ شرًا” (إر 44: 16-17). في جهالة قالوا بأنهم حين عبدوا الأوثان حلت بهم الخيرات، وحين تركوها صاروا في عوزٍ وفنوا بالسيف والجوع (إر 44: 18).
“القلب يعرف مرارة نفسه،
وبفرحه لا يشاركه غريب” [ع 10]
من يتذمر يقدم لقلبه مرارة، ومن يتهلل يقدم له الفرح. وكأن ما يغرسه الإنسان، إنما يأكل من ثمره في داخله. فمرارة النفس أو فرحها لا يعتمدان على الظروف المحيطة ولا على تصرفات الآخرين، بل على سلوك الإنسان نفسه.
كثيرًا ما يظن الإنسان أنه محتاج إلى تعزيات بشرية، ولكن كما قال أيوب البار خلال خبرته المرة: “سمعت كثيرًا مثل هذا، معزون متعبون كلكم” (أي 16: 2). فما يحمله القلب من ضيق ومرارة لا يمكن الخلاص منه إلا بالتعزيات الإلهية، وما يحمله من عذوبة وفرح وطوباوية لن يدركه أحد مثله! يقول المرتل:
“عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك تلذذ نفسي” (مز 94: 19).
“هذه هي تعزيتي في مذلتي لأن قولك أحياني” (مز 119: 50).
“تذكرت أحكامك منذ الدهر يا رب فتعزيت” (مز 119: 52).
“فلتصر رحمتك لتعزيتي حسب قولك لعبدك” (مز 119: 76).
“كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا، و في أورشليم تعزون” (إش 66: 13).
“فنحن وإن لم تكن بنا حاجة إلى ذلك بما لنا من التعزية في الأسفار المقدسة التي في أيدينا” (1 مكابيين 12: 9).
“لأن كل ما سبق فكُتب كُتب لأجل تعليمنا، حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء” (رو 15: 4).
“مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرافة وإله كل تعزية” (2 كو 1: 3).
“الذي يعزينا في كل ضيقتنا، حتى نستطيع أن نعزي الذين هم في كل ضيقة بالتعزية التي نتعزى نحن بها من الله” (2 كو 1: 4).
“لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا” (2 كو 1: 5).
V كثرة المحن التي تحل بنا تحتم عظم مكافأتنا، فبقدر كثرة الجراحات التي تصيبنا نتأهل لكثرة من الأكاليل… إنني اسكب دمعة واحدة، فأتأهل لتعزية واحدة. سكبت عشرة دموع فأتأهل لعشرة تعزيات. وزن توبتي تتعادل مع عدد تعزياتك[424].
القديس جيروم
V الاتكال على البشر يمنع كليةً الاتكال على المسيح، والعزاء الظاهر يمنع العزاء الخفي.
مار إسحق السرياني
“بيت الأشرار يخرب،
وخيمة المستقيمين تزهر” [ع 11]
يظن الشرير أنه يُقيم لنفسه بيتًا مستقرًا ودائمًا على الأرض، لكن سرعان ما ينهار بكل أساساته الواهية، أما المستقيم إذ يُدرك أنه غريب يُقيم خيمة يتنقل بها، ومع هذا فخيمته لا تنهار بل تزهو وحياته تنمو بلا انقطاع.
V رأيت في المواضع السفلية حفرة تنتظر الأشرار، وموضعًا آخر مغايرًا، مُعدًا للأبرار[425].
القديس غريغوريوس النزينزي
“توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة،
وعاقبتها طرق الموت” [ع 12]
ما أسهل أن يخدع الإنسان نفسه، فيسلك في طريق يبدو مستقيمًا مع أن نهايته الهلاك.
V نقرأ في الأمثال: “توجد طريق تظهر للبشر مستقيمة، وعاقبتها تقود إلى أعماق الجحيم“. ها أنتم ترون أن الجهل أيضًا يُدان بوضوح في هذا النص، حيث يلزم الإنسان أن يفكر وإلا يسقط في الجحيم، ظانًا أنه قد بلغ الحق. يقول: “توجد أفكار كثيرة في قلب الإنسان” (راجع أم 19: 21). لكن ليست إرادته المزعزعة والمشكوك فيها والقابلة للتغيير، هي التي تغلب، بل مشورة الله[426].
القديس جيروم
V عندما تخطر بذاكرتك الخطايا السابقة، اهرب منها كما يهرب الإنسان البار الشريف متى وجد امرأة عاهرة شريرة تطلبه في الطريق العام، بواسطة حديثها معه أو تقبيلها إيَّاه. فإنه إن لم يهرب منها للحال، متباطئًا في الحديث معها بأحاديث مشوبة، فإنه وإن رفض التمتع باللذة المعيبة إلا أنه لا يقدر أن يتجنب احتقار العامة له، ونظرات السخرية المتسلطة عليه. هكذا نحن أيضًا، بتذكرنا المهلك هذا نسقط في أفكار كهذه. لهذا يلزمنا أولاً أن نمتنع عن التمسك بها، منفذين وصية سليمان القائل لا نذهب إلى هناك ولا نبطئ في مكانها، ولا نثبت نظرنا عليها، لئلا عندما ترانا الملائكة المارة بنا، أننا مشغولين بأفكار نجسة، فلا تقدر أن تقول لنا: “بركة الرب عليكم” (مز 129: 8). فإنه يستحيل أن يستمر الفكر مشغولاً في الأمور الصالحة، إن كان النصيب الأكبر من القلب غارقًا في تأملاته الأرضية الشريرة. لقد حق قول سليمان: “عيناك تنظران الأجنبيات، وقلبك ينطق بأمور ملتوية. وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع على رأس سارية. يقول “ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 23: 33-35).
يلزمنا أن نهجر لا الأفكار الشريرة فحسب، بل والتفكير في الأمور الزمنية، رافعين اشتياقات نفوسنا نحو الأمور السمائية كقول مخلصنا: “حيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي” (يو 12: 26). لأنه يحدث أيضًا حتى من باب العطف أن نفكر في سقطات الغير أو أخطائهم، فنتأثر باللذة ونسقط بالتالي في هموم الآخرين. فتكون النتيجة أن ما بدأنا به حسنًا ينتهي نهاية مهلكة، لأنه “تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت” (أم 14: 12)[427].
الأب بينوفيوس
- فرح القلب وشبعه
“أيضًا في الضحك يكتئب القلب،
وعاقبة الفرح حزن” [ع 13]
إن كان الله يدعونا إلى حياة الفرح الحقيقي، الصادر من الأعماق، لكنه يحذر من الضحك المملوء استهتارًا، والذي يمثل تغطية لكآبة القلب ومرارة الداخل. من يمارس الفرح الظاهر بلا أساس داخلي ينتهي فرحه بحزنٍ شديدٍ.
V إن أراد أحد أن يصعد، لا يطلب أفراح العالم، والملذات والمباهج، بل ما هو مؤلم ومبكي، فإن الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الفرح. حقًا ما كان لآدم أن ينحدر من الفردوس لو لم ينخدع باللذة[428].
القديس أمبروسيوس
V الغاية النهائية للكائنات البشرية هي الدخول في حالة تطويب. إن كان الرب يدعو في الإنجيل الحزانى مطوبين: “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون” (مت 5: 4)، فبحقٍ يدعو نهاية كل كائن بشري هو الحزن، لأن الذين يعيشون في حزنٍ يمتلئون من فيض البركات الروحية[429].
القديس أوغريس
V حيث يوجد الحزن لا توجد السلوكيات الشكلية (من الفرح). فإن المحبة تنزع الفرح والضحك (في المناسبات المؤلمة). أحيانًا نمتنع عن إظهار السعادة مراعاة للذين هم في حزنٍ أو يعانون من الألم. في بيت الوليمة يحدث العكس: الرقص والأغاني التي تسبب عارًا، لأنها تشير إلى حياة غير مضبوطة[430].
V يرى أغلب الناس أنه من الصواب تجنب انتقادات الرجل الحكيم، خاصة إن كانوا يحبون الخطية. من يرغب في اللهو والخطية يتجنب من يمنع الخطية. الذي بلا بصيرة يُسر بالمتملقين، مفضلاً التملق عن النقد. من سمات الحكيم أن ينتقد من يحبه… المتملقون يغنون بطريقة ما. حتى عندما يتحدثون عن الأخلاقيات يريدون أن يجعلوا أحاديثهم مبهجة أكثر منها نافعة. مثل هذه الأغنية هي حديث يقدم فرحًا، أما الانتهار فيعين الإنسان على وجود الطريق المستقيم[431].
V الأشواك التي تحترق تحت إناء تعطي أصوات فرقعة عالية. هذا يشبه ضحك الأغبياء. إنه يسبب ضوضاء وفرقعة، ولا يهذب النفس… كما أن الأشواك تسبب ضوضاء عندما تُحترق كنباتات تحت إناء، بنفس الطريقة ضحك الأغبياء يصدر عن نفس شريرة تحترق[432].
القديس ديموديوس الضرير
“المرتد في القلب يشبع من طرقه،
والرجل الصالح مما عنده” [ع 14]
المرتد backslider هنا يختلف عن جاحد الإيمان apostates، الأول هو ذاك الذي يفشل في البلوغ إلى المعرفة لاتكاله على فهمه وحكمته البشرية، أما الثاني فقد عرف الحق لكنه يجحده وينكره.
المرتد في القلب، هو ذاك الذي وضع كل فهمة على قلبه (فكره) ففشل في بلوغ الحق.
ما يفعله الإنسان يرتد إليه، فمن ينحرف بقلبه عن الطريق المستقيم، وإن لم يظهر ذلك علانية بسلوكه الظاهر، فإنه يشبع من طرق قلبه الشريرة، أما الصالح فيشبع من صلاح قلبه. وكأن الإنسان لا يأكل من يد آخرين، بل مما يقدمه له قلبه.
- التدقيق
“الغبي يُصدق كل كلمة،
والذكي ينتبه إلى خطواته” [ع 15]
خلق الله الإنسان كائنًا عاقلاً، لكي إذ يرفع فكره نحو الله، ويطلب تقديسه، يسلك بفهمٍ وحكمةٍ في كل خطوة من خطوات حياته، ولا يسير بلا هدف.
يدعونا الحكيم إلى التمتع بروح الإفراز والتمييز، فلا نسير بغير حكمة في حياتنا اليومية وتعاملنا مع الآخرين، وفي سلوكنا الروحي.
V بالتوبة ندخل إلى نعيمه بنعمة الإفراز التي تظهر فينا. العادم من التوبة هو خائب من النعيم المزمع. القريب من الكل بعيد عن التوبة، والمبتعد من الكل بإفراز هو التائب بالحق.
V بالقراءة مع الإفراز اجمع عقلك من الكل وقُم للصلاة.
مار إسحق السرياني
V الإفراز هو أفضل من كل الفضائل.
الشيخ الروحاني
V أريد لك أن تكون مع الأبرار. تمسّك بالإفراز مثل مدير الدفّة، موجِّهًا السفينة بحسب الرياح. وعندما تكون مريضًا تصرّف بحسب مرضك في كل الأمور التي كتبت عنها، وعندما تكون معافى تصرّف بحسب صحتك. لأنه كما أنه عندما يكون الجسد مريضًا لا يقبل الطعام بطريقته المعتادة، هكذا في ذلك أيضًا يُثبت القانون أنه سقيم.
القديس برصنوفيوس وتلميذه يوحنا
V سُئل شيخ: “كيف يجد الإنسان الله، بالصوم أم بالأعمال أم بالتيقُّظ أم بالرحمة؟” فقال: “بواسطة هذه كلها بالتأكيد إذا امتزجَتْ بالإفراز. بل إنني أقول إنّ كثيرين عذّبوا أجسادهم بدون إفراز ثم رحلوا عنا دون أن يربحوا شيئًا. إنّ أفواهنا تصير عفنة من العطش، ونحن نردِّد الأسفار المقدسة بأفواهنا ونعبر على جميع مزامير داود النبي في خدمتنا، أما ما يتطلّبه الله وما هو ضروري فلا نملكه، أي الكلمة الطيبة من كلٍّ منا للآخر. لأنه كما أنّ الإنسان لا يمكنه أن يرى وجهه في المياه المضطربة، هكذا النفس إن لم تتطهّر من الأفكار الغريبة فلا يمكنها أن تظهر أمام الله في الصلاة”.
بستان الرهبان
“الحكيم يخشى ويحيد عن الشر،
والجاهل يتصلف ويثق” [ع 16]
مع ما يتصف به الحكيم من شجاعة ودالة لدى الله لكنه يخشى الخطأ، ويخاف الله ويوقره. أما الأحمق فمع ما يحمله في داخله من قلقٍ وعدم سلام لكنه يتشامخ ويتهور. وكما قال أحدهم: “الأغبياء يندفعون بتهورٍ في الموضع الذي تخشى الملائكة أن تطأه!” هكذا بروح التمييز يوازن الحكيم بين الثقة والدالة وبين المخافة اللائقة بالرب، أما الغبي ففي استهتار لا يحمل روح التمييز والإفراز.
الإنسان الحكيم يعرف خطورة الشر وخداعاته، لهذا يخاف الشر ويهرب منه، أما الجاهل فيستهين بالشر ويثق في نفسه أنه لن ينحرف، فيتصلف وبالكبرياء يسقط.
V الخوف من السقوط هو رغبة في عدم الفساد، وشوق نحو التحرر من الأهواء[433].
القديس إكليمنضس السكندري
V رأس الحكمة مخافة الله. كما أن الضوء إذا دخل في بيتٍ مظلمٍ طرد ظلمته وأناره، هكذا خوف الله إذا دخل قلب الإنسان طرد عنه الجهل وعلَّمه كل الفضائل والحِكَمْ.
V ليكن خوف الله بين أعينكم دائمًا، واذكروا مَنْ يُميت ويُحيي، وابغضوا العالم وكل ما فيه من راحة الجسد، وموتوا عن هذه الحياة الفانية لتحيوا بالله. اُذكروا ما وعدتم به الله، فإنه يطلبه منكم في يوم الدينونة.
V إذا أحبّ أحد المسيح من كل قلبه وكل قدرته فإنه يثمر مخافةً لله، والمخافة تلد الدموع، والدموع تلد الفرح الروحاني، والفرح الروحاني يلد الحياة الملائكية، والحياة الملائكية تلد قوة العزاء. إنّ النفس تنال التبرير لكي تعطي ثمارًا لذيذة. وإذا رأى المسيح – الذي يحصِّن النفس – شجاعة الإنسان وصبره في كل شيء، فهو يقبله بفرح، وهكذا تكون النفس في غبطةٍ سماويةٍ في مواضع الراحة التي لا تنتهي أبدًا.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
V ليس شيء يعلو على مخافة الله، لأنّ “مخافة الرب أعلى من كل شيء، (سي 25: 14)، وبمخافة الله يحيد كل واحدٍ عن كل الشرور. أطلب إليكم أن نقتنيها ونتحوّل عن كل ما هو غير مرضيٍّ لله. أيّ شيءٍ لا يُرضيه فلنحذر من أن نفعله بأي حالٍ، وكل ما نعمله فلنعمله متفكِّرين أنه يرى الكل، فليس شيء في الخليقة يخفى عن عينيه. إذًا “كل ما عملتم بقول أو فعل” (كو 3: 17) أو بالفكر، اِفحص إن كان هذا الأمر مرضيًا لله، عالمًا أنه يراه، وبعدئذٍ افعله. ونحن نعلم أننا مرضيين عنده حين نحفظ الاستقامة التي خلقنا عليها، وأننا نُحزنه عندما نُفسِد ما خلقه هو نفسه. فمع أنّ النفس قد خُلِقت على صورة الله، إلاّ أننا أفسدناها، وفي حين أنها تستطيع أن ترى الله وتتكلم بحرِّيةٍ مع سيدها؛ فقد جعلناها تضلّ (بعيدًا عنه)، حتى إنها لم تثبت بعد في خدمة الله بل في خدمة شهواتنا. إنه حقًا لأمر مرعب أن نكون في خدمة الشهوات. وقد قال أحد الحكماء: [بقدر ما توجد شهوات النفس بقدر ما يكون لها (أي للنفس) من أسياد.] عندما مضى الأب نستريون إلى المجمع الكبير قال: [إذا تعوّق أحد في الأوجاع، فهو عبد للوجع وليس لله.]
اثبتوا راسخين في مخافة الله واحفظوا نفوسكم بلا لوم. اِحرصوا ألاّ تؤخذ أرجلكم في إحدى فخاخ العدو المنصوبة (قدّامكم)، فإنّ العدو يطرح شباكه لكي يصطاد النفوس البريئة إذا وجدها مستسلمةً للنعاس. أمّا أنتم “فاصحوا واسهروا” (1 بط 5: 8) بأعين النفس النقية، وأنتم ترتلون قول المزمور: “يسقط الخطاة في شبكته وأكون أنا وحدي حتى يجوز الإثم” (مز 140: 10)، وأضف أيضًا هذا القول: “بمخافتك، يا رب، حبلنا وتمخّضنا وولدنا روح خلاصك على الأرض” (إش 26: 17)[434].
القديس أنبا مقاريوس الكبير
- الغضب
“السريع الغضب يعمل بالحمق،
وذو المكايد يُشنأ (ممقوت) [ع 17]
الغضوب لا يعرف الحكمة، بل يسلك في حماقة، ومن يدبر المكايد يكون مكروهًا حتى من المتملقين له.
V كل جهادٍ يقوم به الغضوب، هو ضائع بالنسبة له كل يوم.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
V الرجل الغضوب حتى وإن أقام أمواتًا، فهو غير مقبول عند الله، ولا أحد يُقبِل إليه.
القديس أبّا أغاثون
V رجل الخصام الذي لا يهدأ من النزاع هو الذي لا يكتفي بالشقاق الأول فيثور غاضبًا من جديد. أما الذي هو بالعكس ليس رجل خصام، فحينما يشتعل غضبه يرجع إلى نفسه في الحال، ويلوم نفسه، ويطلب المغفرة من أخيه الذي غضب منه، فيهدأ فيه الخصام لأنه أدان نفسه واصطلح مع أخيه، ولن يجد الصراع له فيه موضعًا كما قلت. أمَّا الإنسان الغضوب الذي لا يهدأ الشقاق بداخله، والذي إذا غضب لا يدين نفسه، بل يثور غضبه بالأكثر دون أن يندم على غضبه قط، بل ولا يكتفي بما قاله في غضبه فيزيد عليه؛ هذا يُدعى رجل خصام، ولا يهدأ الغضب في داخله، لأن الحقد والمرارة والخبث تُتبع الغضب. ليت الرب يسوع المسيح يخلِّصنا من مصير هؤلاء الناس، ويهبنا نصيب الودعاء والمتواضعين!
القديس أنبا زوسيما
- المعرفة والجهل
الأغبياء يرثون الحماقة،
والأذكياء يُتوَّجون بالمعرفة” [ع 18]
من لا يسلك بالحكمة يقتني الحماقة ميراثًا يلازمه، ومن يقتني الحكمة ينال مجد المعرفة وكرامتها.
V سبق أن قال داود النبي: “قد أنتنت، قاحت حُبُر ضربي (أي جروحي)”، من أين؟ “من جهة حماقتي” (مز 38: 5). إذًا، فالحماقة هي مخزن لكل الشرور، لأنّ الحماقة ولدت عدم الطاعة، وعدم الطاعة ولدت جرحًا، وبعد الجرح ولدت الحماقة إهمالاً، والإهمال أدّى إلى نتانة وعفونة.
القديس برصنوفيوس
V من الضروري أن يقترب الإنسان من الله بطريقةٍ معتدلةٍ وتقويةٍ تكريسيةٍ وهو يخطو متقدِّمًا روحيًا حسب طاقته وفي الحدود المسموح بها للبشر. إذن، ينبغي أن تكون إرادة الذين يطلبون الله حرّة من كل اهتمامات أخرى، لأنّ الكتاب يقول: “كفوا واعلموا أنّي أنا هو الله” (مز 46: 10). وعلى ذلك فالذي يُمنَح معرفةً جزئيةً لله – لأنه يستحيل نوالها بالكامل – يبلغ أيضًا إلى معرفة كل الأمور الأخرى. إنه يعاين أسرارًا، لأنّ الله يُريه إياها، إنه يرى مسبقًا ما يخص المستقبل ، إنه يتأمل في رؤى كما حدق مع القديسين، إنه يفعل عظائم، إنه يصير حبيبًا لله وينال من الله كل ما يطلبه.
القديس يوحنا الأسيوطي
V لا تكن بلا معرفة، ولا تكن خاليًا من ذكر الله، بل اتَّقِ الله واحفظ وصاياه (جا 12: 13).
القديس إسطفانوس الطيبي
V أساس حياة الراهب هو المعرفة الحقيقية، وجهل الراهب يُظلم نفسه.
القديس هيبريشيوس الكاهن
V الجهالة هي أم لغالبية الشرور[435].
V الجهالة هي ام كل الشرور، تنبع عن الإهمال والكسل، وتنتعش وتزداد وتتأصل في أحاسيس الإنسان بالإهمال[436].
V ليس الجهل إلا عدم معرفة ما هو الصالح لنا، فما أن نعرفه حتى يتبدد الجهل. لذلك يلزم البحث بغيرة عن معرفة الحق. لا يقدر أحد أن يمنحها إلا النبي الحق (ربما يقصد السيد المسيح). فإن هذا هو باب الحياة للذين يدخلون، وطريق الأعمال الصالحة للذاهبين إلى مدينة الخلاص[437].
الأكلمنضيات
- انهيار الأشرار
“الأشرار ينحنون،
أما الأخيار والأثمة لدى أبواب الصدِّيق” [ع 19]
يظن الأشرار أنهم يُخضعون الأبرار بعنفهم وخداعاتهم فيذلوهم، لكن سرعان ما ينهارون أمامهم. ويشعر الأثمة باحتياجهم إلى بركة الصدِّيقين، فيأتون إلى أبوابهم في ضعفٍ شديدٍ. أما في يوم الرب العظيم فسينهار الأشرار، ليس فقط من أجل حرمانهم من التمتع بالمجد الأبدي، وإنما برؤيتهم لزملائهم الذين كانوا يسخرون بهم وبإيمانهم وبساطة قلوبهم، وقد صاروا ديانين لهم. يرتعب الأشرار من أجل الفرص التي قُدمت لهم أثناء حياتهم على الأرض واستخفوا بها.
يقفون كمن هم أمام أبواب الصدِّيقين يطلبون مع العذارى الجاهلات أن يعطيهم زيتًا لآنيتهم، لكنه قد ضاع وقت العطاء!
V قيل إنه عندما كان أنبا أنطونيوس يجلس على الجبل وحيدًا ويصير في دهشة في تأملاته كانت تُعلَن له بعض الرؤى بواسطة العناية الإلهية، فكان يتعلَّم هذا المغبوط من الله كما هو مكتوب (إش 54: 13؛ يو 6: 45).
وقال عنه القديس كرونيوس إنه قال: [كنتُ أصلِّي لمدة سنة كاملة لكي أعرف أماكن الأبرار وأماكن الخطاة. وذات ليلة ناداه واحد من فوق قائلاً: قم يا أنطونيوس وافرح وانظر. ولما خرج تطلَّع إلى فوق فرأى ماردًا واقفًا يصل طوله إلى السحاب، طويلاً ومرعبًا ومزعجًا… ويداه مبسوطتان إلى السماء، وتوجد تحته بحيرة كبيرة في حجم البحر، ورأى نفوسًا طائرة كأنّ لها أجنحة مثل الطيور. وبسط المارد يديه فسقط بعض الصاعدين بينما طار الباقون إلى فوق متفادين رأس المارد ويديه فخلصوا، وإذ خلا لهم طريق الجو إلى السماء حُمِلوا بلا عناء إلى فوق. أما الذين طوّقتهم يداه فسقطوا في البحيرة. عند ذلك صرَّ المارد على أسنانه، ولكنه شمت بأولئك الذين سقطوا. وللحال جاء الصوت إلى أنبا أنطونيوس: أتفهم ما ترى؟ فانفتح ذهنه وسمع صوتًا عظيمًا قائلاً له: هذه هي نفوس الأبرار التي رأيتها طائرة، فعبرت إلى الفردوس وخلصت، وأن ذلك الكائن الطويل هو العدو الذي يحسد المؤمنين، وأن الذين أمسكهم وصدَّهم عن العبور هم أتباعه الذين تبعوا شهوات الجسد، فغرقوا في جهنم وهذه هي دينونتهم. أما الذين عجز عن أن يمسكهم وهم يجتازون إلى فوق فهم الذين لم يخضعوا له.]
فلما رأى ذلك، وكلّما كان يتذكره، كان يزداد جهادًا كل يوم للتقدُّم إلى ما هو قدام.
ولم يكن القديس يريد أن يتحدث عن هذه الرؤى، ولكنه عندما كان يصرف وقتًا طويلاً في الصلاة متعجبًا ومتحيرًا، ويضغط عليه الذين معه بالأسئلة، كان يضطر إلى الكلام كأبٍ لا يستطيع أن يُخفي شيئًا عن أبنائه، وكان يعتقد أنه طالما كان ضميره خالصًا فإنّ شرح هذه الأمور ينفعهم لكي يعرفوا أن النسك أتى بثمارٍ جيدة، وأن الرؤى كثيرًا ما تكون عزاءً عن أتعابهم.
بستان الرهبان
- المحاباة
“أيضًا من قريبه يُبغض الفقير،
ومحبو الغنى كثيرون” [ع 20].
إذ حلّ الفساد بالإنسان صارت معاييره مادية، يبغض الفقير لمجرد فقره، حتى وإن كان قريبه، ويتملق الغني ويحبه بلا سبب، وإنما لمجرد غناه. لهذا جاءت الوصية الإلهية تدافع عن الفقير المظلوم، وتنهي عن المحاباة للأغنياء.
“لا تُحرِّف حق فقيرك في دعواه” (خر 23: 6).
“إن كان فيك فقير أحد من إخوتك في أحد أبوابك في أرضك التي يعطيك الرب إلهك، فلا تُقس قلبك، ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير” (تث 15: 7).
“لا تظلم أجيرًا مسكينًا وفقيرًا من إخوتك أو من الغرباء الذين في أرضك في أبوابك” (تث 24: 14).
“يقيم المسكين من التراب، يرفع الفقير من المزبلة، للجلوس مع الشرفاء ويملكهم كرسي المجد، لأن للرب أعمدة الأرض، وقد وضع عليها المسكونة” (1 صم 2: 8).
“لأنه ينجي الفقير المستغيث والمسكين، إذ لا معين له” (مز 72: 12).
“نجوا المسكين والفقير من يد الأشرار، اَنقذوا” (مز 82: 4).
“الفقير السالك باستقامته خير من معوج الطريق وهو غني” (أم 28: 6).
“الفقير يكرَم من أجل عمله، والغني يكرم لأجل غناه” (سير 10: 33).
“تضرُّع الفقير يبلغ إلى أذنيّ الرب، فيجري له القضاء سريعًا” (سي 21: 6).
“لا يحابي الوجوه في حكم الفقير، بل يستجيب صلاة المظلوم” (سي 35: 16).
“ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير، ولا يفكر أحد منكم شرًا على أخيه في قلبكم” (زك 7: 10).
“يا إخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة. فإنه إن دخل إلى مجمعكم رجل بخواتم ذهب في لباس بهيّ ودخل أيضًا فقير بلباس وسخ. فنظرتم إلى اللابس اللباس البهيّ وقلتم له اِجلس أنت هنا حسنًا، وقلتم للفقير قف أنت هناك، أو اجلس هنا تحت موطئ قدمي. فهل لا ترتابون في أنفسكم، وتصيرون قضاة أفكارٍ شريرة. اسمعوا يا إخوتي الأحباء، أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه. وأما انتم فأهنتم الفقير. أليس الأغنياء يتسلطون عليكم وهم يجرونكم إلى المحاكم” (يع 2: 1-6).
V ما هو النفع الذي يعود عليك بتكريمك (محاباتك) للغني؟ هل لأنه أكثر استعدادًا لإبقاء محبة الآخرين له؟ فنقدم المعروف لمن نتوقع منهم أنهم سيوافوننا عنه. إنه يلزمنا أن نفكر بالأكثر فيما يخص الضعفاء والمحتاجين لأننا بسبب هؤلاء نترجى الجزاء من الرب يسوع، الذي في مثال وليمة العرس (لو ١٤: ١٢-١٣) قدّم لنا صورة عامة للفضيلة. فقد طلب منا أن نقدم أعمالنا بالأكثر لمن ليس في قدرتهم ردها لنا[438].
القديس أمبروسيوس
V الجميع عند الله متساوون، إنما تسمو منزلة كل واحدٍ منهم حسب إيمانه، وليس حسب أمواله.
القديس أغسطينوس
V كثيرون ينتهرونني قائلين: أنت دائمًا تُضيِّق على الأغنياء، وهم بالتالي يُضيِّقون على الفقراء.
حسنًا إنني أُضيِّق على الأغنياء، أو بالحري ليس على الأغنياء، بل على الذين يُسيئون استخدام الأموال. فأنا لا أهاجم أشخاصهم بل جشعهم. فالغِنَى شيء، والجشع شيء آخر، وجود فائض شيء والطمع شيء آخر.
هل أنت غني؟ أنا لا أمنعك من هذا. كن غنيًا. هل أنت جشع؟ إنني أتوَعَّدك… إنني لن أسكت.
هل تهاجمني بسبب هذا؟ إنني مستعد أن يُسْفَك دمي، لكنني أريد أن أمنعك عن أن تخطئ. إنني لا أُكِنُّ لك بغضة، ولا أشنّ عليك حربًا، إنما أريد أمرًا واحدًا، هو نَفْع المستمعين إليَّ.
إن الأغنياء هم أولادي، والفقراء أيضًا أولادي. إن رَحمًا واحدًا (المعموديّة) تَمَخَّض بهم بشدة. فالكل هم نسل لمن تَمَخَّض بهم. فإن كنتَ تَكيل الإهانات للفقير، فإنني أَتَوَعَّدك لأن الفقير في هذه الحالة لا تحل به خسارة مثلك. لأنه لا يسقط في الخطأ بل ما يصيبه من خسارة هو مجرد فقدانه المال، أمَّا أنت فكغني تلحق بك الخسارة في روحك[439].
القديس يوحنا ذهبي الفم
V قيل إنّ الوالي أراد مرةً أن يرى أنبا بيمين ولكنّ الشيخ رفض ذلك، فقبض الوالي على ابن أخته وحبسه كأنه فاعل شرٍّ قائلاً: إذا جاء الشيخ وسألني بخصوصه سأطلقه. فجاءت أخته إليه وقرعت على بابه باكيةً، فلم يُجبها البتة. فوبّخته قائلةً: يا قاسي القلب، يا حديدي الأحشاء، ارحمني فإنه وحيدي وليس لي سواه! فقال لها: بيمين لم يلد أولادًا، فانصرفت. وسمع الوالي بذلك فقال: وإن سألني ولو بالكتابة فسأطلقه. ولكنّ الأب بيمين أرسل إلى الوالي قائلاً: افحص قضية الشاب حسب القانون، فإن كان مستحقًا للعقوبة فليُعاقَب، وإلاّ فافعل كما ترى. فتعجّب الوالي من فضيلته، وأطلق سراح الشاب.
V حدث مرةً أنّ الوالي قبض على واحدٍ من بلدة أنبا بيمين الأصلية، فذهب كثيرون إلى الشيخ متوسلين إليه أن يتوسط في إطلاق سراحه، فقال لهم: اتركوني ثلاثة أيام ثم أذهب. ثم صلَّى القديس للرب قائلاً: لا تعطني يا رب هذه النعمة (أمام الوالي)، وإلاّ فإنهم لن يَدَعوني أمكث في هذا المكان. ثم ذهب الشيخ ليتشفع عند الوالي الذي أجابه: هل تتشفع أيها الأب من أجل لص؟ ففرح الشيخ لأنه لم يُمنح هذه النعمة.
فردوس الآباء
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من هو ليس غنيًا في نفسه لا يمكن أن يكون غنيًا، كما أنه لا يمكن أن يكون فقيرًا من هو ليس بفقيرٍ في ذهنه. فإن كانت النفس هي أسمى من الجسد، فالأعضاء الأقل سُموًا ليس لها سلطان تؤثّر به حتى على ذاتها، أمّا ما هو أسمى فإنه يؤثر عليها ويغيِّرها]، كما يقول: [لا نفع للمال إذا كانت النفس فقيرة، ولا ضرر من الفقر إن كانت النفس غنية[440].]
ويُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على المرأتين اللتين تطحنان على الرحى فتُؤخذ الواحدة وتترك الأخرى قائلاً: [يبدو أن هاتين المرأتين تشيران إلى الذين يعيشون في فقر وتعب، فحتى هؤلاء يوجد بينهم اختلاف كبير. البعض منهم يحتملون الفقر بنضوجٍ وقوةٍ في حياة فاضلة، والآخر لهم شخصيّات مختلفة إذ يسلكون بدهاء في حياة شرّيرة دنيئة[441].]
“من يحتقر قريبه يخطئ،
ومن يرحم المسكين فطوبى له” [ع 21]
من يستخف بأخيه في كبرياء يخطئ، أما من يرحم المسكين، فإذ لا ينتظر منه مكافأة، ينال شركة الحياة المطوَّبة، لأنه يمتثل بالله الرحوم، إله المساكين والمطرودين والمرذولين والذين ليس لهم من يسأل عنهم.
V إن كان ملكوت الله للمساكين، فمن هو أغنى منهم؟
القديس أمبروسيوس
- نهاية الشر
“أما يضل مخترعو الشر؟!
أما الرحمة والحق فيهديان مخترعي الخير” [ع 22]
الذين يتفننون في الشر يخطئون الطريق، أما الرحمة والحق فيقودان المهتمين بالخير في الطريق الملوكي.
V ليس شيء يجعلنا مساوين لله سِوى فعل الصلاح (الرحمة).
V لنأتِ بأنفسنا وأولادنا وكل من لنا إلى مدرسة الرحمة، وليتعلَّمها الإنسان فوق كل شيء، فالرحمة هي الإنسان… لنحسب أنفسنا كمن هم ليسوا أحياء إن كنا لا نظهر الرحمة بعد![442]
V المحبَّة (الرحمة) كما لو كانت أسمى أنواع الصناعة، وحامية لمن يمارسها. إنها عزيزة عند الله، تقف دائمًا بجواره تسأله من أجل الذين يريدونها، إن مارسناها بطريقة غير خاطئة!…
إنها تشفع حتى في الذين يبغضون! عظيم هو سلطانها حتى بالنسبة للذين يُخطئون!
إنها تحل القيود، وتبدِّد الظلمة وتُطفئ النار، وتقتل الدود، وتنزع صرير الأسنان.
أمامها تنفتح أبواب السماوات بضمان عظيم، وكملكة تدخل، ولا يجسر أحد الحُجَّاب عند الأبواب أن يسألها من هي، بل الكل يستقبلها في الحال.
هكذا أيضًا حال الرحمة، فإنَّها بالحق هي ملكة حقيقيّة، تجعل البشر كالله. إنها مجنحة وخفيفة لها أجنحة ذهبيّة تطير، بها تبهج الملائكة جدًا[443].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- العمل والتعب
“في كل تعب منفعة،
وكلام الشفتين إنما هو إلى الفقر” [ع 23]
الله لا ينسى تعب المحبة، ولا يحرم إنسانًا من ثمرة جهاده، أما الذي يتكلم ولا يعمل، فيسير في طريق الفقر ولا ينال شيئًا.
V أن تعرف الصلاح هذا لا يكفي لبلوغ الطوباوية، إن كان أحد لا يضع الصلاح موضع الممارسة بالعمل! التقوى في الله هي البدء العملي للمعرفة[444].
القديس ديموديوس الضرير
V التقوى في الله هي البداية (للتمييز). إنها تعمل كينبوعٍ ومصدر لإدراك الإلهيات حسب إنساننا الداخلي، حتى نرى النور الحقيقي، ونسمع الوحي الإلهي السري، وننتعش بخبز الحياة، وننال رائحة المسيح، ونتعلم أسلوب هذه الحياة. عندما تكون لنا التقوى تتحالف حواسنا معنا، فلا ترى عيوننا الشر ولا ينطق لساننا به[445].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V يخبرك أحكم رجل، أي سليمان، قائلاً: “أعطوا مسكرًا لهالكٍ، وخمرًا لمُرّي النفس، يشرب وينسى فقرهُ ولا يذكر تعبهُ بعدُ” (أم 31: 6-7). بمعنى أن أولئك الذين قد صاروا في ضيق الحزن والأسى بسبب أعمالهم الماضية، أسندهم بأفراح المعرفة الروحية بوفرة، وذلك مثل “خمرٍ تفرّح قلب الإنسان، لإِلماع وجههِ أكثر من الزيت، وخبز يسند قلب الإنسان” (مز 104: 15). هؤلاء أصلحهم بالشرب القوي لكلمة الخلاص، لئلا يغرقوا في الحزن المستمر، ويسقطوا في اليأس الذي للموت، لئلا يبتلعوا من الحزن المفرط (2 كو 2: 7). أما الذين لا يزالوا في برود واستهتار، غير مضروبين بالحزن القلبي، هؤلاء نقرأ عنهم: “كلام الشفتين إنما هو إلى الفقر” (أم 14: 23).
هكذا نتجنب بكل حرص ممكن الانتفاخ بالمجد الباطل، وبهذا نصير شركاء مع ذاك الذي يمدحه النبي القائل: “فضتهُ لا يعطيها بالربا” (مز 15: 5). لأن كل من يوزع كلمات الله بدافع محبة مديح الناس… يكون كمن يعطي أمواله بالربا، ويستحق ليس فقط عدم المكافأة بل عقابًا شديدًا[446].
الأب نسطور
V يقول ربنا يسوع المسيح: “مستحق طعامه” – ليس لكل واحد على الإطلاق وكيفما اتَّفق، بل الفاعل فقط (مت 10 :10)، ويأمر الرسول بولس أن نتعب ونعمل بأيدينا ما هو صالح لكي يكون لنا ما نشارك به المحتاج (أف 4: 28). يتضِّح من هذا أنه يجب علينا أن نعمل باجتهاد، لأنه لا يسوغ لنا أن نتَّخذ العبادة حجَّة للبطالة والهروب من المسئولية. بل علينا أن نجعلها موضوعًا للجهاد والأتعاب الجمَّة، والصبر على المضايق، لكي يتهيَّأ لنا نحن أيضًا أن نقول: “في تعبٍ وكدٍ، في أسهار مرارٍا كثيرة، في جوع وعطش” (2 كو 11: 27). مثل هذا المنهج ينفع لا لإماتة الجسد فقط، بل ولممارسة محبَّة القريب أيضًا، لكي نسند الإخوة المحتاجين، ونقدِّم لهم الكفاف على أيدينا بموجب ما علَّمه الرسول في سفر الأعمال بقوله: “في كل شيء أريتكم أنه هكذا ينبغي أنكم تتعبون (بأيديكم) وتعضدون الضعفاء” (أع 20: 35). وأيضًا: “بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه، ليكون له أن يعطي من له احتياج” (أف 4: 28). وهكذا تستحق أن تسمع قوله: “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المُعدّ لكم منذ إنشاء العالم، لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني…” (مت 25: 34).
وما بي حاجة أن أصف لكم جسامة شرّ البطالة في حين أن الرسول أوصى صريحًا بأنه: “إن كان أحد لا يشتغل فلا يأكل” (2 تس 3: 10). فكما أن القوت اليومي ضروري لكل إنسان كذلك ضروري له الكد بحسب طاقته.
لم يكتب سليمان عبثًا في مديح المرأة النشيطة: “إنها لم تأكل خبز الكسل” (أم 31: 27). ويقول الرسول أيضًا عن نفسه: “ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحدٍ، بل كنا نشتغل بتعبٍ وكدٍ ليلاً ونهارًا لكي لا نثقل على أحدٍ منكم” (2 تس 3: 8)، مع أنه كان له السلطان كمبشِّر بالإنجيل أن يعيش من الإنجيل (1 كو 9: 4، 14).
يجمع الرب بين الكسل والشرّ، إذ قال: “أيها العبد الشرِّير الكسلان (مت 25: 26). على أن سليمان الحكيم لم يثنِ فقط على العامل بما ذكرنا (أم 31: 27)، بل وبَّخ الكسلان، إذ شبَّهه بأدنى الحيوانات قائلاً: “اذهب إلى النملة أيها الكسلان” (أم 6:6). لذا يجب أن نخشى من أن نُوبَّخ نحن كذلك في يوم الدينونة، لأن الذي وهبنا القدرة على العمل، يطلب منَّا أعمالاً تناسب قدرتنا هذه. فإنه قال: “من أودِع كثيرًا يُطالب بأكثر” (لو 12: 48).
وبما أن البعض يستنكف من العمل بحجَّة التفرغ للصلوات وترنُّم المزامير، فعلى مثل هؤلاء أن يعلموا أن لكل شيءٍ وقتًا خاصًا به، كما قال الجامعة: لكل أمرٍ أوان (جا 3: 1) [447].
يجب علينا العمل قدر الإمكان لنتقاسم الموارد مع الذين يفتقرون إليها… لا عذر للمتكاسل الذي يعيش في البطالة بينما هو قادر على العمل. ليتشبَّه بتلك الأسماك التي تقطع البحار بطريقة عجيبة طلبًا للطعام[448].
القدِّيس باسيليوس الكبير
- غنى المعرفة
“تاج الحكماء غناهم،
تقدم الجهال حماقة” [ع 24]
يُكرَّم الحكيم بتاج غنى المعرفة الحقيقية التي لا يُمكن سلبها منه، أما الجاهل فيزداد حماقة ويفقد كل كرامة.
- الشهادة الأمينة
“الشاهد الأمين منجِّي النفوس،
ومن يتفوه بالأكاذيب فغش” [ع 25]
أعطى الكتاب المقدس بعهديه أهمية خاصة للشهادة، فلا يليق بالمؤمن أن ينطق بشهادة زور، بل يشهد بالصدق. فمن جانب بكونه ابنًا لله، وسفيرًا له، يلتزم بالحق ويبغض الكذب. هذا والشهادة الصادقة تنقذ الأبرياء المتهمين ظلمًا، بينما قد تدفع شهادة الزور إلى قتل الأبرياء.
استخدمت إيزابيل الشريرة شاهديّ زور ضد نابوت اليزرعيلي لكي تقتله وترث كرمه الملاصق للقصر الملكي (1 مل21).
- مخافة الرب
“في مخافة الرب ثقة شديدة،
ويكون لبنيه ملجأ” [ع26]
يحمل سفر الأمثال ككل خطًا خفيًا، هو أن المؤمن في حاجة إلى روح الله القدوس الذي يهبهه مخافة الرب، فيمارس حياة التقوى، ويتمتع بثقةٍ عظيمةٍ في الله قائد حياته، ويجد فيه ملجأ من كل محاربات عدو الخير وشهوات الجسد ومحبة العالم الشرير.
من يتمسك بالمخافة الإلهية تحصِّنه هو ونسله من بعده، فمن هو أمين مع الرب يتمتع برعاية الله الفائقة. مخافة الرب هي عجلة القيادة للنفس، يهبها روح الله القدوس لنا، القادر وحده أن يدخل بنا من مجدٍ إلي مجدٍ، ويهبنا نعمة فوق نعمة، خلال شركتنا مع رب المجد يسوع القدوس. تدخل بنا مخافة الرب إلي الطريق الملوكي، فلا ننحرف نحو الخطية، ولا إلي البرّ الذاتي. تحفظنا من الضربات الشمالية واليمينية، حتى ندخل إلي حضن الآب السماوي القدوس.
V يحث خوف الرب النفس على حفظ الوصايا، وعن طريق حفظ الوصايا يُشيد منزل النفس… ليتنا نخاف الرب ونُشيِّد منازل لأنفسنا، حتى نجد مأوى في الشتاء حيث المطر والرعد، لأن من لا منزل له يعاني من مخاطر عظيمة في وقت الشتاء.
الأب دوروثيؤس
V مخافة الرب تحوي كل تلك المتطلبات (للفرح المستمر). لأن الإنسان الذي يخاف الرب كما يليق، ويثق فيه، يجمع كل مصادر السعادة، ويقتني الينبوع الكامل للبهجة. كما أن نقطة ماء تسقط في محيط متسع سرعان ما تختفي، هكذا مهما حلّ بمن يخاف الرب يتبدد ويزول في محيط الفرح الهائل.
حقًا إنه لأمر عجيب للغاية، فإنه مع وجود ما يسبب الحزن تجد الإنسان متهللاً. فإنه إذ لا يوجد شيء ما يجلب حزنًا، فإن هذا الأمر يكون بلا قيمة عنده مقابل تمتعه بالفرح الدائم[449].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V عندما تخاف العقوبة التي تهدد، تتعلم أن تحب المكافأة الموعود بها. وهكذا خلال الخوف من العقوبة تحرص أن تسلك الحياة الصالحة، وبالسلوك في الحياة الصالحة تطلب ضميرًا صالحًا، حتى أخيرًا بالضمير الصالح لا تعود تخاف من أية عقوبة. لذلك إن أردت ألا تخاف، تعلم أن تخف[450].
القديس أغسطينوس
V خف الرب واحفظ وصاياه. فبحفظ وصايا الله تصير قويًا في كل عملٍ، وتصير أعمالك أسمى من كل نقدٍ. خف الرب، وعندئذ تفعل شيئًا حسنًا[451].
هرماس
مخافة الرب ينبوع حياة للحيدان عن أشراك الموت [ع 27]
V من يقتني المخافة الربانية إنما ينعم بسكنى الرب فيه، فيحمل ينبوع حياة تفيض في أعماقه، وتروي كثيرين، وتخلص نفسه من فخاخ الموت التي ينصبها العدو لها.
V اِخش الرب، واِحفظ وصاياه التي تقوّيك في كل أمورك، فلا يكون لأعمالك مثيل… لا تخف الشيطان إذا خشيت الرب، فإن خشيتك لله تعطيك سلطانًا على الشيطان[452].
هرماس
V من يخاف الرب يعتزل الخطأ، ويوجه طرقه نحو الفضيلة. ما لم يخف الإنسان الرب يعجز عن جحد الخطية[453].
القديس أمبروسيوس
- القيادة الشعبية
“كثرة الشعب زينة الملك،
وفي عدم القوم هلاك الأمير” [ع 28]
إن احتل إنسان ما مركز قيادة روحية أو مدنية أو عسكرية… فلا ينتفخ ولا يتكبر، فإن الملك لا يُحسب ملكًا بدون شعب، ولا للأمير كرامة بدون القوم المحيطين به. القائد الناجح هو الذي يكسب الجماهير بحبه العملي وخدمته لهم وتواضعه أمامهم، فينال كرامة ومجدًا.
كان القديس يوحنا الذهبي الفم يقول للكاهن: “أنت أب كل البشرية”، فكهنوته وقيادته إنما يكمن في اتساع قلبه نحو كل البشرية. كما كان يطالب للأساقفة ألا يفتخروا بمراكزهم، فالأسقف لا كيان له كأسقفٍ بدون الشعب، كرامته هي في كرامة شعبه.
- طول الأناة
“بطيء الغضب كثير الفهم،
وقصير الروح معلي الحمق” [ع 29]
V إن كان الغضب يُعكر العينين، أو يفقد الإنسان بصيرته الداخلية، فإن بطيء الغضب ينعم بالفهم، ويدرك الحق، أما المتسرع في غضبه، فيزداد حماقة وجهالة.
V أما ترون المصارعين، كيف يتدربون حين يملأون الحقائب رملاً؟ لكنكم لستم في حاجة إلى ممارسة هذا، فالحياة مملوءة بأمور تجعلكم تتدربون وتصيرون أقوياء… فقد قيل: “الطويل الأناة يزخر الحكمة، وأما الصغير الروح فأحمق تمامًا”[454].
القديس يوحنا الذهبي الفم
V لأن كل إنسان يعرف أن “الصبر” يأخذ اسمه من الآلام والاحتمال، بهذا يتضح أنه لا يُمكن أن يدعى إنسان صبورًا إلا ذاك الذي يحتمل كل ما يحل به من متاعب دون أن يتضايق. هكذا لم يمدح سليمان مثل هذا الإنسان بغير سبب، إذ يقول: “البطيءُ الغضب خير من الجبار، ومالك روحهِ خير ممَّن يأخذ مدينة” (أم 32:16). وأيضًا “بطيءُ الغضب كثير الفهم، وقصير الروح معلِّي الحمق” (أم 14: 29).
إذا انهزم إنسان أمام خطأ واشتعلت فيه نيران الغضب، وجب عليه ألا يعتبر أن مرارة الإهانة الموجهة إليه هي سبب خطيته، بل بالأحرى ظهور ضعفه الخفي، وذلك طبقًا لمثل ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، الذي تحدث فيه عن المنزلين (مت 7: 24، 26). أحدهما مؤسس على الصخر والآخر على الرمل. فقد قال عن الاثنين إن عواصف المطر والسيول والرياح هبت عليهما بالتساوي، لكن المؤسس على الصخر والصلب لم يتأثر على الإطلاق من قسوة الصدمة، أما الذي تأسس على الرمل الناعم المتحرك فللحال انهار وسقط، والسبب في سقوطه بالتأكيد لم يكن اصطدامه بالعواصف والسيول، بل لأنه بُنيَ في غير حكمة على الرمل[455].
الأب بيامون
- الجسد
“حياة الجسد هدوء القلب،
ونخر العظام الحسد” [ع 30]
V ليعلم الحاسدون أنه إذا استبدَّ بهم هذا الحسد المدمر الدفين، فإنهم يقضون على كل ما هو خير وصالح في داخلهم، لذلك قيل بالكتاب: “حياة الجسدِ هدوءُ القلبِ، ونَخْرُ العظامِ الحَسَد” (أم 14: 30).
الجسد هنا يرمز إلى الضعف والوهن، والعظام ليست إلا الأفعال الباسلة القوية[456]…
حسنًا يذكر سفر الأمثال أ: “حياة الجسد هدوء القلب”.
إننا إذ نصون براءة الذهن، فإنه حتى الأفعال التي تبدو واهنة في الظاهر تتقوى بعض الأحيان. ولذلك يضيف السفر بحق: “ونخر العظام الحسد”. إن رذيلة الحسد تُصَيِر الأفعال التي تبدو مؤثرة في أعين الناس وكأنها لا شيء في عيني الله. إن نخر العظام الذي يسببه الحسد يعنى أن بعض الأشياء وإن بدت مؤثرة وفعالة إلا أنها تنتهي إلى لا شيء[457].
البابا غريغوريوس (الكبير)
V يلزمنا في كل تصرفاتنا أن نتحرر من الحقد الخفي، هذا يكون بالأكثر في اختيار الأسقف، الذي حياته هي نموذج لكل القطيع. الهدوء والحكم الرزين يُستدعيان إن كنتم تفضلون من هو فوق الكل مُختارًا من الجميع ويشفي كل نزاع. “الإنسان الوديع طبيب القلب” يعلن الرب في الإنجيل عن نفسه أنه طبيب القلب، حين يقول: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مت 9: 12، مر 17: 2، لو 5: 31)[458].
القديس أمبروسيوس
- الاهتمام بالمساكين
“ظالم الفقير يعير خالقه،
ويمجده راحم المسكين” [ع 31]
V “من يفتري على الفقير يعيِّر خالقه“. هنا توجد خطيتان: افتراء ومقاومة للفقير. لماذا يعير خالقه؟ بالتأكيد لأنه خلقة صانعه، وقد جعله كما لو كان يُمكن بسهولة أن يسقط تحت لسان المفتري. “من يكرم بحق الله يرحم المسكين”.
إن كان الله قد خلق الفقير، لماذا يلزم الحنو عليه؟
لقد سمعت كثيرين يقولون: هل من حاجة إلى الحنو على الفقير هذا الذي كان يمكن لله ألا يجعله فقيرًا ولو كان يحبه؟ إلى متى نلهو بخلاصنا؟ إلى متى نضحك بأمورٍ كان يلزم للشرير المُثقل بها أن يرتعد ويخشى ويرتعب منها؟ اخبرني من الذي قدم له إحسانًا: لعازر أم الغني؟ هذا هو ما يحطمنا حقيقة أننا بسهولة ننزلق في هزلٍ (شرير)[459].
القديس يوحنا الذهبي الفم
- الفضيلة تحمل مكافأتها
“الشرير يُطرد بشره،
أما الصدِّيق فواثق عند موته” [ع 32]
في لحظات الموت ينطلق الشرير وفي صحبته شروره التي ارتكبها تدينه وتبكته. وينطلق البار وفي صحبته إيمانه وحبه وتقواه في الرب، فلا يخشى الموت، ولا يرتبك من اللقاء مع الديان.
في مرارة قال بلعام مشتهيًا لو أنه سلك بروح التقوى، فينطلق مع الأبرار إلى الحياة الأبدية: “لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم” (عد 23: 10). أما إسطفانوس ففي لحظات موته قال: “ها أنا أنظر السماوات مفتوحة، وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله” (أع 7: 56).
V الموت بالنسبة للذين يفهمونه خلود، أما بالنسبة للبلهاء الذين لا يفهمونه فهو موت.
يجب علينا ألا نخاف هذا الموت، بل نخاف هلاك النفس الذي هو عدم معرفة الله. هذا هو ما يرعب النفس بحق!
V يستحيل علينا أن نهرب من الموت بأية وسيلة. وإذ يعرف العقلاء بحق هذا، يمارسون الفضائل ويفكرون في حب الله، ويواجهون الموت بلا تنهدات أو خوف أو دموع، مفكرين في أن الموت أمر محتم من جهة، ومن جهة أخرى أنه يحررنا من الأمراض التي نخضع لها في هذه الحياة.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
- ليس خفي لا يُعلن
“في قلب الفهيم تستقر الحكمة،
وما في داخل الجهال يعرف” [ع 33]
تتجلى الحكمة في قلب الفهيم الذي له روح التمييز، وتصير علة مجده الداخلي. أما الجاهل فيكشف بسلوكه الشرير الغباوة التي ملكت على أعماقه والتي يحاول إخفاءها.
- البر يرفع شأن الأمة
“البرّ يرفع شان الأمة،
وعار الشعوب الخطية” [ع 34]
يشهد التاريخ عبر كل العصور أن الأمم، كما الأفراد، يرفعها البرّ، ويحطمها الشر بفساده. إن كانت الأمم كثيرًا ما تتشامخ بإمكانياتها العسكرية، لكن يبقى التاريخ يشهد لقوة البرّ وقدرته.
لا يوجد مكتوبًا في حروف الناموس (أي الكتاب المقدس) ما هو البرّ، ولكن القلب النقي هو برُّ الإنسان.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
- كرامة الحكيم
“رضوان الملك على العبد الفطن،
وسخطه يكون على المخزي” [ع 35]
إن كان الملوك والرؤساء يطلبون في سفرائهم أن يكونوا أصحاب حكمة ومعرفة، فإن ملك الملوك يقدم الأقنوم الثاني، حكمة الله، ليقيم من المؤمنين سفراء حكماء يليقون بالشهادة لله ورعايته وأمجاده السماوية.
من وحي أمثال 14
مخافتك تقودني إلى كنز حكمتك!
V لتقد مخافتك أعماق قلبي،
فتقيم من نفسي العروس الحكيمة،
التي تبني بيتها بروح الله القدوس،
هيكلاً مقدسًا له.
V مخافتك تفتح لي الطريق الملوكي.
أسلك فيك، ولا اَنحرف يمينًا أو يسارًا.
اَنطلق إليك وأتمتع بالشركة معك أبديًا.
V مخافتك تقدس كلماتي،
فتحمل روح الحب والحنو واللطف.
تهبني الجدية في العمل بلا انقطاع.
V التصق بخائفيك، وأفرح بهم.
أتعلم منهم، واشترك معهم في التسبيح لك!
V مخافتك تقيم من قلبي عرسًا،
فتمتلئ نفسي فرحًا لا ينقطع.
أنعم بالكنز الداخلي وأغتني به.
V مخافتك تسند خيمة حياتي،
فلا تحطمها العواصف والزوابع.
إنما تعبر بي بالمجد، حتى أنطلق إلى المسكن الأبدي.
V مخافتك تهبني روح التمييز،
فلا يخدعني طريق الموت.
أطلب فرح الروح الداخلي،
لا الضحك المملوء استهتارًا.
بروح التمييز أُفصل كلمة الحق باستقامة.
بروح التواضع أحيد عن الشر.
بروح الحب لا يتسلل الغضب إلى قلبي.
بروح الحكمة أتمتع بالمعرفة الصادقة لا الحماقة.
بروح الحق لا أحابي غنيًا، ولا أستخف بفقيرِ
بروح القداسة لا أحمل شهادة زورٍ،
ولا أنطق بكلمة كذبٍ أو غشٍ أو خداعٍ.
V مخافتك هي ملجأي،
فيها أتحصن وأستقر.
فيها أتمتع بينبوع الحياة، ولا أخشى الموت.
فيها أشتهي أن أخدم كل أحدٍ،
وأطلب بنيان كل نفسٍ بشرية.
فيها أكتسي ببرك الإلهي،
فيسندني كل أيام حياتي،
حتى أعبر وأنطلق إليك،
أراك وجهًا لوجهٍ،
وأحيا معك إلي الأبد!
تفسير أمثال 13 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 15 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |