تفسير المزمور ٣٥ للقمص تادرس يعقوب
المزمور الخامس والثلاثون
صرخة طلبـًا للعون
سواء كُتب هذا المزمور كملازم للمزمور 34 أم لا، فحسن أنه وُضع بعده مباشرة. ويكمن السبب ليس فقط في تشابه الصيغ ووجود مقابلات بينهما (خصوصًا الحديث عن ملاك الرب الذي لا يوجد في أي موضع آخر في سفر المزامير سوى هنا في المزمور 34: 7؛ والمزمور 35: 5-6)؛ وإنما يكمن السبب أيضًا في الحديث هنا عن نوع الظلمة التي تبددت في المزمور السابق.
الخلاص الذي أُحتفل به في المزمور السابق نراه الآن لا يتحقق سريعًا ولا بدون ألم؛ إنما يتعرض المؤمن لآلام قد يطول أمدها إن شاء الله ذلك؛ غير أن داود النبي لم يشك قط أن يوم النجاة آتٍ حتمًا. مع كل إستغاثة تصدر عن قلبه طلبًا للعون تتطلع أنظاره إلى لحظة النجاة الأكيدة، لذلك يختتم كل قسم من أقسام هذا المزمور الثلاثة بالرجاء؛ ويُعتبر هذا المزمور مرثاة شخصية.
يتضرع داود النبي في هذا المزمور إلى الديان العادل ضد أعدائه الذين أبغضوه وأصروا على اضطهاده؛ ويُفترض أنهم شاول ورفقاؤه (1 صم 24: 9-15)، لأن الكلمات التي يبدأ بها هذا المزمور مذكورة في ذلك الأصحاح. وجاء في النسخة السريانية أنه كُتب بمناسبة هجوم الأدوميين، وذُكر في العربية أن هذا المزمور نبّوة عن التجسد الإلهي، وتخص المتاعب التي لقيها إرميا النبي من الشعب.
المزمور كله توسل قوي إلى الله العادل كطلب تحقيق قضائه ضد أعدائه مضطهدي شعبه خائفي الرب. هذه الصرخات لا تعني أن داود النبي قد حمل كراهية شخصية ضد مقاوميه، وإنما كما سبق فقلنا إنها تمثل نبّوة عما يتم بالنسبة للمصرّين على مقاومة الله دون توبة؛ كما تمثل صرخة ضد إنسان الخطية، “ضد المسيح”، المقاوم لكنيسة الله بوحشية وعنف في أيام الضيقة العظيمة. تمثل أيضًا صرخات دماء الشهداء وصرخات الأبرار الذين رحلوا من العالم (رؤ 6: 10).
اقتبس ربنا يسوع المسيح جزءًا من الآية [19] وطبقها على نفسه (يو 15: 25)، فقد كان داود النبي في حالات كثيرة رمزًا للسيد المسيح. ويُحسب هذا المزمور طلبة الشفيع الأعظم الذي أبغضوه بلا سبب. يقول القديس أغسطينوس: [المتحدث هنا هو المسيح نفسه بلا شك، فقد تعَّرض للضيق مرة بكونه الرأس، وفي أوقات أخرى في جسده (الكنيسة)، ومع ذلك فهو يهب كل أعضائه الحياة الأبدية خلال الآلام؛ هذا الوعد جعله موضع اشتياق كل بشر].
الإطار العام:
- توسل لله البار [1-10].
- وصف الآلام [11-16].
- تدخل الله [17-28].
- توسل لله البار:
“دِنْ يارب الذين يظلمونني،
وقاتل الذين يقاتلونني.
خذ سلاحًا وترسًا،
وانهض إلى معونتي.
استل سيفك وسيَّج مقابل الذين يضطهدونني.
قل لنفسي: إني أنا هو خلاصك!” [1-3].
التعبيرات العسكرية الواردة هنا تحمل مفاهيم رمزية؛ فالحرب الروحية دائرة الآن، ونحن في حاجة شديدة إلى عون قوي من الله. وكما سعى العدو طالبًا نفس داود، هكذا يسعى عدونا وراءنا ليهلك كياننا كله، يُحطم أجسادنا ونفوسنا ويفسد أفكارنا وقلوبنا، ويشوّه طاقاتنا ومواهبنا.
يرفع المرتل دعواه أمام الله العادل كي يدافع عنه وينتقم له. فالمزمور في كليته هو توسل صادر عن قلب له دالة لدى الله وضمير خالص، متمرر بسبب ما يُعانيه من قهر واضطهاد. حقًا، يصعب على الإنسان أن يحتمل الظلم والجحود، لكن بالحياة المقدسة في المسيح يسوع والصلاة بانسحاق يقف الله بجوارنا في صفنا ويعمل لحسابنا.
عندما يسيء أحد إلى مواطن يشكو المواطن أخاه إلى حاكم البلد، كما فعل الرسول بولس حيث رفع شكواه إلى قيصر (أع 25: 11)، فإن لم ينصفه يلجأ إلى ملك الملوك ورب الأرباب، قاضي المسكونة كلها. هكذا إذ وقف شاول الملك وقضاته والقيادات ضد داود النبي، فإلى من يلجأ إلا لله، صارخًا: “دِنْ يارب الذين يظلمونني“. ونحن إذ نجد مقاومة وضيق ندرك أنها ليست صادرة عن اخوتنا إنما عن عدو الخير إبليس الذي يجد بهجته في الخصومات والإنشقاقات وبث روح الظلم، لذا نرفع قلوبنا إلى الله الذي وحده يقدر أن ينصفنا من العدو الشرير. شكوانا ليست ضد بشر، لأن محاربتنا ليست مع لحم ودم بل مع أرواح الشر في السمويات، مع قوات روحية وسلاطين الشر (أف 6: 12)، فالعالم كله قد وُضع في الشرير (1 يو 5: 19)… أنها حرب ضد الشيطان وجنوده وأعماله الشريرة.
نطلب من الرب ليس فقط كقاضٍ وإنما كقائد حرب، كمن يحمل السلاح ليتقدم المعركة بنفسه، فنقول له: “قاتل الذين يقاتلونني“.
v “إن كان الرب معنا فمن علينا” (رو 8: 31).
إنه لمنظر رائع أن نشاهد الرب لابسًا درعه ليقاتل لحسابنا.
لكن، ما هو درعه؟ وما هي أسلحته؟… لقد دعى الكتاب المقدس نفس البار سيف الله كما يدعوها أيضًا عرش الله. نفس الصديق هي كرسي الحكمة. فالرب يجعل نفوسنا تتناسب مع مقاصده؛ إنها في يده، دعوة ليستخدمها كما يشاء!
القديس أغسطينوس
ندعوه ليقاتل بنفسه وبأسلحته الإلهية، هو يسمح بالمعركة، وهو الذي يتقدمنا، يهبنا أسلحته، ويعطينا قوة الجهاد، ويمتعنا بالنصرة، ويقدم لنا الأكليل، وهو الذي يُكلل فينا!
يُحدثنا الرسول بولس عن الأسلحة الروحية غير المنظورة القادرة بالمسيح يسوع أن تحطم العدو غير المنظور: ترس الإيمان، خوذة الخلاص، سيف الروح الذي هو كلمة الله (أف 6: 16-17). هكذا يرى الرسول في الإيمان والتمسك بالصليب (الخلاص) والإلتصاق بكلمة الله ووعوده هي سلاح المؤمن.
v يارب أنت تعرف يقظة أعدائي،
وضعف طبيعتي أنت تعلمه يا خالقي.
لأني هأنذا أضع روحي في يديك.
فأسترني بأجنحة صلاحك لئلا أنام نوم الوفاة.
أضيء عيني بعظمة أقوالك…
لأنك صالح وحدك ومحب البشر.
صلاة الستار (قطعة 1)
v يجب أن تكون في نفوسنا غيرة ضد الشياطين.
v يُؤذن للشيطان أن يُحارب القديسين حتى تُمتحن محبتهم لله ويظهروا أنهم محبون لله وثابتون حقًا في محبته[690].
مار اسحق السررياني
v ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما أنه ليس أضعف من الذي يُحرم منه[691].
v لا نخشى شيئًا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف مهارتنا لن تفيد شيئًا، وأن كل شيء هو من نعمة الله[692].
القديس يوحننا الذهبي الفم
يؤكد المرتل أن الأسلحة الروحية في جوهرها ما هي إلا التمتع بالله المخلص نفسه، واهب النصرة، إذ يرتل قائلاً: “قل لنفسي: إني أنا هو خلاصك!” [3]. أي منفعة لي إن هلك إبليس وتحطمت كل أعماله ما لم يكن لي نصيب في حضن الآب، أنعَمُ بالشركة مع ربنا يسوع المسيح، وأحمل روحه في داخلي! خلاصي هو الرب الذي نزل إلى أرضنا لكي يقدم نفسه لي، أتحد به، وأنعم بحياته فيّ! إن كنت أدخل في معركة مع العدو فأنني لا أهوى الحرب في ذاتها، ولا أطلب إكليلاً لو لم يكن الرب نفسه هو إكليلي!
شتان بين أن أقرأ كتابًا عن الخلاص أو أسمع عظة أو أدخل في حوار بخصوص الخلاص، وبين تجلي المخلص نفسه في داخلي ليعلن لي شخصيًا: “إني أنا هو خلاصك“، يقدم نفسه لي خلاصًا بحلوله فيّ!
ينتقل المرتل من التوسل إلى الله للنجاة [1-3] إلى إعلان ما يحل بالمضايقين والمضطهدين من لعنات [4-6]، إذ يقول:
“فليخزَ ويخجل الذين يلتمسون نفسي.
وليرتد إلى الوراء،
ويخز الذين يتآمرون عليّ بسوء” [4-5].
لقد التمسوا نفس السيد المسيح لا ليتمتعوا بها وإنما ليهلكوها، أما السيد فلم يمنع نفسه عنهم، بل قال لهم “من تطلبون؟” (يو 18: 8)، وللحال تحققت النبّوة إذ رجعوا إلى الوراء (يو 18: 6)، أما هو فسّلم نفسه إليهم. لقد طلب منه القديس بطرس أن يهرب من صالبيه، قائلاً: “حاشاك يارب”، أما هو فقال له: “اذهب عني يا شيطان” (مت 16: 23).
v إذ اسلموا يسوع ليد بيلاطس جلبوا على أنفسهم الهلاك؛ فعلاً حطمهم العدو المستعمر الروماني بالنار والسيف، وأحرق كل أرضهم، حتى الهيكل المقدس الموقر الذي كان في وسطهم[693].
البابا كيرلس الإسكندري
v “فليخز ويخجل الذين يطلبون نفس” [4]. إنه لم ينطق باللعنات ضد الذين سببوا له خسارة مالية، أو سلبوا أرضًا، أو خططوا لتصفيته جسديًا، إنما صرخ ضد الذين يخططون شرًا ضد نفسه. ما هو تخطيط الشر ضد النفس إلا التغرب عن الله؟ لا يمكن للنفس البشرية أن تتغرب عن الله إلا إذا كان ذهنها مستعبدًا للشهوات… هذا هو معنى صلواته، أن ينصره الله على أعدائه، وهؤلاء الأعداء هم الشهوات[694].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
هكذا يرى بعض الآباء أن المرتل يصرخ ليس ضد أعداء خارجين إنما ضد أعداء في الداخل، ضد الخطايا والشهوات المفسدة لعلاقته بالله، والمحطمة لحياته الأبدية.
“وليكونوا مثل الهباء أمام وجه الريح،
وملاك الرب يضيق عليهم” [5].
يُقصد بالهباء العصافة؛ ربما يتصور المرتل السيد المسيح كفلاح يذري المحصول لكي يفصل القمح عن العصافة والأتربة الخفية وذلك بفعل الريح. هكذا يفصل السيد المسيح بروحه القدوس الخطايا والشهوات ويطردها خارج القلب. لا تقدر الخطايا أن تصمد أمام روح الله القدوس الذي يحيا في قلوبنا، هيكل الله. إنه يهبنا برّ المسيح عاملاً فينا إن تجاوبنا مع عمله.
في النص العبري جاءت كلمة “الهباء”، وسواء كانت هباءً أو عصافة أو ترابًا، فإن المرتل يفضح العدو الذي وإن كان شرسًا وعنيفًا، وإن كانت الخطية خاطئة جدًا، لكن أمام الروح القدس الساكن فينا يصير العدو إبليس كالعصافة في مهب الرياح أو كذرّات تراب بلا قوة ولا قيمة!
ليتنا لا نخاف إبلس ولا الخطية فإن الروح القدس يهبنا قوة محولاً حياتنا من التراب إلى السماء! ويرسل الرب ملائكته ليدحر الشرير وكل أعماله من أمامنا.
حدثنا المرتل في المزمور السابق عن ملاك الرب الحاّل حول خائفي الرب يخلصهم، وهنا يظهر ذات الملاك ليضيّق على من ضايقوا الأتقياء… إنه يفرح قلوب الصالحين ويهلك الأعداء الأشرار المصرين على عدم التوبة. عندما صلى حزقيا الملك أرسل الله ملاك وضرب من أجله جيش أشور فانهزم، إذ قُتل في ليلة واحدة 185.000 مثل عصافة أمام وجه الريح.
“لتكن طريقهم ظلمة وعثرة،
وملاك الرب يضطهدهم” [6].
هم يضطهدون أولاد الله الذين يتشبهون بملائكته، فيرسل الله ملاكه يضطهدهم. في كبريائهم رفضوا السيد المسيح الوديع والمتواضع القلب، رفضوا شمس البر فصار طريقهم ظلمة وعثرة. من لا يقبل المسيح طريقًا له يصير إبليس طريقه، عوض النار يختار الظلمة.
بكى إرميا النبي شعبه الذي اختار بكبريائه الظلمة طريقه، إذ يقول: “اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة، فتنظرون نورًا، فيجعله ظل موتٍ، ويجعله ظلامًا دامسًا؛ وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء، وتبكي عينيَّ بكاءً، وتذرف الدموع، لأنه قد سُبي قطيع الرب” (إر 13: 16-17).
كان يليق بهم وقد انحرفوا إلى طريق الظلمة، وصار ملاك الرب يضطهدهم، أن يرجعوا إلى الرب يطلبونه نورًا لهم. لكنهم عوض التوبة نشبوا فخاخًا في الظلام يصطادون بها نفوس الأبرار، فإذا بهم يسقطون هم فيها. هذه هي خبرة داود النبي الطويلة مع شاول الملك الذي سيطرت مملكة البغضة ضد داود في قلبه فكرس بقية أيام حياته وكل قدراته وإمكانياته بل وإمكانيات مشيريه لهدم داود وقتله… فإذا به يلقي بنفسه في الهاوية ويزداد داود مجدًا وبهاءً أمام الله والناس، إذ يقول المرتل:
“لأنهم مجانًا أخفوا لي فساد فخهم،
وعيّروا نفسي باطلاً.
فليأتهم الفخ الذي لا يعلمونه؛
والمصيدة التي أخفوها تعرقِّلهم.
وفي الفخ يسقطون.
أما نفسي فتفرح بالرب وتبتهج بخلاصه” [7-9]
يتسم الأشرار بالعمى الداخلي والغباوة؛ ينصبون الشباك للأبرار في طريق مظلم بلا سبب، وسرعان ما ينسونها، ليعبروا هم عليها فيسقطون فيها بسبب عمى بصيرتهم.
يزرع الأشرار أشواكًا في الظلمة لتحطيم الأبرار فإذا بها تنفذ في أجساد زارعيها؛ ينصبون الشباك فتمسك بهم؛ يسعون وراء هلاك الغير فيدمرون أنفسهم. هلاكهم يحل على رؤوسهم من خلال أعمالهم، وكما يقول الحكيم: “من يحفر حفرة يسقط فيها، ومن يدحرج حجرًا يرجع إليه” (أم 26: 27). الصليب الذي أعده هامان لمردخاي صُلب هو عليه، والصليب الذي أعده الشيطان ليُحطم مملكة المسيح حطم مملكة إبليس ذاتها!
ينشغل الأشرار بالفخاح والمكائد فيقتنون عمل أيديهم فخاخًا ومرارة، أما الأبرار فينشغلون بالله السامع صلواتهم والمهتم بخلاصهم فيقتنوه سرّ فرحهم الحقيقي، يفرحون بالرب ويبتهجون بخلاصه. هنا نلاحظ أن نفس البار لا تنشغل بالنجاة من الضيق في ذاته، إنما بالرب الذي يتجلى وسط الضيقات ويعطي خلاصًا.
v الوصية عامة بالنسبة لهم: “إفرحوا أيها الأبرار في الرب” (مز 9: 14؛ 35: 9؛ 33: 1) وذلك لكي يجتمعوا معًا ليترنموا بهذا المزمور العام الخاص بالأعياد: “هلم نفرح بالرب” (مز 95: 1)، لا بأنفسنا[695].
البابا أثناسيوس الرسولي
“جميع عظامي تقول: يارب من مثلك؟!
المنقذ المسكين من أيدي من هو أقوى منه!
والفقير والبائس من أيدي الذين يختطفونهما” [10].
إذ تفرح نفس المرتل برؤيتها المخلص تصرخ أعماقها الداخلية، أو هيكل كيان إنسانه الداخلي (عظامي): “يارب من مثلك؟!”. تقتبس ما سبق أن قاله موسى: “يارب، من مثلك معتزًا في القداسة، مخوفًا بالتسابيح، صانعًا عجائب!” (خر 15: 11). لعل المرتل رأى السيد المسيح مخلصه من الأعداء الحقيقيين مرفوعًا على الصليب لأجله، فصرخ: “يارب من مثلك؟!” لقد أنقذتني أنا المسكين من أيدي العدو القوي الذي خطط لاختطافي وافتراسي! من مثلك في الحب يا من مُت لأجلي؟ من مثلك في القدرة إذ تهبني قوة قيامتك؟! من مثلك في القداسة يا من تقدسني بروحك القدوس؟!
توقف المرتل عند قوله “من مثلك؟!” إذ استغرق في حب الله وعنايته وحنوه وقدرته إلخ… مدركًا أن المخلص يُريد أن يهبه ذاته ليحمل قدراته، فيعيش غالبًا للعدو القوي، ومتمتعًا بشركة المجاد.
هذا هو عمل الكنيسة الحقيقية أن تُسبِّح مخلصها قائلة: “يارب من مثلك؟!”، لقد دخل بيت القوي (إبليس) ونهب أمتعته (نفوس المؤمنين) بعد أن ربطه بالصليب (مت 12: 29)، وجرَّده وشهّر به جهارًا ظافرًا به (كو 2: 15)! تسبح رأسها الذي هو قوتها ومجدها وبرها وقداستها وميراثها الأبدي. صار فقيرًا ليلتقي بها في مسكنتها واهبًا إياها غناه، ونزل إلى أرضها لكي يحل أسرها وينطلق بها إلى حضن أبيه السماوي!
باسم الكنيسة كلها يترنم المرتل وسط ضيقته، واثقًا في خلاص الرب، قائلاً: “يارب من مثلك؟!” وكما يقول مار اسحق السرياني في عظته “عن عمل النعمة”: [إنه إذا إستحق إنسان أن يتقبَّل قوة الله في نفسه، تُبتلع أفكاره في دهشة مروعة، فتصمت حواسه، ويعجز لسانه عن الكلام، لكن حتى عظامه في صمتها تمجد الله!].
- وصف الآلام:
في إيجاز يصّور لنا المرتل آلامه هكذا:
- اتهامه ظلمًا:
“قام عليّ شهود الظلمة،
وعما لم أعلم سألوني” [11].
لما كان عدو الخير هو رئيس مملكة الظلمة، فإنه يحرك شهود الظلمة، يشهدون ضد السيد المسيح نفسه وضد كنيسته زورًا خلال عمى قلوبهم وظلمة نفوسهم.
ربما أُتهم داود بالخيانة الوطنية والتمرد والاشتراك مع الوثنيين في عبادتهم، بهذا كان شاول يثير رجال الدولة بل والشعب ضد رجل الله ظلمًا (1 صم 24: 17). وعندما جاء مسيحنا أتهموه أنه بعلزبول رئيس الشياطين، وأنه صانع شر، ومسبب فتنة ومحرّض على عدم دفع الجزية لقيصر… وهو لا يعلم شيئًا عن هذا كله، أي لم يمارس شيئًا من هذا!
من يلتصق بالسيد المسيح لا يرتبك متى أُتهم ظلمًا، فإنه في هذا يشارك سيده القائل: “لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا، فماذا يكون باليابس؟!” (لو 23: 31).
- يردون حبه بالكراهية:
“جازوني بدل الخيرات شرورًا وعقمًا لنفسي” [12].
لقد اعترف شاول نفسه بذلك، إذ رفع صوته وبكى، ثم قال لداود: “أنت أبرّ مني، لأنك جازيتني خيرًا وأنا أُجازيك شرًا” (1 صم 24: 17).
قدم السيد المسيح حبًا للبشرية فحملت له بغضة، جاء ليشفي جراحاتهم فثقبوا يديه ورجليه وطعنوا جنبه. وهبهم ذاته حياة فقدموه للموت. أراد أن يكرمهم فطلبوا ص-لبه!
كشف المرتل عن حبه العجيب حتى لمقاوميه بفكر روحي إنجيلي عجيب، إذ قال:
“أما أنا ففي مرضهم كان لباسي مسحًا
أذللت بالصوم نفسي
وصلاتي إلى حضني ترجع!” [13].
هذا ما قد مارسه المرتل فعلاً، عندما قاومه أعدؤه كان يُصلي لأجلهم كي ينجو وعندما سمع بخبر قتل شاول وأيضًا أبشالوم بكى بكاءً مرًا.
عرف داود النبي وهو تحت الناموس أن يعبر إلى الفكر الإنجيلي، يرد شر الأشرار بالحب الداخلي الصادق. يرى عدوه مريضًا فيلبس لأجله المسوح متذللاً بالصوم أمام الله، ومصليًا لأجله. لبس المسوح لم يكن مستخدمًا في أمور تافهة، إنما عند فقدان ابن أو موت رجل عظيم أو وقوع كارثة مُرّة، هكذا أظهر داود النبي حبه لأعدائه بلبسه المسوح علامة حزنه على مرضهم الخطير.
ماذا تعني: “صلاتي إلى حضني ترجع“[696]؟
أ. يعتقد البعض أن هذه العبارة تعني الصلاة المستمرة، كما لو كان توسله صادرًا عن القلب ليرجع إليه ويرتفع ثانية وهكذا بلا توقف.
ب. يرى البعض أنها تعني أن صلاته ترتد إليه، فلا ينتفع بها من استخفوا بها واحتقروها إنما تتمتع بها أحضان المرتل وأعماقه.
ج. يُشير المرتل هنا إلى عادة بعض الشرقيين، لأنهم حينما يصلون بجدية في حزن، فإنهم يخفون وجوههم في صدورهم. ربما بهذه العادة يُظهرون أن صلاتهم ترجع إليهم من حيث تنبعث.
د. عنى داود أن ترتد صلاته إلى قلبه، فهو متيقن من صدق رغبته القلبية لهم بالخير. إن كان قد طلب لهم سوءًا فليرتد عليه، وإن كان يشتهي لهم خيرًا فليرجع أيضًا إليه!
- قابلوا صداقته بالاضطهاد:
لقد اعتبر المرتل عدوه المريض كصديق بل وكأخ، من أجله تذلل أمام الله وصام وصلى، ولم يكن ذلك في مخدعه فحسب، وإنما أعلن ذلك بروح الاتضاع في سلوكه مع العدو، إذ يقول:
“مثل صاحب وأخ لي هكذا كنت أرضيه،
ومثل الكئيب والعابس كذلك تواضعت” [14].
ليس لأعدائي عذر في مقاومتهم لي فقد بذلت كل الجهد لأرضيهم، وفي مرضهم وآلامهم باتضاع شاركتهم الكآبة والعبوسة بكوني عضوًا معهم، هكذا أحسب نفسي صديقهم وأخاهم بل وعضوًا معه أشاركهم كل أحاسيسهم، خاصة وسط آلامهم، أما هم فأصرّوا على إضطهادي:
“إجتمعوا عليّ وفرحوا
إجتمعت عليّ السياط ولم أعلم.
انشقوا ولم يندموا.
جربوني واستهزأوا بي هزءًا، صارين على أسنانهم” [15-16].
شتان ما بين سلوك داود النبي وسلوك أعدائه:
أ. داود يشاركهم آلامهم في أعماقه وعبادته وسلوكه معهم، أما هم فيجتمعون ضده ويفرحون بتخطيطاتهم ضده.
ب. من أجلهم يتذلل وينسحق أمام الله وأمامهم لكي يستريحوا، أما هم فهيأوا السياط دون علمه لتنهال عليه.
ج. حسبهم أصدقاءً وأخوة وأعضاءً معه، أما هم فكوحوش ضارية اجتمعوا حول حظيرة الخراف، يُصرّون على أسنانهم ليفترسوا حَملاً واحدًا!
ما أعلنه المرتل داود قد تحقق كنبوّة في شخص السيد المسيح الذي جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله، إنشقوا عليه ولم يندموا، جربوه وسخروا به وأصرّوا بأسنانهم كي يفترسوه!
يقول القديس أغسطينوس: [ما أصاب الرأس يحل بالجسد أيضًا، وما حدث مع ربنا على الصليب يحدث لأعضاء جسده خلال الاضطهاد المعاصر (ربما الذي أثاره الدوناتست Donatists)… أينما التقوا بمسيحي أعتادوا أن يشتموه ويضايقوه ويستهزئون به، ويدعونه أحمق ومعتوهًا وجبانًا وبلا خبرة حياة. ليفعلوا ما يشاؤون، فقد مجّد المسيح آلات تعذيبه، وختم صليبه الآن على جباه البشر…].
- تدخل الله:
بعدما وصف المرتل ما يُعانيه من آلام واضطهاد مع اتساع قلبه بالحب لمضايقيه أعلن تدخل الله في حياته وأيضًا في معاقبة الأشرار المصرّين على شرهم.
- التمتع بخلاص شخصي:
“يارب متى تنظر؟!
رُد نفسي من شر فعلهم،
ومن بين الأسود بنّوتي الوحيدة” [17].
وسط الضيق يشعر الإنسان بالعزلة، ليس من أب أو أم أو صديق يقدر أن يشارك الأعماق، فالحاجة إذن إلى تدخل الله نفسه الذي ينقذ النفس من بين الأشرار بكونها شبل وحيد.
قول المرتل “ردّ نفسي” يشير إلى طلبة السيد المسيح القائل: “الآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو 17: 5)، فإن ما يناله السيد المسيح من مجد بقيامته وصعوده إنما هو رّد لما سبق أن أخلى نفسه عنه لأجلنا، حتى يحمل عارنا وخزينا، مقدمًا مجده لنا. دعى نفسه “وحيدة”، التي دخلت إلى الجحيم وعادت إلى الجسد كشبل، لكي تقيم من نفوسنا أشبالاً قوية.
- تمتع بخلاص جماعي:
“أعترف لك يارب في الجماعة الكثيرة،
وفي شعب جزيل أُسبحك” [18].
إذ يرّد الله نفس داود، يوفي المرتل نذره بالاعتراف والتسبيح وسط الجماعة، فما يناله من بركات الخلاص كعطايا شخصية تمس حياة الجماعة كلها، وما تنعم به الجماعة يتذوقه كعطايا شخصية. ليس من فصلٍ بين خبرة المؤمن الشخصية وحياته الكنسية الجماعية.
ما هي هذه الجماعة الكثيرة الجزيلة (الوقورة) المسبّحة لله إلا كنيسة العهد الجديد التي ضمت الشعوب والأمم لتشهد بعمل الله الخلاصي وتسبحه بلا إنقطاع! إنها كنيسة قوية بمسيحها، مكرمة فيه، تشارك ملائكته تسابيحهم له!
- توقف شماتة الأشرار:
كأن الأشرار قد كرسوا كل وقتهم وطاقاتهم للسخرية والإستهزاء بالمؤمنين مجانًا، أي بلا نفع لصالحهم، وبلا علة أو سبب، يهوون الشر والبغضة لأجل الشر والغش.
“لا يشمت بي الذين يعادونني ظلمًا
الذين يبغضونني مجانًا،
ويتغامزون بالأعين.
لأنه إياي كانوا يكلمون بالسلام،
وفكروا مكرًا بالغضب.
فتحوا عليّ أفواههم،
وقالوا: نعمًا، نعمًا، قد رأيت أعيننا” [19-20]
لقد كرّس الأشرار قلوبهم للبغضة، وعيونهم للغمز بسخرية، والشفاة للنطق بكلمات غاشة معسولة بالسلام الظاهر، والفكر بالمكر والغضب… كل أعضائهم وطاقاتهم تعمل للشر، أما الله خالق الجسد والنفس فيُحطم كل تصرفاتهم ضد أولاده، الظاهرة والخفية.
إذ صار داود طريًا شمت الأعداء وسخروا به علانية، وصاروا يقولون: “نعمًا، نعمًا، قد رأيت أعيننا” أو “هه، هه، قد رأيت أعيننا”. تعبير عن الشعور بالنصرة بفرح مع مذلة الآخرين!
لقد استهزأ الصالبون بالمسيح، قائلين: “تنبأ لنا أيها المسيح من ضربك؟” (مت 26: 68)، “يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك؛ إن كنت ابن الله إنزل عن الصليب فنؤمن بك” (مت 27: 40)، “خلّصَ آخرين، وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها؛ إن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به” (مت 27: 42).
- استيقظ يارب:
تتوقف شماتة الأعداء باعلان قيامة المسيح غالب الموت، كمن يستيقظ من بين الراقدين.
قد رأيت يارب فلا تصمت.
يارب لا تتباعد عني.
أستيقظ يارب وأنظر في حكمي.
إلهي وربي أنتقم لي.
أقضِ لي مثل عدلك ياربي وإلهي.
لا يفرحوا بي ولا يقولوا في قلوبهم: نعمًا نعمًا لأنفسنا.
ولا يقولوا بأننا قد إبتلعناه…
ليخز ويخجل جميعًا الذين يفرحون بمضراتي
ليلبس الخزي والعار المعظمون عليّ كلامهم.
يبتهج ويُسر الذين يريدون بري.
وليقل في كل حين: ليتعظم الرب الذين يريدون سلامة عبدك.
لساني يلهج بعدلك واليوم كله يحمدك” [22-28].
تكشف هذه العبارات عن ثمار عمل الصليب والقيامة في حياة المؤمن:
أ. ظن الأشرار أن المصلوب قد صمت تمامًا بموته ودفنه، أما المرتل فقد عرفه أنه كلمة الله الذي لا يصمت بل دائم العمل في حياة شعبه: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل” (يو 5: 17).
إذ نصرخ: “يارب لا تصمت”، نطلب إليه أن يعلن قيامته في حياتنا، يقول كلمة فنقوم ولا نبقى في قبر الشهوات والخطايا.
ب. ظن الصالبون أنه بدفن المسيح قد إبتعد عن البشر وفارق شعبه وتلاميذه، ولم يدركوا أنه وهو في القبر إنطلقت نفسه تحمل نفوس الراقدين على الرجاء ليدخل بها كغنائم حية إلى فردوسه. قيامته أكدت أنه لا يتباعد عنا، بل يضمنا إلى ملكوته الأبدي.
ج. لنقل مع المرتل: “إستيقظ يارب”، أي أيقظ إيماننا بك، فلا نُحسب نائمين ومتراخين وموتى، بل نحيا معك أيها الغالب للموت!
د. فرحوا بدفنه كغالبين، فكانوا يصرخون: “نعمًا نعمًا لأنفسنا”، مهنئين أنفسهم بالخلاص منه، لكن فرحهم لم يدم إذ قام ليهنئ المشتركين معه في آلامه وصلبه وقبره أيضًا.
قالوا “قد إبتلعناه”، إذ ابتلعه الموت، ولم يدركوا أنه دخل إليه بسلطانه ليخلص مؤمنيه الذين سبق فابتلعهم الموت. وكما يقول القديس ما إفرآم السرياني: [إن الموت ابتلع كذئب السيد المسيح الحمل، لكن معدته لم تحتمله داخلها فتفجرت وخرج معه المؤمنون به. بقيامته لا يقدر القبر ولا العالم كله ولا الجحيم أن يبتعلنا! بالقيامة ابتلعت الكنيسة العالم وحولته عن الوثنية والإلحاد إلى الإيمان الحيّ!
هـ. بقيامته دخل الأشرار إلى الخزي والعار بينما إنطلقت الكنيسة إلى الحياة المفرحة، حياة التسبيح غير المنقطع تعظم الرب وتمجده.
و. نقول مع المرتل: “اليوم كله يحمدك”، فقد أشرق الرب بقيامته علينا لتصير حياتنا يومًا (نهارًا) بلا ليل. لقد بدد ظلمة قبرنا الداخلي، إذ جعله هيكلاً مقدسًا له.
يختتم المزمور بالهتاف والتسبيح لله الذي يقيمنا من موت الخطية.
v فلنشكره ونتبع القديسين: “اليوم كله نحمدك” كقول المرتل[697].
صرخة إلى القائم من الأموات
v أنظر إلى مذلتي يا من دخلت معركة الصليب!
لتكن أنت هو سلاحي، ونصرتي، وإكليلي،
لتكن أنت هو خلاصي، فإنني أود أن أقتنيك!
v علمني كيف أُبذل معك من أجل مضايقيّ ومضطّهدي؛
ليتآمروا عليّ، أما أنا فأموت معك من أجلهم!
لينصبوا لي شباكًا في طريقهم المظلم!
ولترفعني بروحك القدوس وتعبر بي إلى سمواتك آمنًا!
لترتد صلاتي من أجلهم إلى حضني، فأتمتع بما أشتهيه لهم!
v إن صمت لساني، فعظامي لن تصمت عن تمجيدك!
أنت الكلمة الإلهي الذي لم يستطع القبر أن يجعلك صامتًا!
قم، وأقمني معك، فأحيا بنور قيامتك.
لتصر حياتي نهارًا يا شمس البر، لا تعرف ظلمة قبر الشهوات.
لأسبحك كل النهار ما دام نورك مشرق في داخلي!