تفسير سفر الأمثال ٢٠ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح العشرون
وصايا الحكمة
عن وسائل الحياة وغايتها
في ختام هذا الفصل يحذرنا الحكيم من استخدام وسائل خاطئة في الحياة، فإنها تنحرف بنا عن هدفنا السامي للحياة.
- حياة السُكر 1.
- إثارة الحاكم 2.
- الحفاظ على السلام 3.
- ثمر الكسل4.
- المشورة العميقة 5.
- التقوى والطهارة 6-12.
- السهر 13.
- الخداع 14.
- شفتا الحكيم 15.
- التهور في الضمان 16.
- الكذب 17.
- التهور والاندفاع 18.
- الوشاية 19.
- إهانة الوالدين 20.
- تكديس الثروة والممتلكات21.
- عدم الانتقام 22.
- الموازين الغاشة 23.
- النعمة الإلهية 24.
- التسرع 25.
- اعتزال الشر 26.
- النور الداخلي 27.
- الرحمة 28.
- القوة والحكمة 29.
- جراحات التأديب 30.
- حياة السُكر
“الخمر مستهزئة المسكر عجاج،
ومن يترنح بهما فليس بحكيم” [ع 1]
هنا لأول مرة نجد وصية تحذر من الخمر المُسكر، ليعود الحكيم ويحذر مرات أخرى (23: 20-21، 29-35، 31: 4-5).
مع ما للخمر من فوائد طبية، ومع كونها خليقة مقدسة، لكن لم يجد عدو الخير صعوبة في جذب الملايين نحو إدمان الخمر والسُكر، وتحطيم حياتهم الروحية والنفسية والصحية. إذ سَكر نوح تعرَّى، وصار في خزي، وإذ سَكر لوط نام مع ابنتيه.
ثمار السُكر المدمرة واضحة في كل المجتمعات، ومع هذا ينجذب إليه الكثيرون، إن لم يكن علانية، ففي الخفاء. تسخر الخمر بالإنسان الذي يشربها في مبالغة، وتستخف به، والعجيب أنها تجعله أحمق، فيسخر بمن حوله، ويسخرون هم به.
V قبل كل شيء يلزم على الراهب أن يمنع الاجتماع بالنساء وشرب الخمر، لأن الخمر والنساء يدفعون حتى بالحكماء إلى السقوط (جا 19: 2)[623].
القديس باسيليوس الكبير
V كان أخٌ محارَبًا من أفكاره أن يترك ديره، فأخبر أنبا أنطونيوس بذلك، فقال له الشيخ: ”اذهب، اجلس في قلايتك وارهن جسدك لحوائط قلايتك ولا تغادرها، ودع الفكر يذهب حيثما يشاء، فقط لا تسمح لجسدك أن يخرج من القلاية… سيقول لك: ’اشرب قليلاً من الخمر مثل الطوباوي تيموثاوس‘ (1 تي5: 23)، فأجبه أنت أيضًا: ’اذكر أبناء يوناداب الذين حافظوا على وصايا أبيهم‘ (إر35: 6).
V لا شيء يجدِّد النفس التي شاخت مثل مخافة الله والصلاة النقية والتأمل المتواصل في كلام الرب مع إمداد النفس بزاد الصلاة والمداومة على الأسهار وعدم الإفراط في شرب الماء، ففي الحقيقة يجب على الراهب أن يزهد في شرب الماء كما يزهد تمامًا في الخمر، لأنه كما أنّ الشجرة التي تُروى بالماء هي فقط التي تُحمَّل بالثمار هكذا أيضًا الجسد الذي يمتلئ بالماء فهو يُصاب بالرخاوة والخمول، ومن الرخاوة يأتي التواني والكسل، والتواني يلد النعاس، ومن النعاس يتولد الترف، وهكذا شيئًا فشيئًا تزداد أوجاع النفس وتطرحنا في عمق جهنم، وتصير أجسادنا مسكنًا للأرواح النجسة وأفكارنا مستعبَدةً للأوجاع المخزية.
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
V لأنه من المؤكَّد أنّ نفوس الخطاة تُشبه ينابيع مختلفة: فالشرهون والولعون بالخمر يشبهون ينابيع قد تلطَّخت، والجشعون والمحتالون هم مثل ينابيع مليئة بالضفادع…
القديس أنبا بفنوتيوس
- إثارة الحاكم
“رعب الملك كزمجرة الأسد،
الذي يغيظه يخطئ إلى نفسه” [ع 2]
يليق بنا الإقرار بسلطان أصحاب المراكز القيادية، خاصة الملك أو الرئيس، والخضوع لكل ترتيبٍ بشريٍ من أجل الرب (رو 13: 1؛ 1 بط 2: 13).
من يغيظ الملك يخطئ إلى نفسه، لأن غضبه ينصب على المقاومين له ومضايقيه.
من يسلك بالتقوى لا يخشى الحاكم، إذ يقول الرسول: “إن من يقاوم السلطان يقاوم الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفًا للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟ افعل الصلاح فيكون لك مدح منه. لأنه خادم الله للصلاح” (رو 13: 2-4).
- الحفاظ على السلام
“مجد الرجل أن يبتعد عن الخصام،
وكل أحمق ينازع” [ع 3]
ليس ما يسكب على الإنسان من مجدٍ وكرامة ووقار مثل حلمه وطول أناته. “ليكن حلمكم معروفًا عند جميع الناس” (في 4: 5).
الإنسان الحكيم يبتعد ما استطاع عن الخصومات والمنازعات من أجل سلامه الداخلي، ولكي يمارس أعمالاً إيجابية بناءَّة، ويترك العمل هو الشاهد للحق، ويحول المقاومين إلى أحباء، أما الأحمق فيُسر بالمنازعات، ويلهو فيها.
V من يطلب السلام يطلب المسيح، لأنه هو سلامنا (كو 1: 20)، الذي يجعل الاثنين واحدًا (أف 2: 14)، صانعًا السلام بدم صليبه سواء على الأرض أو في السماء[624].
القديس باسيليوس الكبير
V لا تجعل في قلبك عداوةً لأي إنسان، ولا تُبغض مَنْ يُعادي قريبه ولا تدِن عداوته، ولا تغضب على أخٍ يغضب على قريبه، لأن هذا هو السلام الحقيقي: أن تشجِّع نفسك بهذا الفكر: الضيق يستمر لوقتٍ قصيرٍ، في حين أن السلام أبديّ بنعمة الله الكلمة.
أنبا موسى
- ثمر الكسل
“الكسلان لا يحرث بسبب الشتاء،
فيستعطي في الحصاد ولا يُعطى” [ع 4]
يبحث الكسلان عن أية علة ليجد لنفسه عذرًا فلا يعمل، يهمل حقله بينما يبذل جيرانه كل الجهد لزراعة حقولهم. وإذ يحل وقت الحصاد، ينشغل الجيران في حصاد حقولهم، بينما يستجدي منهم فضلاتهم فلا يعطونه.
موسم الحرث في منطقة الشرق الأوسط هو نوفمبر وديسمبر، فيعتذر الكسلان بأنه وقت شتاء ولا يحتمل البرد، فلا عجب إن جاء موسم الحصاد فيجد حقله بلا ثمر.
V ينبغي أن نعظ الكسالى بطريقةٍ، والمغامرين بطريقة أخرى. ينبغي أن يقتنع الكسالى بأن لا يضيعوا فعل الخير بتأجيله، وعلى المغامرين أن لا يفسدوا استحقاقات أفعالهم الصالحة بتسرع يفتقر إلى التروي في ترقب مواقيت هذه الأفعال.
ليدرك المتكاسلون بأن عدم الرغبة قد تَحُولَ دون فعل ما نقدر على فعله من صلاح في الوقت الملائم عندما تحل هذه الرغبة. إن العقل المتبلد عندما لا يتحرك بفعل الحمية الصادقة في موعده يفقد تمامًا كل إحساس بالرغبة في فعل الصلاح، لأن هذا التهاون يكبر ويزداد بقوة، ولكن دون أن نشعر به. لذلك يقول سليمان بوضوح: “الكسَلُ يُلْقِي في السَّبات” (أم 19: 15).
الكسول بالرغم من أنه يكون متيقظًا بمشاعر حقيقية إلا أن كسله يزيد من التهاون، ولذلك قيل إن الكسل يلقي بالإنسان في سبات عميق. فعندما يتوقف السعي في عمل الخير فإنه يبدأ تدريجيًا في فقدان الإحساس بالمشاعر الحقيقية. حسنًا أضيف إلى هذه الفقرة: “والنفس المتراخية تجوع” (أم 19: 15)، فعندما تهمل النفس ذاتها ولا يتم كبح جماحها بقوة، ولا تتجه بجهدها إلى الأمور السماوية، فإن الشهوات الدنيوية تؤذيها وهكذا عندما تتجاهل قيود التهذيب، فإنها بالأحرى تفقد طريقها وهي تسعى وراء الملذات، لذلك أيضًا كُتِبَ بسفر الأمثال على لسان سليمان: “شهوة الكسلان تقتله” (أم 21: 25).
لأجل ذلك يعلمنا الحق ذاته[625] أن البيت يصير نظيفًا عندما يخرج الروح الشرير، ولكن عندما يظل فارغًا يرجع إليه مع أرواح أخرى ليتملك عليه.
إن الكسلان عادة ما يهمل ما يجب فعله، متصورًا العقبات والمخاوف التي لا أساس لها، وهو يركن إلى مبررات يختلقها بسبب خموله وبلادته. إلى هؤلاء يقول سليمان بالحق: “الكسلان لا يحرث بسبب الشتاء، فيَسْتَعْطِي في الحصاد ولا يُعْطَى.” (أم 20: 4). الذين لا يجتهدون في أعمال البرّ الآن لن يحصدوا شيئًا (في الصيف)، وهذا يعنى أنه عند ظهور شمس الدينونة الحارقة يستعطي لدخول الملكوت لكن دون جدوى.
لهذا يقول سليمان أيضًا: “من يرصد الريح لا يزرع، ومن يراقب السحب لا يحصد” (جا 11: 4). إن الريح ليست إلا تجارب الأرواح الشريرة، والسحب التي تدفعها ما هي إلا النكبات التي يوقعنا فيها الأشرار. نعم تدفع الرياح السحب عندما تحرك ضربات الأرواح الشريرة الأشرار، وهكذا فإن من يرصد الريح لا يزرع، ومن يراقب السحب لا يحصد، إذ أن الذين يخشون تجارب الأرواح الشريرة وظلم الأشرار لا يبْذُرون بِذارًا صالحة الآن، ولا يحصدون بعد ذلك الثواب المقدس[626].
البابا غريغوريوس (الكبير)
- المشورة العميقة
“المشورة في قلب الرجل مياه عميقة،
وذو الفطنة يستقيها” [ع 5].
صاحب الحكمة والمشورة يتأنى ويسمع ويخزِّن في أعماقه، فيصير قلبه أشبه ببئر عميق يختزن فيه المعرفة الصادقة. لكن الحمقى إذ بطبعهم كثيرو الكلام ينسبون للحكيم عدم المعرفة والجهالة بسبب قلة كلامه. لكن ما أن يستقي، أي يسحب مياه المعرفة في الوقت المناسب، كما من بئر قلبه يدرك الكل أنه ذو فطنة.
V لا تعمل عملاً في زمان توبتك بدون مشورة،ٍ فتعبر أيام حياتك بكل نياح.
الأب إشعياء
V ينبغي على الراهب أن يأخذ المشورة من إنسان حكيم، وأن لا يجعل مشورة الجاهل تسكن في قلبه.
القديس هيبريشيوس الكاهن
- التقوى والطهارة
في هذه الأمثلة [6-12] نرى صورة حية للإنسان الحكيم التقي، الذي يسلك بالطهارة، ويود أن يعيش كاملاً.
“أكثر الناس ينادون كل واحدٍ بصلاحه،
أما الرجل الأمين فمن يجده” [ع 6]
يرى الناس كثيرين أنهم صالحون، لكن شتان ما يبن ما يراه الإنسان من الخارج وبين الواقع الحقيقي الداخلي.
فما أصعب أن نجد إنسانًا أمينًا مع نفسه ومخلصًا. يليق بنا ألا ننخدع بمديح الناس لنا، فلا يعرف الإنسان إلا روح الإنسان. يلزمنا أن نفحص أنفسنا بنور روح الله القدوس، فنستنير ونتقدس به.
“الصدِّيق يسلك بكماله طوبى لبنيه بعده” [ع 7]
لا يغتر الصدِّيق بمديح الناس له، كما لا يهتز بذم الآخرين ونقدهم اللاذع له، إنما ما يشغله هو الكمال الذي يهبه له الله ككنزٍ داخليٍ، يتمتع به، ويقدمه ميراثًا لبنيه، الذين ينتفعون من صلواته عنهم، ويقتدون به.
يعلم الآباء أبناءهم بالحياة العملية والسلوك والصلوات الخفية من أجلهم، ذاك أفضل من تقديمهم نصائح وتعليمات بالكلام.
يستطيع الأبناء أن يتلامسوا مع عمل الله في حياة آبائهم، كما يكتشفون رياءهم وخداعهم إن حملوا مظهرًا غاشًا. تستطيع قلوب الأبناء أن تخترق قلوب آبائهم، وتتعرف على أسرارهم وتكشف حقيقة علاقتهم بالله!
V لا تحسب من هو متغير وضعيف أبًا لأولادك، بل يليق بك أن تجعل الله الأبدي غير المتغير أبًا لأولادك الروحيين. سلمه ثروتك التي تريد أن تدخرها لهم. اجعله حارسًا عليهم وضامنًا وحافظًا لهم بقدرته الإلهية، ضد كل مصائب الزمن. فإنك إذ تعهدها في يد الله لا ينتزع أحد ملكيتها ولا يغتصبها بيت المال، ولا يلحقها جور قضائي، بل يكون الميراث في أمان متى كان محفوظًا في حراسة الله.
بهذا تمد ورثتك الأعزاء بتطويبات المستقبل.
هذا ما تمليه عليك العاطفة الأبوية من جهة الاعتناء بوارثيك، معتمدًا على قول الكتاب: “كنت فتى والآن شخت، ولم أجد صدِّيقًا تخلي عنه، ولا ذرية له تلتمس خبزًا”. وقوله: “الصديق يسلك بكماله. طوبى لبنيه بعده” (أم 20: 7).
لذلك فإن لم تهتم بإرشاد أولادك وحفظهم في الإيمان والتقوى لا تستحق أن تُدعى أبًا بل تكون أبًا خائنًا، يا من تحرص على ممتلكاتهم الأرضية أكثر من حرصك على ممتلكاتهم السمائية، فتوصيهم بالشيطان لا بالمسيح. وبذلك تخطئ خطيئتين، وترتكب جريمة مزدوجة:
أ. إنك لم تمد أولادك بمعونة الله أبيهم.
ب. إنك تعلمهم أن يحبوا ممتلكاتهم أكثر من المسيح[627].
الشهيد كبريانوس
“الملك الجالس على كرسي القضاء
يذري بعينه كل شر” [ع 8].
إذ يجلس الملك الحكيم على كرسي القضاء يستطيع بنظرات عينيه أن يغربل الأشرار، ويفصلهم عن الأبرار. هنا يحذر الحكيم الأشرار من محاولتهم خداع الملك القاضي، فحتمًا سيكتشف خداعهم، ويضيفون إلى شرورهم شرًا جديًدا هو الكذب على الملك. هذا بالنسبة للملك الأرضي الضعيف متى وُهب له روح الحكمة وأراد أن يمارس العدل، فماذا بالنسبة لملك الملوك حين يأتي على السحاب ليدين الأحياء والأموات؟ كل الأمور مكشوفة أمامه، حتى الأفكار الخفية ونيات القلب!
يؤمن أوريجينوس أن في القيامة ينقسم الناس إلى قسمين: الأبرار الذين خلصوا، والأشرار الذين يستحقون الدينونة. سيمتلئ الآخيرون بالحزن مما يتلاءم مع حياة وأعمال من استهانوا بوصايا الرب وهم في هذه الحياة، وطرحوا عنهم كل خوفٍ من الدينونة، ومارسوا النجاسة والطمع[628].
يقول العلامة أوريجينوس ستتم الدينونة في نهاية العالم، عندئذ يتحقق التمييز الحاسم بين الصالح والشرير[629].
V في يوم الدينونة، ما من شك أن الصالحين سيُفصلون عن الطالحين، والأبرار عن الأشرار. وسوف يخصص لكل نفس من خلال دينونة الله مكانًا يليق بجدارتها واستحقاقها، إن شاء الله”[630].
العلامة أوريجينوس
V مادام (الله) يرى كل شيء، ويسمع كل شيء، فلنخشه ونتخلَّ عن الأعمال الشريرة النابعة عن شهوات دنسة، حتى تحمينا رحمته من الدينونة العتيدة[631].
القديس إكليمنضس الروماني
“من يقول إني زكيت قلبي،
تطهرت من خطيتي” [ع 9]
إن كان الأشرار لا يستطيعون أن يتزكوا أمام ملكٍ بشريٍ، فمن من البشر يقدر أن يتزكى أمام ملك الملوك؟ من يقدر أن يعصم نفسه من الخطأ؟ من يظن في نفسه أنه طاهر بلا خطية، يضل وليس الحق فيه. هنا الحاجة ملحة لمن بدمه يقدر أن يغسلنا من خطايانا. “هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة وقد غسلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف” (رؤ 7: 14). حقًا “الجميع زاغوا وفسدوا معًا، ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد” (رو 3: 12).
V إذن ليتنا أيها الإخوة الأحباء نعرف تلك العطية واهبة الشفاء التي للرحمة الإلهية، نحن الذين لا يمكن أن نوجد بلا جراحات من جهة الضمير.
ليته لا يتملق الإنسان ذاته متوهمًا أن قلبه نقي مختون، معتمدًا على برِّه الذاتي، حاسبًا أن جراحاته غير محتاجة إلى دواء، بينما كتب: “من يقول إني زكيت قلبي، تطهرت من خطيتي؟!” (أم 20: 9)، وجاء في رسالة يوحنا: “إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا” (1 يو 1: 8). فإن كان لا يوجد إنسان بلا خطية، وإن من يقول إنه بلا خطية يكون متكبرًا أو غبيًا، فيا لحنو الرحمة الإلهية، لأننا نعرف أنه لا تزال توجد جراحات فيمن ينالون الشفاء حتى بعد نوالهم له، لهذا قدمت أدوية شافية لكي تشفي الجراحات التي تستجد![632]
الشهيد كبريانوس
V لذلك يحزن جميع القديسين بتنهدات يومية من أجل ضعف طبيعتهم هذا. وبينما هم يستقصون أفكارهم المتنقلة ومكنونات ضمائرهم وخلواتهم العميقة يصرخون متضرعين: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك، فإنه لن يتبرَّر قدامك حيّ” (مز 143: 2)، “من يقول إني زكَّيتُ قلبي، تطهرتُ من خطيتي” (أم 20: 9). وأيضًا: “لأنه لا إنسان صدِّيق في الأرض يعمل صلاحًا ولا يخطئُ” (جا 7: 20). وأيضًا: “السهوات من يشعر بها؟” (مز 19: 12). وهكذا أدركوا أن برّ الإنسان عليل وغير كامل ويحتاج دائمًا إلى رحمة الله، حتى أن أحدهم بعد رؤيته السيرافيم في الأعالي وكشفه المكنونات السمائية قال: “ويل لي.. لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعبٍ نجس الشفتين” (إش 6: 5). أظن أنه ما كان يشعر بنجس شفتيه ما لم يكن قد مُنح له أن يُدرك نقاوة الكمال الحقيقي التام برؤية الله، الذي فجأة صار عالمًا بنجاسته التي كان جاهلاً بها من قبل ونجاسة من حوله… شاملاً في توسله العام ليس فقط جماعة الأشرار بل وجماعة الصالحين أيضًا قائلاً: “ها أنت سخطت إذ أخطأْنا. هي إلى الأبد فنخلص، وقد صرنا كلنا كنجسٍ وكثوب عِدّة” (إش 64: 5-6)[633].
الأب ثيوناس
V “إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا، وليس الحق فينا” (1 يو 1: 8).
أية عظة يمكنها أن تعلن عن سرب خطايا النفس والإرادة الحرة. يقول: “من الداخل تخرج الأفكار الشريرة” (مر 7: 21؛ مت 15: 19). ويضيف قائمة بالأفكار التي تدنسنا. فإن كانت شباك الخطايا منتشرة حولنا من كل جانب خلال كل الحواس وحركات النفس الداخلية، من يقدر أن يفتخر بأن قلبه طاهر كما يقول الحكمة (أم 20: 9 LXX)؟ أو كما يشهد أيوب بذات الأمر: “من هو طاهر من وصمة” (أي 14: 4 LXX)؟ الوصمة التي تلحق بنقاوة النفس هي اللذة الحسية التي تمتزج بالحياة البشرية بطرقٍ متنوعة خلال النفس والجسد، بالأفكار والحواس والحركات المتعمدة والتصرفات الجسدانية.
إذن مَنْ نفسه طاهرة من هذه الوصمة؟
كيف يوجد أحد غير مضروب بالخيلاء وغير مدوسٍ تحت قدم الكبرياء؟
من لم يهتز قط بأيدٍ خاطئة، ومن لم تجرِ قدمه قط إلى الشر؟
من لم يفسد قط بتجوال عينيه نحو الفساد أو أذنيه غير المضبوطتين؟
من لم ينشغل قط في تذوقه بمتعة، ومن لم يتحرك قلبه قط بعواطف باطلة؟[634]
القدِّيس غريغوريوس النيسي
“معيار فمعيار، مكيال فمكيال،
كلاهما مكرهة عند الرب” [ع10].
من يحمل النقاوة في داخله، ويسلك في طريق الكمال، تصير معاييره صادقة وأمينة، فلا يكيل لإنسان بكيلٍ، ولآخر بكيلٍ آخر. الله القدوس يبغض الغش في المكاييل والأوزان والمعايير، هكذا أولاده المقدسون فيه لا يطيقون الغش، مهما كانت دوافعه.
سبق فتحدث عن الغش مع الموازيين (11: 1؛ 16: 11)، وسيتحدث أيضًا عنها (20: 23).
V اِهتموا، يا أولادي، بخلاص نفوسكم وارجعوا إلى الرب بتوبةٍ نقيّةٍ من الغشِّ، وببكاءٍ وتضرُّعٍ اِعترفوا بنقائصكم.
القدِّيس مقاريوس الكبير
V يا ابني، لا تُظهِر كلمتك لمن لا يعرفها. اجعل سائر الناس أحباء، لكن لا تجعلهم كلهم مشيرين، بل اتخذ لك قبل كل شئ تجربة (أى اختبار). لا تجعل كل الناس أصدقاء، وإن صاروا لك أصدقاء فلا تأمن لهم كلهم، لأن العالم قد ثبت في المكر. لكن اجعل لك أخًّا واحدًا يخاف الرب، والتصق أنت بالله فقط مثل ولد مع أبيه. لأن الناس بأجمعهم يسلكون بالغش، ما خلا النذر اليسير منهم؛ والأرض قد امتلأت من الباطل والأتعاب والأحزان. فإن كنتَ، يا ابني، تحب المعيشة في الهدوء فلا تختلط مع المهتمين بالباطل. وإن صرتَ في وسطٍ فيه اختلاط بكثيرين، فكن كمن هو ليس مختلطًا بهم إن كنتَ تحب أن تُرضى الله.
القدِّيس الأنبا أنطونيوس الكبير
“الولد أيضًا يُعرف بأفعاله،
هل عمله نقي ومستقيم” [ع 11].
ليس فقط الكبار، وإنما حتى الأطفال الصغار تُعرف نقاوتهم واستقامتهم من سلوكهم العملي، كما في حالة صموئيل الصبي الصغير في الهيكل (1 صم 3: 18-21).
“الأذن السامعة والعين الباصرة،
الرب صنعهما كلتيهما” [ع 12].
إن كان الجميع لا يتزكون، إذ هم في حاجة إلى العمل الإلهي لتطهيرهم، تسللت الخطية إلينا وهي ليست من صنع الخالق. إنما خلق الله الأذن لتنصت للوصية والعينين لتبصرا السماويات، كل خليقته صالحة. الشر دخل إلينا بإرادتنا، حيث قبلنا مشورة إبليس.
- السهر
“لا تحب النوم لئلا تفتقر،
افتح عينيك تشبع خبزا” [ع 13]
كثيرًا ما يحذرنا الحكيم من الكسل، فإذ يمارسه الإنسان يحل به الفقر الروحي كما الاجتماعي والمادي. يفقد كل شيء ويفتقر، ولا يجد ما يشبعه. أما الذي يجتهد ويسهر فالليل يتحول بالنسبة له إلى نهارٍ، يحقق وصية الرسول: “استيقظ أيها النائم، وقم من الأموات، فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14).
القلب السهران يترقب مجيء السيد المسيح بفرح.
V العين الساهرة تطهر العقل، وكثرة النوم تظلم النفس[635].
V النوم الكثير يسبب النسيان، والسهر ينقي الذاكرة[636].
القديس يوحنا الدرجي
- الخداع
“رديء رديء يقول المشتري،
وإذا ذهب فحينئذ يفتخر” [ع14]
المشتري المخادع يبخس من سمات البضاعة، فيدعي أنها رديئة حتى يستطيع أن يشتريها بثمنٍ بخسٍ. وإذ يبلغ غايته يفرح أنه استطاع أن يخدع البائع، مفتخرًا بذلك أمام أسرته وأصدقائه.
- شفتا الحكيم
“يوجد ذهب وكثرة لآلئ،
أما شفاة المعرفة فمتاع ثمين” [ع15]
كلمة الحق الصادرة عن معرفة صادقة أثمن من الذهب وكثرة اللآلئ.
- التهور في الضمان
“خذ ثوبه لأنه ضمن غريبًا،
ولأجل الأجانب ارتهن منه” [ع 16]
سبق فحَذَّر الحكيم المؤمن من التسرع في ضمان إنسانٍ غريبٍ لا يعرفه، ولا يقدر أن يوفي الدائن بما ضمنه، فيفقد حتى ثوبه الذي يستره. يليق بالمؤمن أن يدقق في حساب النفقة، ولا يأخذ قرارًا بضمان أحدٍ متسرعٍ، وفي غير دراسة وروية.
- الكذب
“خبز الكذب لذيذ للإنسان،
ومن بعد يمتلئ فمه حصى” [ع 17]
قد ينجح الكذب والخداع، وقد يُسر الناس به، لكنه سرعان ما ينكشف الحق، فيتطلعون إلى فم الكذاب كما لو كان ممتلئًا بالحصى.
V الكذب هو هلاك الحب وتغيبه، والحنث هو إنكار الله[637].
V الذي اقتني مخافة الرب، قد أبعد عنه الكذب، لأن له ضميره قاضيًا نزيهًا[638].
القديس يوحنا الدرجي
- التهور والاندفاع
“المقاصد تثبت بالمشورة،
وبالتدابير اعمل حربًا” [ع 18]
يطالبنا السيد المسيح ألا نتهور، بل في كل قرارٍ يلزمنا أولاً أن نحسب النفقة. “أي ملك إن ذهب لمقاتلة ملك آخر في حربٍ لا يجلس أولاً ويتشاور، هل يستطيع أن يلاقي بعشرة آلاف الذي يأتي بعشرين ألفًا. وإلا فمادام ذلك بعيدًا يرسل سفارة ويسأل ما هو للصلح” (لو 14: 31-32).
- الوشاية
“الساعي بالوشاية يفشي السر،
فلا تخالط المُفَتح شفتيه” [ع 19]
الذي يقوم بالوشاية ضد شخص، فيُظهر لطفًا أمام وجهه، بينما يشوِّه صورته أمام الآخرين، إنسان مخادع لا يعرف المحبة. لا يليق بنا أن نأتمن مثل هذا المتملق، ولا ننصت لكلماته.
V سمعت البعض يغتابون قريبهم، فوبختهم. فأجابني فاعلو الشر مدافعين عن أنفسهم بقولهم إنهم يعملون هذا من تلقاء حبهم واهتمامهم بمن يغتابونه. فقلت لهم: “كفُّوا عن مثل هذا الحب، وإلا فإنكم تكذِّبون القائل: “الذي يغتاب قريبه سرًا كنت أطرده” (مز 101: 5). فإن هذا هو نوع الحب الذي يقبله الله[639].
V إن الحكم على الآخرين، هو اختلاس وقح لسلطةٍ تخص الله وحده، إدانة الرفيق إهلاك للنفس[640].
القديس يوحنا الدرجي
- إهانة الوالدين
“من سب أباه أو أمه، ينطفئ سراجه في حدقة الظلام” [ع 20]
من يهين والديه يجد نوره قد انطفأ، ويحوط الظلام بنفسه. فإنه وإن أخطأ الوالدان يليق بالأبناء الستر عليهم، وذلك كما فعل سام ويافث عندما تعرَّى نوح بسبب سكره (تك 9: 23).
- تكديس الثروة والممتلكات
“رب مُلْكٍ مُعجِّل في أوله،
أما آخرته فلا تبارك” [ع21]
اكتناز ثروة بطريق غير مشروع يفقد الإنسان بركة الرب (أم 21: 6، 28: 20).
V هؤلاء عندما يتحرقون بشهوة الامتلاء والشبع من كل أنواع الثروات وبسرعة، هؤلاء يقول لهم الكتاب: “المستعجل إلى الغنى لا يبرأ” (أم 28: 20) ومن الواضح أن الذين يسعون لزيادة ثرواتهم بجهدٍ، لا يهتمون بتحاشي الخطيئة، ويقلدون الطيور عندما ترْقُب الطُعْم الأرضي بنَهَم.
إنهم لا يدركون أنهم يختنقون في شراك الخطيئة، ويتوقون للمكاسب العالمية، ويتجاهلون الخسارة التي سيعانون منها مستقبلاً، هؤلاء عليهم أن يسمعوا الكتاب القائل: “رُبَّ مُلْكٍ مُعجِّلٍ في أوله، أما آخرته فلا تُبَارَكْ” (أم 20: 21).
هذه الحياة هي في الحقيقة بداية حتى ندخل في النهاية إلى أرض المختارين. لأنه عندما نرغب في الغنى هنا بحب الشر، ننزع عن أنفسنا الميراث الأبوي الأبدي. الذين يرغبون في نيل الكثير ويمكنهم أن يحققوا كل ما يرغبون فيه، يقول لهم الكتاب: “لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟” (مت 16: 26). وكأن الحق يقول بوضوح: “ماذا يربح الإنسان إذا استطاع أن يجمع كل شيء حوله ولعن نفسه؟”.
وعادة ما تنصلح شهوة الأشرار المغتصبين بسرعة عندما يوقنون بالإرشاد أن هذه الحياة عابرة وفانية. إننا نُذَكِّر الذين يثابرون ليكونوا أثرياء في هذا العالم بأن غناهم لن يدوم طويلاً وسيفاجئهم الموت العاجل ليجردهم من كل ما جمعوه بوسيلة شريرة. فإنهم هكذا يحملون معهم للدينونة اتهامًا بالنهب. ليتأملوا أمثلة لأناس كانوا يلعنونهم. لقد فحصوا ضمائرهم وخجلوا، لأنهم قاموا بتقليد أشخاص قد سبق ولعنوهم لأنهم ارتكبوا بأنفسهم نفس الأعمال الشريرة[641].
البابا غريغوريوس (الكبير)
- عدم الانتقام
“لا تقل إني أجازي شرًا،
انتظر الرب، فيخلصك” [ع 22]
يشعر المؤمن أن حياته كلها في يد الرب إلهه، فلا ينتقم لنفسه، بل ولا يشتهي النقمة من مقاوميه حتى عن طريق آخرين، إنما يشتهي خلاصهم، ويؤمن بأن الله يحول كل الأمور لخيره وخيرهم. يقول الرسول: “لا تجازوا أحدًا عن شرٍ بشرٍ، معتنين بأمورٍ حسنة قدام جميع الناس. إن كان ممكنًا، فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس. لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانًا للغضب، لأنه مكتوب: ليَ النقمة أنا أجازي يقول الرب” (رو 12: 17-19).
- الموازين الغاشة
“معيار فمعيار مكرهة الرب،
وموازين الغش غير صالحة” [ع 23]
سبق الحديث عنها (20: 10)
- النعمة الإلهية
“من الرب خطوات الرجل،
أما الإنسان فكيف يفهم طريقه” [ع 24]
لا يستطيع الإنسان بفهمه الذاتي، ولا بمجهوده الشخصي، أن يتعرف على طريق الحق ويسلك فيه. إنه محتاج إلى تدخل إلهي، إلى نعمة الله. يقول إرميا النبي: “عرفتُ يا رب أنه ليس للإنسان طريقة، ليس لإنسانٍ يمشي أن يهدي خطواته”. كما يقول: “أدبني يا رب ولكن بالحق، لا يغضبك، لئلا تفنيني” (إر 10: 23-24).
الله مستعد لأن يرشد أولاده ويقودهم ويسندهم: “أعلمك وأرشدك الطريق التي تسلكها، أنصحك، عيني عليك” (مز 32: 8).
لم يكن ممكنًا لموسى أو غيره من الأنبياء أن يسلك الطريق بدون قيادة الله له. فكثيرًا ما أكد له: “أنا أكون معك” (خر 3: 12)، “فالآن اِذهب وأنا أكون مع فمك، وأعلمك ما تتكلم” (خر 4: 12).
V لن تتم هذه الأمور التي أمر بها الله إلاَّ كعطية من مقدم الوصايا وبمعونته، لأنه باطلاً نسألها إن كنا نقدر أن نتممها دون معونة نعمته[642].
القديس أغسطينوس
V للرب الباكورة (بدء العمل) والإنجازات (تكملته). فلكي أبدأ السير في الطريق يلزم أن أُدعى، لأنه: “من الرب خطوات الرجل، أما الإنسان فكيف يفهم طريقه؟” (أم 24:20). ولكي لا انحرف عن الطرق المستقيمة وحتى لا أسلك في طريق معوج. أقول بأسلوب التمني: “فيا ليت طرقي تستقيم إلى حفظ حقوقك”. فإنني لا أحفظ حقوقك ما لم تكن طرقي تحت إرشادك وتدبيرك.
العلامة أوريجينوس
V هل لا نزال نجسر ونفتخر بالإرادة الحرة ونهين بركات الله واهب العطايا إن كان الإناء المختار (بولس) يكتب بوضوح: “ولكن لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية ليكون فضل القوة لله لا منّا” (2 كو 4: 7)؟[643]
القديس جيروم
V من الذي يكتب في القلوب؟ الله هو الذي يكتب بإصبعه في كل الضمائر الناموس الطبيعي الذي أعطاه للجنس البشري. فيه نبدأ ونأخذ بذور الحق للدخول به إلى العمق. هذه البذور التي إن اعتنينا بزراعتها تأتي فينا بثمارٍ جيدة بالمسيح يسوع[644].
العلامة أوريجينوس
V كانت عادة بولس أن يطلب نعمة المسيح أن تكون مع الذين يكتب إليهم[645].
ثيؤدورت أسقف قورش
- التسرع
“هو شرك للإنسان أن يلغو قائلاً مُقدَّس،
وبعد النذر أن يسال” [ع 25]
لا يليق بنا التسرع في الحكم بأن أمرًا ما مقدسًا دون فحصه والسؤال عنه، كما لا يجوز التسرع في النذر.
لقد تسرع يفتاح في نذره، فقدم ابنته الوحيدة ذبيحة (قض 11: 30-40).
- اعتزال الشر
“الملك الحكيم يشتت الأشرار،
ويرد عليهم النورج” [ع 26]
الملك الحكيم يزيل من قصره الأشرار، ويحوِّط نفسه بأناس مخلصين محبين للحق والبرّ، فيطمئن لخلاصهم كما لمشورتهم، ويمكنه الاعتماد عليهم في أمورٍ كثيرة. بهذا يتمتع الملك كما المملكة بنوعٍ من الاستقرار.
ما نقوله عن الملك والملكوت الزمني ينطبق أيضًا على ملكوت الله الذي يقيمه في نفوسنا، فلكي ننعم بهذا الملكوت يلزمنا ألا نترك أثرًا للشر والفساد فينا. لا نستطيع أن نمارس الخير ما لم نكف عن الشر إذ ليس من شركة بين النور والظلمة، وبين المسيح وبليعال.
طالب الرسول بولس كنيسة كورنثوس أن تعزل الخبيث من بينهم، حتى لا يكون خميرة فاسدة تفسد العجين كله!
- النور الداخلي
“نفس الإنسان سراج الرب،
يفتش كل مخادع البطن” [ع 27]
يهب الله روح الإنسان نور المعرفة، “لأن مَن مِنَ الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه؟” (1 كو 2: 11). يدعو الروح هنا “سراج الرب“، ينير ليس من ذاته، وإنما بعمل الله فيه، لذا لم يقل: “نور الرب” بل سراجه. عن طريق الروح يتحدث الله مع الإنسان، ويجتذبه إليه، ويكشف له عن أسراره.
“يحبلون ويلاً، ويلدون إثمًا، ويعد رحمهم خداعًا” (أي 15: ٣٥ Vulgate).
يحبل (الإنسان) ويلاً عندما يدبر أمورًا شريرة، ويلد إثمًا عندما يبدأ في تنفيذ ما دبره.
بالتمتع بالحسد يحبل ويلاً، وبالنطق بالافتراءات يلد إثمًا.
إنه لشر عظيم عندما يجاهد الشرير أن يُظهر الآخرين أشرارًا، حتى يبدو هو نفسه قدِّيسًا، إذ يظهر الغير غير مقدَّسين.
V يلزمنا أن نضع في ذهننا أنه يُستخدم لقب “البطن” أو “الرحم” في الكتاب المقدَّس ليُفهم بهما “العقل”. قيل بسليمان: “سراج الرب طرق البشر يبحث عن كل الأجزاء الداخلية للعقل (الذهن)” (أم ٢٠: ٢٧).
بلقب “الرحم” يُفهم “العقل”. فكما أن النسل يُحبل به في الرحم، هكذا الفكر يتولد في العقل. وكما أن اللحم يوجد في البطن هكذا الأفكار في العقل. هكذا فإن رحم المرائي يعد خداعات، إذ يحبل دومًا في عقله شرورًا عظيمة ضد أقربائه، تتناسب مع أهدافه نحو نفسه، أن يظهر بريئًا أمام كل البشر.
V آلام الجسد نعمة عظيمة لا بد أن يدركها المريض، فهي تطهر من الآثام، وتحد من الخطايا التي يمكن ارتكابها. كذلك يعاني العقل من الجراح القاسية الاحتمال التي تتسلط عليه من ضربات خارجية. لذلك يقول الكتاب المقدس: “حُبُرُ جُرْحٍٍ منقيةٌ للشرير، وضرباتٌ بالغةٌ مخادِعَ البطن” (أم 20: 30)[646]. نعم إن حُبُرُ الجراح تنقي من الشرور؛ أي أن آلام التطهير تنقي من الشرور، سواء التي بالفكر أو بالفعل. البطون تشير عادة إلى العقول، لأنه كما تستهلك البطون الطعام يتمثل العقل الهموم بالتأمل والتفكير فيها. إننا نتعلم أن العقل يشار إليه بالبطن من العبارة المكتوبة: “نفس الإنسان سراجُ الربِ، يفتش كل مخادعِ البطن.” (أم 20: 27)، أي أن سراج الوحي الإلهي يدخل إلى النفس البشرية فينيرها كاشفًا لها كمرآةٍ. لأنه قبل حلول الروح القدس كانت النفس تلهو بالآثام، ولكنها لم تعرف كيف تُقَدِر أخطارها.
نعم، إن حبر جرح منقية للشرير، وضربات بالغة مخادع البطن. أي أنه عندما نُضْرَب من الخارج، فإننا نُسْتَدعَى في صمت مُعَذَبين لنتذكر خطايانا ونراها بعيوننا. وبمقدار ما نتألم خارجيًا، بقدر ما نحزن داخليًا على أفعالنا. وهكذا تتزامن جروح الجسد الخارجية مع الآلام السرية التي تطهر مخادع البطن تمامًا. إن الحزن على الجراح الخفية يشفي خبث الأفعال الشريرة.
ينبغي أن نعظ العليل حتى يحتفظ بفضيلة الحلم، وحتى يتفكر كم هي عظيمة العذابات التي تحملها مخلصنا على أيدي الذين جبلهم. وكم كانت تلك الإهانات بالغة ومفزعة، كم كانت الصفعات على الوجه الطاهر كثيرة على أيدي الهازئين. هذا كله بينما يختطف المخلص كل يوم نفوسًا من الأسرى الذين في قبضة العدو القديم. وبينما كان يغسلنا بماء الخلاص، لم يجفف وجهه من بصاق الغادرين. لقد تحمل في صمت سبابنا ليحررنا من العذاب الأبدي من قِبَل دوره كوسيطٍ، لقد تَحمَّل اللطم ليمنحنا مجدًا خالدًا مع جوقات الملائكة. وبينما خلصنا من تبكيت خطايانا، لم يخشَ من أن يُعرِّضَ رأسه للشوك. لقد قبل مرارة الحقد في عطشه لكي يُسكرنا بعذوبة الماء الأبدي. وعندما قدموا له العبادة مستهزئين صمتَ، وقدم عنا عبادة الحب للآب مع أنه مساوٍ له في الجوهر. وبالرغم من أنه هو الحياة، عبر إلى الموت حتى يُعِدَّ الحياة للأموات. إذًا لماذا يصعب على الإنسان أن يتقبل الضربات الإلهية بسبب أفعاله الشريرة، إذا كان الله قد تحمل شرًا هذا مقداره جزاء أفعاله الصالحة؟ ومن ذاك الحكيم والعاقل الذي يتنكر للجميل لأن الآلام قد ضربته، بينما لم يَسْلَم المخلص الذي عاش بلا خطية من ضرب السياط؟[647]
البابا غريغوريوس (الكبير)
- الرحمة
“الرحمة والحق يحفظان الملك،
وكرسيه يسند بالرحمة” [ع 28]
ليس ما يعطي لكرسي الملك من استقرار مثل عمل الرحمة والتمسك بالحق. بهذا يتشبه بالسيد المسيح الذي قدم رحمته للعالم كله بالصليب، ووهبنا ذاته بكونه الحق.
V ليس شيء يجعلنا مساوين لله سِوى فعل الصلاح (الرحمة).
V لنأتِ بأنفسنا وأولادنا وكل من لنا إلى مدرسة الرحمة، وليتعلَّمها الإنسان فوق كل شيء، فالرحمة هي الإنسان… لنحسب أنفسنا كمن هم ليسوا أحياء إن كنا لا نظهر الرحمة بعد![648]
V هذا هو عمل الله… لقد خلق الله السماوات والأرض والبحر. عظيمة هي هذه الأعمال ولائقة بحكمته! لكن ليس شيء من هذه لها سلطان تجتذب الطبيعة البشريّة إليه، مثل رحمته وحبُّه للبشر[649]!
V المحبَّة (الرحمة) كما لو كانت أسمى أنواع الصناعة، وحامية لمن يمارسها. إنها عزيزة عند الله، تقف دائمًا بجواره تسأله من أجل الذين يريدونها، إن مارسناها بطريقة غير خاطئة!…
إنها تشفع حتى في الذين يبغضون، عظيم هو سلطانها حتى بالنسبة للذين يُخطئون!
إنها تحل القيود، وتبدِّد الظلمة وتُطفئ النار، وتقتل الدود، وتنزع صرير الأسنان.
أمامها تنفتح أبواب السماوات بضمان عظيم، وكملكة تدخل ولا يجسر أحد الحُجَّاب عند الأبواب أن يسألها من هي، بل الكل يستقبلها في الحال.
هكذا أيضًا حال الرحمة، فإنَّها بالحق هي ملكة حقيقيّة، تجعل البشر كالله. أنها مجنحة وخفيفة لها أجنحة ذهبيّة تطير بها تبهج الملائكة جدًا[650].
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
- القوة والحكمة
“فخر الشبان قوتهم،
وبهاء الشيوخ الشيب” [ع 29]
V عمل الحكمة هو البرّ، لأنها تحول عطيتها من المعاندين وغير المؤمنين إلى المؤمنين شعب الله المطيع. على أي الأحوال من المفيد هنا أن نراعي باهتمام هذه الملاحظة: “تُعرف الحكمة بأعمالها” (راجع مت 11: 19)[651].
القديس هيلاري أتسقف بواتييه
V “الحكمة عند الشيب، والفهم بطول الأيام“. ذلك لأن الحكمة نقتنيها بالدراسة، والتعلم يغرس في الذهن بدروس البشر. أما بالنسبة لله فالأمر على غير ذلك، لأنه هو نفسه الحكمة في شخصه، وهو الذي يعلم دروس الحكمة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
- جراحات التأديب
“حُبر جُرحٍ منقية للشرير،
وضربات بالغة مخادع البطن” [ع 30]
التأديب هو علامة البنوة، فالأب يهتم ببنيان ابنه الشرعي، ولا يبالي بالنغول (الأبناء غير الشرعيين): “وَلَكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ”. وكما قال القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن كان عدم التأديب علامة خاصة بالنغول، إذن يليق بنا أن نفرح بالتأديب كعلامة شرعية بنوتنا[652].]
V الأب لا يهذب ابنه لو لم يحبه، والمعلم الصالح لا يصلح من شأن تلميذه ما لم يرَ فيه علامات نوال الوعد. عندما يرفع الطبيب عنايته عن مريض، يكون هذا علامة يأسه من شفائه.
القديس چيروم
من وحي الأمثال 20
لتقدني حكمتك في كل سبل الحياة!
V لأسكر بحبك، فلا أطلب ملذات الجسد.
يرتفع عقلي مع قلبي لرؤية أسرارك!
فلا يطلب جسدي خمر هذا العالم.
ولا أستعبد نفسي لأي إدمان!
V بحكمتك احترم كل إنسان،
أخضع للسلاطين بمخافتك.
وأقدم الكرامة لمن لهم الكرامة.
لن يحتل الخوف قلبي،
لأني أحمل مخافتك واهبة الفرح!
V أقتنيك، فأنت هو سلامي.
يحل السلام في داخلي،
وأنعم بالمصالحة مع السماء،
واشتهي أن تصير الأرض كلها سماءً،
قانونها السلام الحقيقي.
V إلهي… أنت تعمل لحسابي حتى الآن.
كيف أفتح بابًا للكسل والتراخي؟
كيف أسلم حياتي بالكسل لعدو الخير؟
V لأعمل بك حتى ألتقي معك.
هب لي روح التواضع،
فأطلب لي مشيرًا، يسندني بروحك.
أراك تعمل في المتواضعين،
وتُسر بالسالكين بروح الطاعة.
V افضحني أمام نفسي،
حتى لا أنفضح في يوم الرب العظيم.
لا أنشغل بمديح الناس أو ذمهم.
إنما أستتر برحمتك وبرَّك.
من يتبرر أمامك؟
نعمتك تسترني!
V نعمتك تقدس مفاهيمي،
فأتمتع بمعايير صادقة.
أحاسيسي وعواطفي وكل سلوكي يتقدس بك.
نفسي تسهر للعمل لحساب ملكوتك.
أسلك بروح الحكمة والاتزان.
يعمل الحق فيٌ، فلا أعرف الكذب.
أحب الجميع، ولا أمارس الوشاية بأحدٍ.
احترم كل أعضاء أسرتي.
وأترفق بكل إنسان.
أقبل كل تأديب من يديك!
وتعمل كل الأمور لبنيان نفسي.
تفسير أمثال 19 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 21 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |