تفسير سفر الأمثال ٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن
نداء علني للحكمة الأزلي
في الأصحاح السابق تحدث عن الشر كامرأة زانية لا تكف عن أن تستخدم كل وسيلة لكي تخدع الإنسان لكي تهلكه، فإن قتلاها أقوياء. بيتها هو طريق الهاوية، تحدر الكثيرين إلى خدور الموت.
في مقابل هذا نجد في هذا الأصحاح محبة الله الفائقة التي أعدت لنا الخلاص، فقدم لنا “حكمته” الأزلي متجسدًا، كلمة الله، ربنا يسوع المسيح الذي نزل إلى عالمنا، وسار بيننا، يقدم نفسه لنا حكمةً ومعرفةً وحقًا، نقتنيه فهو أفضل من كل اللآلئ وكل الجواهر لا تساويه، يهبنا ذاته ويدخل بنا إلى الأحضان الإلهية.
يحتاج إليه كل أحد ليصير ملكًا أو عظيمًا في الرب، يملك ويدبر أموره حسنًا، ويسلك بالحق. هو موضع سرور الآب، به نصير موضع لذة الآب، يُسر بنا ويهبنا الحياة المُطوَّبة.
للمرة الثالثة يتحدث الحكيم عن الحكمة كشخص وليس مجرد سمة (20:1-32؛ 13:3-18؛ 1:8-18:9).
نداء الحكمة العلني1-11.
في الأصحاحين 8،9 إذ يظهر الحكمة كشخصٍ، يمارس 19 عملاً لكي يجتذبنا إليه، بالتعامل معنا بكل وسيلة:
- يصرخ بلا انقطاع (1:8-3).2. يقف ليلتقي بنا (2:8).
- يدعونا، مناديًا كل بني البشر (4:8).4. يتحدث معنا (4:8).
- يوبخ (5:8).6. يكره الكذب (7:8).
- يؤدب (10:8).
- يجد معرفة عملية يقدمها للمؤمن (12:8).9. يبغض الكلمات الكاذبة (13:8).
- يقدم المشورة الحقة والرأي السديد (14:8).
11 . يهب الملوك والعظماء والرؤساء والشرفاء كرامة مع عدل (15:8،16).
- يحب (17:8).13. يقود في طرق الحق (20:8).
- يعطي بسخاء ويملأ مخازن مؤمنيه (21:8). 15. يتهلل فرحًا (31:8).
- يبتهج ويتلذذ ببني البشر محبيه (31:8).
- يبني له بيتًا بتجسده، وينحت أعمدة (1:9).
- يُعد طعامًا ذبيحيًا ومائدة سرائرية (2:9).
- يُرسل عبيده وجواريه لدعوة البشرية إلى وليمته (3:9-6).
إن كانت الجهالة أو الخطية تظهر كامرأة خبيثة القلب جامحة وخائنة، تهوى اصطياد النفس وإغراءها بكل وسيلة لكي تحدرها إلى الهلاك الأبدي، فإن حكمة الله الأزلي لا يقف مكتوف الأيدي، إن صح التعبير، فإنه لا يكف عن أن ينادي في كل موضع، بل وهو الخالق ينزل إلى خليقته، وهو الحكمة المحبوب لدى الآب يجد لذته في بني آدم يقدم لهم شركة الحياة السماوية، والتمتع بالحياة المطوبة.
“ألعلّ الحكمة لا تنادي (تصرخ)،
والفهم ألا يُعطي صوته؟!” [1]
قديمًا صدر الأمر الإلهي لإشعياء النبي: “نادٍ بصوتٍ عالٍ؛ لا تمسك؛ ارفع صوتك كبوقٍ وأخبر شعبي بتعدِّيهم وبيت يعقوب بخطاياهم” (إش1:58). وكان اللاويون يقرأون البركات واللعنات بصوتٍ عالٍ (تث14:27).
تنادي الحكمة على الدوام وتصرخ لكي يسمع الكل صوتها، لتُعلن عن إرادة الله وخطته من جهة الإنسان. تعلن ذلك خلال الطبيعة التي تشهد بعناية الله؛ وتحدثت بأكثر وضوح خلال الآباء والشريعة والأنبياء. لكن الصعوبة تكمن في رفض الإنسان للاستماع للصوت الإلهي.
إن كانت الخطية لا تتوقف عن الإغراء، فإن حكمة الله ينادي بلا توقف. وكما يقول الرسول بولس: “الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكل شيء الذي به أيضا عمل العالمين” (عب1:1،2). جاء أخيرًا الحكمة الإلهي – السيد المسيح – ينادي بنفسه ويُعطي صوته مباشرة. قدم لنا حديثه، ليس فقط بالكلام، وإنما بالحب العملي الباذل على الصليب، كما أعطانا روحه القدوس لكي يحملنا فيه، فنسمع صوته خلال اتحادنا فيه، وتجديدنا المستمر لنصير أيقونة حية له.
في هذا الأصحاح يبرز أن الحكمة هي التي تسعى وراء الإنسان وتبحث عنه وتدعوه ليقبلها، لكنها لا تلزمه بذلك. على خلاف ما يتصور الكثيرون أن الله معتزل في سمواته، والإنسان يبحث عنه ويحاول إرضاءه، نرى الله خلال الحكمة ينزل إلى الإنسان، يطلبه في الشوارع وفي كل موضع، فإنه مبادر بالحب.
أين ينادينا الحكمة؟
“عند رؤوس الشواهق،
عند الطريق بين المسالك تقف.
بجانب الأبواب عند ثغر المدينة،
عند مدخل الأبواب تصرخ” [2،3].
حكمة الله أو كلمته ينادي في بيت الرب الذي كان يٌقام على رؤوس التلال العالية، والذي يقع بين مفترق الطرق كمركز للقرى المحيطة به، وقد جاء التعبير العبريbeith neithiboth nitstsbabah ليعني “البيت المؤسس عند الطرق”. فإن كنا نسمع صوت الله أينما وجدنا ، وتحت كل الظروف ، لكن الله يحدثنا بالأكثر في بيته، فالكتاب المقدس هو كتاب الكنيسة، والكنيسة هي كنيسة الكتاب. في الكنيسة نلتقي بالسيد المسيح، حكمة الله، ونفتنيه ونحيا به…نسمع صوته فينا!
يقدم لنا سليمان الحكيم ثلاثة مواقع نلتقي فيها بالحكمة الإلهية:
ا. “عند رؤوس الشواهق” ، أي على المرتفعات العالية فقد استلم موسى النبي الشريعة على قمة جبل سيناء، وقدم السيد المسيح موعظته على الجبل. هكذا نحن مدعوّون لكي ننطلق مع السيد المسيح كما مع بطرس ويعقوب ويوحنا فنراه متجليًا على جبل طابور. نصعد دومًا ولا نستكين عند سفح الجبل ، فنقول مع المرتل: “إليك رفعت نفسي …”، ترتفع نفوسنا لتتحد مع المصلوب على جبل الجلجثة! هناك نسمع الصوت الإلهي الفريد، صوت الحب العملي الباذل، الوصية الإلهية في أروع صورها!
تقف الحكمة عند قمم المرتفعات والجبال، فالدعوة علنية. ارتفع السيد المسيح – الحكمة – على الصليب على جبل الجلجثة، حيث شاهده اليهود والأمم، ليُعلن حبه العملي الباذل، باسطًا يديه ليحتضن الكل بلا استثناء. إنه محب كل البشرية، مخلص العالم!
إن كان قد نزل حتى سفح الجبل ليلتقي بالجماهير البسيطة، فإنه ينادي من على القمم لكي يراه الكل ويسمعوه، ولا يكون لأحد عذر في رفض الدعوة.
ب. “عند الطريق بين المسالك”، فالحكمة يقف عند مفترق كل الطرق ، حتى يأتي إليه الجميع ، من المشارق والمغارب، ومن الشمال والجنوب. إنه مخلص العالم كله! هكذا تفتح الكنيسة أبواب قلبها لكل إنسان!
عند ملتقى الطرق يقف السيد المسيح حيث يجد الإنسان في حيرة لا يعرف أين يتجه، فيقوده في الطريق الملوكي. يظلل عليه كسحابةٍ تحميه في النهار، وكعمود نورٍ يبدد الظلمة من خلاله. لقد قيل عن الجهلاء: “تعب الجهلاء يعيبهم، لأنه لا يعلم كيف يذهب إلى المدينة” (جا15:10)، لذا يقف حكمة الله فيلتقي بهم ليدخل بهم إلى بيته، بيت الحكمة السماوي.
جاءت العبارة بالعبرية beith nethiboth nitsabah”” تعني “البيت المؤسس عند الطريق“، ويعني به “بيت الله”، سواء خيمة الاجتماع أو الهيكل في العهد القديم، والكنيسة في العهد الجديد، حيث يكون بيت الله في ملتقى الطرق، ويمكن للإنسان أن يبلغ إليه.
إن كان بيت الله هو موضع العبادة حيث يلتقي فيه المؤمنون كأبناء لله يمارسون عبادتهم خلال بنوتهم لله، فإنه أيضًا موضع كرازة، فيه يتحدث السيد المسيح للعالم خلال خدامه ليُدرك الكل محبة الله الفائقة. فالكنيسة هي موضع لقاء الحكمة الإلهي بالبشرية، حيث يُقدم المسيح ذاته للجميع.
ج.”بجانب الأبواب…عند مدخل الأبواب”، هناك كان يجتمع شيوخ المدينة ليحكموا في قضايا الشعب، وكأن الحكمة الإلهية يود أن يقدم ذاته لكل من له شكوى، أو من كان في ضيقٍ، فهو وحده يقدر أن يرد للنفس سلامها.
إذ تجسد حكمة الله، وصار إنسانًا، كان يجول يصنع خيرا في كل موضع .أعلن رسالته في الهيكل كما في المجامع، وعلى قمم الجبال، وعلى شواطئ البحار، وفي القرى، كما في طرق المدن وفي البيوت. وقد استلم تلاميذه هذه الروح ، فسلكوا كما سلك معلمهم ، يبحثون عن الخطاة أينما وجدوا، ويقدمون صوت الحق في كل موضع.
تصرخ الحكمة عند أبواب المدخل ومداخلها لتلتقي بالداخلين والخارجين. إن كان السيد المسيح هو “الباب” فإن تلاميذه ورسله وكل خدامه يلزمهم أن يصرخوا بحق الإنجيل فيه، ليكشفوا عن كنوزه المقدمة للبشرية، وعن الحق لكي يتمتع الكل به.
ليتنا لا نقف مع السيد فقط على القمم العالية، ولا نتحدث عنه فقط في داخل المبنى الكنسي، لكن نحمله إلى كل إنسان، نذهب إليه لنقدم له “الباب الملوكي“.
V إذ يتمسكون بالبر في براءة لا يخجلون، هذه هي الكرازة عند الباب.
ومن هو هذا الذي يكرز عند الباب؟
ذاك الذي يكرز في المسيح، لأن المسيح هو الباب الذي به ندخل إلى تلك المدينة…
لهذا فان الذين يتكلمون ضد المسيح هم خارج الباب، إذ يطلبون كرماتهم الذاتية، لا كرامة المسيح . أما الذي يكرز عند الباب فيطلب كرامة المسيح لا كرامته الخاصة. لهذا فإن من يكرز عند الباب يقول: “لا تثق فيَّ، لأنك لا تدخل من خلالي بل من خلال الباب. أما الذين يطلبون من الناس أن يثقوا فيهم فإنهم يريدون منهم ألا يدخلوا من الباب، فلا نعجب إن أُغلق الباب أمامهم وباطلاً يقرعون ولا يُفتح لهم[190].
القديس أغسطينوس
“لكم أيها الناس أنادي،
وصوتي إلى بني آدم” [4].
جاءت كلمة “الناس” هنا ishim لتعني أصحاب الغنى والسلطة، فالحكمة الإلهي ينادي أصحاب السلطان كقادة مسئولين وأيضًا يرفع صوته إلى كل بني البشر . يدعو الأغنياء كما الفقراء أن يسلكوا بالحكمة. إنه يدعو كل بني آدم ، فقد ذاق السيد المسيح الموت من أجل كل إنسانٍ، مقدمًا إنجيل الخلاص لكل العالم. وكما يقول الرسول بولس: “برّ الله بالإيمان بيسوع المسيح إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون لأنه لا فرق…” (رو22:3).
يعلن القديس أغسطينوس عن عمومية الخلاص للعالم بلا تمييز أو محاباة، قائلاً:
[جاء المسيح للمرضى فوجد الكل هكذا. إذن لا يفتخر أحد بصحته لئلا يتوقف الطبيب عن معالجته…لقد وجد الجميع مرضى.
لكنه يوجد نوعان من القطيع المريض؛ نوع جاء إلى الطبيب والتصق بالمسيح وصار يسمعه ويكرمه ويتبعه فتغير… أما النوع الآخر فكان مفتتنًا بمرض الشر ولم يدرك مرضه، هذا النوع قال لتلاميذه: “لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟!” (مت11:9). وقد أجابهم ذاك العارف لهم ولحالهم: “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى”[191].]
بعد أن أكد عمومية الدعوة عاد يخصص دعوته للحمقى والجهال، فإن من يكتشف خطاياه أو يدرك حمقه وجهله يجد في المخلص شفاءه.
“أيها الحمقى تعلموا ذكاءً،
ويا جُهّال تعلموا فهمًا” [5].
يوجه حديثه إلى البسطاء (الحمقى) pethaim الذين خدعتهم الكلمات المعسولة وإغراءات الخطية، فسقطوا في هوة الشر، كما يُحدِّث الجهال kesilim ، ويقصد بهم الأغبياء الذين في جهلهم صلّبوا الرقبة وفقدوا الإحساس.
يفتح باب الرجاء أمام المخدوعين والجهال بقبولهم إياه حكمة وفهمًا!
د. بركات النداء
غاية نداء حكمة الله أنه إذ يجد لذته في بني البشر يودّ أن يقدم لهم ذاته فينالوا غنى وكرامة وحكمة ومعرفة ونجاحًا في كل جوانب الحياة، كما يقدم حبًا لا يتلقاه إلا من يتجاوب معه بالحب… لذا يركز على وعده: “أحب الذين يحبونني“.
إذ أوضح سليمان أن الدعوة لم تتوقف قط وأنها عامة لجميع البشر، خاصة الذين خدعتهم الخطية وحطمهم الجهل، حدثنا عن بركات هذه الدعوة، قائلاً:
“اسمعوا، فإني أتكلم بأمورٍ شريفةٍ،
وافتتاح شفتي استقامة” [6].
لماذا يليق بهم أن يسمعوا؟ لأن ما ينطق به السيد المسيح ليس بأمور بلا قيمة، بل هي أمور شريفة negidim، أي أمور فائقة، لها الأولية في حياة الإنسان، أسمى من كل الأمور الأخرى. يُعلِم أمورًا تمس كرامتهم الأبدية ومجدهم الفائق الدائم.
إذ يفتح شفتيه تنبعث منهما الاستقامة meysharim ، أي الأمور التي تصحح مفاهيمنا الخاطئة وتحول الطرق الملتوية إلى طرق مستقيمة.
فإن كان الحديث موجه إلى الحمقى والجهال [5] هؤلاء الذين بجهالاتهم صاروا تافهين، لكن الحكيم يتحدث في أمور خطيرة تنزعهم مما هم فيه لتصير حياتهم ذات قيمة.
“لأن حنكي يلهج بالصدق،
ومكرهة شفتيَّ الكذب” [7].
ينطق السيد المسيح بالحق الذي لا يعرف الباطل، ولا يمتزج بالكذب!
“كل كلمات فمي بالحق (في البرّ)،
ليس فيها عوج ولا التواء” [8].
الحق betsedek الذي يخرج من شفتيه هو الحق العملي، أو البر الممتزج بالعدالة في معاملاته مع أبيه ومع البشرية، يُعطي ما لقيصر لقيصر، وما لله لله. كلماته تكشف بصدقٍ عن علاقة الإنسان بالله إلهه وبقريبه كما بنفسه. هذا الصدق الذي يحمل عدلاً واستقامة، وليس شيئًا من الخداع أو الانحراف، ولا يحتمل تأويلاً، أو الذي يقود إلى اعوجاج، ولكن على العكس:
“كلها واضحة لدى الفهيم،
ومستقيمة لدى الذين يجدون المعرفة” [9].
من هو مهتم بخلاص نفسه والتمتع بالمعرفة الحقة يدرك أسرار الحكمة الإلهية، وتصير خطط الله واضحة ومستقيمة أمامه ، ومن ينعم بالمعرفة، أي يعرف نفسه كما ينبغي يرى حتى في تأديبات الرب استقامة، ويتلامس مع وعود الله بكونها صادقة وأمينة.
لقد بكى القديس يوحنا الحبيب كثيرًا لأنه لم يوجد أحد مستحق أن يفتح السفر ويقرأه، ولا أن ينظر إليه. لكن قال له أحد القسوس: “لا تبكِ. هوذا قد غلب الأسد الذي من سبط يهوذا أصل داود ليفتح السفر ويفك ختومه السبعة” (رؤ5:5). الآن وقد فُكَّت ختوم السفر صارت خطة الله واضحة لمؤمنيه، يدركون أسراره ويتذوقون عربون المجد الذي أعده لهم.
كل ما يُعلنه السيد المسيح هو ثمين للغاية:
“خذوا تأديبي لا الفضة” [10].
“والمعرفة أكثر من الذهب المختار” [10].
لماذا يكرر الله الدعوة لكي نقبل التأديبات الصادرة منه أكثر من الفضة؟ كثيرًا ما يكف الآباء حسب الجسد عن تأديب أولادهم، إما لأنهم يئسوا من الإصلاح، أو لأنهم شعروا أنهم يُغضبون أبناءهم، أما أبونا السماوي فلن يتوقف عن تأديبنا لأنه يترجى دومًا خلاصنا، مهما بلغ عنادنا، ومن جانب آخر فإن محبته أبدية، لا يطلب أن يسترضينا هنا على حساب شركتنا معه في المجد الأبدي.
“لأن الحكمة خير من اللآلئ،
وكل الجواهر لا تساويها” [11].
المعرفة هي طعام النفس، بدونها تخور النفس وتموت! يقول الحكيم إن المعرفة أفضل من الذهب الخالص. يشبِّه البعض البشرية التي تنشغل بالذهب والغنى دون المعرفة الإلهية بجماعة انكسرت بهم السفينة في وسط المحيط، وإذ وجدوا جزيرة جرداء نزلوا إليها ونجوا لكنهم صاروا في عزلةٍ تامة عن كل العالم. كان لديهم غلال وأطعمة، فبدأوا يأكلون ويشربون، وإذ اكتشف أحدهم مناجم ذهب غنية جدًا تهللوا، وصاروا يستخرجون الذهب حتى اغتنوا جدًا ولم يبالوا بالزراعة. جاء فصل الشتاء ونفذ الطعام مع فيض كثير من الذهب، لكن ماذا ينفعهم الذهب؟ لقد خاروا من الجوع، وأخيرًا ماتوا وسط أكوام الذهب[192]. هذا هو حال من يرفض المعرفة الإلهية لأنه مشغول بالغنى.
بركات النداء12-21.
إذ يقدم حكمة الله نداء عامًا وعلنيًا لكل البشر كي يقتنوه، يكشف عن عمله في حياة الذين اقتنوه، حيث يُعلن ذاته لهم وفي داخلهم.
أولاً: يهب الذكاء والتدبير الحسن
“أنا الحكمة أسكن الذكاء،
وأجد معرفة التدابير” [12].
إذ يسكن حكمة الله فينا يسكن معه الذكاء، فيهب المؤمن فكرًا صادقًا وإدراكا واعيًا. كل ذكاء أو مهارة هو من عند الرب. فقد اخترع الإنسان طرق كثيرة للتدبير، والرب يهب كل طرقٍ للبنيان. ذكاء الإنسان الذاتي يُدمر إذ ينقصه الصلاح، وأما الذي يهبه الله فيبني.
من جانب آخر يهبه معرفة اختبارية عملية يدعوها “معرفة التدابير mezimnoth emsta“. كلما حمل الإنسان الحكمة الروحية، تترجم في حياته الداخلية وسلوكه الظاهر إلى تدابير عملية بارة ومقدسة في الرب. الذكاء هو قدرة على التفكير بمهارة، أما الحكمة فتحمل مع الذكاء ممارسة، فالحكمة تقود الإنسان إلى العمل بأسلوب لائق تقوي. هذا هو الجانب الإيجابي لعمل الحكمة، أما الجانب السلبي فهو كراهية الحكيم للشر والجهالة.
ثانيًا: يهب مخافة الرب التي ترفض الشر
“مخافة الرب بغض الشر،
الكبرياء والتعظم وطريق الشر وفم الأكاذيب أبغضت” [13].
تفيض الحكمة على مقتنيها ليس فقط بالذكاء والتدبير الحسن وإنما تملك على مشاعر القلب وأحاسيسه، فيكره المؤمن أربعة أمور: الشر، والكبرياء، والعجرفة والخداع. بمعنى آخر. إن كانت مخافة الرب هي رأس الحكمة، فإنه بالحكمة ننعم بالمخافة التي بدونها لن نحب البر والصلاح ونبغض الخطية والشر.
الخوف من العقوبة ربما يُلزمنا ألا نخطئ، لكنه قد يولِّد اشتياقًا أكثر نحو الخطية، لأن “المياه المسروقة حلوة، وخبز الخفية لذيذ” (أم17:9). أما مخافة الرب التي تقوم على دالة الحب وإدراك بنوتنا لله فتجعلنا نكره الخطية، ليس خوفًا من العقوبة، وإنما حبًا في الله أبينا إذ نرى في الخطية جرحًا لمحبة الله الذي لا يقبل الظلمة.
الإنسان وقد فسدت طبيعته بعد السقوط صار يميل إلى الخطية وينجذب إليها بالرغم من إدراكه لخطورتها على حياته، لذا يحتاج إلى حكمة الله، المخلص، ليجدد بروحه القدوس طبيعته، ويهبه بغضة داخلية للخطية.
لقد صرخ رجال العهدين القديم والجديد بسبب ميل الإنسان إلى الشر:
“القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس، من يعرفه؟!” (إر9:17).
“كما هو مكتوب إنه ليس بار ولا واحد، ليس من يفهم، ليس من يطلب الله. الجميع زاغوا وفسدوا معًا. ليس من يعمل صلاحًا، ليس ولا واحد” (رو10:3-12).
يستحيل على الإنسان أن يبغض الشر ما لم يحب الصلاح، ولما كان بغض الشر يقود الإنسان إلى هجر الطريق الشرير، ومحبة الصلاح تقوده إلى عمل ما هو حق في عيني الله، وذلك بفعل الروح القدس الذي يهب كراهية للشر وحب الصلاح، لذلك فإن هذا من جانبه يلهب فينا مخافة الرب.
إن كانت مخافة الرب تمثل صلاحًا عميقًا في القلب يقوده بعيدًا عن الشر، بل يهبه بغضة للشر، فإن هذا العمل الداخلي يحمل ترجمة عملية في السلوك الظاهر برفض الكبرياء والتشامخ والنطق بالكذب.
في حديث البابا أثناسيوس الرسولي عن القديس أنبا أنطونيوس الكبير يقول: [إذ كانت نفسه حرة من القلاقل، كان مظهره الخارجي هادئًا؛ هكذا من فرح نفسه حمل ملامح باشة؛ ومن حركات جسده يمكن إدراك حالة نفسه، كما هو مكتوب: “القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا، وبحزنه ينسحق (الوجه)” (أم13:15).
ثالثًا: يعطي القدرة على تقديم المشورة
“فيَّ المشورة والرأي.
أنا الفهم،
لي القدرة” [14].
إذ للحكمة – ربنا يسوع – المشورة وأيضًا القدرة على تقديم فكرٍ صائبٍ وتدبيرٍ حكيمٍ للأمور بفهم، فإنه يهب من يقتنيه القدرة على تقديم المشورة بدوره للآخرين. لهذا فإن المؤمن التقي يصير مشيرًا روحيًا حتى في صمته، أما الشرير فيعجز عن تقديم مشورة صالحة فعّالة، حتى إن كان يجيد الحديث وله خبرات طويلة.
السيد المسيح حكمة الآب (1كو14:1)، ينبوع الحكمة، ليس فقط يفيض علينا، بل يبعث فينا ينابيع مياه حيّة تفيض على من نلتقي بهم.
يقول “ليَ القوة“، حتى لا نحسب أن الحياة التقوية الهادئة ضعف واستكانة، بل هي تمتع بالقوة ذاته.
يعلق البابا أثناسيوس الرسولي على هذه العبارة قائلاً:
V بكونه حكمة الآب ذاته… هو نفسه المشورة الحيّ للآب وقوته وخالق كل الأشياء التي رآها الآب صالحة. هذا ما يقوله عن نفسه في الأمثال: “لي المشورة والأمان (الرأي)، لي الفهم، لي القدرة”. (“لان المسيح هو قوة الله وحكمة الله “) (1كو24:1). هنا يغير التعبير فيقول :”لي الفهم” و”لي القدرة”. عندما يقول: “لي المشورة” هو نفسه المشورة الحيّ للآب، كما يعلمنا النبي أيضا انه صار “ملاك المشورة العظيم” ، ودُعي المسرة الصالحة للآب[193].
البابا أثناسيوس الرسولي
رابعًا: يهب روح الملوكية والسلطة
إذ يملك السيد المسيح “الحكمة” فينا، لا يجعلنا عبيدًا بل ملوكًا، فنحمل سمته فينا، نحمل روح الملوكية التي لا تقبل العبودية لشهوةٍ ما، ولا نرتعب أمام أحداث زمنية، ولا نخاف كائنًا، بل نحمل حرية مجد أولاد الله. لنا سلطان على أفكارنا وأحاسيسنا ومشاعرنا وحواسنا كما على تصرفاتنا الظاهرة، فنسلك كأبناء ملوك سمائيين، بحكمة علوية فائقة.
“بيَ تملك الملوك،
وتقضي العظماء عدلاً.
بيَ تترأس الرؤساء والشرفاء.
كل قضاة الأرض” [15-16].
هكذا يُقيم ملك الملوك، “حكمة الله” من شعبه ملوكًا وعظماء ورؤساء وأشراف وقضاة. إنه إذ يسألهم أن يسلكوا بروح الاتضاع، إنما ليحملوا اتضاعه فيهم، فيصيروا عظماء في عيني الله، وفي أعين السماء والبشر. إنه جاء ليرد الإنسان المحطم بالخطية إلى الملوكية المجيدة!
الله في محبته للبشر ينسب نفسه للمتألمين، فيُدعى أب الأيتام وقاضي الأرامل، يبحث عن المطرودين، ويسند البائسين، ويرفع المتواضعين، ويهتم بالذين ليس لهم من يسأل عنهم. إن كان قد أقام الملوك والرؤساء والأشراف والقضاة إنما ليعملوا لحساب هؤلاء جميعًا، أقامهم لا لفضلٍ فيهم، وإنما للعمل لحساب المجتمع كله، خاصة المظلومين والمحتاجين… هكذا يليق بمن هو في موقع المسئولية أن يُدرك انه تسلمها من يد الله ليعمل لحساب المجتمع بروح الحب والاتضاع.
V الحديث الإلهي في هذا الأمر واضح ، فإن حكمة الله هكذا يتحدث: “بي يملك الملوك، ويملك العظماء الأرض”. لكن لا يُفهم بذلك أنهم ملوك أشرار وغير اتقياء، بل ملوك شجعان.
القديس أغسطينوس
خامسًا: يصيرون موضوع حب السماء!
“أنا أحب الذين يحبونني،
والذين يبكرون إليّ يجدونني” [17].
إذ يقدم “الحكمة” نفسه للبشرية، معلنًا أنه المشورة والرأي والفهم والقدرة، من يقتنيه يدرك أسرار الآب، ويتعرف على إرادته، ويحمل قوة من عنده، فيحيا في هذا العالم كوكيل الله، يحمل أيقونة السماء، ويشهد لعمل الله الفائق. الآن يؤكد مبدأين خطيرين متكاملين:
المبدأ الأول هو تقديس الحرية الإنسانية، فهو لا يدفع بنفسه في حياة إنسان بغير اختياره، مؤكدًا “أنا أحب الذين يحبونني“. إنه الحب كله، يفتح ذراعيه على الصليب للعالم كله، ويتسع صدره ليتكئ كل بشر عليه، لكن ليس الكل يقبله!
لنحبه فندرك أنه أحبنا أولاً!
لنرتمي على صدره، فنجده مُعدًا لنا!
لنشتاق إليه فنلمس اشتياقاته الفائقة نحونا.
حبه لنا ليس ثمرة لحبنا له، لأنه أحبنا اولاً.
بادر بالحب قبل أن نعرف؛ ونحن أعداء صالحنا مع الله أبيه.
لكن حبنا هو مفتاح معرفتنا لحبه القائم الغامر لكل البشرية.
أما المبدأ الثاني والمكمِّل للسابق فهو التزامنا بالتبكير إليه لكي نجده. ماذا يعني: “والذين يبكرون إليّ يجدونني“؟
التبكير هنا يحمل مفهوم الأولوية، فقد وضع لخلاصنا وتجديدنا أولوية خاصة، فقدم الآب ابنه الحبيب ذبيحة حب لأجلنا. وكأنه يقول: “الإنسان أولاً!” إن كان هذه هو العمل الإلهي العجيب، أفلا يليق أن نبكر إليه قائلين: “الله أولاً” في حياتنا اليومية وفي أفكارنا الداخلية، وفي سلوكنا الأسري الخ.
في كل تصرف، خفي وظاهر، ليكن الله محور تفكيرنا، نبكر إليه، فقد بكَّر إلينا، وجعلنا في قمة اهتمامه وهو خالق السماء والأرض!
لنبكر إليه فنعطيه أفضل أوقاتنا للقاء معه، فلا يكون في آخر القائمة، نتعبد له في فضلات أوقاتنا. يليق بنا أن نعطي للقائنا معه اهتمامًا خاصًا، فنجري إليه في الصباح المبكر، ونقدم له اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، ونفضل اللقاء معه عن أية رباطات بشرية أو مجاملات. الله فوق الكل!
لنبكر إليه فنذكر خالقنا في أيام شبابنا، مقدمين له بكور عمرنا كي يقدس العمر كله.
سادسًا: يهبنا ذاته كنزًا ومجدًا وشبعًا
“عندي الغنى والكرامة،
قنية فاخرة وحظ.
ثمري خير من الذهب ومن الإبريز،
وغلتي خير من الفضة المختارة” [18-19].
عادة يصير الحكماء أغنياء ومكرمين في أعين الناس، لكن ليس لهذا المبدأ استثناءات كثيرة.
ما يتحدث عنه سليمان الحكيم هنا ليس الغنى المادي ولا الكرامة الزمنية ولا شبع البطن، بل ما هو أعظم، التمتع بشخص السيد المسيح الذي فيه كفايتنا!
يوجد غنى ومجد وشبع يملأ كيان الحكيم، لا يستطيع العالم كله ولا قوات الظلمة ولا أحداث المستقبل أن تنتزعها منه، لأن هذا كله لن يقدر أن يفصل المؤمن الحكيم التقي عن شخص السيد المسيح الذي لنا فيه كنز ومجد وشبع. الإنسان الحكيم يردد مع القديس بولس الرسول: “من يقدر أي يفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف…؟!” (رو25:8).
V إن كان يجب أن نميز بين ذاك الذي يُحسب غنيًا لأن ممتلكاته كثيرة ومثقلة بالذهب مثل محفظة قذرة، وبين البار الذي وحده مملوء نعمة، لأن للنعمة تدبيرها، تلاحظ المقاييس اللائقة والجميلة في التنظيم والتوزيع[194].
القديس إكليمنضس السكندري
“في طريق العدل أتمشى، في وسط سبل الحق.
فأُورِّث محبِّيّ رزقًا، وأملأ مخازنهم” [20-21].
من هو هذا الذي يتمشى في طريق العدل ويُقيم في وسط سبل الحق إلا ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح، فيحملنا فيه، وننعم بما لديه؟!
V كما لو كان ابن الإنسان يتمشى وسط المنائر السبع (رؤ1). يُقال إنه في وسط الكنائس السبع، وكما قال سليمان: “في طريق العدل أتمشى“، ذاك الأزلي، ينبوع الملوكية.
الأب فيكتوريانوس
إن كان الغني يطلب أن تشبع نفسه من المقتنيات، فإن الحكيم إذ يقتني الحكمة تشبع نفسه من السلوك في طريق العدل، والتحرك وسط سُبل الحق. يجد في العدل والحق مع الحب ما يُشبع أعماقه، فتمتلئ مخازنه الداخلية من الفرح والتهليل مع السلام الفائق والصلاح.
البركات الزمنية تُقدم للبطن شبعًا مؤقتًا سرعان ما يتبعه جوع، أما البرّ الإلهي فيُقدم للمخازن الداخلية شبعًا وامتلاء، يرفعها روح الله إلى السماء رصيدًا أبديًا لحسابنا. وقد عبر داود النبي عن ذلك بصورة رائعة، إذ يقول: “بذخائرك تملأ بطونهم، يشبعون أولادًا، ويتركون فضلاتهم لأطفالهم، أما أنا فبالبر أنظر وجهك؛ أشبع إذا استيقظت بشبهك (مز14:17،15). ما يغترفه الإنسان من عطايا زمنية هو هبة من الله، لكنها هبة مؤقتة تشبع البطن، وما يتبقى منه يتركه ميراثًا لأولاده، مقدمًا لهم فضلاته الزائلة. أما من يتمشى في طريق العدل في وسط برّ السيد المسيح إنما يتشكل إنسانه الداخلة فيصير بالروح القدس أيقونة المسيح، على شبهه. هذا هو رصيده الأبدي الذي يملأ مخازنه السماوية… هذه التي لن يسلبها سارق، ولا يفسدها سوس!
الحكمة الأزلي 22-29.
في هذا الأصحاح يتجلى شخص السيد المسيح بكل قوة، بكونه حكمة الله، الذي يدعو كل البشرية لتقتنيه وتتمتع بإمكانياته الفائقة. الآن يكشف عن ذاته أنه واحد مع الآب، خالق العالم، المهتم بخلاص خليقته التي فسدت، ويجد لذته في دعوة الخطاة إلى الخلاص.
“الرب قناني possessed Me أول طريقه من قبل (أجل) أعماله منذ القدم” [22].
ركز الأريوسيون على العبارة “الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم” [22]. ليدَّعوا أن السيد المسيح وإن كان سابقًا لكل الخليقة لكنه في نظرهم “أول الخليقة“، الذي خلقه الآب دون غيره، وقام هو بعمل الخلقة. اعتمدوا في ذلك على كلمة “قناني” ويترجمونها “خلقني“. لذلك اهتم آباء الكنيسة، وعلى رأسهم البابا أثناسيوس الرسولي بتفسير هذه العبارة وربطها ببقية الفقرة كلها [22-31]. وسأحاول تقديم فكر الآباء في شيء من الإيجاز في ملحق خاص بهذا الأصحاح.
الآن اُقدم تفسيرًا مبسطًا للفقرة.
بينما أساء الأريوسيون فهم هذه العبارة وجد كثير من الآباء فيها صورة حية ورائعة لمحبة الآب الذي بالحكمة دبر خلاصنا قبل خلقتنا. فمنذ البدء دبر التجسد الإلهي، ليصير حكمة الله أو كلمته، الأقنوم الإلهي غير المنفصل عنه إنسانًا من أجل البشرية ليكون هو “أول أعماله”، أي البكر بين أخوةٍ كثيرين” (رو29:8)؛ “البداءة، بكر من الأموات” (كو18:1). وكأنه هنا يقدم الحكمة الإلهي وعده الفائق بأن أباه الأزلي معه يخطط لخلاصنا قبل خلقتنا، وكأن تدبيره يسبق وجودنا كعلامة اهتمامه بنا وقدرته الفائقة السرمدية لتحقيق خطة حبه نحونا.
يُلاحظ في هذه الآية الآتي:
أولاً: إن كان بعض الآباء مثل القديس غريغوريوس أسقف نيصص يؤكد أن الكلمة العبرية لا تعني “خلقني” بل “اقتناني possessed Me ” إلا أن البعض مثل البابا أثناسيوس الرسولي لم يمتنع عن استخدام الكلمة اليونانية وهي تعني “خلقني”، إلا أنه يؤكد أنها ليست ذات الكلمة التي استخدمت في خلقة العالم.
ثانيًا: إن سفر الأمثال سفر رمزي، فلا نلتقط كلمة منه ونفصلها عن الكتاب المقدس لنفسرها لاهوتيًا.
ثالثًا: إن كلمة “خلقني” لا تربكنا، فإن حكمة الله، الأقنوم الثاني قد صار كلمة، إذ أخذ جسدًا مخلوقًا… وقد صار بالحقيقة إنسانًا وعبدًا دون أن يتغير إذ لايزال إلهًا مباركًا إلي الأبد.
رابعًا: لا يمكن أن يكون هذا التعبير “خلقني” خاص بجوهر أقنوم الحكمة، لأنه في نفس العبارة قيل: “من أجل أعماله”، فإن كان هذا الأقنوم قد خُلق لأجل البشرية، فتكون البشرية أفضل وأهم منه. أما بكون الخلق هنا يعني التجسد وخطة الخلاص، فالمعني يختلف تمامًا إذ يكون الخلق من أجل الحب الإلهي الفائق نحو البشر.
خامسًا: لا نتعثر من القول: “أول طرقه“، فبالتجسد الإلهي احتل الأقنوم المتجسد موضع آدم، فكما بسقوط آدم فسدت الطبيعة البشرية، هكذا بنصرة آدم الجديد وبره صارت النصرة والبرّ للبشرية. هذا ما عبرّ عنه الرسول بولس، قائلاً: “كأنما بإنسانٍ واحدٍ دخلت الخطية إلي العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلي جميع الناس إذ أخطأ الجميع… لكن قد ملك الموت من آدم إلي موسى، وذلك علي الذين لم يخطئوا علي شبه تعدى آدم الذي هو مثال الآتي… إن كان بخطيةِ واحدٍ مات الكثيرون، فبالأولي كثيرًا نعمة الله والعطية بالنعمة التي بالإنسان الواحد يسوع المسيح قد ازدادت لكثيرين” (رو12:5 الخ).
بهذا فقد أبونا الأول آدم مركزه كبكر، ليحتل حكمة الله المتجسد مركزه فيقودنا كبكر إلي سمواته، وننعم بشركة مجده. لقد صار الابن الوحيد الجنس الذي تسجد له الملائكة بكرًا لنا:”لأنه لمن من الملائكة قال قط: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. وأيضًا أنا أكون له أبًا وهو يكون لي ابنًا. وأيضًا متي اُدخل البكر إلي العالم يقول: ولتسجد له كل ملائكة الله” (عب5:1-7).
لقد صار بكرًا لنا وذلك بتجسده، هذا الذي تسجد له الملائكة، والذي يُدعى دون غيره الابن الوحيد، والذي قيل عنه: “كرسيك يا الله إلي دهر الدهور…” (عب8:1).
سادسًا: في نفس الفقرة تحدث سليمان الحكيم عنه: “كنت عنده صانعًا (مدبرُا)” …فكيف يكون الصانع أو الخالق وفي نفس الوقت هو صنعة أو خليقة؟ هل يخلق نفسه؟ خاصة وقد قيل عنه: “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو3:1).
سابعُا: بقوله “من أجل أعماله”، واضح أنه لا يعني خلقة جوهره، بل تدبير التجسد الإلهي، لأن العمل يأتي بعد وجود الكائن وليس العكس. فهنا تعبير “خلقني” يشير إلي العمل لا إلي وجود جوهره. وقد استخدم الكتاب المقدس تعبير الخلقة عن العمل في مواضع كثيرة، منها:
“قلبًا نقيًا اخلقه فيّ يا الله” (مز10:51)، فالمرتل لا يطلب من الله أن يخلق فيه كائنًا جديدًا، إنما أن يعمل فيه فيجدد قلبه.
“لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة…” (أف20:2). هذا لا يعني أننا قد متنا بالجسد ثم عاد فخلقنا، لكنه جدد طبيعتنا فصارت كمن ماتت وأعاد خلقتها في المسيح يسوع .
وبمقارنة رو14:13 مع أف24:4 يظهر إننا نلبس المسيح بمعني عمله الخلاصي: “البسوا الرب يسوع” (رو14:13)، “البسوا الإنسان الجديد المخلوق علي شاكلة الله” (أف24:4).
إذ يُعرِّف الرب جوهره أنه الحكمة الابن الوحيد المولود من الآب، الأمر الذي يختلف عن الأشياء التي لها بداية ومخلوقات طبيعية، قال في محبته للإنسان: “الرب قناني أول طرقه“، وكأنه يقول: “أعد لي أبيجسدًا، وقناني للبشر لأجل خلاصهم”.
لأنه كما عندما يقول يوحنا: “الكلمة صار جسدًا” (يو14:1)، لا نفهم أن الكلمة كله صار جسدًا، لكنه لبس جسدًا وصار إنسانًا. وعندما نسمع: “صار المسيح لنا لعنة لأجلنا”، “جعله خطية لأجلنا الذي لا يعرف خطية” (غلا13:3؛ 2كو21:5)، لا نفهم ببساطة أن المسيح كله صار لعنة وخطية، بل حمل اللعنة التي كانت ضدنا (كما قال الرسول: “خلصنا من اللعنة”. وكما قال إشعياء: “حمل خطايانا”، وكتب بطرس: “حملها في الجسد على الخشبة” (غلا13:3؛ إش4:53؛ 1بط24:2)، هكذا إذ قيل في الأمثال: “خلقني” لا يليق بنا أن نفهم أن الكلمة كله بطبيعته مخلوق، إنما أخذ جسدًا مخلوقًا وأن الله (الآب) خلقه من أجلنا، معدًا له الجسد المخلوق، كما هو مكتوب أنه من أجلنا يمكننا فيه أن نتجدد ونتأله.
ما الذي خدعكم يا من في جهالة تدعون الخالق مخلوقًا؟[195]
البابا أثناسيوس الرسولي
V مرة أخرى فإن الحكمة ذاتها تتحدث عن سرّ الجسد المتَّخذ فتقول: “الرب خلقني”. بالرغم من أن النبوة هنا عن أمور مقبلة، لكن لأن مجيء الرب سبق فتعين لم يقل “يخلقني” بل “خلقني”، حتى يؤمن البشر بأن جسد يسوع المولود من العذراء مريم حدث مرة واحدة وليس مرارًا[196].
القديس أمبروسيوس
إذ يتحدث حكمة الله عن تجسده لتحقيق خطة خلاص البشرية، يفتح طريق الخلاص ويكون البكر الذي يحمل البشرية ليدخل بها إلي أمجاده. بهذا دعي نفسه: “أنا هو الطريق” (يو14:6).
لأن المسيح لا يرغب فقط في تقديم ذاته للذين أكملوا الرحلة، بل أن يكون هو نفسه الطريق للذين يبدأون الرحلة، مصممًا أن يأخذ جسدًا. لذلك جاء تعبير: “الرب قناني بدء طرقه“، بمعنى أن الذين أرادوا أن يأتوا يلزمهم أن يبدأوا رحلتهم فيه[197].
القديس أغسطينوس
V مرة أخرى كما قال سليمان الحكيم في الأمثال: “قناني“. وقال “بدء الطريق” عن الأخبار السارة التي تقودنا إلى ملكوت السموات، ليس في الجوهر والكيان مخلوقًا، بل صار “الطريق” حسب التدبير. إذ صارت الكلمتان “مصنوعًا” و”مخلوقًا” تحملان نفس المعنى. إذ صُنع طريقًا، والباب والراعي والملاك والقطيع، وأيضًا رئيس الكهنة، والرسول، أسماء أخرى تُستخدم بمعانٍ أخرى[198].
القديس باسيليوس الكبير
“منذ الأزل مُسحتُ منذ البدء منذ أوائل الأرض” [23].
“إذ لم يكن غمرٌ أُبدئتُ إذ لم تكن ينابيع كثيرة المياه” [24].
“من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أُبدئت (ولدني LXX)” [25].
“إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة” [26].
“لما ثبَّتَ السموات كنت هناك أنا،
لما رسم دائرة على وجه الغمر” [27].
“لما اثبتَ السحب من فوق،
لما تشددت ينابيع الغمر” [28].
“لما وضع للبحر حده فلا تتعدى المياه تخمه،
لما رسم أسس الأرض” [29].
يؤكد الحكمة الإلهي أنه كان موجودًا قبل الأمور الآتية:
V كل الخليقة [22].
V وجود الأرض [23].
V أعماق ينابيع المياه [24].
V تأسيس الجبال والتلال [25].
V الأرض وأعفار المسكونة [26].
V السماء والسحب [28].
V قوانين الطبيعة [29].
وجد القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات في هذه الفقرات غني حب الخالق له، فترنم قائلاً:
[أقمت السماء لي سقفًا،
وثبَّت لي الأرض لأمشي عليها.
من أجلي ألجمت البحر،
من أجلي أظهرت طبيعة الحيوان،
أخضعت كل شئ تحت قدميَّ،
ولم تدعني معوزًا شيئًا من أعمال كرامتك”.]
ويقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير:
[العالم تصونه العناية الإلهية… إذ لا يوجد مكان لا تدركه هذه العناية.
والعناية الإلهية هي تنفيذ مواعيد الكلمة الإلهي، الذي يهب شكلاً للمادة التي يتكون منها هذا العالم، وهو المهندس والفنان لهذا كله. ما كان يمكن للأشياء أن تأخذ جمالها لولا فطنة قوة الكلمة الذي هو صورة الله (الآب) وعقله وحكمته وعنايته.[199]]
خطة الخلاص ليست جديدة، لكنها سابقة للخلقة ذاتها، فقبل السقوط كان الله يعد للإنسان قيامه، وتعيَّن الحكمة الإلهي مسيِّا إسرائيل ومخلص العالم كله. لقد أكد أنه ليس فقط قبل خلقة الإنسان دبَّر الفداء، وإنما حتى قبل خلقة العالم فقد أوضح دوره في الخلقة. ذاك الذي أحب الإنسان وخلق العالم لأجله، قبل التجسد وقدم حياته فداءً عنه.
يعلق كثير من الآباء على ما ورد في الترجمة السبعينية: “قبل أن يصنع الأرض، ويثبت الجبال، قبل كل التلال ولدني” [24،25 LXX].
V بحسب الهيئة كإله قيل: “قبل التلال ولدني“، أي قبل كل علو للأشياء المخلوقة، و”قبل الفجر ولدتك” (مز3:110 (Vulgate ، أي قبل كل الأزمنة والأشياء الوقتية. لكن إذ (ظهر) في شكل العبد قيل: “الرب خلقني في بدء طرقه” [22].
بكونه في شكل الله يقول: “أنا هو الحق”، وفي شكل العبد: “أنا هو الطريق” (يو6:14).
لأنه هو نفسه بكونه بكرًا من الأموات (رؤ5:1) عبر إلى ملكوت الله للحياة الأبدية لأجل كنيسته، بكونه الرأس ليجعل الجسد أيضًا خالدًا[200].
القديس أغسطينوس
V يلزمنا أن نسأل ما هو معنى القول بأن الله (الكلمة) مولود قبل كل الدهور، وأيضًا خُلق لأجل بدء طرق الله ولأجل أعماله. بالتأكيد قيل هذا لأنه وُجد ميلاد قبل بدء العصور… ولكن حين يتحدث عن خِلقةٍ في بدء العصور لأجل طرق الله ولأجل أعماله ينطبق هذا على السبب الخلاَّق للأعمال والطرق.
أولاً: حيث أن المسيح هو الحكمة، يلزمنا أن ننظر إنه هو نفسه كان بدء طرق أعمال الله. أظن أنه لا يوجد شك في هذا ، إذ يقول: “أنا هو الطريق، لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلا بي”… لذلك خُلق لأجل بدء طرق الله وأعماله، لأنه هو الطريق ويقود البشر إلى الآب…
ثانيًا: لقد خُلق من أجل أعمال الله من بدء العصور عندما أخضع نفسه لشكل الخليقة المنظورة، حاملاً شكل كائنٍ مخلوقٍ[201].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
V لا يرتبك أحد من الكلمات: “قبل العالم” و”قبل أن يخلق الأرض“، و”قبل أن استقرت الجبال“… فإنه يوجد هنا تلميح إلى التدبير حسب الجسد. فمع أن النعمة التي حلّت علينا من المخلص قد ظهرت الآن كما يقول الرسول، وجاءت عندما حلّ بيننا، لكن هذه النعمة قد أُعدت حتى قبل أن نوجد. بلى، أُعدت قبل تأسيس العالم، أما عن السبب فهو حنوه العجيب[202].
البابا أثناسيوس الرسولي
“إذ لم يكن قد صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة” [26].
“لما ثبت السموات كنتُ هناك أنا،
لما رسم دائرة على وجه الغمر” [27].
V حكمة الله الذي به كل شيء قد صُنع، كان هناك، الحكمة نفسه يعمل في النفوس المقدسة ويجعلهم أصدقاء الله، وأنبياءه ويحدثنا عن أعماله في هدوء.
القديس أغسطينوس
V لنتعلم أيضًا أن الآب كان معه، وكان هو مع الآب عندما خُلقت كل الأشياء.
يقول الحكمة: “لما أَعدَّ السماوات كنت معه، عندما صنع ينابيع المياه”.
وفي العهد القديم إذ يقول الآب: “لنصنع” أظهر أن الابن يجب أن يُسجد له معه كصانع كل الأشياء، إذ قيل أن هذه الأشياء قد خلقت بالابن.
القديس أمبروسيوس
V من كان معه عندما خلق كل الوجود إلا حكمته، الذي يقول: “عندما صنع السماء والأرض كنت معه“؟ بإشارته إلي السماء والأرض يشير إلي كل المخلوقات التي في السماء والأرض. إذ كان حاضرًا معه بكونه حكمته وكلمته، يتطلع إلي الآب خالقًا المسكونة، ومنظمًا لها ومعطيًا إياها نظامها، وهو قوة الآب، يهب كل الأشياء القوة، وكمخلص يقول: “كل ما أراه الآب فاعلاً افعله أنا أيضًا” (يو29:5؛ 16:1). وقد عَلِم تلاميذه القديسون أن كل الأشياء قد خُلقت به وله.
القديس أثناسيوس الرسولي
الحكمة الخالق والمخلص30-31.
“كنت عنده صانعُا (مدبرًا) ” [30].
يؤكد أقنوم الحكمة الإلهي دوره في الخلقة. وكما يقول الإنجيلي يوحنا: “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو3:1) ويقول الرسول بولس: “الذي به عمل العالمين” (عب2:1)؛ “فإنه فيه خُلق الكل ما في السماوات وما علي الأرض، ما يُري وما لا يُري سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق” (كو16:1).
“وكنت كل يوم لذته، فَرِحة دائمًا قدامه” [30].
يؤكد علاقة الحب المتبادل بين أقنومي الآب والحكمة، فإن كان الآب خطط ليقوم الابن بالخلاص، هذا لأن لذة الآب في ابنه، ولذة الابن في أبيه. فالفداء الذي يقوم به الابن “حكمة الله” يُنسب للآب كقول السيد المسيح : “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو16:3). فقيام الحكمة بالفداء هو بذل للآب أيضًا محب الحكمة والواحد معه.
V إنني أنا الذي يتلذذ به (الآب). علاوة على هذا كنت كل يوم لذته قدامه.
لقد كان يبتهج بالعالم الذي خلقه، وببني البشر…
يوجد مع الله الحكمة المولود قبل العوالم، وليس فقط حاضرًا معه، بل ينظم معه العوالم …
لاحظ عمله في تدبير الأمور وتنظيمها. الآب بأمره هو العلة ، والابن بالتنفيذ لما صدر من أوامر يدبر وينظم. التمايز بين الأقنومين قائم في العمل الذي لكل منهما.
عندما قيل : “لنعمل” (تك26:1) عُرفت الخليقة بكلمة الأمر، وعندما كُتب “كنت عنده مدبرًا“، يعلن الله أنه لم يصنع منعزلاً (عن الابن). لأنه كان فرحه قدامه… فرح بالعالم الذي صنعه وببني البشر.
يخبرنا الحكمة عن سبب فرحه. أنه يفرح لفرح الآب، الذي يفرح بإتمام خلقة العالم وبني البشر. فقد كُتب: “ورأي الله كل شيء أنه حسن” (تك 10:1 ، 12 ،31 ) … حكمته شريك معه في العمل ويفرح معه إذ يكمل العمل.
القديس هيلاري أسقف بواتييه
V ألا يُحسب كفرًا القول بأنه وُجد وقت لم يكن فيه حكمة الله موجوداً؟! لقد قال: “كنت معه مدبرًا، كنت لذته كل يوم”.
أو القول بأن قوة الله لم تكن موجودة أو كلمته أو ما غير ذلك مما يُعرف به الابن؛ أو يشير إليه الآب، أليس هذا خطأ؟!
من يقول إن بهاء مجد الآب لم يكن موجودًا في وقت ما، يحطم النور الأصلي الذي هو البهاء….
البابا الكسندروس السكندري
V لذلك فإن البهاء السرمدي يشرق أمامه ويوجد معه، في ذات الوجود الذي بلا بداية، وهو مولود دائمًا، ودائمًا يشرق أمامه. إنه الحكمة القائل “كنت معه لذته، كنت لذته دائماً أمام وجهه…”
القديس ديونسيوس الكبير
V حكمته هو الذي فيه لذته دائمًا كما بروحه. أنه واحد معه كنفسٍ لله، ويمتد كيدٍ لتشكل المسكونة.
العظات الاكلمندية
“فَرِحَةً في مسكونةِ أرضه،
ولذاتي مع بني آدم” [31].
إن كان الحكمة يعلن عن أنه موضوع لذة الآب، بكونه الواحد معه والخالق، فإنه بدوره يجر لذته فينا نحن خليقته التي عصته وتمردت عليه.
الحكمة واهب الطوبى 32-34.
أخيرًا بعد أن أعلن الحكمة عن خطة تجسده الصادرة عن حبه وحب الآب لبني البشر، وعن رغبته أن نكون موضع سروره ولذته يدعونا للاستماع إليه وإلي قبوله، فننعم بالحياة المطَّوبة.
يقول السيد المسيح : “الحق الحق أقول لكم إن كان أحد يحفظ كلامي فلن يري الموت إلي الأبد” (يو51:8).
“فالآن أيها البنون اسمعوا لي،
فطوبى للذين يحفظون طرقي” [32].
“اسمعوا التعليم وكونوا حكماء ولا ترفضوه” [33].
“طوبى للإنسان الذي يسمع لي ساهرًا كل يوم، عند مصاريعي،
حافظا قوائم أبوابي” [34].
V من له النور يسهر “والظلمة لا تدركه” (يو5:1)، ولا ينام، حيث لا توجد ظلمة.
من يستنير يكون يقظًا من جهة الله، هكذا يعيش.
القديس اكليمنضس السكندري
الحكمة واهب الحياة 35.
“لأنه من يجدني يجد الحياة وينال رضى (إرادة) من الرب” [35].
يسألنا حكمة الله ليس فقط أن ننصت إليه بل أن نجده فنقتنيه، وكما يقول السيد المسيح: “الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية” (يو36:3).
يقدم الحكمة ذاته للنفس البشرية، وعليها أن تبحث عنه فتجده. هنا البحث يعني الإرادة، إذ لا يقتحم الحكمة النفس البشرية بغير إرادتها، إنما إذ تطلبه بكامل حريتها تجده حاضراً. هذه الإرادة المقدسة هي أيضاً عطية من الله كقول الرسول: “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في13:2).
V بالنسبة للإنسان ليس حسن ألا يريد، ولكن بنعمة الله ينال عونًا لكي يريد، فإنه ليس باطلاً كُتب: “لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل مسرته” (في13:2)؛ وإن ” الإرادة معدة بالله”.
القديس أغسطينوس
بؤس رافضي الدعوة 36.
“ومن يخطئ عني يضر نفسه،
كل مبغضي يحبون الموت” [36].
يقول السيد المسيح نفسه: “الذي لا يؤمن بالابن لن يري حياة، بل يمكث عليه غضب الله” (يو36:3). كما يقول: “لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويُحي كذلك الابن أيضًا يُحي من يشاء” (يو20:5). ويقول يوحنا الحبيب: “من له الابن فله الحياة، ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة” (1يو12:5).
من وحي الأمثال 8
لأقتنيك فأتمتع بالحياة!
V صوتك يدوي في آذنيَّ الداخليتين.
لأرتفع معك على قمم الجبال العالية،
فأتمتع ببهاء مجدك على جبل طابور،
وأنعم بدمك الطاهر على جبل الجلجثة،
واختبر عشرة الملائكة على جبل التجربة.
V إذ أجد نفسي تائهُا،
أراك واقفًا على الطريق،
تنتظرني في مفارق الطرق،
تحملني في طريقك الملوكي،
وتدخل بي إلى حضن أبيك.
V عندما تئن نفسي من الضيق،
عند الأبواب أجدك قاضيًا عادلاً!
تسمع لكل متاعب نفسي،
وحين يظلمني العالم أجدك مدافعًا عني!
V لأسمع صوتك فأتمتع بحكمتك.
حكمتك هي الطعام النازل من السماء.
تشبع نفسي وترويها.
تهبني حياة فائقة،
كل كنوز العالم تتصاغر جدًا أمامها.
V لأقتنيك يا حكمة الله، يسوعي المحبوب!
فأحب الصلاح وأبغض كل الشرور.
تهبني مشورة صالحة وقوة مع كرامة.
تملأ مخازن نفسي ببركات لا تفني!
V من أجلي تجسدت وصرت إنسانًا،
التقي بك كمخلصٍ وصديقٍ شخصي.
أنت موضع سرور الآب،
جعلتني موضوع سرورك ولذتك كل يوم!
V لأقتنيك فأقتني النور،
لا يكون بعد فيَّ ظلام ولا ليل،
ولا تغفو عيني بل أبقي ساهرًا.
أتمتع بالحياة المطوبَّة،
أنال شركة الطبيعة الإلهية!
V نعم من يجدك يجد الحياة الأبدية!
ومن يخطئ إليك إنما يقتني الموت!
أنت حياتي وفرحي ومجدي!
ملحق أم 22:8
“الرب قناني”
للقديس البابا أثناسيوس الرسولي
مع آباء آخرين
“الرب قناني أول طريقه
من أجل أعماله
منذ القدم”
[22:8].
تفسير القديس البابا أثناسيوس الرسولي لهذه العبارة له أهمية خاصة للرد على شهود يهوه المعاصرين، والذين تبنوا الأفكار اللآريوسية الخاصة بشخص السيد المسيح، لذلك منعًا من الإطالة استحسنت أن أخصص ملحقًا خاصًا بهذه العبارة.
يلاحظ في أحاديث البابا أثناسيوس منهجه الخلاصي الرائع، فمع دخوله في حوارٍ لاهوتيٍ، كان ما يشغل ذهنه هو خلاص الإنسان وتمتعه بشركة الأمجاد الأبدية. ففي تأكيده الميلاد الأزلي ووحدة جوهر الكلمة مع الآب، ركّز على عمل السيد المسيح الخلاصي خلال تجسده. قدم لنا بحق صورة رائعة وعذبة لمحبة الله الفائقة ولذته في بني البشر.
قام المرحوم صموئيل كامل عبد السيد مع الدكتور نصحي عبد الشهيد بتعريب المقالة ونشرها. وقد استحسنت أن اقتبس كثيرًا من العبارات عن هذه الترجمة لمركز دراسات الآباء بالقاهرة (أكتوبر 1987).
أهمية العبارة
شغلت العبارة “الرب قناني (خلقني) أول طرقه لأجل أعماله”(أم22:8) قلب البابا أثناسيوس الرسولي، وقد كرّس أغلب مقاله الثاني ضد الأريوسيين لشرح هذه العبارة. كتب ثلاثة فصول كمقدمة لتفسيرها (فصول16-18)، وأربعة فصول في تفسير العبارة (19-22).
يقول البابا أثناسيوس عن الأريوسيين: [إذ ملأوا كل مكان بهذا القول المأخوذ من الأمثال، يبدو لدى كثيرين من الذين يجهلون العقيدة المسيحية أنه يعني شيئًا ما، لذلك من الضروري أن نفحص لفظ “خلق” لكي يظهر للجميع أنهم في هذا الأمر كما في غيره ليس لديهم سوى الخيال[203].]
عرض البابا أثناسيوس الرسولي تفاسير الأريوسيين للعبارة وقام بالرد عليهم، موضحًا أن تفاسيرهم جاءت لخدمة أفكارهم الخاصة، ولا تتفق مع بقية أسفار الكتاب المقدس ولا مع روحه. وقدم التفسير اللائق بالعبارة، جاء هذا التفسير يحمل روح الكتاب ليُعلن بكل قوة سرّ الخلاص، وعمل حكمة الله المتجسد في حياتنا.
سفر رمزي
يوضح البابا أثناسيوس أن سفر الأمثال سُجل بلغة الرمز، لهذا لا يليق أن تؤخذ آية واحدة وتُفسر بمعناها الظاهر، بل يلزم الدخول إلى أعماق العبارة واكتشاف المعنى السرّي الخفيّْ.
كُتب: “الرب خلقني أول طرقه من قبل أعماله“؛ على أي الأحوال هي أمثال، عُبر عنها بطريق الأمثال، فلا يجوز لنا تفسيرها بمعناها الظاهر، بل نسأل بتقوى إدراك معناها… فما يُقال في “الأمثال” لا يُقدم بوضوح بل بطريقة كامنة، وذلك كما يُعلمنا الرب نفسه في الإنجيل بحسب يوحنا: “تكلمت بهذه الأمور بأمثالٍ ولكن يأتي الوقت الذي لا أعود أتكلم فيه بأمثال بل علانية” (أنظر يو25:6). لهذا وجب أن نكشف عن المعاني ونبحث عنها كأمرٍ خفيٍّ، وليس بطريقة واضحة، فتُفسر كما لو كان المعنى واضحًا، لئلا بالتفسير الخاطئ نضل عن الحق.
لو كان الحديث المكتوب عن ملاكٍ أو أي شيء آخر مما له بداية أو عن واحدٍ منا نحن أعماله، لتُفهم: “خلقني”. لكن إن كان الحديث عن “حكمة الله، الذي فيه خُلق كل ما هو له بداية، فيتحدث عن الحكمة ذاتها ألا يلزمنا أن نفهم تعبير “خلقني” دون أن تحمل أي تعارض مع تعبير “ولدني”؟ فلا ننسى أن “الحكمة” هو الخالق والصانع، ولا نجهل الفارق بين الخالق والمخلوقات، فلا يُحصى بين المخلوقات، بل تعني معنى آخر. فإذ ذُكرت في الأمثال، لا يُؤخذ المعنى الواضح بل الكامن الذي أُوحي للقديسين لاستخدمه في النبوة.
لقد جاء معنى “خلقني” بعد ذلك مباشرة في موضع آخر، فيقول: “الحكمة بنت بيتًا“. الآن واضح أن جسدنا هو بيت الحكمة الذي أخذه الحكمة لنفسه ليصير إنسانًا، لهذا يقول يوحنا بوضوح: “الكلمة صار جسدًا” (يو14:1)…
في هذه العبارة [22]، لا يعني جوهر لاهوته، ولا ولادته الأزلية الأصلية من الآب عندما يتكلم الكلمة بواسطة سليمان، بل يعني الجانب الآخر، أي تدبيره من أجلنا. وكما سبق فقلت لم يقل: “أنا مخلوق” أو “صرت مخلوقًا”…[204]
البابا أثناسيوس الرسولي
قناني وليس خلقني
قلنا أن بعض الآباء مثل القديس غريغوريوس أسقف نيصص يؤكدون أن الكلمة العبرية لا تعني “خلقني” بل “اقتناني possessed Me ” .
V إن بعضًا من الذين لهم باع في اللاهوت بدقة يقولون أن النص العبري لا يُقرأ “خلقني”. ونحن أنفسنا نقرأ في كثير من النسخ القديمة “قناني possessed” بدلاً من “خلقني”.
بالتأكيد “اقتناء” في اللغة الرمزية للأمثال تخص العبد، الذي لأجلنا “أخذ شكل عبد” (ف 7:2). ولكن إن كان أحد يُصر على هذه العبارة كما تُقرأ في الكنائس، فنحن لا نرفض حتى تعبير “خلق”. فإن هذا أيضًا لغة رمزية تُشير إلى “العبد”، وذلك كما يُخبرنا الرسول: “كل الخليقة مستعبدة” (رو20:8). هكذا نقول أن هذا التعبير، كما الآخر يحمل تفسيرًا مستقيمًا (أرثوذكسيًا). فإن ذاك الذي صار لأجلنا مثلنا، خُلق حقيقة في أواخر الأيام؛ ذاك الذي في البدء هو الكلمة والله، قد صار جسدًا وإنسانًا.
فإن طبيعة الجسد مخلوقة، وباشتراكه فيها في كل جوانبها مثلنا بدون خطية، خُلق عندما صار إنسانًا، وخلق “حسب الله” (أف24:4) لا حسب الإنسان كقول الرسول، بطريقة جديدة وليس بزرعٍ بشريٍ.
لقد تعلمنا أن هذا “الإنسان الجديد” قد خُلق بالروح القدس وبقوة العليّ، هذا الذي يأمرنا بولس الناطق بأسرار لا يُنطق بها أن نلبسه، مُستخدمًا تعبيرين ليُعبر عن الثوب الذي نرتديه، قائلاً في موضع: “البسوا الإنسان الجديد المخلوق حسب الله”، وفي موضعٍ آخر “البسوا الرب يسوع المسيح” (رو4:13). فإن الأمر هكذا أنه صار لنا ذاك الذي قال: “أنا هو الطريق” (يو6:14)، هذا الذي لبسه في أول طرق الخلاص، ليجعلنا عمل يديه، ويُشكلنا من جديد من التربة الشريرة بالخطية لنصير على صورته. إنه في نفس الوقت أساسنا قبل مجيء العالم، وذلك ككلمات بولس الرسول: “لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع” (1كو11:3). وبحق: “لم تكن ينابيع كثيرة المياه، من قبل أن تقررت الجبال، قبل التلال ولدني” (أم23:8-5 LXX)[205].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
حمل الحكمة الإلهي جسدًا مخلوقًا
يقول البابا أثناسيوس الرسولي في رده على الأريوسيين أن الكلمة الإلهي، الواحد مع الآب في الجوهر والخالق، قبِل جسدًا مخلوقًا. هذا هو تدبير خلاصنا الذي وضعه الحكمة قبل الخلقة. لهذا لا نعجب إن قيل عن السيد المسيح أنه “العبد، والحمل، والإنسان الخ”.
V يقول (الأريوسيون): مكتوب: “الرب خلقني أول طرقه من قِبَلْ (أجل) أعماله” [22].يا لكم من جهال وبلا إدراك! لقد دُعي في الكتاب المقدس: عبدًا (مز16:116)، وابن الأَمَة، وحملاً، ونعجةً (إش7:53)، وقيل أنه تعب، وعطش، وشَرِبَ وتألم. لكن يوجد أساس واضح وقوي لماذا قُدم هكذا في الكتاب المقدس؛ هذا لأنه صار إنسانًا وابن الإنسان، وأخذ شكل العبد، أيضًا الجسد البشري، لأن “الكلمة صار جسدًا” (يو14:1).
إذ صار إنسانًا لا يتعثر أحد من هذه التعبيرات، فإنه يليق بالإنسان أن يُخلق ويُولد ويتشكل ويتعب ويتألم ويموت ويقوم من بين الأموات.
بكونه كلمة الآب وحكمته له جميع خصائص الآب: أزليته، عدم تغيره، وأنه مثله في كل الأمور، لا يسبقه ولا بعده، شريك الآب في الوجود، واحد معه في اللاهوت، وهو الخالق غير المخلوق… وإذ صار إنسانًا، وحمل جسدًا بالضرورة يُقال عنه أنه مخلوق، الأمر اللائق بكل جسد.
على أيّ الأحوال هؤلاء يُشبهون تجار خمر يهود الذين يمزجون الخمر بالماء، إذ يهينون الكلمة، ويُخضعون لاهوته لمفاهيمهم الخاصة بالمخلوقات[206].
البابا أثناسيوس الرسولي
V بخصوص شخصه فهو بحق شخص المخلص. لكن قيل عنه عندما أخذ جسدًا: “الرب خلقني أول طرقه من قِبَلْ أعماله“. فإنه يليق بابن الله أن يكون أزليًا، في حضن الآب؛ وإذ صار إنسانًا صار يليق به الكلمات “الرب خلقني“.
لقد قيل عنه أنه أيضًا جاع وعطش وسأل عن موضع لعازر وتألم وقام. وعندما نسمع عنه أنه الرب والله والنور الحقيقي نفهم أنه كائن من الآب. وعندما نسمع “الرب خلقني“، و”العبد” و”تألم”، بعدل نقول هذا لا عن اللاهوت إذ لا يُقارن بمادة، إنما نفسر ذلك بخصوص الجسد الذي أخذه لأجلنا، فإن هذه الأمور لائقة به، وهذا الجسد ليس إلا جسد الكلمة[207].
V يليق بنا أن نقول بأن الابن هو الابن الحقيقي للآب الحقيقي، فنعبد (الله) الآب والابن، ولا نُدان كمن يعبد إلهًا غريبًا. أما الذين يقتبسون من الأمثال العبارة “الرب خلقني“، ظانين أنهم بهذا جاءوا ببرهان قوي أن الخالق، صانع كل الأشياء، قد خُلق، فنجيبهم بأن الله الابن الوحيد قد صار لأجلنا أمورًا كثيرة.
فقد كان الكلمة وصار جسدًا، وهو الله وقد صار إنسانًا؛ وكان بدون جسم وصار جسمًا. بجانب هذا صار (من أجلنا) “خطية”، “لعنة”، “حجرًا”، “فأسًا”، “خبزًا”، “حملاً”، “الطريق”، “الباب”، “الصخرة”، وأمورًا أخرى كثيرة، ليس أنه صار بالطبيعة أحد هذه الأمور، إنما صار هكذا لأجلنا من أجل التدبير. لهذا بكونه الكلمة صار لأجلنا جسدًا، وبكونه الله صار إنسانًا. هكذا بكونه الخالق، لأجلنا صار مخلوقًا، لأن الجسد مخلوق.
لذلك قال بالنبي: “هكذا يقول الرب، أوجدني من الرحم عبدًا له”. كما قال أيضًا بواسطة سليمان: “الرب قناني أول طرقه من أجل أعماله”. فإن كل الخليقة كما يقول الرسول قد اُستعبدت؛ لهذا فإن ذاك الذي تشكَّل في رحم البتول حسب كلمة النبي هو العبد، لا الرب (بمعنى أن الإنسان حسب الجسد الذي فيه أُعلن الله). وأيضًا في العبارة الأخرى ذاك الذي خُلق كبدء طرقه ليس الله، بل الإنسان الذي فيه أُعلن الله لنا لتجديد طرق خلاص الإنسان.
هكذا إذ نعرف أمرين في المسيح ما هو إلهي وما هو بشري، لذلك ننسب السرمدية للاهوت، وما هو مخلوق للناسوت. فبحسب النبي، تشكَّل في الرحم كعبد، وبحسب سليمان أُعلن في الجسد بوسائل الخليقة المستعبدة[208].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
V بالحقيقة كان مُستعبدًا في الجسد وللميلاد ولظروف حياتنا وذلك من أجل تحريرنا؛ من أجل كل هؤلاء الذين يخلصهم الذين كانوا مستعبدين تحت الخطية[209].
القديس غريغوريوس النزينزي
موقف الأريوسيين من العبارة
أساء الأريوسيون استخدام هذه العبارة، مقدمين الثلاثة تفاسير التالية:
- إنه مخلوق، ولكنه ليس واحدًا من المخلوقات.
- عندما أراد الله أن يُوجد طبيعة مخلوقة صنع وخلق أولاً واحدًا مفردًا فقط، يُسمى ابنًا وكلمة، عن طريقه كوسيط خلق به كل الأشياء، ذلك لعدم عدم قدرتها على احتمال لمسة يد الآب الشديدة.
- يُسمى يسوع المسيح الكلمة بسبب الأشياء التي نالت الإدراك، والحكمة بسبب الأشياء التي نالت حكمة، ويُسمى القوة بسبب الأشياء التي اكتسبت قوة.
التفسير الأول للأريوسيين
ينكر الأريوسيون أن كلمة الله واحد مع الآب ومساوٍ له في الجوهر، ويدعون أنه أول الخليقة ومتميز عن كل المخلوقات، وهم في هذا يعتمدون على العبارة التي بين أيدينا. يقول البابا أثناسيوس:
[لقد كتبوا هكذا:
“إنه مخلوق، ولكنه ليس واحدًا من المخلوقات.
إنه مصنوع، لكنه ليس واحدًا من المصنوعات.
إنه مولود، لكنه ليس واحدًا من المولدين[210].”]
رد البابا أثناسيوس
أولاً: تفسير الأريوسيين يحمل تناقضًا؛ كيف يكون السيد المسيح مخلوقًا، وفي نفس الوقت “ليس واحدًا من المخلوقات”؟ فإنهم بهذا يقولون أنه مخلوق وفي نفس الوقت ليس مخلوقًا.
[ما المنفعة من القول من ناحية أنه مخلوق، ومن ناحية أخرى أنه غير مخلوق؟ فإنكم إن قلتم أنه “ليس كواحدٍ من المخلوقات”، فإني أثبت أن مغالطتكم هذه خالية من الحكمة[211].]
ثانيًا: بقولهم أنه متميز عن كل بقية المخلوقات يخطئون، لأن كل خليقة متميزة عن غيرها. فالشمس تختلف عن القمر كما عن الأرض، حتى بين الحيوانات والطيور، كل حيوان أو طائر يتميز عن الأنواع الأخرى من الحيوانات والطيور التي من عائلات أخرى. فبالقول أن كلمة الله متميز عن بقية المخلوقات لا يعني شيئًا، لأن هذا أمر طبيعي بالنسبة لكل المخلوقات.
[إما أن يُستثنى الكلمة من بين المصنوعات، وكخالقٍ يُنسب إلى أبيه ويُعترف به أنه ابن بالطبيعة، أو أن يكون مجرد خليقة، وعندئذ يُعترف بأن له وضعه الخاص مثله مثل المخلوقات الأخرى تجاه بعضها البعض.
فإنه بالنسبة لتلك المخلوقات التي هي بطبيعتها مخلوقة، يمكن أن نجد البعض يتفوق على الآخر “لأن نجمًا يمتاز عن نجم في المجد” (1كو41:15).
فإنه يوجد اختلاف بين سائر المخلوقات عند مقارنتها بعضها ببعضٍ، ولكن ليس معنى هذا أن بعضها سادة والأخرى تتعبد للأسمى منها؛ ولا يكون البعض علة للمصنوعات والأخرى صادرة عنها[212].]
ثالثًا:أكد سليمان في نفس الأصحاح أن الحكمة هو “المدبر” للخليقة، أو “صانعها” وخالقها المهتم بها، دائم العمل من أجلها.
[الكلمة ليس مخلوقًا، فهو الوحيد الذي من ذات الآب، والذي دبر كل الأشياء، وجميعها تسبحه كخالقٍ، كما يقول هو ذاته: “كنت عنده مدبرًا (صانعًا)” (أم30:8)، و”أبي يعمل حتى الآن وأنا أيضًا أعمل” (يو17:5)، إن تعبير “حتى الآن “يدل على أنه موجود ككلمة في الآب منذ الأزل ، لأنه من خاصية الكلمة أن يعمل أعمال الآب، ولا يكون خارجًا عنه. وإن كانت هذه الأشياء التي يعملها الآب يعملها الابن أيضًا، والأشياء التي يخلقها الابن هي مخلوقات الآب، بهذا يكون إما أنه يصنع نفسه ويكون هو خالق نفسه، وهذا غير معقول ومستحيل، أو إن كان يخلق ويعمل مخلوقات الآب، فلا يمكن أن يكون عملاً ولا خليقة[213].]
[لو كان الكلمة ذاته معدودًا بين المخلوقات لما كان في استطاعته أن يخلق كل الأشياء، بل ولا الملائكة أيضًا يستطيعون أن يخلقوا لأنهم هم أيضًا من بين المخلوقات.
لكن إن كان الله قد دعا الأشياء غير الموجودة إلى الوجود بواسطة كلمته الذاتي، فلا يكون الكلمة من بين الأشياء غير الموجودة والتي دُعيت (إلى الوجود)، وإلا فلنبحث عن كلمة آخر بواسطته دعي الكلمة نفسه أيضًا إلى الوجود، لأن كل الأشياء غير الموجودة قد صارت بالكلمة[214].]
بنفس المعنى يقول القديس يوحنا الذهبي الفم:
V يقول عن الملائكة “الصانع (ملائكته)”، لكن ألم يقل عن الابن “الصانع“؟
بالرغم من تعبيره عن الخلاف بين الملائكة والابن هكذا: القائل عن الملائكة الصانع ملائكته أرواحًا، أما عن الابن … “الرب خلقني“، “جعله الله ربًا ومسيحًا” (أم22:8؛ أع36:2). إنه يتحدث لا عن الله الكلمة بل عن التجسد. لأنه عندما أراد أن يعبر عن الفارق الحقيقي، لم يستبعد الملائكة فقط بل وكل القوات العلوية الخادمة.
انظر كيف يميز وبوضوحٍ عظيمٍ بين المخلوقات والخالق، الخدام والرب، الوارث والابن وبين العبيد[215].
القديس يوحنا الذهبي الفم
رابعًا: الكلمة وحده يعرف الآب ويراه. يتميز حكمة الله وكلمته عن بقية الخليقة في أنه لا يستطيع أحد أن يعرف الآب كما هو وأن يراه إلا ذاك المولود منه كأشعة صادرة عن النور، الأمر الذي يؤكد أنه ليس مخلوقًا. شتان ما بين معرفة السمائيين ورؤيتهم للآب وبين معرفة ورؤية الابن الوحيد المولود من الآب أزليًا.
[حيث أن الأرض كلها مملوءة بمعرفته، فإن معرفة الآب هي خلال الابن، ومعرفة الابن من الآب هي واحدة بعينها، ويُسر الآب قائلاً: “كنت عنده… كل يوم لذته، فرحه دائمًا قدَّامي” [30]. هذا أيضًا يبرهن أن الابن ليس غريبًا، بل لائق بجوهر الآب.
ومع أن لذته أيضًا في بني البشر [30]، عند نهاية (خلاص) العالم، كما هو مكتوب في نفس الأمثال، إلا أن هذا له معنى آخر. فإنه حتى هذا الذي به يبتهج ليس لأن فرحًا ما يُضاف إليه، بل إذ يرى الأعمال التي صُنعت على صورته، يفرح الله بسبب صورته.
وكيف يبتهج الابن أيضًا إلا لأنه يرى نفسه في الله؟[216].]
[“ليس أحد يعرف الآب إلا الابن” (مت27:10). إذن فالكلمة مختلف عن المخلوقات وهو وحده الذي يعرف الآب ويراه، كما قال: “ليس أحد قد رأى الآب إلا الذي هو من الآب” (يو16:6).[217]]
خامسًا: شهادة الآب له، وسجود الملائكة له، وقبوله الألقاب الإلهية توضح أنه ليس واحدًا من بين المخلوقات، بل الخالق نفسه.
[يظهره الآب أنه ابنه الذاتي والوحيد بقوله: “إنك أنت ابني” (مر7:2)؛ “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت17:3)، ولهذا “صارت الملائكة تخدمه” (مت11:4)؛ حيث كان مختلفًا عنهم، وهم يسجدون له…
عندما سجد له التلاميذ قَبِل منهم السجود وأخبرهم من هو قائلاً: “أنتم تدعونني ربًا ومعلمًا، وحسنًا تقولون لأني أنا كذلك” (يو13:13). وحينما قال له توما: “ربي وإلهي” (يو28:20) سمح له بهذا القول، وبالأحرى قبله ولم يمنعه…
ما كان ليُسجد له، أو تُقال عنه تلك الأقوال لو أنه كان بين المخلوقات.[218]]
التفسير الثاني للأريوسيين
يدَّعي الأريوسيون أن الله خلق الابن الكلمة قبل كل الخليقة، ويقوم الابن بخلقة كل المخلوقات السماوية والأرضية. وكأن الله يستنكف أن يمد يده للخلقة، أو أن الخليقة لا تحتمل لمسة يد الله.
[يا لحماقتهم عندما يقولون عنه: “إن الله عندما أراد أن يُوجد طبيعة مخلوقة، ورأى عدم قدرتها على احتمال لمسة يد الآب الشديدة، فإنه يصنع ويخلق أولاً واحدًا مفردًا فقط، ويسميه ابنًا وكلمة، لكن عن طريقه كوسيط، يُوجد به كل الأشياء أيضًا.[219]]
الرد عليهم
أولاً: كان رد البابا أثناسيوس الرسولي عليهم بأن الله لا يستنكف من أن يهتم حتى بعدد شعر رأس الإنسان (لو18:21)، كما يهتم بالعصفور الواحد الذي بلا قيمة في عيني بائع العصافير، ويُلبس عشب الحقل ما هو أجمل من لباس سليمان، فكيف يستنكف من خلقة السماء والأرض؟
[إن كانوا يقولون إن الله يستنكف من أن يخلق الأشياء الأخرى، لهذا صنع الابن فقط، وسلَّم خلقة الأشياء الأخرى للابن كمساعد، فإن هذا يكون غير لائق بالله، لأنه ليس عند الله كبرياء. هؤلاء يخجلهم الرب عندما يقول: “أليس عصفوران يُباعان بدرهمٍ، وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدون إذن أبيكم” (مت29:10) الذي في السموات؟…
فإن لم يكن من غير اللائق بالله أن يعتني بأصغر الأشياء إلى هذه الدرجة، مثل شعرة الرأس والعصفور وعشب الحقل (مت25:6-30) فإنه لا يكون من غير اللائق أن يخلق هذه الأشياء، لأن الأشياء التي هي موضع عنايته هي نفسها التي يكون هو خالقها بكلمته الذاتي[220]].
ثانيًا: يقول البابا أثناسيوس: [مرة أخرى إن كانت الطبيعة بسبب عدم قدرتها أن تحتمل فعل الخلق المباشر من الله، احتاجت إلى وجود وسيط، فالكلمة أيضًا لكونه مخلوقًا ومصنوعًا (حسب قولكم) فإنه يكون هو نفسه في حاجة إلى وسيط لخلقه بسبب كونه واحدًا من الطبيعة المخلوقة التي لا تستطيع أن تحتمل فعل الله، بل يحتاج إلى وسيط، وحتى إن وُجد وسيط للكلمة فستكون هناك حاجة مرة أخرى لوسيطٍ آخر لهذا الوسيط، بذلك يكون من المستحيل أن تقوم للخليقة قائمة[221].]
ثالثًا: إن كان الكلمة قد خُلق لكي يخلق بقية الخليقة، فيكون قد خُلق من أجلنا.
يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن العبارة الواردة هنا في سفر الأمثال لا تُشير إلى وجود الكلمة، بل إلى التدبير الخاص بتجسده، فإن المسيح لم يُوجد لأجلنا، وإلا صار هو صورة منّا ليُمجدنا، وإنما التدبير الخاص بتجسده تم لأجلنا ليُحقق خلاصنا فنحمل صورته. لقد ركزالبابا أثناسيوس الرسولي في هذه العبارة على القول “من أجل أعماله” فإن التجسد، وليست “ولادة الكلمة الأزلية”، هو من أجل الإنسان.
أوضح البابا أثناسيوس أن الإنسان لم يُخلق لكي يعمل، إنما خُلق لأجل ذاته وبعد ذلك يعمل، هكذا حكمة الله لم يُوجد لكي يعمل، بل هو الكائن الأزلي وقد قبل بحبه أن يقوم بعمل الخلاص، مختفيًا في الناسوت لكي يُحرر الإنسان المُستعبد ويرده إلى الأحضان الإلهية.
[لأنه إن كان يقول أنه قد خٌلق “لأجل الأعمال” فإنه لا يريد أن يشير إلى جوهره، بل إلى التدبير الذي صار لأجل أعماله، وهو الأمر الذي يكون تاليًا لوجوده.
لأن آدم خُلق لا لكي يعمل بل لكي يوجد أولاً كإنسان، بعد ذلك تلقى أمرًا أن يعمل.
ونوح خُلق ليس من أجل الفلك، بل ليوجد أولاً ويصير إنسانًا، بعد ذلك تلقى أمرًا أن يصنع الفلك.
ومن يبحث ويفتش فإنه سيجد نفس الشيء مع كل واحد من المخلوقات. لأن موسى العظيم أيضًا كان إنسانًا أولاً وبعد ذلك عُهد إليه بقيادة الشعب.
هكذا هنا أيضا من الممكن أن نفهم نفس الشيء لأنك تري أن الكلمة لم يُخلق لكي يكون له وجود بل “في البدء كان الكلمة“، لكنه بعد ذلك أُرسل “لأجل الأعمال” وتدبير خلاصها. لأنه من قبل أن توجد “الأعمال” كان الابن موجودًا دائمًا ولم تكن هناك أية حاجة لكي يخلق، وعندما خلقت “الأعمال”، وصارت الحاجة ماسة بعد ذلك إلي تدبير إصلاحها، عندئذ قدم الكلمة ذاته لكي ينزل ويصير مشابهًا “للأعمال”. وهذا ما يوضح لنا معنى لفظ “خلق”.
لأنه يريد أن يثبت التشابه فإنه يقول مرة أخري بإشعياء النبي: “الآن هكذا يقول الرب الذي شكَّلني من الرحم لأكون له عبدًا، لأرجع إليه يعقوب وإسرائيل. وأجمعهم جميعًا وأتمجد أمام الرب” (إش5:49 LXX).
انظر هنا أيضًا إنه يتَّشكل لا بوجوده بل لكي يجمع الأسباط التي كانت موجودة قبل أن يتشَّكل. فكما في العبارة السابقة (أم2:8) جاءت العبارة “خلقني”، يقول هنا “شكّلني”، وكما قال هناك “من أجل أعماله” يقول هنا “ليجمع معًا“، حتى يظهر من كل ناحية أنه “خلقني” أو”شكّلني” جاءت لاحقة لوجود الكلمة. فكما قبل أن يتَّشكل كانت الأسباط موجودة التي لأجلها تَّشكل، هكذا يبدو أن الأعمال موجودة التي من أجلها خُلق.
وعندما “كان الكلمة في البدء” لم تكن “الأعمال” موجودة بعد كما سبق أن أشرت، وعندما صارت “الأعمال” وأصبحت الحاجة ملحة، عندئذ قيلت لفظة “خلق”.
ذلك كما لو كان هناك ابن وعندما فقد العبيد وسقطوا في أيدي العدو بإهمالهم وصاروا محتاجون إلى عمل عاجل، أُرسل الابن بواسطة أبيه ليُخلصهم ويردهم، وقد ارتدى زيَّا مثلهم وتشكل مثلهم، كي لا يتعرف عليه المسئولون أنه السيد فيهربوا. إنه يخفي نزوله ويكتشف الكنوز التي خبّأوها تحت الأرض. وعندئذ إذا سأله أحد، لماذا فعلت هذا؟ يجيب قائلاً: “أبي شكَّلني هكذا وأعدّني لأجل أعماله”. وكأنه بهذا القول لا يعني أنه عبد ولا أنه واحد من أعماله. ولا يتحدث عن بدء ميلاده، بل عن المهمة الموكلة إليه فيما بعد “من أجل الأعمال“.
بنفس الطريقة أيضًا فإن الرب لبس جسدنا، “وُجِد في الهيئة كإنسان” (في8:2). فلو أنه سُئل من الذين رأوه وتعجبوا لكان يقول لهم: “الرب خلقني أول طرقه لأجل أعماله” و”جبلني لكي أجمع إسرائيل“. هذا ما يقوله الروح في المزامير: “أقمته على أعمال يديك“. وهذا الأمر هو ما يشير به الرب عن ذاته قائلاً: “أنا أقمت ملكًا بواسطته على صهيون جبله المقدس” (مز6:2). وكما أنه حينما “أشرق جسديًا” على صهيون لم يكن هذا له بداية وجود أو مُلك، بل لكونه كلمة الله وملكًا أبديًا، فإنه حُسب مستحقًا من الناحية البشرية أن تشرق مملكته على صهيون أيضًا، لكي بعد أن يفديهم ويفدينا من الخطية المتملكة عليهم، يجعلهم في مملكته الأبوية.
هكذا إذ أقيم من أجل الأعمال، فإن هذا ليس من أجل الأشياء التي لم تكن موجودة بعد، بل من أجل الأشياء التي كانت موجودة عندئذ وكانت في حاجة إلى إصلاح[222].]
[تقولون أن الله، إذ أراد خلقة الطبيعة الأصلية وتحريرها دبَّر وخلق الابن حتى خلاله يُشكِّلنا.
الآن إن كان الأمر هكذا انظروا أيضًا أنه لَكُفرٌ عظيم أن تتجاسروا على النطق به.
يظهر الابن أنه جاء إلى الوجود من أجلنا وليس نحن لأجله، لأننا لم نُخلق من أجله، بل خُلق هو لأجلنا، لذا فهو مدين لنا بالشكر وليس نحن… نحن خُلقنا على صورة الله ولمجده، وأما الابن فهو صورتنا ووُجد لمجدِنا. نحن جئنا إلى الوجود لكي نوجد، أما كلمة الله فقد وُجد – كما يلزم أن تقولوا – لا ليوجد، بل كأداة لاحتياجاتنا، فليس نحن منه، بل هو نشأ لاحتياجنا. أليس من يتمسك بمثل هذه الأفكار يكون أكثر من جاهلٍ؟![223]]
[لأن كلمة الله لم يُخلق لأجلنا بل بالأحرى نحن لأجله إذ “فيه كل الأشياء خُلقت” (راجع كو16:1). ليس لأننا كنا ضعفاء كان هو قويًا، وخُلق بواسطة الآب وحده لكي يُشكلنا بواسطة نفسه كأداة، لتهلك مثل هذه الأفكار! الأمر ليس هكذا.
لأنه حتى إن كان الله لم يستحسن أن يخلق المخلوقات، لكن الكلمة كان عنده، الذي ليس بأقل من أن يكون مع الله، والآب فيه. في نفس الوقت، الأمور الأصلية لا يمكن أن توجد بدون الكلمة، إذ به خُلقت – هذا صواب – لأنه حيث إن الكلمة هو ابن الله بالطبيعة مرتبط بجوهره، ومنه وفيه، كما يقول هو نفسه إن الخليقة ما كان يمكن أن توجد إلا به. فكما أن النور يُضيء كل الأشياء بأشعته وبدونها ما كان يمكن وجود أضاءه، هكذا الآب – كما بيدٍ – خلق كل الأشياء في الكلمة وبغيره لم يكن شيء مما كان[224].]
[بحسب كلامكم يظهر أولاً أن الابن قد جُعل من أجلنا، ولسنا نحن من أجله؛ بمعنى أننا لم نُخلق لأجله، لكنه هو قد صُنع من أجلنا، وبذلك يكون مدينًا بالفضل لنا، ولسنا نحن المدينين له.[225]]
[لم يُخلق شيء جديد في المرأة سوى جسد الرب، مولودًا من العذراء مريم بدون زرع، إذ قيل أيضًا في الأمثال عن شخص يسوع: “الرب قناني، أول طرقه من قِبَلْ (أجل) أعماله” [12]. إنه لا يقول: خلقني قبل أعماله”، بل “من أجل أعماله” (أي من أجل تدبير الخلاص)، وذلك لكي لا يفهم أحد النص بخصوص لاهوت الكلمة[226].]
[الكلمة إذن ليس مخلوقًا ولا عملاً… لذلك لم يقل: “خلقني عملاً“، ولا قال “خلقني مع أعماله” لئلا يظهر أنه مخلوق بالطبيعة وفي جوهره. كما لم يقل: “خلقني لأصنع أعمالاً” لئلا من الجانب الآخر حسب فساد الأشرار يبدو أنه أداة صُنعت من أجلنا.
مرة أخرى لم يُعلن: “خلقني قبل أعماله” لئلا وهو بالحقيقة قبل الكل كابن يظهر اللفظان “الولادة” و”الخلقة” كأنهما يحملان ذات المعنى. لكنه قال بتمييز دقيق: “لأجل أعماله“، وكأنه يقول: “الآب قد صنعني، في الجسد، لكي أكون إنسانًا”.
مرة أخرى يظهر أنه ليس عملاً بل ابن. فإنه كما أن الذي يأتي إلى منزل لا يكون هو جزء من المنزل بل آخر غيره، هكذا الذي خلق الأعمال يلزم أن يكون بالطبيعة آخر غير الأعمال. لأنه إن كان الأمر كما تقولون أيها الأريوسيون أن كلمة الله هو عمل، فبأي يد وحكمة جاء هو نفسه إلى الوجود؟ فإن كل الأشياء جاءت إلى الوجود بيد الله وحكمته، الذي هو نفسه يقول: “يديّ صنعت كل شيء” (إش2:66)، ويقول داود في المزمور: “وأنت يا رب في البدء أسست الأرض، والسموات هي عمل يديك”. وأيضًا في المزمور 142 “تذكرت أيامًا قديمة، أتأمل جميع أعمالك، كنت أتأمل أعمال يديك (مز25:102، 24:104) [227].]
رابعًا: المولود الأزلي. في نفس الأصحاح يؤكد كلمة الله أنه مولود وليس مخلوقًا، إذ يقول “قبل التلال ولدني” [25].
[إن كان الصوت القائل: “هذا هو ابني الحبيب” (مت5:17)… هو صوت الآب وقد سمعه التلاميذ، والابن نفسه أيضًا يقول عن ذاته: “قبل كل التلال ولدني” (أم25:8)، ألا يكونون بهذا يحاربون الله… لأنهم لم يخافوا صوت الآب، ولم يحترموا كلمات المخلص، ولم يطيعوا القديسين، حيث كتب أحدهم: “الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره” (عب13:1)؛ و”المسيح قوة الله وحكمة الله” (1كو24:1). وترنم آخر: “لأن عندك ينبوع الحياة، وبنورك نرى نورًا” (مز9:36)، “كلها بحكمة صُنعت” (مز24:104). ويقول النبي: “كلمة الرب صارت إليَّ” (إر4:1). ويقول يوحنا : “في البدء كان الكلمة” (يو1:1). ويقول لوقا: “مثلما سلمها إلينا الذين صاروا منذ البدء معاينين وخدامًا للكلمة” (لو2:1). وكما يقول داود أيضًا: “أرسل كلمته فشفاهم” (مز20:107). كل هذه الأقوال تفضح الهرطقة الأريوسية في كل مكان؛ بل توضح أزلية الكلمة، وأنه من جوهر الآب وليس غريبًا عنه. لأنه متى رأى أحدٌ نورًا بغير إشعاع؟ أو من يجرؤ أن يقول إنه “رسم جوهر شيء آخر غير الجوهر؟” ألا يكون قد أصيب بالجنون بدرجة كبيرة ذاك الذي يفكر أيضًا بأن الله كان في وقت ما بلا كلمة وبلا حكمة؟[228] ]
خامسًا: كلمة الله الأزلي
يميز البابا أثناسيوس بين كلمات الإنسان التي تصدر عنه بلا وجود شخصي وبين كلمة الله الحيّ الأزلي والعامل مع الآب. يلجأ الإنسان إلى يديه ليعمل، لأن كلماته بلا وجود حيّ حقيقي، أما الله فيعمل بكلمته الموجود الحيّ.
[بما أن الإنسان يُولد في وقت ما، فهو نفسه يلد ابنه أيضًا في وقت ما، وحيث أن الإنسان قد وُجد من العدم، لذلك فإن كلمته تتوقف ولا تبقى. أما الله فهو ليس كالإنسان لأن هذا ما قاله الكتاب (يهوديت16:8)، لكنه هو الكائن (خر14:39)، وهو الموجود دائمًا، لهذا فإن كلمته أيضًا كائن وأزلي مع الآب مثل إشعاع النور.[229]]
[لا يعمل الإنسان بواسطة الكلمات، بل بيديه، لأن يديه لهما وجود، أما كلمته فليس لها وجود فعّال، لكن يقول الرسول: “كلمة الله حيّ وفعّال، وأمضى من كل سيف ذي حدِّين، وخارق إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميز لأفكار القلب ونياته، ولا توجد خليقة غير ظاهرة أمامه، بل كل شيء مكشوف وعريان لعينيْ ذاك الذي نقدم له الحساب” (عب12:4،13). فهو إذن خالق “وبغيره لم يكن شيء واحد” (يو1:3) ويمكن أن يكون شيء بدونه[230].]
التفسير الثالث للأريوسيين
يقولون أنه يُسمى كلمة بسبب الأشياء المدركة، وحكمة بسبب الأشياء التي نالت حكمة، يٌسمى قوة بسبب الأشياء التي اكتسبت قوة.
يرد عليهم البابا أثناسيوس أنه بهذا القول يكون كلمة الله له وجود خيالي، مجرد أسماء نطلقها عليه. وهم يناقضون بعضهم بعضًا، إذ يؤكد البعض وجود الكلمة قبل كل الخليقة، وبه كان كل شيء، ويقول آخرون أنه مجرد أسماء ننتفع بها.
[إنهم يصطدمون ببعضهم بعضًا، إذ تتعارض أفكارهم فيما بينها، فأحيانًا يقولون الحكمة كثيرة، وأحيانًا أخرى يقولون إن الحكمة واحدة… بينما هم أنفسهم يقولون إن الحكمة موجودة مع الله أزليًا، يتناسون أقوالهم نفسها.[231]]
تفسير العبارة
لماذا قيل “خلقني”؟
- بالتجسد صار لنا الإنسان الجديد المخلوق على صورة خالقه
الكلمتان “خلقني created Me” لا تصدران عن الطبيعة الإلهية الخالدة، بل عن ما قد ارتبطت بها في التجسد، طبيعتنا المخلوقة. كيف يمكن أن هذا “الحكمة”، “والفهم”، “والتعقل”، الذي يؤسس الأرض، ويُعد السموات، ويشق الأعماق، يُدعى هنا “مخلوقًا لأجل بدء أعماله”؟
يخبرنا أن مثل هذا التدبير لم يوضع بدون سبب عظيم. حيث أن البشر، بعدما تسلموا الوصية التي يجب عليهم ملاحظتها فقدوا بسبب العصيان نعمة الذاكرة، وصاروا ينسون، لهذا السبب “أنا أُعلن لكم الأمور التي تحدث يومًا فيومًا لخلاصكم، لعلَّكم تضعون في ذاكرتكم ما أُعد منذ الأزل، الأمور التي نسيتموها، فإنه ليس بإنجيل جديد أنا أُعلنه لكم الآن، بل أعمل لإصلاحكم لتعودوا إلى حالتكم الأولى. لهذا السبب أنا خُلقت، أنا القائم على الدوام، ولا احتاج إلى الخلقة لكي أوجد، فأنا بدء الطرق من أجل أعمال الله، أيضًا من أجل البشر فإن كان الطريق الأول قد تحطم صارت هناك حاجة إلى تكريس طريقٍ جديدٍ حيّ للتائهين (عب20:10)، الذي هو أنا، الطريق.
هذه النظرة أن معنى “خلقني” تشير إلى ناسوته، وضعها أمامنا الرسول الإلهي بوضوح بكلماته التي قدمها لنا: “البسوا الرب يسوع” (رو14:13). وأيضًا استخدم نفس الكلمة إذ يقول: “البسوا الإنسان الجديد المخلوق على شاكلة الله” (أف24:4). فإن كان ثوب الخلاص هو واحد، الذي هو المسيح، لا يقدر أحد أن يقول أن “الإنسان الجديد الذي على شاكلة الله” آخر غير المسيح، بل من الواضح أن الذي يلبس المسيح يلبس الإنسان الجديد المخلوق على شاكلة الله. فإنه بالحقيقة هو وحده الذي يمكن أن يُدعى بحق “الإنسان الجديد”، الذي لم يظهر في الحياة من زرع إنسان بالطرق الطبيعية المعروفة العادية، بل في حالته وحده تحققت الخلقة بطريقة جديدة غريبة وفريدة. لهذا السبب فإنه لذات الشخص عندما ننظر إلى طريقة ميلاده العجيبة نقول “الإنسان الجديد المخلوق على صورة خالقه“، وعندما ننظر إلى طبيعته الإلهية المتحدة بخلقة هذا الإنسان الجديد ندعوه “المسيح”. فالإنسان (أقصد المسيح والإنسان الجديد الذي على صورة خالقه) ينطبقان على نفس الشخص الواحد بعينه[232].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
يقول البابا أثناسيوس الرسولي:
[عندما يٌقال اللفظ “خَلَقَ” فهو لا يُقال عن الجوهر إطلاقًا، ولا يعني الولادة. فداود يترنم: “ليٌكتب هذا لجيل آخر وشعب عندما يُخلق سيسبح الرب” (مز18:102). ويقول أيضًا: “قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله” (مز10:51). ويقول بولس في رسالته إلى أهل أفسس: “مبطلاً ناموس الوصايا في فرائض لكي يخلقالاثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا” (أف15:2). وأيضًا “البسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف24:4) [233].]
[هذا مشابه لما يقوله إرميا: “خلق الله خلاصًا لأجل زرع جديد الذي به سيتجول الناس في أمان” (إر22:38 LXX). وعندما قال هذا لم يقصد أي جوهر خاص بمخلوق، بل هو يتنبأ بالخلاص المتجدد بين البشر، ذلك الخلاص الذي صار بالمسيح لأجلنا. وحيث أن هناك فرقًا بين المخلوقات وبين القول المذكور “خَلَقَ”[234]، فإن وجدتم الرب يٌدعى مخلوقًا في أي موضع في الكتاب فأوضحوه وحاربوا. أما أن لم يكن قد كٌتب في أي موضع أنه مخلوق سوى ما قاله عن ذاته في الأمثال “الرب خلقني” فاخجلوا إذن من الفرق السابق ذكره[235].]
- بالتجسد صار لنا أخًا وبكرًا
يقول البابا أثناسيوس الرسولي:
[بكون الله أباه بالطبيعة صار فيما بعد خالقه وصانعه، عندما لبس الكلمة هذا الجسد المخلوق والمصنوع، وصار إنسانًا.
كما أن البشر إذ قبلوا روح الابن صاروا أبناء به، هكذا كلمة الله عندما لبس جسد إنسان عندئذ قيل أنه مخلوق ومصنوع. إن كنا بالطبيعة نحن أبناء عندئذ يكون هو بالطبيعة مخلوقًا وعملاً؛ ولكن إن كنا بالتبني والنعمة صرنا أبناء عندئذ فالكلمة أيضًا إذ عملت النعمة لأجلنا صار إنسانًا، وقال: “الرب خلقني”. وفي موضع آخر، عندما لبس طبيعة مخلوقة صار مثلنا في الجسد، لذلك من المعقول أن يدعى أخًا وبكرًا (رو29:8)…[236]]
[نحن خُلقنا بواسطة الله أولاً وبعد ذلك وُلدنا، خليقة بالطبيعة وأبناء بالنعمة. أما المسيح فوُلد أولاً ثم خُلق بعد ذلك. فمعنى “البكر بين الأموات“، و”البكر بين إخوة كثيرين“، و”بكر كل خليقة” يتعارض مع “الابن الوحيد”. بهذا يُفسر: “أول طرقه” و”من أجل أعماله”… النصوص تحمل مقابلة بين الكلمة والأعمال[237].]
- بالتجسد صار المسيح لعنة لأجلنا
[إنه محب للبشر فهو يقول الآن: “الرب خلقني أول طرقه” كما لو كان يقول “الآب هيأ لي جسدًا” (أنظر عب5:10)، وخلقني للبشر من أجل خلاص الناس. لأنه كما أننا عندما نسمع من يوحنا: “الكلمة صار جسدًا” فإننا لا نفهم من ذلك أن الكلمة كله جسد، بل أنه لبس جسدًا صائرًا إنسانًا. وعندما نسمع “صار المسيح لعنة لأجلنا” (غل13:3). وأيضًا “جعل الذي لم يعرف خطيئة، خطيئة لأجلنا” (2كو21:5). فإننا لا نفهم من كل هذا أنه هو نفسه قد صار لعنة وخطية، بل تحمل اللعنة الموجهة ضدنا كما قال الرسول “افتدانا من اللعنة” (غل13:3). ومثلما قال إشعياء “حمل خطايانا” (إش4:53)، ومثلما كتب بطرس “حمل خطايانا في جسده على الصليب” (انظر 1بط24:2)[238].]
لماذا قيل: “من أجل أعماله”؟
يقول البابا أثناسيوس الرسولي:
[بحسب فكر أولئك (الأريوسيين) يُعتبر جوهر الكلمة مخلوقًا بسبب قوله “الرب خلقني“، وبالتالي لكونه مخلوقًا فهو لم يُخلق من أجلنا، وان لم يكن قد خُلق من أجلنا فنحن لم نخلق به، وان لم نخلق به فلن يكون هو لنا في داخلنا، بل سيكون خارجنا كما لو كنا نقبل منه التعليم مثلما نقبله من معلمٍ. ولو كان الأمر هكذا معنا لما فقدت الخطية سلطانها علي الجسد، بل لظلت ملتصقة به وليست بعيدة عنه. غير أن الرسول يعارض تعليم هؤلاء بإعلانه لأهل أفسس قبل ما سبق أن اقتبسنا بقليل قائلاً: “لأننا نحن مخلوقين في المسيح يسوع“. فإن كنا قد خلقنا في المسيح فلا يكون هو الذي خُلق، بل نحن الذين خُلقنا بواسطته. لذا فإن القول “خلق” هو من أجلنا نحن وبسبب احتياجنا. فإن الكلمة رغم أنه خالق، احتمل أيضا لقب المخلوق. ولم يكن هذا لقبه الخاص. إذ أنه هو الكلمة، ولكن اللقب “خلق” هو خاص بنا نحن المخلوقين بواسطته[239].]
قبل كل الجبال ولدني
[بينما أنه عندما يشير بصورة مطلقة إلي الميلاد من الآب فإنه يضيف في الحال : “قبل كل الجبال ولدني” (أم25:8). فهو لم يقل لماذا ولد مثلما حدث في عبارة “خلقني” حيث ذكر “من أجل الأعمال”. بل انه يقول بصورة مطلقة “ولدني”، كما جاء في القول: “في البدء كان الكلمة”. لأنه حتى وإن لم تكن الأعمال قد خلقت، إلا أن كلمة الله كان موجودًا، “وكان الكلمة الله”[240].]
[لأنه عندما قال: “الرب خلقني أول طرقه”، أضاف : “لكنه قبل كل الجبال ولدني”. فإن كان الكلمة مخلوقا بالطبيعة وبالجوهر، والمولود يختلف عن المخلوق فما كان له أن يضيف “ولدني”بل لكان اكتفى بلفظ “خلق” مادام هذا اللفظ يعني أيضًا “ولدني”. ولكنه هنا يقول “خلقني أول طرقه لأجل أعماله”. وأضاف عبارة “ولدني” ليس عن غير قصد، بل بعد ربطها بأداة الربط “لكن”، وبذلك يعطي حماية كافية للفظ “خلق” قائلاً: “لكنه قبل كل الجبال ولدني”، لأن عبارة “ولدني” إذ تأتي مع لفظ خلق فإنها تضفي عليها معنًى معينًا[241].]
[لأن إدخاله إلى العالم ساهم في تسميته “بكر”الكل، حتى يكون هو ابن الآب الوحيد الجنس بسبب أنه هو الوحيد الذي من الآب، كما أنه “بكر”الخليقة من أجل تبني الجميع. ولأنه هو بكر بين الاخوة، وقد قام من بين الأموات ليكون هو باكورة الراقدين (انظر 1كو20:15)، لذلك كان من الواجب أن يكون متقدما في كل شيء ، لهذا فقد “خلق أول الطرق”. لكي إذ نتبعه وندخل بواسطته هو القائل “أنا هو الطريق” و “الباب”ونشترك في معرفة الآب ، فإننا نسمع الكلمات: “طوباهم الذين بلا عيب في الطريق” ونشترك في معرفة الآب، فإننا نسمع الكلمات :”طوباهم الذين بلا عيب في الطريق” وأيضًا “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”[242].]
[كلمة الله محب البشر ليس الجسد المخلوق بمشيئة الآب لكي يحيي كدم نفسه هذا الجسد الذي أماته الإنسان الأول بسبب تعديه، كما قال الرسول: “وكرس لنا طريقًا حيًا حديثًا بالحجاب أي جسده”. وهو ما أشار إليه في موضع آخر حينما قال: “إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا”. فإن كان كل شيْ قد صار خليقة جديدة فإنه من الضروري أن يكون هناك شخص هو أول هذه الخليقة[243].]
[ومن الصواب أن يقول:”الرب خلقني أول طرقه لأجل أعماله” لكي لا يحيا الإنسان فيما بعد بحسب الخليقة الأولى وإذ توجد بداية خليقة جديدة والمسيح هو بدء طرقها، إذن فلنقتف أثره هو القائل لنا: “أنا هو الطريق”.وأيضا يعلم الرسول المغبوط في رسالته إلى أهل كولوسي قائلاً: “هو رأس الجسد الكنيسة، الذي هو البداية، البكر من الأموات لكي يكون متقدما في كل شيء”[244].]
[لأنه هكذا خلق المخلص بحسب الجسد وصار أول الذين خلقوا من جديد واتخذ باكورتنا التي هي الجسد البشري الذي لبسه، وبعده يأتي الشعب الآتي الذي خلق كما قال داود “يكتب هذا لجيل آخر، وشعب سيخلق يسبح الرب”. ويقول في المزمور الحادي والعشرين : “الجيل الآتي سيخبر عن الرب وسيعلنون بره للشعب الذي سيولد الذي صنعه الرب”[245].]
[إذن فقد كمل فيه الجنس البشري وأعيد تأسيسه كما كان في البدء، بل بالأحرى بنعمة أعظم من الأول. لأننا بعد القيامة من بين الأموات لن نخاف الموت بعد، بل سنملك في السموات مع المسيح على الدوام. وهذا لأن نفس كلمة الله الذاتي من الآب، قد لبس الجسد وصار إنسانًا. لأنه لو كان مخلوقا ثم صار إنسانًا فإن الإنسان يبقى كما كان دون أن يتحد بالله. لأنه كيف يمكن لمخلوق أن يتحد بالخالق بواسطة مخلوق؟ لأن أية معونة يمكن أن يحصل عليها متماثلون من مماثليهم ماداموا هم أيضا محتاجين إلي نفس المعونة؟ وإن كان الكلمة مخلوقًا فكيف يمكنه أن يبطل حكم الله ويصفح عن الخطيئة وهو أمر كتب عنه الأنبياء أنه خاص بالله؟[246]]
[مرة أخرى، لو كان الابن مخلوقا لظل الإنسان مائتًا كما كان قبلاً، حيث أنه لم يتحد بالله. فإنه لا يستطيع مخلوق أن يوحد المخلوقات مع الله، إذ أنه هو نفسه في حاجة لمن يوحده بالله. وليس في وسع جزء من الخليقة أن يكون خلاصًا للخليقة إذ هو نفسه في حاجة إلى الخلاص. ولكي لا يحدث هذا أرسل الله ابنه وصار ابن الإنسان باتخاذه الجسد المخلوق. وحيث أن الجميع كانوا خاضعين للموت، وكان هو مختلفًا عن الجميع فقد قدم جسده الخاص للموت من أجل الجميع. إذن حيث أن الجميع ماتوا بواسطته هكذا قد تم الحكم (إذ أن الجميع ماتوا في المسيح) [247].]
[لذلك فإن الحق يوضح أن الكلمة لا ينتمي إلى المخلوقات، بل بالحري هو نفسه خالقهم. ولذلك فقد لبس الجسد البشري المخلوق، لكي بعد أن يجدده كخالق فإنه يؤلهه في نفسه، وهكذا يدخلنا جميعا إلى ملكوت السموات على مثال صورته. لأنه ما كان للإنسان أن يتأله لو أنه اتحد بمخلوق أو لو أن الابن لم يكن إلهًا حقيقيًا. وما كان للإنسان أن يقف في حضرة الآب لو لم يكن الذي لبس الجسد هو بالطبيعة كلمته الحقيقي[248].]
[أن يتحد ما هو بشري بالطبيعة بهذا الذي له طبيعة الألوهية، ويصير خلاص الإنسان وتألِّيه مؤكدًا. ولذلك فإن الذين ينكرون أن الابن هو بالطبيعة من الآب وأنه مولوده الذاتي من، فلينكروا أيضًا أنه قد حصل على جسده البشري الحقيقي من مريم الدائمة البتولية[249].]
مكتوب “بالحكمة أسس الله الأرض”. فإن كانت الأرض إذن قد تأسست بالحكمة فكيف تأسس هذا الذي أسسها؟. ولكن هذا النص قد قيل بأسلوب الأمثال. ويجب أن نبحث عن المقصود من هذا لكي نعرف أن الله خلق الأرض وأسسها بالحكمة لكي تكون ثابتة وطيدة وتظل باقية. والحكمة نفسها تأسست لأجلنا لكي تصير بداية وأساس خلقتنا الجديدة وتجديدنا. وهنا أيضًا لا يقول في هذه النصوص أنه “قبل الدهر (العالم) قد صنعني كلمة أو أبًا لكي لا يبدو أن له بداية صنع، فقبل كل شيء يجب أن نبحث إن كان هو ابنًا وأن نفتش الكتب بخصوص هذا الأمر.
لأنه لم يقل “قبل الدهر أسسني كلمة أو ابنًا” بل قال ببساطة “أسسني” لكي يوضح – كما قلب – أنه يقول هذا بأمثال ليس عن نفسه بل عن هؤلاء الذين يُبنون فوقه. ولأن الرسول قد عرّف هذا لذا فإنه يكتب “لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح” وأيضًا “فلينظر كل واحد كيف يبني عليه”. ومن الضروري أن يكون الأساس مماثلاً لتلك الأشياء التي تبني عليه حتى يمكنها أن تلتئم معه وتتحد به. ولكونه الكلمة، فإنه من حيث كونه كلمة حقًا فلا يوجد هناك من يماثلونه حتى يمكن أن يتحدوا معه –وذلك لأنه وحيد الجنس، ولكن بصيرورته إنسانًا فقد صار له مماثلون وهو الذين ارتدى جسدهم المماثل لجسده. وتبعًا لذلك فإنه “تأسس” بحسب بشريته لكي يمكننا نحن أيضًا أن نُبني فوقه حجارة كريمة ونصير هيكلاً للروح القدس الساكن فينا. وكما أنه هو أساس حقًا، فنكون نحن الحجارة التي تبنى عليه، وأيضًا يكون هو الكرمة ونصير نحن أغصانه ليس بحسب جوهر اللاهوت – لأن هذا مستحيل حقًا – بل بحسب بشريته، لأن الأغصان يلزم أن تكون مشابهة للكرمة، حيث أننا نحن مشابهون له بحسب الجسد.
لكن عندما لبس جسدنا الذي أخذه كقطعة من جسد القديسة مريم عندئذ يقول “أسسني” كما لو كان قد قال: “لكوني كلمة فقد ألبسني جسدًا ترابيًا”. لأنه هكذا تأسس من أجلنا، آخذًا ما يخصنا على عاتقه. لكي باتحادنا معه في الجسد، وارتباطنا به بسبب مشابهة الجسد نبقى غير مائتين وغير قابلين للفساد وبه نصل إلى إنسان كامل.
إلا أن هذه النعمة كانت قد أُعدت قبل أن يخلقنا بل حتى من قبل أن يخلق العالم. والسبب في هذا صالح ومذهل. فلم يكن من الائق أن يفكر الله بخصوصنا بعد أن خلقنا لكي لا يظهر أنه يجهل الأمور التي تتعلق بنا.
إن بولس الرسول المغبوط يعلّم بهذا – كتفسير للنص الذي جاء في الأمثال: “قبل الدهر” و “قبل أن تكون الأرض”، وذلك عندما كتب إلى تيموثاوس قائلاً: “اشترك في احتمال المشقات لأجل الإنجيل بحس قوى الله. الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة”. بل وقال إلى أهل أفسس “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح يسوع. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قدامه في المحبة قديسين وبلا لوم. إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه”.
ولم يكن من الآئق إذن أن تؤسس حياتنا بأي طريقة أخرى سوى أن تُؤسس في الرب الذي هو كائن منذ الأزل، والذي به قد خُلقت العالمين، لكي نستطيع نحن أيضًا أن نرث حياة أبدية إذ أن هذه الحياة كائنة فيه.
وحيث أنه أضاف قائلاً: “عندما أعد السموات كنتُ أنا في نفس الوقت معه”، ينبغي أن نعرف أنه لم يقل هذا كما لو أن الآب أعد السماء أو السحب العُليا بدون الحكمة، لأنه لا ريب أن جميع الأشياء قد خلقت بالحكمة، وبغيرها لم يكن شيء ما. وما قاله يعني هذا أن “كل الأشياء قد صارت في وبواسطتي، وعندما صار هناك احتياج أن تُخلق الحكمة لأجل الأعمال، فإني وأنا موجود مع الآب حسب الجوهر، لكن بالتنازل إلى المخلوقات قد طبعت صورتي على الأعمال، حتى يكون العالم كأنه في جسد واحد غير متمرد بل يكون متوافقًا مع نفسه”. فكل الذي يتأملون المخلوقات بفكر مستقيم بحسب الحكمة المعطاة لهم يستطيعون أن يقولوا: “كل الأشياء تثبت بتدبيرك”.
تفسير أمثال 7 | تفسير سفر الأمثال | تفسير العهد القديم |
تفسير أمثال 9 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر الأمثال | تفاسير العهد القديم |