تفسير المزمور ٣٦ للقمص تادرس يعقوب
المزمور السادس والثلاثون
شر الإنسان وصلاح الله
نقرأ في المزمور السابق عن داود كخادم الرب، أما في هذا المزمور فيتحدث المرتل عن الإنسان الشرير وتغرّبه عن الله.
يحوي هذا المزمور متناقضات قوية، فيبرز الإنسان في منتهى فساده والله في كماله المتعدد الجوانب.
حسب النص السرياني يشير هذا المزمور إلى اضطهادات شاول لداود النبي.
العنوان:
في الأصل العبري: “لإمام المغنين، لعبد الرب داود“، وبحسب النسخة السبعينية: “في التمام، لفتى الرب داود“.
يعتقد البعض أن الكلمات “لعبد الرب” أو “لفتى الرب” تعني أن الكاتب يتحدث بسلطان إلهي. ويرى البعض أن ما ورد هنا إنما هو حديث إلهي موجه ضد الأحاديث الشريرة التي يتفوه بها الأشرار[698].
الإطار العام:
- سمات الشرير [1-4].
- ميثاق الله [5-11].
- سقوط الشرير تحت اللعنة [12].
- سمات الشرير:
أبرز المرتل سرّ شر الشرير وسماته في النقاط التالية:
- فساد قلبه:
لا يستطيع الشرير أن يعتذر بعلل خارجية، فإن شره نابع عن فساد قلبه أو طبيعته الداخلية؛ إنه يحمل في حضنه إيحاءً بالشر. طبيعته الساقطة هي مصدر الشر وأساسه. وكما أوضح السيد المسيح ذاته بقوله: “لأن من القلب تخرج أفكار شريرة قتل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف” (مت 15: 19). ويقول المرتل في إفتتاحية هذا المزمور: “يقول مخالف الناموس أنه يخطئ في ذاته” [1]. ويقول النبي إرميا: “القلب أخدع من كل شيء، وهو نجيس من يعرفه؟!” (17: 9).
لقد فسد القلب فلم يعد يطلب الصلاح ولا يُسر بالخير إنما يشتاق إلي الشر ويُريده. ويعلق القديس أغسطينوس علي هذه الآية قائلاً:
[لا يتحدث (هنا) عن شخص واحد وإنما عن جنس الأشرار الذين يحاربون ضد ذواتهم (أنفسهم) بغير فهم لكي لا يعيشوا حسنًا، لا لأنهم لا يستطيعون (عمل الصلاح)، وإنما لأنهم لا يريدون ذلك. فإنه هناك فارق بين شخص يسعى أن يفهم أمرًا ما، وبسبب ضعف الجسد لا يستطيع، وذلك كقول الكتاب في موضع معين: “لأن الجسد الفاسد يضغط علي النفس، والخيمة الأرضية تثقل علي الذهن الذي يفكر في أمور كثير” (حك 9: 15)؛ وبين أن يعمل القلب الشر (عمدًا)، ليضر نفسه].
هنا يدعو المرتل الشرير “مخالف الناموس“، لأنه بسبب فساد قلبه يقف موقف المقاوم والعاصي لكلمة الله، لا عن عدم فهم وإنما بالحري عن إرادته الشريرة المناقضة للحق.
- لا يحمل خوف الله:
“ليس مخافة الله أمام عينيه” [1]. كثيرًا ما تحدث المرتل عن “مخافة الرب” بكونها رأس الحكمة ومصدر البركة، وقد ميّز بين مخافة المبتدئين ومخافة الكاملين، أو بين مخافة العبد ومخافة الابن.
عندما تنزع “مخافة الله” من أمام القلب، أو من أمام البصيرة الداخلية أو عيني النفس، يتهيأ الإنسان لاقتراف أي شر.
v “ليس مخافة الله أمام عينيه” [1]، أمام عينيْ الشرير توجد مخافة الناس؛ فهو لا يتجاسر أن يعترف بإثمه أمامهم لئلا يوبخونه أو يلومونه. إنه يتحاشى نظراتهم… إنه يرجع إلي نفسه، إلي داخله، حيث لا يراه أحد، وفي ذلك الموضع يخطط الزيف والخداع والشرور حيث لا تراها عين بشرية ما. كان يمكن ألا يمارس هذه المؤامرات حتى في داخل نفسه لو أدرك أن الله يراه، لكنه إذ فقد نظرته إلي مخافة الله، لذلك يهتم أن يفلت من ملاحظة الناس له…
القديس أغسطينوس
- مُخادع لنفسه:
“لأنه صنع الغش قدامه، ليظفر بإثمه فيبغض” [2]، أو “لأنه ملق نفسه لنفسه“.
كثيرًا ما يقدم سفر المزامير الإنسان الشرير كمخادع يُنتسب للشيطان المدعو “الكذّاب”، و”أبو الكذابين”، أما البار فيحمل حق المسيح، ويُنتسب للحق ذاته. الإنسان الشرير في غشه لا يخدع الآخرين فحسب، وإنما يخدع نفسه أيضًا، يتملق نفسه بنفسه من جهة إثمه وبغضه، مموهًا الحقائق، إذ لا يكون إثمه ممقوتًا في عينيه، حيث يغلفه بثوب الفضيلة. يلتمس الشرير لنفسه الأعذار في كل شيء، وبسبب حبه الشديد لذاته يتملق نفسه فيدعو رذائله بأسماء لطيفة، فيخلط بين الباطل والحق، وبين الرذيلة والفضيلة. كأن يدعو بُغضه للآخرين دفاعًا عن الحق، وبُخله في العطاء أمانة في ما هو تسلمه، ومحاباته للبعض حكمة الخ…
ما أسهل أن يخدع الإنسان نفسه فيبرر ارتكابه الخطية بأنه كان يجهل أنها خطية أو أن كثيرين حتى ممن هم في داخل الكنيسة يفعلون ذلك، أو أن الظروف التي أوجده الله فيها حتمت عليه ذلك!
- إرادته الشريرة:
“لم يرد أن يفهم ليعمل الخير” [3]. إنه يتوقف عن أن يتعقل أو يفهم، لأنه يريد إلا يعمل خيرًا. هنا يعلن المرتل مسئولية الشرير الكاملة عن عدم ممارسته الخير.
إن كان التعقل (أو الحكمة) يدفعنا إلي عمل الخير، فالشرير بإرادته لا يُريد تعقلاً ولا حكمة… هذا ولا يوجد انفصال بين الحكمة والخير أو الصلاح. فبرفضنا الحكمة نرفض الصلاح؛ وبرفضنا الصلاح يتسلل الشر داخلنا.
v ألا نخطئ شيء وأن نعمل الخير شيء آخر”. إذ يقول: “كف عن الشر وأفعل الخير”. نهجر الأول ونتبع الأخير حيث فيه يكمن الكمال[699].
القديس جيروم
- محب للظلمة أكثر من النور:
“فكّر إثمًا في مضجعه” [4]. إذ أخطأ داود النبي صار يعّوم كل ليلة سريره بدموعه،
أما الشرير فيحيك الشرور في الليل علي فراشه، لا ينام حتى يفعل السوء.
يتأمل الصديق في الله طول النهار، فيحمل معه أفكارًا مقدسة تضيء حياته حتى في أحلام يقظته وأحلامه، أما الشرير فيحمل معه في فراشه قلبًا مظلمًا، يخطط في الشر، ويفكر فيه حتى في نومه.
أفكارنا ونحن علي مضجعنا كثيرًا ما تعبّر عما تحمله قلوبنا طوال النهار، وتعكس اشتياقاتنا الخفية.
يرى البعض أن المضجع هنا يشير إلي القلب حيث فيه يظهر ارتباك الضمير الشرير، وفيه نستريح إن كان لنا الضمير الصالح. يقول القديس أغسطينوس: [لنجتهد أن نطهر فراش قلوبنا ونغسلها، فنستريح هناك!]. عن هذا المضجع يقول السيد المسيح: “ادخل إلي مخدعك واغلق بابك وصلِّ إلي أبيك الذي في الخفاء” (مت 6: 6). لنغلق باب مضجعنا الذي يطل علي العالم الخارجي، ولنفتح ذاك الذي يقرع عليه رب المجد (رؤ 3: 20) حتى يدخل إلي أعماقنا ويتعشى معنا. عندما يُحكم إغلاق الباب الأول ينفتح الثاني لنرى ما لم تره عين وما لم تسمع به أذن وما لم يخطر علي قلب بشر (1 كو 2: 9).
- يكره الصلاح:
“وقام في كل طريق غير صالح، وعن الشر لم يعرض” [4].
في الظلمة يفكر في الشر علي سريره، وفي النهار يقوم في كل طريق غير صالح؛ لهذا لا يعرض عن الشر لأنه لا يكرهه بل يحبه. في الليل تأسر الخطية أفكاره، وفي النهار يتمم مشورتها بسلوكه.
- ميثاق الله:
بعدما تحدث عن أسباب الشر الخفية وسمات الشرير يفتح المرتل أبواب الرجاء لكل نفس تتمتع بميثاق الله ومراحمه.
يحتوي هذا القسم علي ترنيمة للرب الذي يقيم عهده مع كنيسته [5-9]؛ وتوسل مقدم لحب الله مقيم العهد لحماية الأبرار [10-11]. يتحدث داود الآن عن الله الذي يرفضه الشرير ولا يعرفه، بينما يجده البار ملجأ له ويحتمي تحت ظل جناحيه. يجده الله كلي الحب، رحمته وصلاحه لا ينقطعان قط.
- مراحم الله وعدله سمائيون:
“يارب في السماء رحمتك وبرك إلي السحاب (الغمام)” [5].
أ. يقوم ميثاق الله مع كنيسته علي أساس مراحمه الجزيلة غير المنفصلة عن عدله أو بره. مراحمه سماوية وبره يبلغ إلي السماء… ربما يقصد بالسماء هنا أن سماته مطلقة غير محدودة، مراحمه عالية جدًا ومرتفعة، فائقة وعظيمة للغاية. مهما تكن متاعبنا شديدة وعميقة وبالغة، تبقى مراحم الله أعلي وأعظم. إنها تهب رجاءً لكل إنسان أينما وجد ومهما بلغت خطاياه أو اشتدت به الضيقات الداخلية والخارجية.
ب. تشير السماء إلي المؤمنين الحقيقيين الذين ينعمون بالرحمة الإلهية والبر السماوي، فتتحول أرضهم إلي سماء، حيث يُعلن ملكوت الله داخلهم. يقول القديس أغسطينوس أن القديسين ينعمون بالرحمة السماوية لا الأرضية، الأبدية لا الزمنية: [لنتطلع إذًا إلي الرحمة، لكن إلي تلك الرحمة التي في السماء].
v توجد رحمة أرضية وأخرى سماوية؛ واحدة بشرية والأخرى إلهية. فما هي الرحمة البشرية؟ تلك التي تهتم بشقاء المساكين؟ وما هي الإلهية؟ بلا شك تلك التي تهب غفران الخطايا. ما تقدمه الرحمة البشرية من هبات في الطريق تسترده بالرحمة الإلهية في المدينة السماوية[700].
الأب قيصريوس أسقف آرل
ج. رحمة الله في السماء لا يقدر أحد أن يبلغها بنفسه، إنما يحتاج إلي نزول السماوي نفسه إليه ليرفعه إليها، وإلي روح الله القدوس ليكشف له عنها. لهذا تجسد كلمة الله ورافقنا طريقنا، وأرسل لنا روحه القدوس.
v لأن تفسير الأسرار النبوية ما كان يُعلن عنها قبل مجيء الرب[701].
القديس أكليمنس الإسكندري
بنزول السماوي بادرْنا بالحب ونحن بعد أعداء، وبإرساله روحه القدوس كشف لنا عن الحق السماوي المخفي تحت ظل الناموس ورموزه وفي نبّوات الأنبياء.
د. يفسر القديس أغسطينوس “السحاب” هنا بالكارزين بالإنجيل الذين يصنع الله بهم عجائب. وكأن قوله: “بِرَّك إلي السحاب” يعني أن الله الذي برحمته يهب بره لقديسيه، خاصة الكارزين بالإنجيل، يرتفعون إلي السحاب كي يمطروا بمياه النعمة الإلهية علي القِفار فتتحول إلي فردوس الله المفرح.
إن كانت الخطية ثقيلة كالرصاص فبِّر المسيح يجعلنا كالسحاب نرتفع بلا عائق في الجو، لا في تشامخ الروح، وإنما بعمل روحه الوديع، فيتسع قلبنا بالحب عوض الإدانة، ونقدم إنجيل المسيح المفرح الذي يُجدّد القلوب ويقدسها بروح الله كهيكل مقدس له!
- ثبات عدل الله وقوة أحكامه:
“عدلك مثل جبال الله،
أحكامك مثل العمق العظيم” [6].
إن كانت خطايانا قد نزلت بنا كما إلي لجة عظيمة، إلي أعماق الهاوية، فإن أحكام الله أو تدابيره لا ترفعنا فقط من العمق، وإنما تهبنا بره فنصير جبال الله العالية التي يشرق عليها شمس البر ويمطر عليها بنعمته فيكسبها خصوبة وجمالاً.
v كما تكسي الشمس عند بزوغها الجبال أولاً بالنور الذي ينحدر بعد ذلك إلي الطبقات الدنيا، هكذا جاء ربنا يسوع المسيح أضاء بنوره أولاً الرسل كمرتفعات عالية؛ أنار أولاً الجبال ثم هبط بنوره إلي وادي العالم المحتجب… فإن بقيتم علي الجبال لن يتزعزع رجاءكم… حيث يأتيكم العون حقًا. لأنه قد كُرز بالكتاب المقدس لكم من خلال الجبال، أي بواسطة الكارزين العظماء الذين شهدوا بالحق. لكن لا تضعوا رجاءكم فيهم، فالعون يأتي من الجبال، لكنه لا يصدر عنهم؛ فمن أين يصدر إذن؟ “من الرب الذي صنع السموات والأرض” (مز 121: 1-2).
“عدلك مثل جبال الله“، بمعنى آخر، الجبال ملآنة بعدلك.
“أحكامك مثل العمق العظيم“. يستخدم المرتل كلمة “عمق” ليدلك علي عمق الخطية التي ينحدر إليه الإنسان باستخفافه بالله… كما أن جبال الله تعبر عن عدله، السمو الذي ترفع إليه نعمته، هكذا بأحكامه ينحدر (الأشرار) إلي الهوة العميقة جدًا حتى أسافلها.
القديس أغسطينوس
- شمول مراحمه:
“الناس والبهائم تخلصهم يارب” [6]. تستعلن مراحم الله غير المتناهية من خلال عنايته التي تحتضن الناس والحيوانات. إنه إله رؤوف متحنن علي كل خليقته، يشرق شمسه علي الأبرار والأشرار ويمطر علي الصالحين والطالحين؛ يهتم حتى بالخليقة غير العاقلة، فكم بالأكثر ينعم علي الأبرار المتكلين عليه؟!
ربما يقصد بالناس “المؤمنين” الذين سلكوا بالحكمة فأرتموا في أحضانه، وبالبهائم “الأشرار” الذين تركوا لشهواتهم الجسدية العنان فصاروا اشبه بالحيوانات غير العاقلة.
خلاص الناس ربما يعني خلاص النفس الأبدي، وخلاص البهائم يشير إلي إهتمامه بالجسد أيضًا، إذ هو خالق الإنسان بكل كيانه.
لقد جاء السيد المسيح، خبز السماء، مولودًا في مزود كي يقبله حتى الذين انحرفوا إلي الحياة البهيمية، طعامًا روحيًا لهم.
v إن كنتم بشرًا كلوا “الخبز” إن كنت (قد صرت) حيوانًا فتعال إلي المزود (وتمتع بالمسيح هناك) (لو 2: 7)[702].
القديس جيروم
v يا لعظم فيض مراحمك حيث يحل الأمان بجسد الإنسان المائت كما بجسد الحيوانات؛ هذا هو فيض مراحمك… هل من مزيد بالنسبة لنا؟ حقًا، ماذا يوجد أيضًا؟ استمع: “بنو البشر في ظل جناحيك يثقون“. إنهم يسكرون بفيض خيرات بيتك، إذ تجعلهم يرتوون من ينبوع (سيل) مسراتك، فإن معه ينبوع الحياة [8-11].
المسيح هو ينبوع الحياة. لقد نلنا الأمان (الجسدي) أسوة بالبهائم حتى جاءنا ينبوع الحياة… ومات لأجلنا!… هذا هو الخلاص غير الباطل، لماذا؟ لأنه لا يزول![703].
القديس أغسطينوس
- فيض حنوه:
“مثل ما أكثرت رحمتك يا الله.
وبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون” [7].
إذ يدرك بنو البشر كثرة مراحم الله يلجأون إلي ستر جناحيه، أي إلي العهدين القديم والجديد، حيث يجدون فيهما كنوز وعوده العجيبة، ومفاهيم ميثاق حبه العجيب مع الإنسان. فيهما يتمتعون بالنبوات ويدركون سرّ الخلاص الذي قدمه المسيا ببذل حياته عنهم ولأجلهم!
سبق فأعلن المرتل عن حنو الله ورعايته للإنسان والحيوان، أما بالنسبة للميثاق فهو خاص ببني البشر وحدهم الذين “في ظل جناحيه يحتمون”.
تصوير الاحتماء بظل جناحي الله مستمد من:
أ. جناحي الشاروب اللذين يغطيان تابوت العهد، حيث أعتاد الله أن يتحدث مع شعبه.
ب. جناحي الدجاجة التي تحمي فراخها.
ج. تدريب صغار النسور علي الطيران بعد كسر العش.
أستخدم بوعز ذات التصوير في حديثه مع راعوث (راعوث 2: 12)، كما استخدمه ربنا عن أورشليم (مت 23: 37) حيث كشف باتضاعه وحبه الشديد عن حنّوه لبنيه وشوقه إلي خلاصهم.
v من هم بنو البشر؟ هؤلاء الذين يثقون في ظل جناحي الله. يُدعون “بشرًا” الذين يتهللون كالبهائم بالأمور المادية، أما “بنو البشر” فيفرحون بالرجاء؛ الأولون يشتركون مع البهائم في طلب الخير الحاضر، أما الآخرون فيشتركون مع الملائكة في تطلعهم نحو الخيرات العديدة.
القديس أغسطينوس
- ينبوع الحياة:
“ومن دسم بيتك يسكرون،
ومن وادي نعيمك تسقيهم؛
لأن ينبوع الحياة عندك” [8-9].
في بيت الرب – الكنيسة – ينتعش المؤمنون الحقيقيون بخمر الحب الإلهي؛ يمتلئون فرحًا وبهجة، ويرتوون، فلا يعطشون بعد إلي ينابيع الشهوات الأرضية والملذات الزمنية ومباهج الحياة. يجدون في المخلص سرّ فرحهم الحقيقي وبهجتهم وارتوائهم!
ويشير الحديث هنا إلي التشبيه بضيوف يستقبلهم الله في بيته ليعيشوا كل حياتهم في عيد لا ينقطع، حيث تزخر الموائد اليومية بالدهن الدسم (أي 36: 16؛ مز 63: 5؛ إش 55: 2؛ إر 31: 14). سيُحضر الله شعبه إلي حضنه لينعموا بنهر الوعود، ويدعهم يرتوون من نعمته فلا يعطشوا أبدًا. خارج الله لا توجد قطرة حياة، أما فيه فلا ينقطع نبع الملذات الإلهية.
v السيل هو اسم يخص فيض المياه المتدفق. هذا الفيض هو مراحم الله التي تنبع لكي تُنعش وتروي من يضعون ثقتهم في ظل جناحيه. يا لها من لذة؟! إنه سيل يفيض فيروي العطاش. ما علي الظمآن إلا أن يترجى حتى يشبع ويمتلك الحق… من هو ينبوع الحياة إلا المسيح، الذي جاء إليكم في الجسد لكي يرطب حلقكم الملتهب، هذا الذي أعطانا عربونًا لإرواء الظمآى، يشبع المتكلين عليه إلي الملء[704].
v يوجد رجاء في هذا النعيم؛ فإننا نشعر بالجوع والعطش فنحتاج أن نقتات (نأكل ونشرب). علي أي الأحوال يحل الجوع في الطريق فقط، أما البيت فيفيض بالخيرات. متى نشبع؟ “أشبع عندما يظهر مجدك” (مز 17: 15). أما الآن فمجد إلهنا، مجد مسيحنا، مخفي، ومعه يختبئ مجدنا نحن أيضًا. ولكن “متى أظهر المسيح حياتنا فحينئذ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كو 3: 4). حينئذ تكون الـ “هلليلويا” حقيقية، أما الآن فهي مجرد رجاء[705].
القديس أغسطينوس
v ما هو هذا الينبوع إلا ربنا يسوع المسيح…؟! إنه الينبوع الصالح الذي يعطينا برودة بعد نيران هذه الحياة وحراراتها، وبفيضه يلطف جفاف قلوبنا[706].
الأب قيصريوس أسقف آرل
v الذين يشربون من غنى بيت الله ومجرى مسرته يرتوون، كما يخبرنا النبي (مز 36: 8). بهذه الوسيلة سكر داود ولم يدر بنفسه؛ وإذ كان في دهش عاين ذلك الجمال الإلهي الذي لا يقدر مائت علي معاينته[707].
القديس غريغوريوس أسقف نيصص
v لأن نهر النعيم قد فاض بغنى لأجلنا؛ وينبوع الحياة الذي في المسيح، والذي تحدث عنه أحد الأنبياء بأنه يخصنا: “هأنذا أفيض عليهم كنهر سلام وكسيل يفيض بمجد الأمم”[708].
القديس كيرلس الكبير
- النور:
“بنورك نعاين النور” [9]. يشير هنا إلي الروح القدس واهب الأستنارة.
يقول المرتل: “لأن ينبوع الحياة عندك، وبنورك نعاين النور” يتحدث عن الثالوث القدوس.
الابن هو ينبوع الحياة الذي عند الآب وواحد معه.
الروح القدس هو نور الآب (بنورك) الذي به نعاين الآب والابن (النور)!
لا يستطيع أحد أن ينير نفسه، فالنور كله يصدر عن السماء، من “روح الحق الذي من عند الآب ينبثق” (يو 15: 26). به نرى الابن الكلمة كما نرى الآب، بل وبه نرى حقيقة أنفسنا، إذ ينير بصيرتنا فنكتشف ضعفنا ونشعر بحاجتنا إلي الخلاص، به يضيء لنا “إنارة إنجيل مجد المسيح… لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح” (2 كو 4: 4-6).
v كما هو مكتوب: “بنورك نعاين النور”. أي باستنارة الروح القدس “النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان آت إلي العالم”. فيظهر مجد الابن الوحيد، ويهب معرفة الله للعابدين الحقيقيين[709].
القديس باسيليوس الكبير
v بدون نور الكتاب المقدس نعجز عن رؤية الله، الذي هو النور (1 يو 1: 5)، وعن إدراك عدله المملوء نورًا[710].
الأب مارتيروس
v في ابنك الذي هو النور نعاين نور الروح القدس؛ وذلك كما أظهر لنا الرب نفسه، قائلاً: “إقبلوا الروح القدس” (يو 20: 22)، وفي موضع آخر قيل: “قوة كانت تخرج منه” (لو 6: 19).
لكن من يقدر أن يشك في أن الآب هو نور، عندما نقرأ عن ابنه إنه بهاء النور الأبدي؟ لأنه لمن يكون الابن بهاءًا إلا للآب؟! الذي هو دائمًا مع الآب، ودائمًا ينير، لا ببهاء مخالف بل بذات التألق[711]؟!
القديس أمبروسيوس
v روح الله شراب ونور. لو أنك وجدت ينبوعًا في الظلام، تشعل نورًا حتى يهديك إلي الوصول إليه. لكنك لا تشعل نورًا عند الينبوع المضيء، لنه هو ذته يشرق عليك، ويقودك إلى ذاته. حين تأتي لتشرب أقترب إليه، ولكي تستنير تعال إليه[712].
القديس أغسطينوس
إذ يجد المرتل نفسه واقفًا علي أرض النزاع بين شر الإنسان [1-4] ومراحم الله [5-9] يتحول إلي الصلاة بلجاجة. إنه يطلب من أجل استدامة محبة الله المملؤة حنوًا علي كل الذين يعرفون الله. ويصلي من أجل تمتعهم بالخلاص وسط الضيق حتى لا تطيح بهم رِجل المتكبر الطاغية المتغطرس، ولا تزحزحهم يدَّ الشرير. يطلب أن يعلن الله عدله لمستقيمي القلوب. إننا نحتاج إلي مراحمه التي لا يُنطق بها كما نحتاج إلي عدله الذي به يؤدب الأشرار حتى لا يهلك المستقيمون.
“فأبسط رحمتك علي الذين يعرفونك،
وعدلك علي المستقيمي القلوب.
لا تأتني رجل الكبرياء،
ويَّد الخطاة لا تحركني” [10-11].
يطلب المرتل بسط الرحمة علي الذين يعرفون الله، لأن ما يتمتعون به من “معرفة” لا فضل لهم فيه، إنما هو هبة إلهية من قِبل مراحمه ونعمته السخية المجانية. بسط الرحمة إنما يشير إلي ديمومة التمتع بالمعرفة والنمو فيها؛ فإذا نزعت مراحم الله يرجع
الإنسان إلي جهالته ويفقد نعمة المعرفة.
يطلب المرتل عدل لله للمستقيمي القلوب الذين يخضعون لإرادته الإلهية حتى لا يعوج قلبهم بسبب تجربة ما أو في الفرج. يُكلل المستقيمون بالأكثر وسط الضيقات، إذ لا يكفّوا عن تسبيحه، قائلين مع المرتل المتألم المسبِّح، “أبارك الرب في كل حين؛ تسبحته دائمًا في فمي”.
v “عدلك علي المستقيمي القلوب“…
كما قلت لكم مرارًا إن المستقيمي القلوب هم الذين يخضعون لإرادة الله في هذه الحياة. أحيانًا إرادة الله هي أن تكون بصحة، وأحيانًا أن تكون مريضًا. إن كنت تجد إرادة الله عذبة حين تكون بصحة، ومُرّة حين تكون مريضًا فأنت لست مستقيم القلب. لماذا؟ لأنك لا تريد أن تطابق إرادتك إرادة الله، إنما تود أن تُخضع إرادة الله لإرادتك.
إرادة الله مستقيمة وإرادتك ملتوية؛ يلزم لإرادتك أن تستقيم في خط واحد مع إرادة الله، لا أن تلتوي إرادتك لتناسبك، حينئذ يكون لك القلب المستقيم.
القديس أغسطينوس
إذ رأى المرتل رِجل الكبرياء ويد الأشرار تقتربان إليه، صرخ إلي الله حتى لا يسقط تحت سلطان الشر (الكبرياء) والأشرار، لئلا يتزعزع فيهيم في هذه الحياة بلا هدف.
v [الخوف من رِجل الكبريا].
عندما تتجدد قوى إنسان ما فيصير مثمرًا جدًا بارتشافه من هذا الينبوع، يلزمه أن يحذر لئلا يتكبر. فإن آدم الأول لم يتحصن من هذا الخطر، وإنما علي النقيض جاءته رِجل الكبرياء ويد الأشرار، أي يد الشيطان المتكبرة قد زحزحته… بالكبرياء سقطنا فبلغنا إلي حالة الهلاك المميتة. وحيث جُرحنا من الكبرياء، فالاتضاع هو الذي يشفينا. جاء الله في إتضاع، ليشفي الإنسان من جراحات الكبرياء الدامية.
v خشى المرتل من جذر الخطية ورأسها معًا، عندما صلي قائلاً: “لا تأتيني رجل الكبرياء”.
القديس أغسطينوس
- سقوط الشرير تحت اللعنة:
يختتم المزمور بتأكيد سقوط الأشرار المصرّين علي شرهم تحت اللعنة، فيسقطوا في ذات البقعة التي أرادوا أن يُسقطوا فيها أولاد الله.
“لأن هناك سقط عاملوا الآثم،
دُفعوا فلم يستطيعوا قيامًا [12].
الأشرار يسقطون ولا يقومون، لكن أبواب التوبة تبقى مفتوحة، وكما يقول القديس أغسطينوس:
[إن كنت ساقطًا قم، وإن كنت قائمًا فقف (ثابتًا)، وإن كنت واقفًا فأجلس، وإن كنت جالسًا فقاوم (الشر)[713]].
ما أعظم حنوك
v مراحمك سماوية،
تحول قلبي الحجري إلي سماء مملؤة حبًا!
بِّرك إلي السحاب،
يحملني من الوحل، ويرفعني إلي الأعالي!
v الناس والبهائم تخلصهم يارب،
تتحنن علي نفسي العاقلة،
وتقدس جسدي الحيواني فيصير أشبه بالروحاني!
v في ظل جناحيك أحتمي،
أختفي فيك فلا يقترب العدو إليّ!
تشبعني من دسم بيتك،
فلا أعتاز إلي خبز المرارة!
v ترويني من روحك القدوس، ينبوع الحياة.
وتفيض عليّ بمياهك يا نهر النعيم الأبدي!
v بنورك أعاين النور،
أراك فأستنير وأفرح بك.
أنت هو شمس البر،
تشرق عليّ فلا يقترب إليّ بعد ليل!
تحول حياتي إلي نهار دائم! فأنعم بعربون الأبدية!
v لا تأتني رجْل الكبرياء؛ جذر كل خطية؛
إذ تحل أيها المتضع فيّ!
ويدّ الخطاة لا تحركني،
إذ أنا في قبضة يدك.
v بحنوك العظيم أقمني حين أسقط،
واجتذبني دومًا فنجري جميعًا نحوك!