تفسير المزمور ١١ للقمص تادرس يعقوب

المزمور الحادي عشر

الإيمان أعظم من الهروب

تسبحة الواثق:

يظهر داود النبي هنا وقد أشار عليه أصدقاؤه الذين خارت قلوبهم أن يهرب إلى أحد الجبال ليحتمي فيها من وجه مطارده شاول (1 صم 23: 7-18). لكنه رفض مشورتهم، مؤمنًا أن الله الملك البار لن يتخلى عنه. الله خالق الجبال هو ملجأه. ويرى بعض الدارسين أن هذا المزمور هو أحد المزامير الناطقة باسم الشعب التي تكشف عن العون الإلهي في مقابل أعداء همجيين برابرة. ولم يرفض داود مشورة أصدقائه ليس لأن هروبه يُعد بمثابة عار بالنسبة لقائد مثله، وإنما لأن هذه المشورة حملت نوعًا من عدم الثقة بالله، الأمر الذي لا يليق برجل الله، الذي إعتاد أن يترنم في داخل قلبه، قائلاً: “على الرب توكلت” [1].

يطلق على هذا المزمور “تسبحة الواثق”، أحد مزامير الثقة بالله Psalms of Confidence [مز 11، 16، 23، 62، 125، 129، 131]. هذه المزامير تكشف عن أن الابتعاد الكامل عن الله يجعل الصلاة مستحيلة؛ ولا يكون أمام المتألم إلا أن يلعن الله ويموت كما أشارت زوجة أيوب على رجلها (أي 2: 9). في هذه المزامير يستنير المؤمن بأشعة الثقة بالله ليدرك أن الله الذي أنقذ شعبه مرارًا في القديم لا يزال حيًا مخلصًا لهم على الدوام. بهذا الرجاء يرتفع المؤمن فوق الألم، وعوض الهروب إلى جبال مخلوقة يتكئ على خالق الجبال، الساكن في السماء [4] وعيناه تفحصان أمور البشر، هو ملجأ مؤمنيه!

تكررت كلمة “ملجأ refuge” مرارًا في سفر المزامير، فمن بين 37 مرة في كل الكتاب المقدس جاءت 22 مرة في هذا السفر. موضوع هذا المزمور وكثير من المزامير هو الاتكال على الله ضد قوة الشرير. هذه الثقة هي أساس الترنم المفرح في الكنيسة، في كل عبادتها وحياتها التقوية. يعلمنا المزمور كله أننا إذا ما سقطنا في تجربةٍ ما، يليق بنا ألا نشكو، بل نقاوم الشيطان فيهرب منا[265].

الإطار العام:

  1. مشورة زائفة            [1-3].
  2. الثقة بالله                 [4-7].
  3. مشورة زائفة:

“على الرب توكلت

فكيف تقولون لنفسي انتقلي على الجبال مثل العصفور؟!” [1]

يذكر داود مشورة أصدقائه [1-3]، الذين أشاروا عليه أن يترك بلده، ويلجأ إلى أحد الجبال. الكلمة العبرية المرادفة لكلمة “اهربوا” تعني يتذبذب أو يترنح أو يسير في خط ملتوٍ zigzag كما لو كان في حالة فزع تظهر عليه نتيجة محاولته لمناورة عدوه الماهر. ولكن كانت إجابة داود: “على الرب توكلت”. كان أصدقاء داود شديدي الشبه جدًا بزوجة أيوب. الجبن دائمًا خطير، لا شيء يعادله في الضرر. إنه من الأعمال الإجرامية النابعة عن عدم الإيمان. كل مشورة بترك موقع العمل هي تصرف شرير أحمق. ما قاله أصدقاؤه قد أحبطه وجرح مشاعره كمؤمن يضع ثقته في الله[266].

ربما كان داود في ذلك الحين يعمل في القصر الملكي؛ لو أنه هرب لأُتهم بالتقصير في عمله والجبن؛ لكن ما شغل النبي لا إتهام الناس وإنما أعماقه الداخلية التي ترفض الشك في حماية الله له.

لسنا ننكر أن داود النبي هرب أكثر من مرة من وجه شاول مضطهده وأيضًا من وجه إبنه المتمرد أبشالوم، إذ يوجد هروب شرير وهروب مقدس:

  1. الهروب الشرير، هو ذاك الذي يقوم على الخوف الداخلي وفقدان الاتكال على الله والثقة في عنايته وحمايته. هذا ما رفضه داود النبي!
  2. الهروب المقدس، هو ذاك الذي فيه نهرب من وجه الشر، لا عن عدم ثقة وإنما لعدم تبديد الوقت في مقاومة الشر. فقد هرب ربنا يسوع المسيح إلى مصر من وجه هيرودس (مت 2: 13)، وطُلب من لوط أن يهرب إلى الجبل (تك 19: 17)، كما سألنا السيد المسيح أننا إذا ما طُردنا من مدينة نهرب إلى أخرى (مت 10: 41). الهروب من مجالات الخطية خاصة المحبوبة لدينا هي علامة حبنا لله لا عدم ثقتنا في خلاصه لنا (2 بط 2: 20)، فقد ترك يوسف ثوبه بجانب إمرأة فوطيفار وهرب (تك 39: 15)؛ وفي سفر الرؤيا هربت المرأة من وجه التنين إلى البرية (رؤ 12: 6).

v   إن كنت طاهرًا حتى الآن، فلتكن أكثر طهارة بتجنب مثل تلك المناظر. لا تبتهج بالمناقشات الباطلة، ولا تحتج بالأعذار غير النافعة، وإنما ليكن لك عذر واحد… أترك الزانية المصرية (كيوسف) كمن يهرب من بين يديها عاريًا[267].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v   لكي تهرب من سيدتك المصرية أترك الثوب الذي يخص هذا العالم[268].

القديس جيروم

v   تُشبه النفس بالعصفور [1]… يوجد عصفور صالح يقدر بالطبيعة (الروحية) أن يطير؛ ويوجد عصفور شرير لا يقدر أن يطير بسبب النجاسات الأرضية؛ هذا الأخير يُباع بفلسين (لو 21: 6)… ما أبخس ثمن الخطايا؟[269].

القديس أمبروسيوس

هكذا لسنا نهرب خوفًا أو تشككًا في إمكانية الله لخلاصنا وإنما إن هربنا إنما نهرب من الشر إلى الله. يعلمنا داود النبي أن نستمر في جهادنا ولا نأبه للمضايقات المحيطة بنا، مهما طال زمن جهادنا، ومهما ثقلت علينا الضيقات، واثقين في الله وفي وعوده.

كان داود رمزًا للسيد المسيح إبن داود، الذي أتى إليه بعض الفريسيين وإقترحوا عليه أن ينسحب لأن هيرودس كان يطلب أن يقتله، لكنه رفض، متنبئًا أمامهم أنه موشك أن يدخل في طريق الألم والصلب (لو 13: 31-32). ونحن أيضًا يلزمنا ألا نهرب إلى جبالنا (برّنا الذاتي)، بل نتكل على الرب السماوي بكونه برّنا.

يرى القديس أغسطينوس أنه يجب علينا أن نصعد إلى الجبل الواحد، ملجأنا، السيد المسيح، أي نكون فيه وننعم بالعضوية في كنيسته. بمعنى آخر، الجبل المقدس هو السيد المسيح، وأيضًا هو كنيسة المسيح. أما الهراطقة فإنهم يحاولون خداعنا بالصعود إلى الجبال، أعني قبول التعاليم الباطلة.

من خلال الكنيسة – الجبل المقدس – نرتفع إلى السماء بعينها، إلى مسيحنا السماوي وكنيسته التي هي أيقونة السماء؛ أما تعاليم الهراطقة فترفعنا إلى جبال الكبرياء.

العدو مستعد للعمل:

“لأن هوذا الخطاة قد أوتروا قِسيّهم

وهيأوا نبلاً في جباعهم،

ليرموا بالخفاء (اختفاء القمر) المستقيمة قلوبهم” [2]

يُظهر داود أن المخاطر تحوط به من كل جانب، وأنه على وشك ملاقاة حتفه. ومن المستحيل أن يختبئ أو يهرب من أعدائه الذين قد تدججوا بالسلاح، وتهيأوا لضربه بالسهام. وكما سبق فقلنا أن الكنيسة في كل العصور، أينما وُجدت، إنما تعيش كدانيال في جب الأسود، الذي كان كمن هو في السماء عينها، يتمتع بالشركة مع الملائكة التي سدت أفواه الأسود، يشاركهم التسبيح لله.

يليق بالأبرار ألا يندهشوا مهما بلغ الشر الموجّه ضدهم، فإن الأشرار هم على الدوام أردياء للغاية؛ شرهم في قلوبهم. أعمالهم الشريرة تليق بهم كأبناء ظلمة؛ وكأولاد إبليس الشرير. لكن جيل قايينه وأخيتوفله وسانبلاطه ويهوذه وديماسه وإخوته الكذبة وكلابه، وجبناؤه عديمو المبادئ وطغاته القساة القلوب[270].

ليس للعدو قوسه المشدودة فحسب بل وسهامه المهيأة على الوتر؛ هدفه هو مستقيمو القلوب ليضربهم في الظلمة، في إختفاء القمر. القمر هو رمز الكنيسة، لذلك لا يقدر العدو أن يصوّب سهام الخطية النارية والتعاليم الباطلة في نور الكنيسة بل عندما يخبو ذلك الضوء القمري وتعلوه قتامة الإثم.

v   يُفهم القمر أنه الكنيسة، لأنها لا تعطي ضوءًا من ذاتها، بل ينيرها إبن الله الوحيد، الذي يُرمز له في العديد من مواضع الكتاب المقدس بالشمس (مل 4: 2)؛ والذي يجهله بعض الهراطقة، ويعجزون عن معرفته، ومن ثم يسعون في تضليل عقول البسطاء…

القديس أغسطينوس

كان النبي “مستقيم القلب”؛ هكذا أيضًا الكنيسة التي تتقدس بالروح القدس في إستحقاقات دم المسيح الثمين؛ إنها ليست معوجِّة بل “مستقيمة”. مخلصها، شمس البر، يشرق عليها بنوره الإلهي واهبًا إياها نوره لتصير هي نفسها نور العالم. لا يقدر العالم أن يهلكها لأنه يسعى أن يصوب سهامه نحو مستقيمي القلوب في الظلام وليس في النور. ما دام السيد المسيح يشرق ببهاء لاهوته على كنيسته المتحدة به لا يقدر الهراطقة أن يحطموا إيمانها مهما صوّبوا من سهام التعاليم الخاطئة.

يرى البعض أن الكنيسة كالقمر لها جانب منير يتقبل نور السيد المسيح بالروح القدس العامل فيها، وجانب مظلم له الإيمان النظري دون الحياة المستنيرة بالروح، التقوية، هذا الجانب يتقبل بسهولة الهرطقات متجاوبًا معها.

يرى آخرون أن الكنيسة في دُجى الليل – وسط آلامها بسبب الاضطهادات المستمرة – يصوب ضدها الهراطقة سهامهم النارية لكي ما يصيبوا مستقيمي القلوب في وسط إنشغال الخدام الأمناء بما يحل بالكنيسة من أوجاع!

“لأن الذي أصلحت أنت هم هدموه.

فأما الصديق فماذا صنع؟” [3].

وجاء النص العبري ترجمته: “إذا انقلبت الأعمدة (الأساسات)، فالصديق ماذا يفعل؟”.

يطبق البعض هذه الكلمات على كهنة نوب (1 صم 22)، ويرى آخرون أن أعمدة الأساسات التي إنقلبت تشير إلى أشراف أو نبلاء، وإن كان الانطباع الأكثر شيوعًا هو أن داود يتحدث عن أسس العدل[271] التي تقوصت بواسطة شاول الملك، فهل يستطيع داود الصديق أن يصلحها؟!

يفهم القديس جيروم البناء هنا أنه الشرائع، فإن عمل العدو أن يحطمها، ليدمر التدبير الكنسي بخلق جو من البلبلة. أساسات الكنيسة هي ناموس الحب، لذلك يتركز عمل العدو في تحطيم الحب والوحدة التي لنا في المسيح.

عندما يعوزنا الحب، ماذا يستطيع الصديق أن يفعل؟ يحتاج الأمر إلى الله نفسه ليصلح الجماعة ويجددها.

v   من يدعوهم هنا أشرارًا إنما هم الشياطين غير المنظورين، الذين يُصوّبون سهامهم خِفية؛ هذه السهام بعضها زنا وأخرى طمع ومحبة قنية؛ بها يجرحون الكثيرين ما استطاعوا[272].

العلامة أوريجانوس

يرى القديس أغسطينوس أن الصديق هنا يشير إلى السيد المسيح الذي قدم كل الحب ببذله حياته من أجل العالم… ماذا يفعل بعد إذ يحطم الهراطقة أعمدة الإيمان، وقد أطال أناته عليهم لعلهم يتوبون.

يشير الحديث هنا إلى الأزمنة الأخيرة حيث تكاد تتحطم أعمدة أساسات الكنيسة بالانحراف عن الإيمان الحق وترك المحبة (مت 24: 12)، حيث تأتي أزمنة صعبة (2 تي 3: 1)، فيبدو كأنه لا مجال لعمل الصدّيق، إن أمكن حتى المختارين أن يضلوا… وفي هذا كله نردد بإيمان: “على الرب توكلت… الرب في السماء كرسيه، عيناه إلى المساكين تنظران” [1، 4].

الرب في هيكل قدسه:

“الرب في هيكل قدسه

الرب في السماء كرسيه.

عيناه إلى المساكين تنظران،

أجفانه تفحص بني البشر” [3-4].

يحاول العدو خداع البسطاء بسحبهم إلى الظلمة، بعيدًا عن ضوء القمر، لكن الإيمان يرفعهم من الأرض إلى الكنيسة السماوية الروحية، ليروا بهاء العرش الإلهي. هناك يعاينون الرأس، القدوس، مصدر برنا. يسكن الرب في هيكل قدسه، ومع هذا فعرشه في السماء؛ بمعنى أن الذين يمارسون العبادة الروحية يتمتعون بالمجد السماوي ملجأ لهم.

كلمة “هيكل” هنا كثيرًا ما ترد بمعنى “قصر” في المفرد أو “قصور” في الجمع (2 مل 20: 18؛ مز 45: 8 ؛ أم 30: 28؛ إش 13: 22). وقد أُطلق إسم “هيكل” على الخيمة قبلما يولد داود (1 صم 1: 9؛ 3: 3)، مما يغلق باب الجدل هنا (بأن الكاتب ليس بداود). وتوضح هذه العلاقة أن داود يتحدث هنا عن الله بكونه قاضيًا وملكًا، يحكم بالبر، يجلس في السماء، وليس كما كان في القديم يحل في الشكيناه (كلمة عبرية معناها السكنى) التي لتابوت العهد. الله في هيكل قدسه… هنا يشير داود إلى السماء، المقدس الحقيقي الذي كان الهيكل رمزًا لها، كما يتضح ذلك من العبارة التالية حيث ينطق بأكثر وضوح: “الرب في السماء كرسيه”[273].

يعرض لنا المرتل التضاد بين السماء والأرض؛ فقد لاحظ أن الأرض الآن تموج كلها بالفوضى، حيث لا يقدر أحد أن ينال عدالة أو مساواة؛ ولا توجد وسيلة للخلاص من الظروف العصيبة الحاضرة. إنه لا يثق في إنسان، وإنما في الله الذي يسود ملكوته الجميع، عاملاً دومًا بالبر، مرتفعًا أبدًا على قوى الحقد، لا يتخلى عن دوره كقاضٍ وحاكم للجميع (دون محاباة). لم يقل المرتل إن الله يسكن في السماء فحسب، وإنما قال يحكم من هناك (في السماء كرسيه)، كما من قصره الملوكي، حيث يوجد عرشه أو كرسيه.

إن فهمنا السماء بكونها النفس البارة، يمكننا القول بإنه بينما يحاول العدو أن يرمينا بسهامه الخاصة بالشهوات الجسدية، يعلن ربنا ملكوته السماوي في داخل نفوسنا، بكونها قصره الملوكي أو هيكل قدسه. يشتاق العدو أن يقيم منا أرضًا بينما يريد لنا ربنا أن نكون سماءه. ويشجعنا العهد الجديد أن نجد الرب لا في الهيكل فقط (مت 5: 34-35) بل وفي البَّر الموهوب كنعمة للكنيسة (مت 18: 15-19).

بمعنى آخر إن كان الأصدقاء أصحاب القلوب المرتجفة قد أشاروا على داود النبي أن يهرب إلى الجبال بكونه عصفورًا صغيرًا لا حول له ولا قوة، يعجز عن الوقوف أمام أعداء خطيرين لا يقومون بنصب فخ صغير لاصطياد عصفور، وإنما حملوا أقواسًا قد أوتروها وصارت سهامهم مستعدة لقتل المستقيمي القلوب، العصفور البسيط؛ وأن كل أساسات العدالة قد إنهارت ولم يبق أمام داود – الصديق – ما يفعله لاصلاح ما قد تهدم، فأنه يوجد الله نفسه ساكنًا في سمواته يحقق العدالة. الله القدوس يسكن في كنيسته السماوية كما في النفس التي تتقدس به، لا ليحملها إلى الجبال كعصفور، وإنما يهبها روحه القدوس لتطير كما إلى السماء عينها… من أجل هذا يردد المرتل قائلاً: “على الرب توكلت”.

يطلب منا الأصدقاء أن نهرب إلى جبال الحكمة البشرية والاتكال على الأذرع الإنسانية والإمكانيات العالمية، أما الله الساكن في السموات فيهبنا روحه لنرتفع به إلى كرسيه، ونجد لنا موضعًا في أحضان أبيه!

البر ونفوسنا: 

يجيب المرتل أصدقاءه ذوي القلوب المرتجفة: “على الرب توكلت”. هذه الثقة يليق أن تُستعلن خلال الحياة البارة، أعني خلال تمتعنا ببر المسيح. فهو وحده القدوس، الساكن في هيكل قدسه، أي في قلوبنا التي يجب أن تتقدس بروحه القدوس، عندئذ ينظر إلينا بكوننا مساكينه، ويصير ملجأ لنا: “عيناه إلى المساكين تنظران، أجفانه تفحص بني البشر”.

الله قائم في سمواته بكونها هيكل قدسه، نحن لا نراه بعيوننا الجسدية أما هو فيرانا. نحن قد ننشغل عنه وسط إرتباكات هذه الحياة الزائلة أما هو فمشغول بكل واحد منا، ينظر إلينا ويفحص حياتنا بأجفانه، خلال عذوبة مواعيده.

يسكن الله السماء وعيناه تنظران مساكينه، لأنهم أولاده، لهم موضع في قلبه. هم يعيشون على الأرض حيث ينتشر حولهم الأشرار الذين يضغطون عليهم ويمارسون ضدهم أشد أساليب الظلم، لكنه ما من مكان لا يطاوله عدل الله وعنايته بشعبه. إنه يسمح حقًا بتجربة أولاده في كل مكان وزمان، لكن سرعان ما تحتضنهم نعمته ورحمته أينما وحيثما وجدوا.

عينا الرب اللتان تتطلعان إلينا هما رحمته ونعمته؛ أو حبه ورعايته؛ وربما تشيران إلى الكتاب المقدس بعهديه خلالهما يعلن الله عهده الأبدي وسكناه وسط شعبه ووعوده الإلهية وشركة أمجاده السماوية. خلال كلمته نراه يتطلع إلينا بنظرات الحب الحانية والأبوة العملية ليرفعنا إلى سمواته، نعيش معه في هيكل قدسه أبديًا أو يعيش داخلنا كهيكله المقدس (1 كو 3: 17)، نصير “أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه” (أف 5: 30).

بينما البار تحوطه وترعاه عينا الرب، إذا بالشرير تبغضه حتى نفسه: “والذي يحب الظلم فلنفسه أبغض” [6]. يفقد الظالم شركته مع الله القدوس، الحب ذاته؛ فيضيق قلبه جدًا حتى لا يطيق نفسه، ويضطرب ضميره، كما أقلق الضمير هيرودس بعد قتله القديس يوحنا المعمدان.

v   أتوسل إليكم ألا نبغض نفوسنا ولا نحب الظلم؛ فإنه بالتأكيد نفع الظلم في هذا العالم الحاضر قليل أو معدوم، أما في العالم الآتي فيجلب دمارًا أعظم[274].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   ليس عجبًا أن تصير عدوًا لنفسك، لأن “محب الظلم تبغضه نفسه”. فإن كنت تبغض نفسك بمحبة الظلم، فهل تعجب أنك تكره كلمة الله التي تريد خير نفسك؟

v   حقًا إذا أحببت نفسك بطريقة شريرة تهلكها، لكن إن ابغضتها بالحق فأنت تحفظها. إذن هناك حب شرير للنفس وبغضه صالحة لها.

v   إن كان بحب الظلم ليس فقط أنت لا تحب نفسك بل تبغضها، فكيف تقدر أن تحب الله أو تحب قريبك[275]؟!

الأب قيصريوس آرل

نصيب الأشرار:

“يمطر على الخطاة فخاخًا؛

نارًا وكبريتًا وريحًا عاصفًا.

هذا هو حظ كأسهم” [7].

الأشرار ليس فقط تبغضهم أنفسهم بل والله ذاته، الذي يكره الخطية جدًا، يتركهم ينالون ثمار شرهم طالما يرفضون التوبة.

ينصب الأشرار فخاخهم خِفيةً وفي خداع لاصطياد المساكين، أبناء الله، ظانين أنه لن يلحقهم شر ما (مز 10: 6)، لكنهم لا يسقطون فقط في مصائدهم (مز 10: 2)، وإنما يمطر الله عليهم فخاخًا علانية كما من سحابة ظاهرة، ينصب لهم شراكًا لا يستطيعون أن يفلتوا منها، في طول أناته ينتظرهم مقدمًا لهم العديد من فرص التوبة، فإذا بهم يتوهمون أنهم فوق عدل الله وأحكامه، فيصيرون كجيادٍ جامعة إنفلت زمامها وإنطلقت من معاقلها إلى فضاء فسيح. لكن في إنتظارهم كمّ هائل من الفخاخ التي يمطرها الله عليهم من السماء قبلما يمطر عليهم نارًا وكبريتًا. وكأن الله يشل حركتهم أولاً بالقاء الشباك من السماء ليقبض عليهم في فخاخه، وحينما تنغلق أمامهم كل المنافذ وتوصد كل أبواب الهرب، تأتي اللحظة الرهيبة المخوفة، لحظة إستعلان غضب الله بالنار والكبريت المنهمر عليهم مطرًا من السماء، كما حدث في سدوم وعمورة، اللتين هلكتا وفنيت من الأرض ذكراهما!

v   لأنه كما يقول المرتل: نار وكبريت ورياح مسمومة هي نصيب كأسهم؛ ولماذا هكذا؟ لأنهم – كما قلت – رفضوا النعمة التي بالإيمان، لذا كان إثم خطيتهم لا يُمحى، وناسبهم أن يحملوا عقاب محبة الخطية الذي يستحقونه[276].

القديس كيرلس الاسكندري

v   إن كنا نفهم بالسحب الأنبياء عمومًا، سواء الصالحين منهم أم الأشرار الذين دعوا أنبياء كذبة. فقد سخر الرب الإله الأنبياء الكذبة لكي يمطر بهم فخاخًا على الخطاة (مت 24: 24). لأنه ما من أحد سوى الخاطي هو الذي يسقط في اتباعهم بإعداده للهلاك الأخير إن اختار الإصرار على الخطية، وإما أن ينصرف عن الكبرياء ويرجع في وقت ما يطلب الله بأكثر إخلاصًا.

أما إن كانت السحب يُقصد بها الأنبياء الأبرار وحدهم، فبهؤلاء أيضًا يمطر الله فخاخًا على الأشرار، لكن بهم يروي الصالحين إلى حياة مثمرة. إذ يقول الرسول: “لهؤلاء رائحة موت لموت، ولأولئك رائحة حياة لحياة” (2 كو 15: 11).

ليس فقط الأنبياء بل وكل الذين يُرْون النفوس بكلمة الله يمكن دعوتهم “سحبًا”… وأيضًا من سحب الكتاب المقدس، ووفقًا لاستحقاق كل إنسان، تسقط أمطار فخاخ نار وكبريت ورياح مسمومة على الخاطي، وأمطارًا مثمرة على البار.

“نارًا وكبريتًا وريحًا عاصفة؛ هذا هو حظ كأسهم”. هذه عقوبة ونهاية الذين يجدفون على اسم الله، تحرقهم نيران شهواتهم، وسموم أعمالهم الشريرة وتطردهم من شركة الطوباويين، وتدخل بهم إلى المعاناة من أشد العقوبات التي لا يُنطق بها…

إنني أظن أن الكأس قد وردت هنا لهذا السبب: ألا نظن بأن أمرًا ما حتى في عقوبات الأشرار يتم بدون إعتدال أو قياس… “لأن الرب بار وللبر أحب” [7]

“نظر وجهه العدل” [7]، كأنه يقول: يُرى العدل في وجهه، أي في التعرف عليه؛ لأن وجه الله هو المسكين الذي به يصير الله معروفًا للذين هم مستحقين ذلك. أو على الأقل يقصد بالقول “نظر وجهه العدل” أنه لا يسمح لنفسه أن يعرفه الأشرار بل الأبرار؛ وهذا عدل!

القديس أغسطينوس

إذ يلتصق أولاد الله بأبيهم البار وحده والعادل، يتمتعون بروحه الناري يلهب أعماقهم بالحب، أما الأشرار فيشربون كأسهم نارًا قاتلة تفقدهم الحياة والسلام!

ربما عنى المرتل بحظ كأسهم هنا بما ورد في سفر العدد حيث يشرب المُتهم كأسًا من سائل مقدس، فإن كان مجرمًا يهلك ويموت (عد 5: 23-28).

الختام:

كما بدأ المزمور هكذا ينتهي بكلمة “الرب” الذي سمته أنه “بار”، يجيب على كل مخاوف المؤمن المُضطهد.

 

 


 

علمني أن أهرب إليك

v   إن كنت قد صرت كعصفور وحيد يحوط به أعداء أقوياء وأشرار، فأنت يا رب هو ملجأ لي… إليك أطير، وفي حضنك ألتجئ!

v   لست أُريد أن أهرب إلى جبال الحكمة البشرية ولا السلطان الزمني ولا الإمكانيات العالمية وإنما إليك أيها الجبل القدوس. هب لي روحك كجناحي حمامة فأطير إليك وأسكن في أحضان أبيك! 

v   هب لي روحك القدوس فأحب برك… بل أحب نفسي وأحب أخوتي كنفسي!

v   انزع عني حب الظلم حتى لا أبغض أعماقي!

v   لتمطر عليّ روحك القدوس الناري يطهر أعماقي، أما النار والكبريت والريح العاصف فلا تكون حظ كأسي.

<<

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى