تفسير سفر الأمثال ١٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع عشر
بيت المحبة

خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، ولا يمكن للصورة أن تشبع وتسعد ما لم تحمل سمات الأصل: الحب! بهذا الحب الداخلي لا تعاني النفس من فراغٍ، بل تبقى ينبوع يفيض حبًا بلا توقف. هذا ما ينعم به المؤمن الحقيقي حتى وإن كان متوحدًا في البرية أو سائحًا لا يرى وجه إنسان جسديًا، لكنه يحمل كل البشرية في قلبه.

هذا هو أساس الأسرة السعيدة، حيث يتبارى كل الأعضاء في عطاء النفس لبقية الأعضاء قبل العطاء المادي. وهذا هو أساس الكنيسة التي لا تنشغل بالأنشطة الكثيرة حتى تقديم ذبائح وعبادات للرب بقدر ما تنشغل بتقديم الحب لله والناس، الذي هو ثمرة روح الله القدوس.

  1. الكنيسة والحب العملي1.
  2. الحكيم يتمتع بالميراث 2.
  3. الحب والتأديب 3.
  4. ليس من شركة مع الأشرار4.
  5. تكريم كل عضو في الكنيسة5-6.
  6. لتكن لغة المؤمن لائقة به7.
  7. العطاء ناموس بيت المحبة8-9.
  8. قبول الانتهار والانتفاع به10-11.
  9. الحماقة مدمرة 12.
  10. مقابلة الخير بالخير13.
  11. التدقيق14.
  12. العدالة قانون البيت15.
  13. طلب الحكمة16-17.
  14. الحذر من الضمان بلا حكمة18.
  15. العصيان والكبرياء19-20.
  16. ينبوع الفرح في بيت المحبة21-22.
  17. الرشوة 23.
  18. الحكمة والمعرفة24-28.

الكنيسة والحب العملي

“لقمة يابسة ومعها سلامة،

خير من بيت ملآن ذبائح مع خصام” [ع 1]

واضح أنه يتكلم عن مجتمع كنسي “ملآن ذبائح“، فإن كانت كنيسة العهد القديم قد انشغلت بأنواعٍ كثيرة من الذبائح من بينها ذبيحة السلامة (لا 3: 1-17) التي هي “رائحة سرور للرب” (لا 13: 5، 16)، فموضوع سرور الله هو مصالحة الإنسان مع خالقة كما مع إخوته، أي الحب العملي.

هكذا يليق بكل مؤمنٍ إذ يقدم ذبيحة شكر لله لكن لن يُسر الله بها، مادام يحمل في قلبه كراهية من جهة أخيه. كثيرًا ما ينشغل الإنسان أو الأسرة أو الكنيسة بأنشطة ضخمة، لكن بلا سلام داخلي، إذ يليق أن ينسحب الشخص إلى حين، ليجلس في هدوءٍ مع الله، يغرف من الحب الإلهي ويفيض قلبه بالحب من أجل خلاص كل البشرية.

لقد سحب الله موسى من وسط قصر فرعون بكل أنشطته وولائمه وإمكانياته، ليعيش في برية قاحلة لمدة 40 عامًا يتمتع بلقمة يابسة ومعها سلامة مع الله عن أن يعيش في قصر فرعون وسط ولائم وفيرة مع خصام.

وانسحب إيليا إلى جوار نهر كريت (1 مل 17)، وترك الكل يعاني من القحط ثلاث سنوات ونصف، ليختبر الجميع اللقمة اليابسة، ويتصالحوا مع الله كما مع أنفسهم، عن أن يتمتعوا بالخيرات مع خصام.

لننسحب إلى حين من الانشغال بالأنشطة الكنسية الكثيرة لنجلس مع الله بكوننا أهل بيت الله، فننعم بالسلام معه، وينعكس هذا السلام على علاقتنا بإخوتنا، وحتى على الأنشطة الكنسية ذاتها.

يقول الرسول: “فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح” (رو 5: 1). “اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 12: 14).

V      السلام الحقيقي علوي. مادمنا مرتبطين بالجسد نحمل نيرًا لأمور كثيرة تتعبنا. ابحثوا إذن عن السلام, وتحرَّروا من متاعب هذا العالم. اقتنوا ذهنًا هادئًا، ونفسًا هادئة غير مرتبكة, لا تثيرها الأهواء، ولا تجتذبها التعاليم الباطلة, فتتحدَّى قبول إغراءاتها حتى يمكنكم أن تنالوا “سلام الله الذي يفوق كل فهمٍ يحفظ قلوبكم” (في 4: 7). من يطلب السلام يطلب المسيح, لأنه هو نفسه سلامنا, الذي يجعل الاثنين إنسانًا جديدًا واحدًا (أف 2: 14), عاملاً سلامًا بدم صليبه، سواء علي الأرض أم في السماوات[546].

القديس باسيليوس الكبير

V      في بيت الله، في كنيسة المسيح، يسكن البشر بفكرٍ واحدٍ، ويستمرون في انسجامٍ وبساطةٍ.

V      إنهم يواظبون معًا في الصلاة، معلنين بإلحاح وباتفاق صلواتهم أن الله يسكن مع من هم بفكرٍ واحدٍ في البيت. يدخل إلى البيت الإلهي فقط الذين لهم اتفاق في صلواتهم.

V      أوصانا الله أن نكون صانعي سلام وفي وحدة وبفكرٍ واحدٍ في بيته… ويريدنا إذ وُلدنا ثانية أن نستمر هكذا. إذ صرنا أولاد الله نظل في سلام الله، وإذ صار لنا الروح الواحد يكون لنا أيضًا القلب الواحد والفكر الواحد.

لا يقبل الله ذبيحة المخاصم، بل يوصيه أن يترك المذبح ويتصالح أولاً مع أخيه، حيث يُسر الله بصلوات صانع السلام.

 الشهيد كبريانوس

V      لأن الرب يُسكن البشر بفكر واحد في بيت. من ثم يمكن للحب وحده أن يدوم دون انزعاج وسط من لهم هدف واحد وفكر واحد، يريدون ويرفضون معًا نفس الأمور.

 الأب يوسف

  1. الحكيم يتمتع بالميراث

“العبد الفطن يتسلط على الابن المخزي،

ويقاسم الإخوة الميراث” [ع 2]

يقارن بين حكيم يعرف كيف يدبر الأمور حسنًا، وبين ابن سيِّئ التصرف. فمن أجل حكمة العبد وأمانته، قد يسمح الإنسان أن يجعله شريكًا مع أبنائه في الميراث، كأحد أعضاء أهل بيته، بينما قد يمنح القليل للابن الغبي غير القادر على التصرف الحسن.

لقد كان في فكر إبراهيم أن يقدم كل ما له ميراثًا لخادمه الأمين الحكيم اليعازر (تك 15: 2)، لو لم يهبه الله اسحق. وثق إبراهيم في العبد وسلمه كل أمور بيته، أما أبشالوم الابن فقد تمرد على أبيه داود، ولم يكن يطلب أقل من رقبته.

  1. الحب والتأديب

“البوطة للفضة،

والكور للذهب،

وممتحن القلوب الرب” [ع 3]

الضيقات والآلام بالنسبة للمؤمنين هي كالبوطة والكور لتنقية الذهب والفضة. وكما يقول المرتل: “لأنك جربتنا يا الله، مَحصتنا كمحص الفضة، أدخلتنا إلى الشبكة. جعلت ضغطًا على متوننا. ركبت أناسًا على رؤوسنا”. (مز 66: 10-12) كما يقول الرب لبيت يعقوب: “هأنذا قد نقيتك وليس بفضةٍ. اخترتك في كورٍ المشقة. من أجل نفسي، من أجل نفسي أفعل، لأنه كيف يُدنس اسمي، وكرامتي لا أعطيها لآخر” (إش 48: 10-11).

يعرف الصائغ درجة الحرارة اللازمة للذهب الذي بين يديه، والمدة التي يسمح بها للذهب في البوطة. وتبقى عيناه متطلعتان إلى الذهب في البوطة، لا ينشغل بشيء آخر، حتى يصبه من البوطة، نقيًا من الشوائب. هكذا لن يسمح الله لنا بالتجارب أكثر مما نحتمل، إنما يعلم تمامًا ما هو لنقاوتنا وبنياننا، وتبقى عيناه وسط الضيق، يهتم بتقديسنا وتنقيتنا من كل شائبة.

V      نحن نعلم أنه حتى القديسين يسمح الله أن تسقط أجسادهم تحت سلطان الشيطان وتحل بهم نكبات كثيرة، ذلك من أجل الهفوات (لتأديبهم)، لأن الرحمة الإلهية لا تطيق أن يكون فيهم وسخ أو دنس إلى يوم الإدانة، فينقيهم من كل شائبة، مُقدمًا إياهم إلى الأبدية مثل الذهب أو الفضة المصفّاة، غير محتاجين بعد إلى تنقية، فيقول الله: “وأنقي زغلكِ… وأنزع كل قصديركِ… بعد ذلك تُدعَين مدينة العدل القرية (المدينة) الأمينة” (إش 1: 25-26). وأيضًا كما تُمتحن الفضة في البوطة والذهب في الكور، هكذا يَمتحن الرب القلوب (أم 17: 3). وأيضًا “لأن الذي يحبُّهُ الربُّ يُؤَدّبهُ ويجلد كل ابن يقبلهُ” (عب 12: 6)[547].

الأب سيرينوس

V      ما أمجد الآلام! بها نتشبه بموته!

كما يُلقي ممحص الذهب بقطعة الذهب في الفرن لتحتمل النار إلى حين حتى يراها قد تنقت، هكذا يسمح الله بامتحان البشرية بالضيقات حتى تتنقى وتحصل على نفعٍ عظيمٍ… فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب. لأنه كما أن ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يترك فيه الذهب في الفرن، فيُخرجه في الوقت المعين، ولا يتركه بعد في النار، حتى لا يفسد ولا يحترق، هكذا كم بالأكثر يعلم الله ذلك. فعندما يرانا قد تنقينا بالأكثر، يعتقنا من تجاربنا حتى لا ننطرح ونُطرد بسبب تزايد شرورنا.

عندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه، لا نتذمر ولا تخور قلوبنا، بل نتحمل الله الذي يعرف هذه الأمور بدقةٍ، حتى يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يُسر، إذًا يفعل هذا بهدفٍ لفائدة المجربين، لذلك يوصينا الحكيم قائلاً بأن نخضع لله في كل الأمور، لأنه يعرف تمامًا متى يخرجنا من فرن الشر (حكمة يشوع 1 :1-2).

نخضع له على الدوام، ونشكره باستمرار، محتملين كل شيءٍ برضا، سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من أنواع البركات.

فالطبيب ليس فقط يسمح لنا بالاستحمام (في الحمامات)… أو الذهاب إلى الحدائق المبهجة، بل وأيضًا عندما يستخدم المشرط والسكين هو طبيب!

والأب ليس فقط عندما يلاطف ابنه، بل وعندما يؤدبه ويعاقبه… هو أب!

وإذ نعلم أن الله أكثر حنوًا من كل الأطباء، فليس لنا أن نستقصي عن معاملته، ولا أن نطلب منه حسابًا عنها، بل ما يحسن في عينيه يفعله. فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا لأنه بكلٍ من الطريقين يود ردنا إلى الصحة، ويجعلنا شركاء معه، وهو يعلم احتياجاتنا المختلفة، وما يناسب كل واحدٍ منا، وكيف، وبأية طريقة يلزمنا أن نخلص.

لنتبعه حيثما يأمرنا، ولا نفكر كثيرًا إن كان يأمرنا أن نسلك طريقًا سهلاً وممهدًا أو طريقًا صعبًا وعرًا[548].

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      إن كنتَ ذهبًا، فلماذا تخاف النار، فإنه في الكور يحترق الزغل وتخرج أنت نقيًا؟ وإن كنت حنطة، فلماذا تهاب الدرَّاس، مع أنك لا تظهر على ما أنت عليه إلاَّ به حيث يُنتزع عنك “التبن” ويظهر أصلك وشرفك؟

القديس أغسطينوس

  1. ليس من شركة مع الأشرار

“الفاعل الشر يصغى إلى شفة الإثم،

والكاذب يأذن للسان فسادٍ” [ع 4]

عندما يكتم القلب شرًا في داخله تكون الأذنان على استعداد لسماع صوت عدو الخير، أي لشفة الإثم وكلماته المخادعة، أما إن كان القلب مستقيمًا، فإنه يعرف صوت عدو الخير، ويرفض حتى الحوار معه. بمعنى آخر يليق بنا ألا نلقي باللوم على الشيطان الذي يلقي بشباكه ليصطادنا، بل نلوم قلوبنا التي انحرفت، فصارت مستعدة للتجاوب مع حيل إبليس، والتلذذ بأفكاره الشريرة.

بنفس الطريقة حينما تنبأ الأنبياء الكذبة بالكذب وحكم الكهنة بالشر، تجاوب الشعب الشرير معهم: “الأنبياء بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي هكذا أحب” (إر 5: 31). يجد الإنسان لذة ومتعة حين يلتقي بمن هم على شاكلته، فيتجاوب معهم. فالشخص الكذاب يُسر بمجلس الكذابين، والزاني يتجاوب من أعماقه مع أحاديث الزناة… وهكذا يجد الخاطي ما يبرر به نفسه ويريح ضميره بمشاركته من يمارسون نفس خطيته، ومن جانب آخر فإن الأشرار يسندون بعضهم بعضًا في ممارسة الشر.

  1. تكريم كل عضوٍ

 “المستهزئ بالفقير يعيِّر خالقه،

الفرحان ببلية لا يتبرأ” [ع 5]

يسمح الله بوجود فقراء ومحتاجين وسط البشرية، لكي ما يمارس الإنسان حنوه ومحبته نحو أخيه، فالغني محتاج أن يعطي، والفقير يشكر من أجل موهبة العطاء التي يهبها الله للأغنياء، فيعيش الفريقان بروح الحب والاتفاق والانسجام معًا، والاحترام المتبادل.

يليق بالغني ألا يستخف بالفقير، لأن كثيرًا من الفقراء أغنى من الأغنياء، إذ يقتنون بالإيمان السيد المسيح كنز المعرفة وكل علم في داخلهم، ويعتزون بأبوة الله لهم ككنزٍ ثمين، وتُعد لهم أمجادًا أبدية فائقة. من يستهزئ بالفقير يستخف بهذه العطايا الإلهية المجانية المقدمة للجميع.

V      في الكنيسة يكون الشخص غنيًا، إن كان غنيًا بالإيمان، لأن المؤمن يقتني عالم كامل من الثروات. هل هذا أمر غريب أن المؤمن يملك العالم، مادام يملك ميراث المسيح، الذي هو أثمن من العالم؟ لقد اُفتُديتم بالدم الثمين، هذا يقال بالتأكيد للكل، وليس للأغنياء وحدهم[549].

 القديس أمبروسيوس

V      المستهزئ بالفقير يهين خالقه”. لماذا؟ لأن الله خالق الفقير. من هو قاسٍ، ليس فيه إنسانية، حتى يضحك عوض التزامه بالحنو لأنه يخطئ مثل هذا يُعاقب عليه. هذا الشخص يهلك لأنه يخطئ ضد عناية الله العالية والحكمة[550].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كان الله يسمح لشخصٍ أو لأمةٍ ما ببليةٍ أو ضيقةٍ، فإن من يشمت في بلية الغير يسقط هو ولا يجد سندًا من السماء، لأنه لم يرحم أخاه. كانت خطية أدوم أنه شمت في إخوته حين سقطوا تحت الأسر لتأديبهم. (عو 12-16).

كان القديس أمبروسيوس وهو أسقف يخشى لئلا بعد أن صار مسيحيًا وسيم أسقفًا يهلك بإدانته لخاطئ ما، فيذكر دومًا ضعفاته ويضعها أمام عينيه، لا لييأس وإنما لكي يترفق بالخطاة. يقول:

[أنا أعلم أنني لم أكن مستحقًا أن أُدعى أسقفًا، لأني كرست حياتي للعالم، لكن بنعمتك صرت ما أنا عليه. وأنا بالحقيقة أقل كل الأساقفة، وأدناهم استحقاقًا. لا تسمح لذلك الذي كان ضائعًا قبل دعوته للكهنوت أن يضيع حينما صار كاهنًا.

أولاً هب لي أن أعرف كيف أبكي بكل وجداني الداخلي على الذين يخطئون. هذه أعظم فضيلة، إذ مكتوب: “لا تشمت ببني يهوذا يوم هلاكهم، ولا تفغر فمك يوم ضيقهم” (عو13). هب لي دومًا عندما أعرف خطية إنسانٍ ساقطٍ أن أتألم معه، ولا أوبخه بتشامخ، بل أحزن وأبكي، فببكائي على الغير أبكي على نفسي، قائلاً: “ثامار أبرّ مني” (تك 38: 26)[551].]

“تاج الشيوخ بنو البنين،

وفخر البنين آباؤهم” [ع 6]

ليس من أمر يُفرح السماء عينها مثل الأسرة الحاملة أيقونة السماء، وكل عضو يرى عمليًا في بقية الأعضاء مجده وكرامته وغناه. فالشيخ لا يلفظ بكلمة جارحة ضد الجيل الجديد (بني بنيه)، ولا حتى بفكره، بل يرى فيهم إكليله ومجده. والشاب لا يستخف بالجيل السابق (والديه)، بل بروح الطاعة يكرمه.

الحب العملي والاحترام المتبادل يحوِّل البيت إلى سماء، والأسرة إلى أهل بيت الله، ويتلامس الكل مع وعد السيد المسيح: “لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم” (مت 18: 20)[552]. وحيث يحل السيد المسيح يجتمع الكل معًا كما في السماء من كل الأمم والألسنة والقبائل والشعوب، من كل الثقافات، ومن كل الأعمار، ولا توجد مشكلة وجود هوة بين الأجيال، بل يري كل واحدٍ انعكاس بهاء المسيح في الآخرين.

V      قيل “تاج الشيوخ بنو البنين، ومجد البنين أبوهم“. مجدنا هو أب الكل، وتاج الكنيسة كلها هو المسيح[553].

 القديس إكليمنضس السكندري

  1. لتكن لغة المؤمن لائقة به

“لا تليق بالأحمق شفة السؤدد،

كم بالأحرى شفة الكذب بالشريف” [ع 7]

اختلف البعض في ترجمة الكلمة اليونانية، المترجمة هنا “السؤدد”، فالبعض يترجمها بمعنى الرفعة أو السمو، وآخرون أنها تحمل التشامخ والكبرياء. فإن كان لا يليق بالأحمق أن ينطق بأمورٍ سامية مجيدة، فبالأولى لا يليق بشريفٍ أو حاكمٍ أو قائدٍ أن يُخرج كلمة كذب من شفتيه.

عندما تنبأ شاول وسط الأنبياء، “قال الشعب الواحد لصاحبه: ماذا صار لابن قيس, أشاول أيضًا بين الأنبياء؟” (1 صم 10: 11)، صار هذا مثلاً يُنطق به حينما ينطق أحمق بأمورٍ سامية. أما المثل المضاد لذلك فهو – في رأي البعض – إبراهيم أب الآباء الذي أنكر أن سارة زوجته، فإن مكانته العظيمة ومركزه جعل هذا التصرف غير لائقٍ به (تك 20: 1-13).

  1. العطاء ناموس بيت المحبة

“الهدية حجر كريم في عينيّ قابلها،

حيثما تتوجه تفلح” [ع 8]

إذا ارتبطت الهدية بالحب الداخلي مع التواضع، يكون لها تقديرها الخاص لدى قابلها. يميز الكتاب المقدس بين الهدية والرشوة (أم 17: 24)، الأولى لكسب روح الحب والمودة، أما الثانية لاعوجاج طرق القضاء، أو نوال أمورٍ لا حق لنا فيها، أي غير مشروعة.

هدية يعقوب لعيسو نزعت الغضب، وحب الانتقام من عيسو (تك 33: 4)، وهدية يوناثان لداود كشفت عن تعلق نفسه به، وحبه له كنفسه (1 صم 18: 1-4).

“من يستر معصية يطلب المحبة،

ومن يكرر أمرًا يفرق بين الأصدقاء” [ع 9]

نبدأ كل صلاة جماعية أو أسرية أو فردية (شخصية) بتقديم ذبيحة شكر لله صانع الخيرات “لأنه سترنا“. فإن كان القدوس الذي لا يطيق الخطية يستر علينا لكي ينتشلنا بروح الرجاء من خطايانا، ويدخل بنا إلى مقادسه، كم يليق بأبنائه أيضًا أن يتشبهوا به، فيسترون على إخوتهم بغية تمتعهم بالحياة المقدسة. “المحبة تستر كثرة من الخطايا” (ا بط 4: 8، راجع أم 10: 12).

الستر على الآخرين لا يعني المداهنة ولا التهاون مع الخطية، إنما بروح الحب والتواضع والوداعة يلزم الصلاة من أجل الساقطين لكي يستر الله عليهم وعلينا برجوعنا دومًا إليه. كما يمكن الحديث بهدوء مع الساقطين دون جرحٍ لمشاعرهم.

لعل من أجمل الأمثلة في الحديث مع الخطاة يوناثان النبي وحواره مع داود الملك والنبي لأجل توبته، حيث تحدث معه سرًا بعيدًا عن الأنظار، ومع صراحته وحزمه، فتح أمامه أبواب الرجاء (2 صم 12).

أما من “يكرر الأمر (النميمة)”، أي يُشهِّر بالساقطين، يجول يفضح خطاياهم قدام الغير فهو يحطم الحب!

V      “أنتم ملح الأرض “(مت 5: 13). خواص الملح كثيرة، فهو يجعل التافه لذيذًا، وينزع الرطوبة المولِّدة للنتانة، ويشدد الرخاوة، كذلك أنتم اجتذبوا الناس وشددوا رخاوتهم، وأنذروهم لكي لا يميلوا إلى النفاق.

كما أن الملح يحفظ نفسه وغيره بلا فساد ولا نتانة، هكذا أنتم كونوا مهتمين بنفوس بني البشر لكي لا ينتنوا في الخطية. وقد دعا المحبة ملحًا بقوله: “أنتم ملح الأرض “أي أنتم محبة الأرض. فيجب أن تكونوا محبين لكل الناس، وكونوا في سلام مع بعضكم بعضًا.

ابن الصليبي

V      قيل عن القديس مقاريوس: إنه صار  كما هو مكتوبٌ  إلهًا أرضيًا، فكما أن الله يستر على العالم، هكذا كان أنبا مقاريوس يستر على عيوب إخوته التي كان يراها كما لو لم يكن يَراها، والأشياء التي كان يسمعها، كأنه لم يكن قد سمع شيئًا.

V      قيل عن القديس مقاريوس إنّ شاروبًا كان يلازمه منذ اليوم الذي بدأ فيه حياته النسكيّة في البريّة، وكان يشدِّده ويعطيه قوةً على احتمال النسك، وكان ينمو في ذلك كل يوم، متقدِّمًا في التزيُّن بالفضيلة، حتى إنّ شهرته الحسنة عمّت في ربوع الإمبراطورية الرومانية بأكملها ومناطق الشرق، لأنه في الحقيقة اجتذب إليه كل أحدٍ لأجل الحياة الإنجيلية العملية بسبب الرائحة العطرة لنسكياته السامية، حتى انتزع جمهورًا من الناس من الهلاك فنالوا الحياة الأبدية. وقد منحه ربنا يسوع المسيح موهبة رؤية خطايا الناس مثل زيتٍ موضوعٍ في إناءٍ من زجاجٍ، وكان يستر عليها كلها متشبِّهًا بالله.

فردوس الآباء

V      احفظوا آذانكم من سماع كلام النميمة والوقيعة، لكي تكون قلوبكم طاهرة، لأنّ الآذان إذا سمعَتْ الحديث النجس لا يمكن حفظ طهارة القلب بدون دنس.

القديس مقاريوس الكبير

V      لا شيء أردأ من الإدانة للإنسان، لأن منها يتقدم إلى شرورٍ ويسقط في شرور، فالذي يدين أخاه في قلبه يتكلم عنه بلسانه ويفحص أعماله وتصرفاته، ويترك النظر فيما يُصلح ذاته، ويشغل نفسه بما لا يعنيه عما يعنيه، ومن هنا ينشأ الازدراء والنميمة والملامة والتعيير، وحينئذ تتخلّى عنه المعونة الإلهية فيسقط في ما دان أخاه عليه.

النميمة هي أن يُخبر المرء بما فعله أخوه من خطية شخصية، فيقول إنه فعل كذا. أما الإدانة فهي أن يُخبر المرء عما لأخيه من خُلُق رديء، فيقول إنه سارق أو كذاب أو ما شابه ذلك، فيحكم عليه باستمراره في هذه الصفة وعدم الإقلاع عنها، وهذا أمرٌ صعبٌ جدًا.

لذلك شبّه الرب خطية الإدانة بالخشبة، والخطية المُدانة بالقذى، وعلى ذلك تزكّى العشار رغم آثامه وشُجب الفريسي لكونه دان غيره بالرغم مما له من صدقة وصوم وصلاة وشكره لله على ذلك.

فالحكم على خليقة الله يليق بالله لا بنا، وإدانة كل واحد وتزكيته هي لله وحده، لأنه هو وحده العارف بسرّ كل إنسان وأموره العلنية، وبما يجب من الحكم في كل أمرٍ، وعلى كل شخصٍ.

القديس دوروثيئوس

V      بالنميمة أغوت الحيّة حواء وأخرجتها من الفردوس وآدم معها، هكذا نظير الحيّة تمامًا مَنْ يقع في صاحبه، فإنه يُهلِك مَنْ يسمعه ونفسه لا تنجو.

أنبا شيشوي

  1. قبول الانتهار والانتفاع به

“الانتهار يؤثر في الحكيم،

أكثر من مائة جلدة في الجاهل” [ع 10]

الإنسان الحكيم يطلب دومًا نموه الروحي وتقدمه في كل شيء، لهذا لا يقاوم كلمة الانتهار أو النقد البنَّاء. أما الجاهل فيظن دومًا أنه على صواب، أكثر حكمة وفهمًا من الجميع. الأول ينتفع بكلمات الانتهار الوديعة الهادفة، والثاني لا يتأثر حتى بالجلدات، فإنه متمرد وعنيد، وغليظ الرقبة ومتشامخ.

من أمثلة ذلك فرعون، فقد سقطت عليه لا مائة جلدة، بل الضربات العشرة كل منها أقسى من السابقة، ومع هذا وإن تأثر إلى لحظات يعود إلى قسوة قلبه وعناده. لم ينتفع بالضربات حتى آخر لحظات حياته، حيث ألقى بنفسه مع جيشه وسط المياه ليموت الكل غرقًا!

لا نعجب إن كان الله كثيرًا ما يسمح بالتجارب لقديسيه، وكأنها توبيخ يقدمه لهم كحكماء مستعدين للاستماع لصوته الإلهي خلال التجارب.

قيل إنّ الأب هيلاريون ذهب إلى القديس أنبا أنطونيوس وكان عمره حوالي 15 سنة، ولمدَّة شهرين فقط تأمَّل طريقة حياته وسلوكه الوقور واجتهاده في الصلاة، وتواضعه في تعامله مع تلاميذه، وشدَّته في الانتهار، ونصائحه.

V      هل يجب على مَنْ يوبِّخ أحدًا أن يقول له سبب توبيخه له؟

إن كنتَ لا تقول له فكيف يمكن أن يُصلِح حاله؟

إن كنتَ لا تُظهِر للجريح جرحه فكيف يتم علاجه؟

لذلك فمن الأفضل أن تقول له، أمّا إذا كانت النفوس ضعيفة ولا تقدر أن تسمع، فإننا نحاول أن نقول لها بطريقةٍ مستترةٍ ونراعي ضعفها، وذلك مثلما يُعطَى الخمر للمريض مخفَّفًا بالماء، وأمّا للسليم فخمرًا نقيًّا، فإذا وجدته قادرًا أن يسمع فمن الأفضل أن تُعرِّفه بغلطته[554].

إذا كنتَ حين توبِّخ أحدًا تستسلم للغضب، فأنت بذلك تُشبِع هواك (الخاص بالخطية)، فلا ينبغي أن تُهلِك نفسك لكي تخلِّص آخرين[555].

القديس مقاريوس الكبير

“الشرير إنما يطلب التمرد،

فيطلق عليه رسول قاس” [ع 11]

هنا يتحدث عن “الشرير المتمرد“، لأنه يوجد أشرار سقطوا في الشر بسبب الضعف أو لظروف محيطة بهم، هؤلاء يحتاجون إلى الحنو برقةٍ واللطف مع الصراحة.

أما الشرير المتمرد فيحتاج إلى رسولٍ قاسٍ، لأنه لا يقبل كلمة الانتهار الوديعة الرقيقة.

يقول الرب بإشعياء النبي: “اغتسلوا، تنقّوا، اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيَّ، كفُّوا عن فعل الشر، تعلّموا فعل الخير… هلمّ نتحاجج يقول الرب، إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضُّ كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف، إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأنّ فم الرب تكلَّم“. (إش 1: 16-20)

  1. الحماقة مدمرة

“ليصادف الإنسان دبة ثكول،

ولا جاهل في حماقته” [ع 12]

الدخول مع الشرير المتمرد في حوارٍ أو جدالٍ لا يجدي، فإن اللقاء مع وحشٍ كاسرٍ نُزع عنه صغاره، مثل الدبة أهون من اللقاء مع جاهل أحمق في حالة ثورة.

اهرب دائمًا من كل إنسان لا يكفّ عن المجادلة في حديثه.

V      إذا ابتعدَت النفس من كل مناقشةٍ وتشويشٍ واضطرابٍ؛ فإنّ روح الله يدخل فيها وتلك التي كانت عاقرًا تصير مثمرة.

الأب بيمين

أما الصديق الحكيم فيطيل أناته قي مناقشاته,

V      كان أنبا أنطونيوس حكيمًا ذا عقلية وقّادة يدرك حقيقة الناس ببصيرةٍ نفّاذةٍ، فكان الذين يأتون إليه يمتلئون دهشةً إذ يجدون أنه قد أدركهم على حقيقتهم رغم عزلته وابتعاده عن الناس. وكان حديثه مطعّمًا بملحٍ سماوي حتى إنّ سامعيه كانوا يشعرون بغبطةٍ قلبيةٍ على ما وصل إليه من كمالٍ روحي حبّب فيه النفوس وجذب إليه القلوب.

كذلك كان أنبا أنطوني يمتاز بالصبر والجلَد في المناقشة، فيُصغي إلى كل ما يُقال له، ويُجيب عنه بكل اتِّزانٍ، فلا عجب إذا قيل إنّ الله قد أقامه طبيبًا روحانيًا لأبناء وطنه ولجميع الملتفين حوله.

القديس بالاديوس

  1. مقابلة الخير بالخير

“من يجازي عن خيرٍ بشرٍ،

لن يبرح الشر من بيته” [ع 13]

إن كان لا يليق بالمؤمن أن يلاقي الشر بالشر، فماذا لو أنه لاقى الخير بالشر. فإن مثل هذا الإنسان لن يفارق الشر بيته أو أسرته أو أحفاده.

  1. التدقيق

“ابتداء الخصام إطلاق الماء،

فقبل أن تدفق المخاصمة اتركها” [ع 14]

الإهمال في شرارة صغيرة صادرة من عود كبريت يمكن أن تشعل نيران تمتد لتحرق غابات تصل إلى آلاف الأفدنة. والإهمال في جرحٍ بسيطٍ يمكن أن يتضاعف ويؤدي بحياة الإنسان كلها. وثغرة صغيرة في خندق إن أُهملت يمكن أن تسبب تدفقًا لمياه غزيرة لا يمكن مواجهتها. هكذا إن أهملنا غضبًا طارئًا، وغربت الشمس على غيظنا يصعب التعرف على العواقب المريرة في حياتنا على الأرض وأبديتنا. لذلك يوصينا السيد المسيح: “كن مراضيًا لخصمك سريعًا مادُمت معه في الطريق” (مت 5: 25). ويوصينا الرسول: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 4: 26).

أيام غربتنا قليلة مقصرة وشريرة، فلا نضيعها في الخصام. وكما يقول الأنبا افراطس: ]يليق بالمتقدمين إلى الله أن ينظروا إليه وحده، ويلتجئوا إليه بورعٍ هكذا، حتى لا يعيروا الشتيمة التفاتًا، حتى ولو كانوا مظلومين ربوات من المرات[556].]

V      من كان غضوبًا فهو خالٍ من طول الأناة والمحبة، يقلق سريعًا من الأقوال التافهة، ويثير الخصام لأمر يسير حقير، وحيثما لا يكون له مكان يطرح نفسه… فمن لا ينوح على مثل هذا؟ فهو مرذول عند الله والناس.

مار أفرام السرياني

  1. العدالة قانون البيت

“مبرِّئ المذنب ومذنِّب البريء

كلاهما مكرهة الرب” [ع 15]

قيل: “ويل للقائلين للشرِ خيرًا، وللخير شرًا، الجاعلين الظلام نورًا، والنور ظلامًا، المر حلوًا، والحلو مرًا” (إش 5: 20). إن كان الله هو الحق، فإن من يستبدل الحق بالباطل، والخير بالشر، والنور بالظلمة، يكون كمن جحد الله نفسه الخير الأعظم والنور السرمدي. فتبرئة الظالم وتذنيب البريء إهانة موجهة ضد الله نفسه.

  1. طلب الحكمة

“لماذا في يد الجاهل ثمن؟

ألاقتناء الحكمة وليس له فهم” [ع 16]

لماذا يمسك الجاهل بثمن؟ هل يريد أن يشتري الحكمة أو يقتنيها بالمال؟ بينما قلبه ليس في الحكمة، ولا يطلبها لأجل ذاتها.

هذا هو موقف بعض الأغنياء الذين يرفض أولادهم التعلم، فيظنون أنهم قادرون أن يستخدموا غناهم وأموالهم في إلحاق أولادهم بالكليات. قد يستطيعوا أن يشتروا الدرجات العلمية بوسيلةٍ أو أخرى، لكن قلوب أبنائهم لا تطلب العلم ولا المعرفة، ولا تبالي بالتقدم!

“الصدِيق يحب في كل وقت،

أما الأخ فللشدة يولد” [ع 17]

الصدِيق الحقيقي هو ربنا يسوع المسيح، محب كل البشرية، جاء كطبيبٍ من أجل المرضى ليشفيهم، وليس ليدينهم أو يحتقرهم. وقد وُلد جسديًا، أي تجسد وتأنس للشدة، أي ليحمل الصليب من أجل العالم كله! قيل عنه:

“أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى” (يو 13: 1).

“هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 19).

“لم آتٍ لأدين العالم، بل لأخلص العالم” (يو 12: 47).

“هو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل للخطايا كل العالم أيضًا” (1 يو 2: 2).

“لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضي” (مر 2: 17؛ لو 5: 13).

“لا أعود أسميكم عبيدًا، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سميتكم أحباء” (يو 15: 15).

“أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها” (إش 53: 4).

V      عندما يُهاجم يسوع لاختلاطه بالخطاة، واختيار عشار مرذول تلميذًا له، فيسأل أحدهم: أية منفعة يمكن البلوغ إليها من هذا؟ خلاص الخطاة فقط! لوم يسوع لاختلاطه بالخطاة يشبه لوم طبيب لتنازله وتعبه من أجل إيجاد مواد لها رائحة صعبة من أجل شفاء المرضى[557].

القديس غريغوريوس النزينزي

V      إذ لا يوجد بار كامل، لهذا لم يأتٍ المسيح ليدعو من هم ليسوا هنا (في العالم)، بل إلى جماهير الخطاة الحاضرة الذين امتلأ العالم بهم، متذكرين قول المرتل: “خلص يا رب، لأنه قد انقرض التقي” (مز 12: 1)[558].

القديس جيروم

V      أظهر (يسوع) لهم أن في حضوره الآن في العالم لم يأتٍ كقاضٍ بل كطبيبٍ، ويعمل ما يجب على الطبيب أن يمارسه، بأن يختلط بالذين هم في حاجة إلى الشفاء[559].

القديس كيرلس الكبير

  1. الحذر من الضمان بلا حكمة

“الإنسان الناقص الفهم يصفق كفًا،

ويضمن صاحبه ضمانًا” [ع 18]

كثيرًا ما يحذر الحكيم من التسرع في تعهد إنسان بضمان آخر دون حساب النفقة والإمكانيات للسداد (أم 6: 1-5، 11: 15). لقد ضمن بولس أنسيموس، وكان مستعدًا لدفع الدين بنفسه (فل 18-19). كما ضمن يهوذا بنيامين (تك 42: 17، 44: 32). أما مسيحنا فمع معرفته لعجزنا عن دفع الدين، دفعه مقدمًا على الصليب، لكي بالإيمان الحي يصير لنا حق الدخول إلى الأحضان الإلهية.

روحه القدوس الساكن فينا أيضًا يشفع فينا، مقدمًا الضمان الذي دفعه السيد على الصليب لمن يقبل حبه ويتجاوب معه. “فمن ثم يقدر أن يخلص أيضًا إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله، إذ هو حي في كل حين ليشفع فيهم” (عب 7: 25).

“الروح نفسه يشفع فينا بأنَّاتٍ لا يُنطق بها، ولكن الذي يفحص القلوب يعلم ما هو اهتمام الروح، لأنه بحسب مشيئة الله يشفع في القديسين” (رو 8: 26-27).

من هو الذي يدين؟ المسيح هو الذي مات، بل بالحري قام أيضًا، الذي هو أيضًا عن يمين الله، الذي أيضًا يشفع فينا” (رو 8: 34).

V      إذ يرى الروح القدس روحنا يصارع الجسد، وإذ ينسحب الروح للجسد، يبسط الروح القدس يديه ويعيننا في ضعفنا[560].

 العلامة أوريجينوس

هنا نود أن نوضح أن بعض الآباء يرون أن شفاعة الروح القدس هنا لا تعني جوهر الروح القدس، إنما نعمة الروح القدس الساكن فينا، والحب الذي صار لنا بالروح القدس هو يوجه صلوات المؤمنين ليطلبوا عن أنفسهم وعن إخوتهم حسب مشيئة الله، وما هو لنفعهم[561]. ويدعو القديس أغسطينوس هذه النعمة الإلهية “عطية الصلاة”[562].

  1. العصيان والكبرياء

“محب المعصية محب الخصام،

المعلي بابه يطلب الكسر” [ع 19]

الإنسان المتمرد يجد لذة في الخصام، وشبعًا في الجدال الغبي غير البنّاء، وفي تمرده يرفع من شأن نفسه، ويعتد بآرائه كمن يُعلي أبوابه، فيحطم نفسه بنفسه.

“الملتوي القلب لا يجد خيرًا،

والمتقلب اللسان يقع في السوء” [ع 20]

ما يزرعه الإنسان بقلبه الملتوي، ولسانه المتقلب لا يحصد خيرًا بل شرًا.

القلب الملتوي لا يمكنه أن يقدم لسانًا مقدسًا مستقيمًا، بل لسانًا مخادعًا متقلبًا، يخسر به أصدقاءه ويثير أعداءه، ويسبب له متاعب لا حصر لها.

“من يلد جاهلاً فلحزنه،

ولا يفرح أبو الأحمق” [ع 21]

ليس من مرارة تصيب الإنسان مثلما أن يكون له ابن (أو ابنة) جاهل وأحمق، فلا يقدر الفرح أن يتسلل إلى قلبه.

V      يدعى الله أبًا، وتُدعى محبة الله للبشرية أمًا، وهي علة التجسد الإلهي وتألمه لأجلنا. مع أن الله هو أبونا، فإنه لا يفرح بمن نال التبني دون أن تكون له معرفة بالحكمة الإلهية والمعرفة، والذي يرتكب الشر. أما الابن المتعقل فيُسِر أمه، أي محبة الله نحو البشرية. إنها هي التي تحضرنا لله الآب كأبناء ناقصي التغذية (جائعين) نشتاق للطعام الروحي القوي. هذا يتحقق لكي ما يمكن لابنه – يسوع المسيح – الذي صار كأخ لنا (حب 2: 17)، أن يجعلنا مواطني مملكته وذلك بالكلمة والعمل، أيضًا أمنا الكنيسة التي خُطبت لله الآب بالروح القدس. إنها تلد بنين وبنات له أبديًا. والذين يتعلمون الحكمة السماوية والمعرفة يُسِرون الله أبونا وكنيسته أمنا. لكنها تحزن وتنتحب على غير المتعلمين الذين لا يريدون أن يتوبوا ويخلصوا بل يفضلون أن يستمروا على الشر[563].

 العلامة أوريجينوس

  1. ينبوع الفرح في بيت المحبة

“القلب الفرحان يطيب الجسم،

والروح المنسحقة تجفف العظم” [ع 22].

ليس ما يحطم جسم الإنسان مثل الكآبة والقلق ومرارة النفس. أما إذا امتلأ القلب بفرح الروح فتتهلل النفس، وينعكس تهليلها حتى على صحة البدن.

تقديم ذبيحة فرح وشكر وتسبيح يومي، نهارًا وليلاً يحول المؤمن إلى أشبه بملاكٍ متهلل، يتحدى لا المرض فحسب، بل وحتى الموت الجسدي! يردد المؤمن: “لأنك أنقذت نفسي من الموت، وعينيّ من الدمعة، ورجليّ من الزلق، أسلك قدام الرب في أرض الأحياء” (مز 116: 8-9).

V      كل إنجيل يجلب فرحًا بسبب صالح[564].

العلامة أوريجينوس

V      إنه لم يخف بل فرح أن يراه، لأن فيه الحب الذي يطرد الخوف خارجًا (١ يو ٤: ١٨). لم يقل: “تهلل لأنه رأى” إنما قال: “تهلل لأنه يرى“، مؤمنًا تحت كل الظروف، ويتهلل على رجاء أن يرى بفهمٍ. “فرأى وفرح“… إن كان الذين انفتحت أعينهم الجسدية بالرب قد تهللوا، فأي فرح لذاك الذي رأى بعيني نفسه النور الذي لا يوصف، الكلمة القاطن (في الآب)، البهاء الذي يبهر أذهان الأتقياء، الحكمة التي لا تسقط، الله الثابت في الآب، وفي نفس الوقت يراه آتيًا في الجسد دون أن ينسحب من حضن الآب؟ هذا كله رآه إبراهيم[565].

القديس أغسطينوس

  1. الرشوة

“الشرير يأخذ الرشوة من الحضن

ليعوج طرق القضاء” [ع 23]

كثيرًا ما تَعمي الرشوة (الهدية بنية خاطئة) أعين المسئولين، فيصدرون أحكامًا غير عادلة. لذا لا يليق تقديم رشوة لنوال ما لا حق لنا فيه، ولا أن نقبل رشوة من أحدٍ حتى لا ننحرف عن الحق والعدل.

  1. الحكمة والمعرفة

“الحكمة عند الفهيم،

وعينا الجاهل في أقصى الأرض” [ع 24]

ما يشغل فكر الإنسان الحكيم التقي هو معرفة الله والأسرار السماوية، لكي يسير به ومعه وإليه. أما الجاهل فلا هدف له. تجول عيناه يمينًا ويسارًا بلا غاية، فلا يستطيع أن يُقبل إلى معرفة الحق أبدًا (2 تي 3: 7، 4: 3-4).

الحكمة هي إعلان الله عن ذاته لنا، نقتنيه، فنحمل الحكمة الإلهية والمعرفة السماوية. يرى القديس أغسطينوس أن الحكمة هي القدرة على تذوق الحقائق الروحية، والتمتع بالحق يؤدي إلى مجد الله والتعبد له بمخافة البنين. ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الحكمة هي الإنجيل، أي التمتع بخطة الله الخلاصية المفرحة. أما العلم فهو الحيدان عن الشر (أي 28: 28)، وتقديم كلمة الخلاص للبشر.

يرى القديس إكليمنضس السكندري أن هدف الإنسان الروحي صاحب المعرفة (الغنوسي) أن يتعرف على الله (الحق) ويراه[566] وجهًا لوجه، أي يعبر إلى كمال المعرفة بالإلهيات من خلال الإيمان، وذلك خلال خبرة الحياة النقيّة والتأمّل الدائم. فإن كنّا قد عبرنا من الوثنيّة إلى الإيمان، فيليق بنا أن نعبر من الإيمان إلى المعرفة[567]، لنرى الله ونعرفه. هذه المعرفة هي هبة إلهيّة نتقبّلها خلال الابن، وذلك بقبولنا إيّاه وتشبّهنا به؛ أي خلال نقاوة القلب، نعاين الله وندرك ما يبدو للآخرين غير مدرك[568].

V      الغنوسية التي هي المعرفة وإدراك الأمور الحاضرة والمستقبلية والماضية، كأمور أكيدة وموثوق فيها، يمنحها ابن الله الذي هو “الحكمة” ويعلنها[569].

القديس إكليمنضس السكندري

الابن الجاهل غم لأبيه،

ومرارة للتي ولدته” [ع 25].

كثيرًا ما يكرر الحكيم مثل هذه العبارة، مؤكدًا أن الإهمال في توجيه الأبناء يعكس مرارة وحزنًا على الوالدين، كما حدث مع عالي الكاهن الذي بسبب إهماله في تربية ابنيه قُتل الابنان، وانهزم الشعب ومات والدهما.

“أيضًا تغريم البريء ليس بحسن،

وكذلك ضرب الشرفاء لأجل الاستقامة” [ع 26]

تحريف العدالة من جانب الحاكم أو القائد أو القاضي، مما يسبب خسارة لإنسانٍ بريء أو إهانة لشريفٍ مستقيمٍ أمر ممقوت.

“ذو المعرفة يبقي كلامه،

وذو الفهم وقور الروح” [ع 27]

الإنسان الحكيم مع ما لديه من معرفة، فإن كلماته قليلة ولها وزنها، ولها وقارها، كما لها هدفها الواضح.

V      لتكن كلماتك بمعيارٍ، تحسبها بنفسك، عالمًا أنك تتقدم حسابًا لله عن ما يخرج من فمك، بما فيه من مزاحٍ أو كلمة ليست للبناء[570].

 القديس باخوميوس

V      من يطلب أن يعرف ما هي إرادة الله يطلب الحكمة، ويُظهر نفسه متعقلاً.

من يقتضب كلماته ليدخل إلي المعرفة، إن كان أحد يطلب الحكمة، راغبًا في تعلم شيء ما عن الحكمة، بينما آخر لا يطلب الحكمة، إذ لا يريد أن يتعلم شيئًا عن الحكمة، بل ويصد أقرباءه عن فعل هذا، فإن الأول أكثر تعقلاً من الأخير[571].

 القديس هيبوليتس الروماني

“بل الأحمق إذا سكت يُحسب حكيمًا،

ومن ضم شفتيه فهيما” [ع 28]

إذ يتسم الجهال والحمقى بكثرة الكلام، بلا حساب ولا هدف، ويصعب عليهم جدًا أن يعترفوا بجهلهم، لهذا إن صمتوا يُحسبون حكماء، وإن ضمُّوا شفاهم يُعتبرون فهماء.

V      كما في بيت عندما يُغلق الباب، لا يُعرف الأعضاء المختفين فيه، هكذا بوجه عام نقول، إن تمسك جاهل بحفظ رباطة جأشه (في صمتٍ) لا يظهر إن كان حكيمًا أو غبيًا. هذا يحدث طالما لا يمارس عملاً يكشف عما في فكر ذاك الصامت… وقد قيل بسليمان: “الأحمق إذا سكت يُحسب حكيمًا”[572].

 البابا غريغوريوس (الكبير)

 


 

من وحي أمثال 17

لتقم في داخلي ملكوت الحب!

V      لتقم في أعماقي هيكلك،

بيت المحبة المتسع، ليضم الكل فيه.

أية ذبيحة أقدمها لك،

وأية تقدمة تشتمها رائحة سرور،

سوى ذبيحة التسبيح وتقدمة الحب؟

هبني حبك فيمتلئ قلبي بسلامك الفائق!

أتمتع بالسلام معك ومع خليقتك المحبوبة لديك.

V      لتقتحم أيها الحبيب قلبي،

فهو بيتك المحبوب جدًا لديك.

تودع فيه من كنوز علمك وأسرارك، فأصير بالحق مخزنًا  سماويًا!

V      لأحيا معك أيها المصلوب.

فاستعذب شركة آلامك، وأنال كرامة الصلب معك!

فليس من طريق للشركة في أمجادك إلا قبول آلامك بفرحٍ وتهليل!

V      سكناك فيٌ يقيم بٌَرك في داخلي.

لا يصير للشر موضع في قلبي،

ولا للكذب مكان على شفتي!

أتمتع بفكرك الفائق، فأكرٌم كل فقير، ولا أستخف بأحدٍ.

لا أفرح ببلية أحد، بل أشتهي أن أحمل أثقاله!

أراك متجليًا في حياة آبائي، فتتهلل نفسي.

وأتطلع إليك عاملاً في الجيل الجديد فأمتلئ رجاءً.

V      ينفتح قلبي بالعطاء للجميع.

أما الرشوة فتمقتها نفسي!

أراك ساترًا عليٌ،

فأشتهى أن أستر على إخوتي.

ليس من كلمة نميمة تخرج من شفتي.

V      أتلمس الحنو في يديك،

حتى وسط آلامي وضيقاتي.

أشعر بدفء أبوتك وسط كل الأحداث.

قلبي دومًا ينجذب إليك،

عطاياك تغمرني!

V      أتعرف عليك أيها الحق،

فلا أخلط بين النور والظلمة،

ولا أمزج بين البرّ والشر!

أقتنيك يا حكمة الله،

فيهرب الجهل من أعماقي.

أقتنيك، لا بمالٍ، بل بالتجاوب مع حبك.

أقتنيك بدم صليبك، يا من تألمت وحملت العار،

لتهبني الحياة المطٌَوبة المجيدة!

V      أقتنيك، فيتحول قلبي إلي وليمة مفرحة.

تتهلل نفسي بك،

ويتقدس جسدي بنعمتك.

وتنسحب بصيرتي إلى سماواتك.

وأغرف من أسرارك بلا حدود!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى