تفسير المزمور ٢٩ للقمص تادرس يعقوب

المزمور التاسع والعشرون

عاصفة رعدية

أو صوت الرب

يسيطر على هذا المزمور الشعور بسيادة الرب وسلطانه؛ فيُفتتح بمشهد سماوي، حيث تقدم الكائنات العلوية المجد منسجمًا مع صوت الرعد العنيف الصادر عن الكائنات الطبيعية.

المناسبة:

جاء في الترجمة السبعينية أن هذا المزمور يُنشد بمناسبة عيد المظال القدسي؛ ذلك العيد الذي كانوا يبتهجون فيه بنهاية الحصاد (خاصة العنب والزيتون)، كما يُصلى به لكي يرسل الرب مطرًا ليكسر أثر فصل الجفاف (زك 14: 16-18). ويربط التلمود[559] مزمور 29 بعيد الخمسين أو عيد الأسابيع.

يرى البعض أن داود النبي قد وضع هذا المزمور بعد انتهائه من تحضير الخيمة وخروجه منها[560]. ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن ما جاء في عنوان المزمور: “في طريق المظلة” إنما يشير رمزيًا إلى اليهود الذين كانوا يخدمون في المظلة وخلال الظل – ظل الناموس والنبوات – حتى خرجوا منها، فيدخل الأمم إلى الإيمان عوضًا عنهم[561]. ويرى ثيؤدورس أن المظلة هنا هي الجسد الذي تسكنه النفس، والخروج منه إنما الرحيل من هذا العالم الزائل، وكأن المزمور يعلمنا التأهب للسفر والرحيل إلى الوطن السماوي[562]. ويرى القديس أغسطينوس أن هذا المزمور يعبر عن تطهير الكنيسة، وحفظها في هذا العالم مقدسة حتى تخرج منه.

هكذا نرى الآباء يتطلعون إلى المزمور بكونه مزمور عمل الله المجيد الذي يَهُبُّ بروحه القدوس كعاصفة رعدية، تزلزل أعماق النفس وتُعدّها للخروج من هذا العالم بحياة مقدسة تمجد الله… إنه مزمور مجد الله العامل في شعبه ليدخل بهم إلى الشركة أمجاده.

ربما كان داود النبي يرقب عاصفة مرعبة حلَّت فجأة، من جبال لبنان في الشمال إلى برية قادش جنوبًا، وما نَجم عنها من فزع وقنوط، بما أثارته من رعد وبرق خاطف باهر، وضراوة وعنف وحرائق لبعض العناصر. على أن الأمر لا يقف عند العلامات الخارجية والظواهر الطبيعية، بل تُفهم على أنها شهادة ذاتية عن الله إله تاريخ الخلاص.

يدوي المزمور 29 مع أصوات العواصف الشتوية الرهيبة، من خلال البيئة التي عاشها الشعب. إنهم يدركون أن الله كالعاصفة التي لا تحل في الطبيعة فحسب وإنما تجتاز النفس. إنه يحل في نفوسنا حتى أثناء العواصف الداخلية.

كان داود النبي إنسانًا رقيق الحس، مرهف المشاعر جدًا، يعرف كيف يعزف على أوتار قلبه أنشودة حب الله، تحت أي ظرف، وف كل مناسبة. إذا ما تطلع إلى السماء الصافية يقول: “السموات تحدث بمجد الله”، وإن شاهد عاصفة رعدية وثورة في الطبيعة يتلمس مع كل رعد أو برق صوت الرب الفعّال في حياة البشرية. إن دخل في ضيق تلامس مع الله مخلصه، وإن جاءه الفرج تمتع بعربون الفرح السماوي. إن طرده الأعداء تلمس مدينة الله ذات الأبواب المفتوحة بالحب، وإن عاد إلى شعبه أنشد بجمال بيت الرب.

صوت الرب الفعّال:

في هذا المزمور نجد “صوت الرب” يتكرر سبع مرات، أشبه بسبع موجات متعاقبة من الرعود؛ مصورًا قوة الكلمة وفاعليتها في حياة بني البشر. صوت الرب هو الكلمة المتجسد الذي نزل إلى العالم ليُقيم من تلاميذه أبناء الرعد أداة فعالة للتمتع بالحياة الإنجيلية الجديدة، حيث تتزلزل طبيعتهم القديمة وتنهار وتقوم الطبيعة الجديدة الحاملة صورة المسيح الكلمة، تنعم بالبركة والعّز والمجد.

الله في العاصفة”، لا في الطبيعة فقط وإنما في عاصفة النفس الداخلية أيضًا؛ إنه في أعماقنا يعلن عن ذاته خلال العواصف التي تجتاح طبيعتنا الداخلية. كلمة الله جاء ليدخل النفس ويثير فيها ثورة داخلية ضد الشر ليُحطم فينا الإنسان العتيق ويهبنا الإنسان الجديد.

إنها أيضًا عاصفة تجتاح الجماعة ككل، خلالها يعلن عهده مع شعبه الذي لا يقوم على وضع رقعة جديدة على ثوب عتيق، وإنما على التغيير الكامل والمتجدد، لذلك يظهر اسم الله “يهوه”، اللقب الخاص به في علاقته بشعبه 18 مرة في هذا المزمور القصير. هذا اللقب يعلن حضوره وسط شعبه، فهو حقًا يتمجد لا خلال قدرته في الطبيعة فحسب وإنما بالحري بحضوره وسط أولاده.

علاقته بالمزمور 28:

يأتي هذا المزمور في وضعه المناسب بعد مزمور 28 حيث يصرخ المرتل: إلهي لا تسكت عني، لئلا تسكت عني فأشابه الهابطين في الجب” (28: 1). يستجيب الرب لهذه الصرخة فيقدم صوته الفعّال كعاصفة تجتاح أعماقه وتغيّر طبيعته.

ويتشابه المزموران في خاتمتهما حيث يُعطي الرب شعبه قوة (عزة) ويباركهم بالسلام.

الإطار العام:

  1. دعوة إلى العبادة                   [1-2].
  2. العاصفة وصلاح الله              [3-9].
  3. سيادة الله على العالم               [10].
  4. نَعم الله على كنيسته                [11].
  5. دعوة إلى العبادة:

قدموا للرب أبناء الكباش.

 قدموا للرب مجدًا وكرامة.

 قدموا للرب مجدًا لاسمه.

 اسجدوا للرب في دار قدسه” [1-2]

فسّر داود النبي كل قصفة رعد كدعوة موجهة إليه كما إلى الآخرين أن يقدموا مجدًا وكرامة لله.

من هم أبناء الله؟

أ. يرى البعض أنه يشير إلى الطغمات السمائية المقدسة التي تُحسب كأبناء لله، وفي نفس الوقت يشير إلى العاملين في الهيكل بأورشليم بكونه ظلاً للملكوت السماوي.

ب. يرى آباء الكنيسة أن أبناء الله هم المسيحيون الذين جاؤا من كل الأمم والقبائل ليقدموا حياتهم ذبيحة حب لله، هؤلاء الذين أوصاهم الرب أن يدعو الآب أبًا لهم، قائلين: “أبانا الذي في السموات” (مت 6: 9).

يدعو المرتل أبناء الله (ايليم = القدير) أن يقدموا أبناء الكباش الصغيرة كرامة مجدًا للرب ولاسمه، هؤلاء هم المؤمنون الذين نالوا التبني للقدير بالمعمودية، وقبلوا الروح القدس، روح القوة والسلطان.

ماذا يمكن للطغمات السمائية أو للمؤمنين أن يقدموا لله إلا حياتهم علامة حب له، استجابةً لحبهِ لهم، كأبناء محبين له.

يقدم أولاد الله مجدًا وكرامة لله، ما هو هذا المجد إلا التمتع بجمال الله الفريد الذي هو قداسته، وإعلان نصرتنا على الخطية بقوة نعمته. فإن كان الله كلّي القداسة، فإننا لا نقدر أن نمجده إلا بالحياة المقدسة وشركة الطبيعة الإلهية وخبرة عمل نعمته الفائقة.

v   قدموا أنفسكم للرب، أنتم الذين ولدكم في الإنجيل الرسل قادة القطعان (1 كو 4: 15)…

اسجدوا للرب في قلوب مقدسة، محبة للكل، لأنكم أنفسكم موضع مسكنه الملوكي المقدس.

القديس أغسطينوس

v   “قدموا للرب أبناء الله، قدموا للرب تقدمة كباش”، أي (تقدمة) الرسل و(تقدمة) المؤمنين. لنقتدِ بمخلصنا الذي دُعي هو نفسه بالراعي والحمل والكبش، الذي ذُبح لأجلنا في مصر (خر 12: 6)، والذى أُمسك بقرنيه في العليقة (تك 22: 13) فدية عن اسحق. لنقل: “الرب راعيّ فلا يعوزني شيء. في مراعٍ خضر يربضني، وإلى مياه الراحة يوردني” (مز 23: 1-2)[563].

القديس جيروم

هكذا نمجد الله بأن نتقدم لله كذبائح حية، نتمثل بمخلصنا الذي في حبه وهو الراعي صار الحمل الذبيح عنا. نسلم حياتنا ذبيحة فيرعانا ويروينا ولا يعوزنا شيء‍!

اعتاد داود الملك أن يقدم نفسه لإلهه، ناسبًا قوته ونصرته وكرامته لله. اعتاد أن يحضر تاجه وقضيب ملكه وسيفه ومزماره بين يدي الله، ليستخدم كل إمكانياته ومواهبه لمجد الله وتسبيحه.

ماذا يعني بقوله: “قدموا للرب أبناء الكباش”؟

هذه العبارة أيضًا لا يمكن تفسيرها حرفيًا إنما تحمل نبوة عن الإيمان المسيحي، فإننا إذ وُلدنا من آباء كانوا يعبدون الأصنام، أصنام الكباش والحيوانات الأخرى، صرنا بالإيمان – نحن أبناء الكباش – أبناء لله، إذ تركنا عبادة الكباش وآمنا بالله الحقيقي الحيّ. نحن أبناء الأمم صرنا أبناء لله، كقول المرتل: “عوض آبائك صار بنوك” (مز 45: 16).

يرى البعض أن “أبناء الكباش (الذكور)” لا يمكن تفسيرها حرفيًا، فإنه يمكن لكبش ذكر واحد أن يسبب إنجابًا لنعاج كثيرة، فلا يمكن للكبش الصغير المولود أن يُنسب إلى كبش معين، وإنما يمكن نسبته للنعجة التي وُلد منها، لأن القطيع كله غالبًا ما يكون به كبشين أو ثلاثة فقط، بين نعاج كثيرة… ويختلط الكل معًا دون تمييز بين نعاج أو أخرى تحمل من كبش معين.

يرى القديس باسيليوس[564] أن الكبش هو الذي يتقدم القطيع ويرشده للمراعي والمياه والحظائر، فهؤلاء يرمزون إلى الرؤساء، المتقدمين على رعية السيد المسيح، لأنه بتعاليمهم يرشدون الخراف الناطقة إلى المراعى والمساقي الروحية؛ وأنهم مستعدون لنطاح الأعداء بقرني العهدين القديم والجديد، ليجتذبوهم بكلمة الله إلى الحياة الصالحة التقوية. بهذا يصيّرونهم أبناء لهم، يقربونهم لله، ليقولوا: “ها نحن والأولاد الذين أعطانيهم الله”.

في النسخة السبعينية تتكرر كلمة “قدموا” أربع مرات، ليكمل المرتل: “اسجدوا للرب في دار قدسه” [2]. وكأن المرتل يدعو المؤمنين أينما وُجدوا في أربعة أركان العالم: “الشمال والجنوب والشرق والغرب” أن يقدموا حياتهم تقدمة حب لله، دون تجاهلهم لقدسية اجتماعهم معًا في حضرة الرب في دار قدسه أو في بيته المقدس. أينما وُجدنا، وتحت كل الظروف، نرتبط بصليب ربنا يسوع، لنقدم حياتنا مبذولة لأجل الله والناس.

لنسجد له في دار قدسه… يرى القديس باسيليوس الكبير أن دار قدسه هي الكنيسة الواحدة المقدسة وليست مجمع اليهود الذين بسبب خطيتهم صارت دارهم خرابًا، واحتلت الكنيسة مركزها، حيث فيها نلتقي بالله لنسجد له بالروح والحق، وخارجها لا يليق بنا أن نسجد. هذا ويرى القديس باسيليليوس أيضًا أن كثيرين يُصلّون في الكنيسة وعقولهم مشغولة بالأباطيل، فلا يكونوا في دار قدسه. كما يقول: [المتقدم في الإلهيات يقدم مجدًا وكرامة الله].

يرى القديس أغسطينوس أن دار قدسه هي السماء، ندخلها لنسجد لله حين يرتفع قلبنا إلى السماء ونحن بعد على الأرض. هذا لن يتحقق إلا بعمل الروح القدس فينا، القادر وحده أن يحمل إنساننا الداخلي إلى السماء، فيقول: “أجلسنا معه (مع المسيح) في السماويات”؛ لهذا نُصلي في الساعة الثالثة، حيث نذكر حلول الروح القدس على الكنيسة، قائلين: “إذا ما وقفنا في هيكلك نحسب كالقيام في السماء”.

  1. العاصفة وصلاح الله:

إن كانت العاصفة تشير إلى نبوات العهد القديم، فإن صوت الرب يُسمع خلال نبواتهم. وقد تكررت عبارة “صوت الرب” هنا سبع مرات.

أ. “صوت الرب على المياه.

إله المجد أرعد

الرب على المياه الكثيرة” [3].

يعلق القديس هيبولتيس الروماني على هذه الكلمات بقوله: [أي صوت هذا؟ إنه: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت[565]]. فعلى مياه المعمودية نسمع صوت الله القدير الذي يعلن بنوّتنا له. لهذا يُستخدم هذا المزمور في طقس قداس المعمودية عندما يحرك الكاهن الماء بالصليب بعد سكب الميرون في جرن المعمودية.

ويرى القديس أغسطينوس أن هذه المياه هي الأمم التي قبلت “صوت الرب”، إذ يقول: [حينما جعل ربنا يسوع المسيح صوته مسموعًا خلال الأمم المملوءة رهبة، حولهم إلى شريعته وجعل مسكنه فيهم].

يتحدث إشعياء النبي عن هذه المياه الكثيرة، قائلاً: “آه ضجيج شعوب كثيرة تضج كضجيج البحر وهدير قبائل تهدر كهدير مياه كثيرة، ولكنه ينتهرها فتهرب بعيدًا، وتُطرد كعاصفة الجبال أمام الريح وكالجل أمام الزوبعة. في وقت المساء إذا رُعب، قبل الصبح ليسوا هم. هذا نصيب ناهبينا وحظ سالبينا” (إش 17: 12-14).

انتهر الرب هذه المياه الكثيرة بأن أرعد بصوته على الأمم فهربت بعيدًا كشعوب وثنية وصارت كلا شيء، لكنها عادت كنيسة قوية مجيدة، لا تحمل دوامات البحار ولا تياراته الجارفة ولا ملوحته، بل جاءت كنيسة تحمل طاعة المسيح ووداعته ولطفه.

المياه الكثيرة تشير أيضًا إلى الآلام والضيقات التي تحل بالمؤمن حتى تكاد أن تبتلعه، إذ يقول المرتل: “انقذني ونجني من المياه الكثيرة ومن أيدي بني الغرباء” (مز 144: 7). يرعد صوت الرب  عليها فيحول آلامنا إلى أمجاد… تصير آلامنا شركة معه في آلامه وصلبه وطريقًا للتمتع بقوة قيامته ومجده (رو 8: 17).

المياه الكثيرة أيضًا تشير إلى طاقاتنا وإمكانياتنا من عواطف وأحاسيس ومشاعر ودوافع وقدرات ومواهب… هذه التي أفسدناها فصارت كمياه بحار مالحة تكتنف نفوسنا وتغرقها، وإن تقدمت بكلمة الله تصير ماء نهر عذب يُفِّرح مدينة الله التي هي قلوبنا. يقول يونان النبي: “لأنك طرحتني في قلب البحار، فأحاط بي نهر” (يونان 2: 3). حين تُرك يونان لإمكانياته البشرية التي هي عطية إلهية أفسدها الإنسان –  صار مطروحًا في قلب البحار، كاد أن يهلك غرقًا في أعماق المياه المالحة… لكن كلمة الرب حوّلت هذه الطاقات لبنيانه فصارت البحار نهرًا عذبًا لا يكتنفه بل يحوط به ليسقي أرضه بعذوبة سماوية، تحول جفاف نفسه إلى جنه مثمرة. عوض أن يئن من المياه، قائلاً: “خلصني يا الله فإن المياه قد دخلت حتى إلى نفسي؛ تورطت في حمأة الموت ولم يعد لي استطاعة بعد. ذهبت إلى أعماق البحر وغرقني العاصف” (مز 69: 1)، يسبح الله متهللاً من أجل الأنهار التي تجري من بطنه كقول السيد المسيح: “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو 7: 28). يقول المرتل: “مجاري الأنهار تفرح مدينة الله” (مز 46: 4) .

يرى كثير من الآباء أن صوت الرب الذي أرعده على المياه الكثيرة إنما يُشير إلى حدث عماد السيد المسيح، الذي فيه شهد الآب عن الابن المتجسد أنه محبوبٌ لديه، موضع سروره، لكي نسمع جميعًا باتحادنا فيه صوت الآب الذي يفتح أحضانه ليستقبلنا كأبناء له.

حينما يسكب الكاهن الميرون على مياه المعمودية يحرك بالصليب المياه وينطق بهذه الكلمات كما سبق فأشرنا، ليعلن أن صوت الآب قائم على الدوام يسـتقبل المعمدين

الذين صاروا أعضاء جسد المحبوب، يتمتعون بشركة أمجاده.

v   أرعد إله المجد حينما شهد الآب للابن، قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت” (مت 3: 17)[566].

القديس جيروم

ب. “صوت الرب بقوة،

صوت الرب بجلال عظيم” [4].

إذ جاء الكلمة الإلهي أعلن بالضعف ما هو أعظم من القوة، فقد ارتفع بالجسد على الصليب، حاملاً عارنا، لنحمل نحن قوته وجلاله عاملين في حياتنا.

أعلن أيضًا كلمة الله أو صوت الرب سكناه في كنيسته، فكان يُجرى على أيدي الرسل عجائب كثيرة؛ وبقوة تكلم بهم ليجتذب الأمم من الفساد إلى الحياة الجديدة المجيدة، الحياة الإنجيلية المفرحة، حياة مقدسة في الرب.

يتهلل المرتل بعمل صوت الرب القوي والمجيد بعدما تحدث عن عمله في المياه الكثيرة. وكأن المؤمن يختبر صوت الرب بقوة وجلال عظيم في حياته اليومية بعدما يدخل إلى مياه المعمودية ليتقبل البنوة لله وعطية روحه القدوس الذي يجدد حياتنا ليجعلنا على صورة الله.

v   هذا تجديدنا، يجعلنا على صورة الله من جديد، وذلك بغسل التجديد والروح القدس الذي يُجددنا فنصير أبناء الله، نصير خليقة جديدة مرة أخرى بشركة الروح، ويخلصهما مما كان عتيقًا[567].

القديس باسيليوس الكبير

v   تغسلنا المعمودية من كل عيب وتجعلنا هيكل الله المقدس، وتردنا إلى شركة الطبيعة الإلهية بواسطة الروح القدس[568].

القديس أكليمندس السكندري

صوت الرب على المياه يُرهب الشياطين ويعطي قوة وسلطانًا للمؤمنين؛ يُحطم طاقات الظلمة ويهبنا الاستنارة فنعيش بروح القوة والمجد الداخلي لا روح الفشل واليأس.

ج “صوت الرب يُحطم الأرز

الرب يكسر أرز لبنان

ويسحقهم مثل عجِل لبنان

والحبيب مثل ابن ذوي القرن الواحد” [5-6].

صوت الرب في الرعد، غالبًا ما يكسر شجر الأرز، حتى أرز لبنان أقوى أنواعه وأكثره صلابة. رياح العاصفة تقتلعه أحيانًا بجذوره وتحطم قممه العالية المتشامخة، فتنبطح أرضًا.

تمثل هذه الأشجار النفوس المتشامخة المعتدة بذاتها، فقد جاء صوت الرب أو كلمة الله المتجسد ليدخل بهذه النفوس إلى حياة الاتضاع خلال حزن التوبة.

وقد أختار الله ضعفاء العالم ليخزى بهم الأقوياء (1 كو 1: 27)… لكي يتمتعوا هم أيضًا بذاك القدير الذي صار لأجلهم في صورة ضعف.

v   “صوت الرب يحطم الأرز”. بالتوبة يكسر الرب أولئك الذين يمجدون ذواتهم بشرف أصلهم الزمني، والذين يقفون في خجل حينما يختار أدنياء هذا العالم ليُطهر فيهم قوته الإلهية.

القديس أغسطينوس

يرى البعض أن الأرز هنا يشير إلى عبادة الأوثان حيث معابدها الشاهقة وتماثيلها الضخمة لكن بلا ثمر روحي ولا نفع كالأرز المتشامخ بلا ثمر. جاء كلمة الله المتجسد ليقتلع العبادة الوثنية ويحول الأمم إلى ملكوته، ملكوت الوداعة المفرح والمثمر.

ليس ما يُحطم كبرياء قلبي ولا ينتزع محبة العالم (الوثنية) وكل خطية إلا صوت الرب، أي التمتع بالسيد المسيح، الكلمة الإلهي المُختفي وراء كلمات الكتاب المقدس. لأطلبه في إنجيله وأنعم به، فيُقيم مملكته فيّ، ولا يقترب إليها عدو، ولا تشترك معها خطية ما.

صوت الرب يسحق أشجار لبنان “مثل عجل لبنان”؛ أي كما سحق موسى النبي العجل الذهبي الذي صنعه بنو إسرائيل وتعبدوا له (خر 32: 20). عوض هذا الإله الوثني (العجل الذهبي) ينعم المؤمن بـ “الحبيب مثل ابن ذوي القرن الواحد” [6]. أي بالسيد المسيح الابن الحبيب الوحيد الجنس، القوى والقدير. (القرن يشير إلى القدرة على الخلاص).

إذ ندخل مياه المعمودية نلتقي مع صوت الرب الذي يُحطم فينا تشاخ إنساننا العتيق، أو يحطم عمل إبليس المتعجرف، أرز لبنان المزروع داخلنا، ويهلك العجل الذهبي، أي كل تعلق زمني وعبادة للزمنيات، ويقوم كلمة الله الوحيد الجنس فينا، في إنساننا الداخلي الجديد.

v   “صوت الرب يكسر الأرز”، لأن المسيح اعتمد، أما الشياطين الذين كانوا قبلاً متغطرسين ومتكبرين فقد تحطموا وانكسروا في هاوية الهلاك. يكسرهم الرب مثل أرز لبنان، ويُحطمهم مثل عجل! قاذفًا في الهواء بأشلاء الأشجار، ومبعثرًا بالقِطع (التي للعجل) بعيدًا.

v   ماذا يقول المزمور عن المخلص؟ “الحبيب مثل ابن ذوي القرن الواحد”. إن ربنا حبيبنا ومخلصنا هو ابن وحيد القرن، ابن الصليب الذي يرنم له حبقوق، قائلاً: “الاشعة تشرق إيمانًا من جواره، وهناك استنار قدرته” (راجع حب 3: 4). فبعدما صُلب ذاك الحبيب تحققت النبوة الواردة في المزمور: “صوت الرب يقدح لهيب النار” [7]. لأنه عندما طهّرنا المسيح انطفأت نار الجحيم[569].

القديس جيروم

v   بالمعمودية المقدسة ينعتق الإنسان من سلطان إبليس ويصير مولودًا من غير نطفة مثل ناسوت المسيح، لأن الروح القدس يقدسه من ميلاد النطفة، فلا يبقى للشيطان سلطان عليه مادام روح المسيح فيه[570].

الأنبا ساويرس أسقف الاشمونين

v   الذي يعتمد للمسيح لا يولد من الله فقط بل يلبس المسيح أيضًا (غلا 3: 27). لا نأخذ هذا بالمعنى الأدبي، كأنه عمل من أعمال المحبة، بل هو حقيقة. فالتجسد جعل اتحادنا بالمسيح وشركتنا في الألوهة أمرًا واقعًا[571].

القديس يوحنا ذهبي الفم

يربط القديس أمبرسيوس بين السيد المسيح الابن الحبيب، وحيد القرن وبين القديسين كوحيدي القرن، قائلاً:

[يُدعى القديسون وحيدي القرن… فإن هذا النوع من الحيوانات يحسبون قد بلغوا حالة أعظم من النضوج بظهور القرن فيهم. وهكذا أيضًا عندما يبدأ القرن أن يظهر في رأس النفس يبدو كأنها تبلغ إلى حالة أعظم من النضوج في الفضائل، وهكذا ينمون حتى يبلغوا إلى الملء.

بهذا القرن سحق الرب يسوع الأمم، لكي تدوس على الخرافات وتنال الخلاص، كقوله: “أضرب وأشفي”… ولهذا كانت الحيوانات الطاهرة حسب الشريعة هي ذات قرون، لأن الناموس روحي؛ فمن يطرد إغراءات هذا العالم بكلمة الله وحفظ الفضيلة يكون كمن هو مُصان بقرون على رؤوسهم، كما بأسلحة[572]].

مسيحنا وحيد القرن، حطم بالصليب شر الأمم ليقتنيهم أعضاء جسده، ونحن وحيدوا القرن، نحطم الشر بالروح القدس بقوة صليب ربنا يسوع المسيح لنحيا كاملين فيه.

د. “صوت الرب يقطع لهيب النار” [7].

العواصف الشديدة أحيانًا تشعل نيرانًا خاصة في الغابات وأحيانًا تطفىء بمياهها النيران. صوت الرب يشعل بروحة القدوس نار الحب الإلهي، إذ يقول: “جئت لألقي نارًا على الأرض؛ فماذا أريد لو اضطرمت؟” (لو 12: 49)، هذه النيران تبتلع نيران الشهوة التي فينا وتقطعها. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [بالنار تنطفئ النار؛ بنار الروح تنطفئ نار الشهوات!].

يرى القديس باسيليوس الكبير أن صوت الرب في يوم الدينونة يقطع لهيب النار بالنسبة للأبرار فيبقى ضوؤها، أما بالنسبة للأشرار فيبقى حريقها بلا ضوء. أما كلمة “يقطع” فتعني هنا يفصل أو يميز أو يفرز، لأن صوت الرب يفصل الأبرار عن الأشرار في يوم الدينوية، فيتمتع الأبرار مباركوا الآب بالميراث المجيد ويُلقى الأشرار في النار المعدة لإبليس وملائكته.

v   أعتقد أن النار المعدة لعقاب الشيطان وملائكته تنقسم بواسطة صوت الرب. وهكذا توجد قدرتان في النار، قدرة للإحتراق وأخـرى للإنارة. قوة عقاب النار الصارمة تنتظر مـن

يستحقون الحرق، أما إشعاعاتها واهبة الاستنارة فتُحفظ ليتمتع بها الفرحون[573].

القديس باسيليوس الكبير

هـ. “صوت الرب يُزلزل القفر،

صوت الرب يُزلزل برية قادش” [8].

قبلاً [5-7] كان المرتل يتحدث عن العاصفة التي تصطدم بجبال لبنان الممتدة مئات الأميال شمالاً وجنوبًا في منطقتين منفصلتين، حيث كانت أشجار الأرز الثمينة التي استخدمها آنذاك سليمان في مشاريعه للبناء (1 مل 5: 6-10؛ 6: 15؛ 7: 1-3، 11-12)، وكانت ترمز للتشامخ (إش 10: 33-34، زك 11: 2). الآن [8-9] تزحف العاصفة في طريقها إلى القفر، برية الصحراء العربية شرق الجبل المواجه للبنان حيث تتزلزل البرية كلها. وقد جاءت كلمة “يُزلزل” في العبرية بتصوير المرأة وهي في حالة مخاض الولادة.

جاء الكلمة الإلهي – صوت الرب – إلى العالم الذي كان كالبرية القفر التي بلا ثمر ليزلزله، فيهتز من أعماقه ويكون كالمرأة التي تئن وتتمخض لكنها تعود فتفرح بإنجابها طفلاً حيًا يُبهج حياتها. رأى إشعياء النبي العالم برية تمتعت بالعصر المسيَّاني كعصر مياه حية فصارت جنة مثمرة، إذ يقول: “فتصير البرية بستانًا… فيسكن في البرية الحق والعدل في البستان يقيم… ويسكن شعبي في مسكن السلام وفي مساكن مطمئنة وفي محلات أمينة” (إش 32: 15– 17).

صوت الرب يُزلزل برية قادش” [8]. برية قادش تلك التي عبرها الشعب قبل دخولهم أرض الموعد، وهي تشير إلى الإنسان قبل تمتعه بالوعد الإلهي، ودخوله إلى كنيسة العهد الجديد، أرض الراحة. مثل هذا الإنسان يحتاج إلى أن يحل فيه كلمة الله بالإيمان ليحوّله من برية قادش إلى كنعان الجديدة.

v   صوت الرب يزلزل إيمان الأمم الذين كانوا قبلاً بلا رجاء، بلا إله في العالم (أف 2: 12)، حيث لم يكن لهم نبي ولا كارز بكلمة الله، وكأنهم كانوا موضعًا لا يسكنه أحد (قفر). ويزلزل الرب برية قادش، عندئذ يجعل الله كلمة كتابه المقدس معروفة تمامًا، هذه التي تركها اليهود الذين لم يفهموها.

القديس أغسطينوس

v   “صوت الرب يُزلزل البرية”. البرية هي الكنيسة التي كانت قبلاً بلا أولاد، وبالكرازة بالمسيح تزلزلت هذه البرية واهتزت، وحان وقت طِلْقِها، فولدت، وفي يوم واحد أنجبت أمة بأكملها (إش 66: 7)! تلك التي كانت تُدعى قبلاً: “برية قادش” أي برية القداسة، وذلك بقدر ما كانت حُبلى بالفضائل، فصارت تلد الأيائل، وترسل قديسيها في أفواج وحشود ليقتلوا الحية على الأرض، مستخفين بسُمّها. إثناء ركوضهم في العالم، كارزين بإنجيل المسيح في هيكله يقول جميعهم: “المجد لله!”[574].

القديس جيروم

و. “صوت الرب يرتب الأيائل ويكشف الغياض” [9].

جاء في النص العبري: “يُولّد الأيائل”، وكأن العاصفة في عنفها ترعب الأيائل، فترقد وتضع صغارها قبل موعد الولادة. أما في النسخة السبعينية، فجاءت “يرتب الأيائل”، فقد جاء كلمة الله لكي يُرتب نفسياتنا المضطربة ويرد لنا سلامنا الداخلي. الأيائل بطبعها قطيع مشتت لا يستقر على حال، معروف برعونته وعدم رويته…

صوت الرب يكشف الغياض[9]، إذ بمجيء المتجسد انكشفت لنا أسرار الكتب الإلهية وخفاياها، هذه التي كانت مخبأة في الظلال.

عند حلول العاصفة تختفي ظلال الغابات الكثيفة أمام وميض البرق وتنكشف الكهوف والمغائر المظلمة، فلا يقدر إنسان أن يختفي. هكذا إذ جاء صوت الرب إلى الجنة لم يكن ممكنا لآدم وحواء أن يختفيا بين الأشجار ولا لأوراق شجرة التين أن تسترهما؛ بل انفضحا وتعريا حتى أمام نفسيهما. كلمة الله؛ السيد المسيح، يشرق علينا بروحة القدوس فيفضح حياتنا أمام أنفسنا، ويبكتنا على خطايانا، لنتقدم إليه كمرضى يطلبون شفاء النفس والجسد.

v   تحتاج النفس إلى السراج الإلهي، وهو الروح القدس، الذي يُنير البيت المظلم، وإلى شمس البرّ الساطعة التي تُضيء وتشرق في القلب، وتحتاج إلى الأسلحة التي تغلب بها في المعركة.

القديس مقاريوس الكبير

يُقال أيضًا إن الرعد يكشف عن حيوانات الغابة التي تصير في هرع فتهجر عرينها ومخابئها ومن ثم يُمكن اكتشافها وصيدها… وكأن صوت الرب الذي يكشف لنا أسرار الكتاب المقدس، والذي يعلن لنا عن أعماقنا الخفية، يظهر لنا العدو الشرير “الحيوانات المفترسة” ويعطينا قوة لمقاتلته.

  1. الرب الملك الأبدي:

“وفي هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد

الرب يسكن في الطوفان

الرب يجلس ملكًا إلى الأبد” [10].

الآن قد حلَّ كلمة الله المتجسد في برية هذا العالم ليقيم من أبناء الكباش أبناء لله [1]، محوّلاً المياه الصالحة الكثيرة إلى نهر عذب، أي جماعة الأمم الوثنية إلى كنيسة الله المقدسة [3]، محطمًا تشامخ الإنسان (أرز لبنان)، قاطعًا لهيب نار الشهوات الزمنية، مزلزلاً البرية القاحلة ليُعطينا روح الاتضاع بنار روحه القدوس فنتحول من قفر البرية إلى فردوس مثمر [8]؛ يرتب أيائلنا الهائجة وكاشفًا أعماقنا المضطربة ليهبنا سلامه ويعطينا فهم أسراره الإلهية [9]… يحوّل حياتنا إلى هيكله المقدس الذي ينطق بأمجاده الفائقة: “وفي هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد”. ما هو هذا الهيكل إلا كنيسة المسيح المقدسة التي تجمعت من كل الأمم المملؤة عارًا لتصير في المجد؟! هناك يملك الرب على نفوس مؤمنيه، “يسكن في الطوفان”، أي يسكن في مياه المعمودية، ليحل في قلوب من ينالوا العماد بكونهم هيكل الله المقدس.

v   “في هيكله المقدس كل واحد ينطق بالمجد” [10]. في كنيسته، كل الذين نالوا التجديد على رجاء الحياة الأبدية، يُباركون الله، كل حسب عطيته وموهبته التي نالها من الروح القدس.

v   يسكن الرب أولاً طوفان هذا العالم بحضوره في القديسين الذين يحفظهم في الكنيسة كما في فلك (تك 7). “الرب يجلس ملكًا إلى الأبد” [10].

هناك يجلس متوجًا كملك على مختاريه إلى الأبد.

القديس أغسطينوس

  1. نِعم الله على كنيسته:

“الرب يُعطي شعبه قوة،

الرب يبارك شعبه بالسلام” [11].

إن كان صوت الرب قد جاء ليعلن فاعليته في حياة البشرية، يحوّل قفر العالم إلى فردوس كنيسته، فقد جاء لأجلنا نحن شعبه ننال قوته وبركته وسلامه!

v   “الرب يُعطي شعبه قوة”، لأنه يليق بالرب أن يمنح شعبه الشجاعة في صراعهم ضد عواصف هذه الحياة وبراكينها. إنه لم يعدهم بالهدوء في هذا العالم السفلي!

“الرب يبارك شعبه بالسلام” [11]. الرب نفسه الذي يبارك شعبه هو الذي يمنحهم السلام فيه، قائلاً: “سلامي أنا أعطيكم، سلامي أنا أترك لكم” (يو 14: 27).

القديس أغسطينوس

ختام هذا المزمور يؤكد لنا أن العاصفة لابد أن تعبر ليتمجد الله الملك الذي يؤكد حبه لكنيسته وقت الضيقة، واهبًا إياها قوة وبركة وسلامًا، إن سلّمت حياتها بين يديه واستعانت بصوت الرب ومواعيده كسند وخلاص لها.


 

ما أعجبك أيها الكلمة!

v   أيها الكلمة الإلهي…

يا من اقمتنا نحن أبناء الكباش أبناءً لله،

اقبل تمجيدًا وتسبيحنا، وحياتنا، ذبيحة شكر لله،

v   ما أعجبك أيها الكلمة الإلهي!

أنت تحول مياه خطاياي المهلكة وتيارات شهواتي إلى مياه عذبة!

ترعد على مياه المعمودية بروحك فتهبني سكناك فيّ!

تهبني قوتك وتسكب جلالك داخلي!

تُحطم تشامخي (أرز لبنان) وتهبني وداعتك!

تقطع لهيب نار خطاياي بنار روحك المحييّ!

تُزلزل قفر اعماقي لتقيم فردوسك في داخلي!

تهب سلامًا وبنيانًا لأعماقي فتترتب الأيائل (أفكار وطاقات نفسي المضطربة).

تشرق عليّ فاكتشف ضعفي واتمتع بنعمتك بتوبتي.

v   لتجلس في قلبي كملك ولتهبني قوة وبركة وسلامًا

تعال أيها الملك إليّ واحملني إليك!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى