المقالة الخامسة: 8- المعنى العميق للأحداث

 

 لقد سردنا بإيجاز سريع الأحداث الخاصة بالبطريرك يعقوب ، وقد حرصنا على أن نختصر في حديثنا عن الجانب التاريخي . لكن من الضروري أن نوضح الآن المعنى العميق لهذه الأمور. حسنا ، لا نحتاج إلى جهد مضن لكي نتحقق من خلال هذه الأحداث أن العالم قد انتابه جنون شديد ، لأن المسيح ربح من المؤمنين بعدما انتصر على الشيطان المتوحش[1] . فمثلما رحل يعقوب وقام لابان بإدانته هو وأولاده وتكلموا عليه بكلام سيء ، هكذا عندما شرع المسيح في الرحيل مع عروسه . أي الكنيسة ( الممثلة في التلاميذ ) قال بطريقة روحية – لخاصته : « قوموا ننطلق من ههنا » ( يو 14 :31) . لكن الرحيل لم يكن بطريقة مادية محسوسة ، ولا هم انتقلوا من مكان إلى مكان بطريقة جسدية ( لأنه من غير اللائق أن نعتقد أو نقول مثل هذا القول ) ، لكن تحقيق هذا الأمر ( أي الرحيل عن العالم ) بألا ننشغل بأمور هذا العالم ، بل ننشغل بعمل كل ما يسر الله . لذا قال بولس الطوباوي « لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة » (عب 14:1) ، وأيضا قديس آخر قال : « أطلب إليكم كغرباء ونزلاء أن تمتنعوا عن الشهوات الجسدية التي تحارب النفس » ( 1 بط ۱۱:۲) . يجب علينا أن نسلك كأننا موجودون في السماء[2] بالرغم من أننا نحيا على الأرض ( انظر في 20:3)، ونحرص على أن نحيا بعد الآن لا بطريقة جسدية ، بل بالحري بطريقة روحية كما يليق بالقديسين . ويحثنا في هذا الأمر بولس الطوباوي حين قال « ولا تشاکلوا هذا الدهر . بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم لتختبروا إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة » ( رو ۲:۱۲) . لكن لأننا لا نخضع لهذا العالم ونبتعد عن الضلال ، فإن العالم سيبغضنا . والمخلص العارف بهذا الأمر يقول لنا « إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلکم » ( یو 19:15).

بناء على ذلك قد حكم العالم على المسيح لأنه يُبغض المسيح . لكن الله يُقيد هذا الثور الهائج والقاتل ولا يسمح له أن يؤذينا ، بيد أن كل ما يستطيع أن يفعله هو أن يضايقنا بكلام قاس . وهذا نفهمه من قول الكتاب « وأتى الله إلى لابان الآرامي في حلم الليل . وقال له احترز من أن تكلم يعقوب بخير أو شر » ( تك 24:31) وقد اتهمه لابان ( أي العالم ) بسبب أنه سُلب ونُهب وضاعت آلهته ، إذ أن راحيل كانت قد سرقتها . انتبه إذا ماذا فعل ؟ لقد فتش لابان وبحث عن الآلهة عند ليئة والجاريتين ولم يجدها ، لأن راحيل جلست فوقهما متعللة بأن عليها عادة النساء. وإنني أتساءل ما الذي يشير إليه هذا الكلام ؟ يشير إلى أن تحريم الأصنام نهائيا لم يكن مهمة أضطلع بها مجمع اليهود ، ولا أولئك الذين كانوا عبيداً، بل كانت مهمة راحيل الشابة التي ترمز إلى الكنيسة ، التي اعتبرت الأصنام من أعمال البشر الحقيرة وطبقت عليها ما قاله النبي : « وتنجسون صفائح تماثيل فضتكم المنحوتة وغشاء تمثال ذهبكم المسبوك . تطرحها مثل فرصة حائض . تقول لها اخرجي » ( أش ۲۲:۳۰).

ثم بعد ذلك ، صنع لابان میثاق سلام مع يعقوب منذ ذلك الوقت الذي لم يجد فيه آلهته . وهذا يشير إلى أنه عندما تختفي آلهة العالم سيصير هذا العالم صدیق لنا . وبالفعل صار المسيح أيضا عهد سلام. المسيح الذي هو حجر امتحان حجر عثرة ، حجر الزاوية الكريم ، الذي هو أساس صهيون ، لأنه مكتوب « هاأنذا أؤسس في صهيون حجراً حجر امتحان حجر زاوية كريم أساساً مؤسساً » ( أش 16:28 ، انظر أف 20:2) . هكذا الحجر الذي أخذه يعقوب وأوقفه عمود ( انظر تك 45:31 ) يرمز إلى المسيح . أما الأحجار الأخرى التي تجمعت مكتوب عنها : « وقال يعقوب لإخوته التقطوا حجارة . فأخذوا حجارة وعملوا رجمة وأكلوا هناك على الرجمة » ( تك 46:31 ) ، فهي تشير إلى الرسل القديسين الذين  تبرروا بالإيمان وتقدسوا بالروح واشتركوا في عهد السلام بالمسيح . لأن الكلمة النبوية قالت عن الرسل القديسين : « كحجارة التاج مرفوعة على أرضه » ( زك 16:9) . التلاميذ العظماء جالوا في كل الأرض حاملين بشارة الإنجيل للأمم. وبولس الحكيم قال لأولئك الذين تبرروا بالإيمان : « الذي فيه أنتم أيضا معا مسكنا لله في الروح » ( أف ۱۲:۲).

حسناً ، لقد تجمعت كومة الحجارة ودعيت من قبل لابان « يجر سهدوثا » ( تك 47:31 ) ( أي رجمة الشهادة ) بينما يعقوب نقل رمزية الاسم إلى الأعظم والفائق أي إلى المسيح داعيا كومة الحجارة « جبل الشاهد » ، لأن رأس هؤلاء الرسل الذين آمنوا هو المسيح نفسه. أيضا كون أن المسيح المخلص هو الذي يخلص المؤمنين خاصته ويخرجهم بعيداً عن شر هذا العالم ويحيطهم بجمع الملائكة الذين جعلوا مسئولين عن خدمة هؤلاء المؤمنين ، كل هذا يمكن أن يتعلمه المرء بسهولة من الآتي : عندما رحل لابان راجعا إلى وطنه سالما يقول الكتاب : « أما يعقوب فمضي في طريقه ولاقاه ملائكة الله . وقال يعقوب إذ رآهم هذا جيش الله . فدعا اسم ذلك المكان محنايم » ( تك ۱:۳۲ – ۲ ) . ومكتوب أيضا « ملاك الرب حال حول خائفيه وينجيهم » ( مز 27:34 ) وكذلك« لأنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك » ( مز ۱۱:۹۱)

فاصل

  1.  والقديس يوحنا ذهبي الفم أيضا في عظته عن الصليب ” يقول : “ إذا عرفت بأي طريقة انتصر المسيح ، سوف يصير إعجابك أعظم . فبنفس الأسلحة التي غلب الشيطان بها الإنسان، انتصر المسيح عليه . واسمع كيف ؟ عذراء وخشبة وموت هي رموز هزيمتنا . العذراء كانت حواء ، لأنها لم تكن قد عرفت رجلها . الخشبة كانت الشجرة (التي أوصى الله آدم بألا يأكل منها ) والموت كان عقاب آدم . لكن العذراء والخشبة والموت التي كانت رموزا لهزيمتنا ، صارت رموزا للانتصار . لأن لدينا مريم العذراء بدلاً من حواء ، ولدينا خشبة الصليب بدلاً من شجرة معرفة الخير والشر ، ولدينا موت المسيح بدلاً من موت آدم . هل رأيت ، فالشيطان هزم بنفس انتصر ما قديما ؟! انظر كتاب الصليب ” عظتان للقديس يوحنا ذهبي الفم ، ابريل 2004، العظة الثانية ، ص ۲۸ و ۲۹.
  2. يحثنا القديس يوحنا ذهبي الفم على التمسك بالخيرات السماوية وتحتقر الأرضية ، قائلا : “ ألا تعلم ، لو أنك امتلكت عشرة أضعاف المسكونة ، ومئات الأضعاف ، وآلاف المرات أكثر ، وأضعاف الآلاف ، فإنه لا يُعد شيء أمام جزء يسير من الخيرات السمائية ؟ إذاً فذاك الذي يُعجب بالخيرات الأرضية ، يكون قد احتقر الخيرات السمائية . إن كان حقا يعتبر الخيرات الأرضية مستحقة للاهتمام ، فإنه يبتعد أكثر عن الخيرات السمائية ، أي كيف يمكنه أن ينجذب إليها ، مادام هو منجذب للخيرات الأرضية . فلنمزق ولو متأخراً، الحبال والخيوط التي تقيدنا ، لأن هذه الحبال وهذه الخيوط هي الأمور الأرضية – تفسير الرسالة إلى العبرانيين ، الإصحاح الحادي عشر ، ص ۳۳۲.

فاصل

7- الله يأمر يعقوب بالرجوع

المقالة الخامسة 

9- الاقتداء بالقديسين

البابا كيرلس عمود الدين
تعليقات لامعة على سفر التكوين

 

زر الذهاب إلى الأعلى