تفسير إنجيل متى أصحاح 2 للقمص متى المسكين

حكماء من المشرق البشرية تقدّم عبادتها وخضوعها لله المتجسد عمانوئيل [1:2-12]

بقدر ما اختص الأصحاح الأول في إنجيل ق. متى بتأكيد مسيانية يسوع المولود “لميراث مملكة أبينا داود” على مستوى اليهود، بقدر ما اختص الأصحاح الثاني بالإعلان عن ملوكية يسوع المسيح على مستوى العالم. ولكن إن كان تأكيد مسيانية يسوع المولود هو عمل يتم على طول الزمن، نجد أن إعلان ملوكية يسوع المولود يتم بالفعل في الحاضر المنظور على مستوى العالم وعلى أيدي حكمائه. ولكن هناك أعداء يتربصون بالعبادة وبالملك.

1:2 و2 «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامٍ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ المشرق قدْ جَاءُوا إِلى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي المشرق وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ».

من عادة ق. متى أن يترك تحقيق بعض النقاط الحساسة ويكتفي بأن يمر عليها فيكون هذا هو التحقيق عنده. فهو يذكر هنا أمرين كبيرين في شأن ميلاد المسيح الأول تعيين بيت لحم، والثاني أن ميلاد المسيح تم في زمن حكم هيرودس الكبير، فيذكرهما لماما دون التوقف أو التعليق. إذ يتبادر السؤال بإلحاح، ذلك على ضوء ما جاء عند ق. لوقا ما الذي أتى بالعذراء ويوسف إلى بيت لحم ؟ والسؤال الثاني متى عاش ومتى مات هيرودس؟

وهنا يتدخل العلماء بحذق ومهارة لتعيين زمان ميلاد الرب يسوع المسيح قبل وفاة هيرودس بقليل من الزمن، إذ تحدد تاريخياً أنه مات بعد خسوف القمر الذي حدث قبل هذا الزمن بقليل، والذي رصد أنه كان قبل نهاية شهر مارس أو في بكور إبريل سنة 4 ق.م فيكون الميلاد سنة 4 ق.م أو ربما سنة 5 ق.م. 

والرواية تقول إنه بعد ولادة يسوع المسيح في بيت لحم بقليل جاء هؤلاء الحكماء إلى أورشليم عاصمة اليهود يسألون عن ملك اليهود! المكني عنهم في الإنجيل بالمجوس. ويتساءل العلماء: هل جاءوا من بلاد مادي وفارس أو من بابل؟ كلمة مجوس هي كلمة إيرانية الأصل وقد رصدها العلماء في كتابات هيرودوت كإشارة إلى إحدى قبائل بلاد مادي، وكانوا دارسي فلك ومولعين برصد حركات النجوم وعلاقتها بأحداث الأرض وتأثيرها. وفي نفس الوقت كانوا على درجة عالية من التعبد ويؤمنون بالله الواحد ويمارسون الخير والصلاح ويعقون عن الشر ويؤمنون بالصلاة ويعملون في الزراعة. ويلتقط العلماء سماتهم الوطنية من ملابسهم التي صورهم بها التقليد القديم، فهم فارسيون. ويتفق الآباء كليمندس الإسكندري وديودورس من طرسوس ويوحنا ذهبي الفم وكيرلس الإسكندري في أن المجوس هم حكماء من فارس. ويعتقد البعض أنه منذ سبي اليهود في القرن السادس وتبعثرهم في بابل وما وراءها استوطن بعضهم بلاد مادي وفارس وكان لهم تأثير في ترقب المسيا الملك القادم لليهود، خاصة وأن عبادة فارس كانت توحيدية بالله الواحد مثل اليهود.

أما عددهم فقد قدر بقدر هداياهم الثلاثة ذهباً ولباناً ومُرا (11:2). والحكي في أمرهم كثير وفي أسمائهم ووظائفهم كملوك، وأسمائهم ملخيور وبلتاصار وكاسبار، وأن واحداً من الهند وآخر من مصر والثالث من اليونان. هذه كلها أنواع من حبك القصص للتدليل على عالمية هذه البعثة السلامية الملكية. ويزيد البعض كيف أنهم اعتمدوا على يدق. توما، وعظامهم احتفظت بها الملكة هيلانة وأودعتها كنيسة أجيا صوفيا بالقسطنطينية، ثم نقلت إلى ميلان بإيطاليا، وأخيراً استقرت في كاتدرائية كولونيا. ومن يريد أن يصدق فليصدق؟

«أين هو المولود ملك اليهود؟»:

وبقدر ما أثار ظهورهم في أورشليم من حركة واستطلاع وبقدر إصرارهم على أن لليهود ملكا قد ولد، اشتعلت نار الغيرة في القصر الملكي، لأن هيرودس هو أدومي المولد، فميلاد ملك لليهود يعني تحد لملوكيته الدخيلة على اليهود. هنا استفسار المجوس عن مكان ولادة الملك كان مطلباً هاماً تجشموا من أجله أتعاب رحلة ربما استغرقت منهم شهوراً. وقد تحققوا من صدق دعواهم إذ رأوا وتأكدوا من نجمه الدال عليه، وأصبح من صميم حياتهم أن يقدموا العبادة له لا بصفته ملك اليهود فحسب بل ملك الأمم وعالمهم الذي يعيشون فيه، فهو قطب عبادة وليس قطب حكومة له عليهم حق الألوهة وعليهم حق السجود. ولكن ما هذا النجم وكيف يُعزونه لملك أمة أجنبية عنهم؟ أما النجم فهو نجم أو مجموعة كواكب. وضوؤه ذو لمعان فريد بين نجوم السماء كلها فهو لا يشابهها. ومعروف ضمناً أن كوكب جوبيتر (برجيس) وهو اسم إله عند الرومان يرافق ميلاد الملوك، فإذا اجتمع جوبيتر مع ساتورن (زُحل) في برج السمكة ظهر شبه مذئب له ذيل شديد اللمعان يقترب من الأرض وهو يشير إلى تحقيق رجاء عالمي، ويمكن رؤيته بالعين المجردة. ولكن المدهش أنه يمكن رصده بالقلب إذ يوجد علاقة بينه وبين قلب الإنسان، هكذا يدعي المنجمون، لذلك يمكن تحرك النجم مع تحرك الإنسان بالإحساس ويؤكد أصحاب هذا العلم أنه لا يضلل الإنسان العالم.

ولكن لم يصرح هؤلاء العرافون بالنجم ما هو موضوعه الذي رصدوه أكثر من أنهم أدركوا صلته بميلاد ملك لليهود تمتد ملوكيته لتطالهم. وقولهم رأينا نجمه في المشرق يعني رصدوا شروقه.

والإنسان يستطيع أن يقول في ذلك شيئاً واحداً ، إن الله نفسه الهمهم هذه المعرفة التي صارت عندهم مؤكدة (ويقول بهذا ذهبي الفم) لدرجة العبادة ليكونوا شهوداً ضد اليهود.

وهناك كذلك الشاهد الغريب العجيب الذي يُدعى بلعام بن بعور الذي تنبأ عن هذا النجم وتكلم عن صاحبه منذ أكثر من 1400 سنة، وكان كلامه هو نطق من الله قاله وهو لا يدري ما يقوله. ويقول الكتاب إن بلعام من بين النهرين من أرام بلد إبراهيم من جبل المشرق، ويبدو أنه أيضاً من العرافين بالفلك والنجوم وقد قابله ملاك الله وكلمه قائلاً: «وإنما تتكلم بالكلام الذي أكلمك به فقط» (عد (35:22)، فوضع الرب كلاماً في فم بلعام ( عد (38:22) ، فلما راوضه بالاق ملك أرام لكي يلعن إسرائيل رد عليه: “من أرام أتى بي بالاق ملك مواب من جبال المشرق، تعال العن لي يعقوب وهلم اشتم إسرائيل. كيف ألعن من لم يلعنه الله وكيف أشتم من لم يشتمه الرب … لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن أخرتي كاخرتهم” (عد 23: 7-10) “فأجاب وقال: أما الذي يضعه الرب في فمي أحترص أن أتكلم به” (عد 12:23)، “ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهباً لا أقدر أن أتجاوز قول الرب لأعمل خيراً أو شرا من نفسي الذي يتكلمه الرب إياه أتكلم.” (عد 13:24)

ثم أخذ بلعام وهو في حالة شبه غيبوبة ينطق بأهم نبوة قيلت عن المسيح وعن نجمه من فم أممي هكذا :
+ “وحي بلعام بن بعور، وحي الرجل المفتوح العينين، وحي الذي يسمع أقوال الله ويعرف
معرفة العلي، الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينين أراه ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريباً. يبرز (يُشرق) كوكب من يعقوب ويقوم قضيب (ملك) من إسرائيل، فيحطم طرفي مواب ( عدوة إسرائيل) ويهلك كل بني الوغا.” (عد 24: 15-17)

إذن فما رآه المجوس وهم غالباً بلديات بلعام وزملاء مهنة ورؤيا وعلم فلك ومعرفة القدير، هو تحقيق لما ه بلعام منذ 1400 سنة !! وواضح أن الله هو العامل في هذا وفي هؤلاء والآية الفريدة التي جذبت أنظار ق. متى هي بلا نزاع: «وأتينا لنسجد له»!

3:2 «فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ».

كانت العلاقات بين هيرودس واليهود ليست حسنة، وكانت له عيون وآذان تتسمع أخبار الشعب وميوله لمعادية، وأخيراً وصلت أخبار هؤلاء الحكماء وموضوع ميلاد ملك لليهود له في السماء نجم لامع كشف عن أهميته بل وخطورته على ملكه. هذا كان مصدر اضطراب الملك، ولا نعلم لماذا اضطربت ورشليم أيضاً؟ ومع اضطراب الملك بدأت الفكرة في القضاء على المولود، فالملوك لا يهادنون. وربما حس ولاة أورشليم ورؤساء الكهنة بغضب الملك فاستعدوا للنقمة.

«هيرودس الملك»:

كان أنطيوخس الرابع إبيفانس قد طوق أورشليم وقتل منها الألوف وباع عشرات الألوف سنة 168 ق.م وصمم على القضاء على عبادة اليهود من الأساس، وأغاظهم حتى الموت إذ قدَّم الخنازير ذبائح على مذبحهم بدل المحرقات المقدّسة داخل الهيكل، والتي قال عنها دانيال وأسماها «رجسة الخراب وحطم مقدساتهم وأحرق ومزق كتبهم ومخطوطاتهم. ولم ينقذ البلاد من نقمته إلا كاهن بسيط بدأ حركة الثورة عندما ذبح مقدم الخنازير مع خنازيره وقاد الثورة يهوذا المكابي ابنه من بعده واستطاع أن يطهر الهيكل ويعيد إليه صلواته وذبائحه وطقوسه، وتعين ذلك عيداً جديداً لليهود وأسموه عيد “حانوكاه” أي عيد لتجديد، وهو مذكور في إنجيل ق. يوحنا (22:10). وظلت الثورة المكابية مشتعلة حتى تدخلت روما سنة 40 ق.م وعينت هيرودس الكبير – وهو من أصل أدومي مع نسب يهودي، أبوه أدومي وأمه نباطية – ملكاً على البلاد بالسيف رغماً عن اليهود. ولد هيرودس سنة 74 ق.م ومات سنة 4 ق.م وكان مكرماً ومعززاً عند الرومان. وكان معمارياً محنكا بنى المسارح والملاعب وبنى قصراً كبيراً في الغرب من أورشليم أبراجه الثلاثة العالية ذات الأسماء (هبيكس Hippicus ، فازائيل Phasael ، ومريمن Mariamane). وقد حاول اليهود اغتياله ولكن فشلت المؤامرة فنكل بهم. ومن أفضاله على اليهود إعادة بناء الهيكل وتجميله وهو المدعو بـ الهيكل الثاني ” أو “هيكل زربابل ” الذي كان قد بدئ ببنائه سابقاً سنة 519 ق.م، وقد بدأ هيرودس إعادة بنائه سنة 19 ق.م وظل البناء بعد وفاته بمدة طويلة. هذا هو هيرودس الكبير، وتاريخه يكشف لماذا اضطرب لسماع الحكماء القائلين أين المولود ملك اليهود؟ وفي الحال استخدم هيرودس خططه للقتل الجماعي، ولكن مختفياً في «لكي آتي أنا أيضاً وأسجد له.» (8:2)

6-4:2 «فَجَمَعَ كُلَّ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَكَتَبَةِ الشَّعْبِ، وَسَأَلَهُمْ أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ؟ فَقَالُوا لَهُ: فِي بَيْتِ لحم اليَهُودِيَّة. لأنه هكذا مكتوب بالنَّبيِّ: وَأنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يهوذا لستِ الصَّعْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهوذا، لأن مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إسرائيل».

والإنسان يتعجب من معرفة رؤساء الكهنة والكتبة بأن المسيح يولد في بيت لحم بتأكيد قول النبي في القديم. وقد ولد المسيح وهم لا يدرون وليس ميخا النبي وحده (مي 2:5) هو الذي عين أين يولد المسيح بل في (1صم 16: 4-13) لما عين الرب داود “مسيح الرب” في بيت لحم دعا صموئيل وقال له: اذهب وامسحه ففعل صموئيل كما تكلم الرب وجاء إلى بيت لحم (وكانت قرية صغيرة للغاية) فارتعد شيوخ المدينة عند استقباله وقالوا أسلام مجيئك ؟ فقال سلام … وقدس يسى وبنيه ودعاهم إلى الذبيحة. وكان لما جاءوا أنه رأى (الابن البكر) ألياب فقال (صموئيل بسؤال): إن أمام الرب مسيحه ؟ فقال الرب لصموئيل: لا تنظر إلى منظره وطول قامته لأني قد رفضته … الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب … وعبر يسى بنيه السبعة أمام صموئيل فقال صموئيل ليسى: الرب لم يختر هؤلاء. وقال صموئيل ليسي هل كملوا الغلمان؟ فقال: بقي بعد الصغير وهوذا يرعى الغنم …. إرسل وأت به … فقال الرب قم امسحه لأن هذا هو … وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعداً ومعروف أن داود كان النموذج للمسيا في كل شيء سواء في ميلاده في بيت لحم، أو «حسب قلب الله» (1صم 14:13) أو أنه مسيح الرب (1صم 13:16)، (مز2: 2)، (إش 1:61) وما قيل لداود من جميع الأسباط هو الذي تحقق بالفعل في الرب يسوع:

+ “وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود إلى حبرون وتكلموا قائلين: هوذا عظمك ولحمك نحن. ومنذ أمس وما قبله حين كان شاول ملكاً علينا قد كنت أنت تخرج وتدخل إسرائيل، وقد قال لك الرب أنت ترعى شعبي إسرائيل وأنت تكون رئيساً على إسرائيل … ومسحوا داود ملكاً على إسرائيل.” (2صم 5: 1-3)

وقد اقتبس رؤساء الكهنة والكتبة آية (2صم 2:5) “يرعى شعبي إسرائيل” وأضافوها على أية ميخا النبي (2:5): «أما أنت يا بيت لحم أفراتة وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا فمنك يخرج مدبر (مي 2:5) يرعى شعبي إسرائيل» (2صم 2:5 » إلى هذا الحد كان الوعي بالنبوات التي تخص المسيا في فم رؤساء الكهنة والكتبة، بمعنى أن لا هيرودس ولا رؤساء الكهنة والكتبة شكوا في قول النبوات التي ذكرناها أنها تخص المسيح شخصياً ! فكيف انعمت عيونهم وانسدت قلوبهم لما جاء ولم يعرفوه؟

7:2 «حِينَئِذٍ دَعَا هِيرُودُسُ الْمَجُوسَ سِرًّا، وَتَحَقَّقَ مِنْهُمْ زَمَانَ النَّجْمِ الَّذِي ظَهَرَ».

هذا الاجتماع السري وما نوقش فيه بخصوص زمان ظهور النجم أي زمان ميلاد ملك اليهود يكشف النية السوداء التي أكملها في أطفال بيت لحم. ولينتبه القارئ لسوء نية الملك فهو لم يسأل متى ولد هذا الملك الذي جئتم لعبادته، بل مجرد سؤال عن ظهور النجم، وأخفى مراده عنهم حتى يقتله. والآن إذ عرف مكان ولادته وزمانها أصبح قادراً أن يحصر عمر الصبي. ولكن كانت عين السماء مفتوحة سهرانة على الابن الوحيد المحبوب قام ملوك الأرض وتأمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه قائلين: لنقطع قيودهما ولنطرح عنا ربطهما الساكن في السموات يضحك، الرب يستهزئ بهم أما أنا فقد مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي» (مز 2: 2-6). وفي الحال تشكلت لجنة من بين الملائكة لتسرب الطفل إلى مصر والسهر عليه هناك.

8:2 «ثُمَّ أَرْسَلَهُمْ إلى بَيْتِ لَحْمٍ، وَقَالَ: ادْهَبُوا وَالْحَصُوا بِالتَّدْقِيق عَنْ الصَّبِيِّ. وَمَتَى وَجَدْتُمُوهُ فَأَخْبِرُونِي، لِكَيْ آتِي أَنَا أَيْضاً وَأَسْجُدَ لَهُ».

وهكذا ظن الملك القاتل أنه استطاع أن يجنّد الحكماء ليعملوا على تسهيل مهمة اغتيال هذا الملك الغريم. ولكن كان الحكماء أوعى، وكانت مسيرتهم تحت قيادة سماوية، وتم فيها ما تم في بلعام زميلهم العتيق: “فنطق بمثله وقال: من آرام أتى بي بالاق ملك مواب من جبال المشرق تعال العن لي يعقوب وهلم اشتم إسرائيل. كيف ألعن من لم يلعنه الله وكيف أشتم من لم يشتمه الرب …» (عد 23: 7 و 8). ولكن هنا أتى بهم هيرودس ليدبروا له مقتلاً لمن جاءوا ليقدموا له عبادة وسجوداً !

9:2 «فَلَمَّا سَمِعُوا مِنَ الْمَلِكِ ذَهَبُوا. وَإِذا النَّجْمُ الَّذِي رَأَوْهُ فِي الْمَشْرِقِ يَتَقَدَّمُهُمْ حَتَّى جَاءَ وَوَقَفَ فَوْقُ، حَيْثُ كَانَ الصَّبِيُّ».

واضح أن النجم المعهود لا يُرى إلا بالليل، فلما أسدل الليل ستار الظلمة ظهر النجم لهم، وكما قلنا إنهم ساروا بالتوجيه يستلهمون من النجم المسار بنوع الإيحاء الفائق للطبيعة حتى أحسوا أنهم بلغوا القصد، فتوقفوا حيث كان الصبي مع أمه. هكذا يرى مثل ما نرى العالم ريدربوس وكذلك العالم لنسكي. ويبدو لنا أن حركة المجوس كان يتحكم فيها التوجيه الإلهي على رؤية سماوية منظورة.

10:2 و 11 «فلما رَأَوُا النَّجْمَ فَرِحُوا فَرَحاً عَظِيماً جدًا. وَأَتَوْا إِلَى الْبَيْتِ، وَرَأَوُا الصَّبِيَّ مَعَ مَرْيَمَ أُمِّهِ. فَخَرُّوا وَسَجَدُوا لَهُ. ثُمَّ فَتَحُوا كُنُوزَهُمْ وَقَدَّمُوا لَهُ هَدَايَا: ذَهَبا وَلَبَانًا وَمُرَّا».

يبدو أنه كان قد غاب عنهم النجم مدة رحلتهم في أورشليم، فلما جاء الليل ورأوه فرحوا فرحاً عظيماً جدا، لأنهم شعروا بنجاح رحلتهم وصدق رؤيتهم وعلمهم وحساباتهم. فأدركوا عناية الله لهم واطمأنوا إلى مَنْ سيعبدونه وهكذا بمجرد أن رأوا الصبي في حجر أمه خروا إلى الأرض وسجدوا سجود العبادة والشكر على نجاح مقصدهم الإلهي. وهنا برز هذا المنظر المثير يملأ خيال الرسامين والفنانين ليأخذوا لهؤلاء المجوس مئات الأوضاع التعبيرية مع الاندهاش والفرح الذي جعلوه يملأ وجوههم لينطبع على كل قلب وعين وروح، كل من يتأمل فنونهم بلا حصر رسماً وتمثيلاً. وهكذا صارت وقفة الحكماء الثلاثة هي التعبير الفني الجيد لمفهوم ميلاد بيت لحم. فعن ق. متى رسم الفنانون المجوس على فم المغارة، وعن ق. لوقا رسم الفنانون الطفل مضجعاً في المذود، وحمار يُسر في أذنه بمدى ما يتحمله من العناء والأتعاب هو وبقية زملائه ويطلب سرعة افتقادهم. أو يرسمون الطفل في حجر أمه والرعاة مجتمعون حوله يؤدون الخضوع والتحية والشكر للذي أتى ليريحهم من عناء السهر على ذبائح الهيكل إذ سيختم على عصرهم بذبيحة نفسه!

ويلاحظ القارئ أنه أينما ذكر الطفل مع أمه يذكر الطفل أولاً: «الصبي مع أمه فقد ولد ليكون أولا ! وبعد أن سجدوا وقدموا العبادة التي طالما حلموا بها وترجوها وتحملوا مشقة السفر شهوراً – ربما ألف ميل كما يقول هندركسن (صفحة 174) – ليفوزوا بها ارتاحت قلوبهم وبدأوا يقدمون هداياهم:
أما الذهب فهو تعبير عن ملوكية ولد لها، وأما اللبان فهو البخور الذي يليق به ككاهن أعظم، وأمَّا المُر
فهو نبوة عن آلامه المزمعة أن تكون والتي بها يتوج ملكا على كل الأرض.

وهنا لا نغفل نبوة إشعياء النبي: تغطيك كثرة الجمال (قوافل آتية من بعيد) بكران مديان وعيفة كلها تأتي من شبا تحمل ذهباً ولباناً وتبشر بتسابيح الرب (إش 6:60). كما لا نغفل قول المزمور 72 الذي يُقرأ في ليلة عيد الميلاد: «ملوك ترشيش والجزائر يُرسلون تقدمة ملوك شبا وسبا يقدمون هدية. ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له … ويعيش ويُعطيه من ذهب شبا » (مز 72: 10-15)

12:2 «ثُمَّ إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِمْ فِي حُلم أنْ لا يَرْجِعُوا إِلى هِيرُودُسَ، انْصَرَفُوا فِي طريق أخرى إلى كُورَتِهِمْ».

هنا يظهر العامل الأساسي الذي كانوا يتحركون وفق مشورته، فقد جاءوا بحسب ما أوحي إليهم وعادوا بحسب ما أوحي إليهم، وكانت رحلتهم بتدبير متقن كمندوبين فوق العادة ليحيوا مسيا ويعبدوه، العتيد أن يكون نوراً لهم ولكل الأمم. فإن كانت ملكة التيمن قد جاءت من أطراف الأرض لتسمع حكمة سليمان، فها هم حكماء المشرق جاءوا ليروا من هو أعظم من سليمان. فكانت زيارتهم للمولود ملك اليهود دينونة لليهود الذين ولد لهم ملكا فما كرموه ولا رضوا به أن يملك عليهم.

أما استخدام السماء للأحلام لتوصيل الرسالة من فوق فهو استخدام حالة اللاوعي لكي يصب فيه الله ما يراه بالنسبة لمنفعة الإنسان، حينما يصعب الاتصال بالرؤيا في الوعي أو الإيحاء للعقل والأحلام استخدمت في إنجيل ق. متى كوسيلة صالحة. فيوسف وقع تحتها ثلاث مرات، وها هم الحكماء تلقوا الإنذار في حلم حفاظاً على حياة الصبي دون أن يدركوا ذلك. والقديس متى يذكر حلم امرأة بيلاطس « إياك وذلك البار.» (مت 19:27)

الهروب إلى مصر [13:2-15]

13:2 «وَبَعْدَ مَا انْصَرَفُوا ، إِذا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لِيُوسُفَ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: قُمْ وَحْذِ الصَّبِيَّ وَأَمَّهُ وَاهْرُبْ إِلى مِصْرَ، وَكُنْ هُناكَ حَتَّى أقول لك. لأَنَّ هِيرُودُسَ مُرْمِعُ أنْ يَطلُبَ الصَّبِيَّ لِيُهْلِكَهُ».

لم تكن مصر غريبة على اليهود فهي وطنهم الثاني بعد كنعان، وقد عاشوا فيها كشعب متحد ونموا وتعلموا وتهدبوا بكل حكمة المصريين، وأخذوا عنهم حضارتهم وأسلوب حياتهم. وكان بمصر جالية يهودية أيام المسيح قدرها فيلو سنة 40م بنحو مليون يهودي متركزين في بابلون مصر القديمة والإسكندرية وجزء في صعيد مصر.

ولابد من أن عين ق. متى كانت على الخط الموازي لهروب بني يعقوب ومن قبلهم إبراهيم من كنعان إلى مصر إثر المجاعة الشديدة، وعلى موسى الذي هرب من مصر خوفا من بطش فرعون وتغربه في أرض مديان عند حميه إلى أن جاء الصوت من الله أن يعود إلى مصر لأن الذين كانوا يطلبون نفسه قد ماتوا، وهي نفس الجملة التي دونها ق . متى عند إعطاء الإشارة بعودة العائلة المقدسة من مصر إلى أرض إسرائيل بعد ما مات هيرودس. وهكذا تم الصوت الأول والثاني: من مصر دعوت ابني إسرائيل أولاً كامة وكابن أحبه الله لما كان صغيراً، ويسوع إسرائيل الأعظم لما كان رضيعاً.

كان اضطهاد فرعون الأخير الذي لم يكن يعرف يوسف لأطفال بني إسرائيل وقتلهم نبوة على الواقع والتاريخ لاضطهاد هيرودس – الذي لم يكن يعرف يوسف – ليسوع “إسرائيل الجديد ” وقتله مع أطفال شعبه الأولى محنة الشعب العتيق تحت يد فرعون مصر ونجا على يد موسى، والثانية محنة الشعب الجديد (الكنيسة) تحت يد هيرودس ونجا على يد يوسف.

وحينما قال هوشع النبي: “من مصر دعوت ابني” (هو 1:11) كانت تاريخاً عن حدث مضى، وبحد ذاتها كانت أيضاً نبوة عما هو آت فهوشع طرح مقولته لتجمع تاريخ إسرائيل كله قديمه وجديده. فإسرائيل الذي كان هو الابن البكر لما كان صغيراً، عاد وأخذ صورته الأعظم بنوة والأكثر حبا، وكما ناداه في البداية ليخرج من الأسر ، ناداه في النهاية لينادي بالخلاص.

14:2 «فقامَ وَأخذ الصبي وأمَّهُ لَيْلاً وَانْصَرَفَ إِلَى مِصْرَ».

هنا الاعتماد الكلي على طاعة يوسف دون تفكير أو مناقشة هو الذي أعطى الله أن يغطي مخاطر الرحلة وصعوبتها. ولا شك أن الذهب الذي قدم هدية رمزية للمولود ملك اليهود قد أفاد في مصاريف الرحلة الباهظة. أما الرحلة إلى مصر وتواجدهم في مصر فقد قامت عليها القصص وتحديد المواضع التقليدية التي عبرت عليها الرحلة وأقامت فيها عشرات البلاد والمواضع من شمال مصر إلى جنوبها. ولم يسجل منها المؤرخون إلا مدينة المطرية بجوار المدينة العتيقة المسماة ليونتوبوليس وقد ذكرها العالم الألماني باولس. أما في تقليد الكنيسة القبطية فمعروف أن العائلة المقدسة مرت بوادي النطرون (مع أنه لم يكن قد ظهر للوجود كمكان سكنه الرهبان)، وعاشت في بابلون الدرك وهذا معقول للغاية لأن الجالية اليهودية كانت تتمركز هناك، ونزلت إلى قسقام وجبل الطير وأسيوط ومدن أخرى وأماكن لا حصر لها . أما في المطرية فلا يزال هناك أثر الإقامة شجرة عتيقة محاطة بسياج وهي مزار. وعلى أي حال فقد تباركت مصر بنزول الطفل يسوع في حضن أمه وبقيادة يوسف البار. وكما نزل يوسف بن يعقوب إلى مصر واختزن القمح لإحياء العالم الجائع، نزل الخبز الحي النازل من السماء ليتغرب في مصر لتحفظ حياته من يد الناقمين حتى يضمن الحياة للعالم.

كما كان دعاء الكرمة الذي قاله داود بالروح على إسرائيل: “كرمة من مصر نقلت … يا إله الجنود ارجعن اطلع من السماء وانظر وتعهد هذه الكرمة والغرس الذي غرسته يمينك و الابن الذي اخترته لنفسك” (مز 80: 8 و 14 و 15) ، هذا الدعاء بالمزمور الذي طال الابن كونه هو “الكرمة الحقيقية” كان النزول إلى مصر تحقيقا له. كما كان نزول الحمل الحقيقي: “فصحنا المسيح قد ذبح” (1كو 7:5) إلى مصر تزكية للفصح الأول الذي ذبح في مصر، “مصر حيث طلب ربنا أيضاً” (رؤ 8:11)

15:2 «وَكَانَ هُناكَ إِلَى وَفَاةِ هِيرُودُسَ. لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ القَائِل : مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي».

هذه النبوة قالها هوشع النبي متخذا من عودة إسرائيل من مصر مصدرا للتعبير المسياني لدعوة المسيح الابن الوحيد من مصر، كنقلة مسيانية تكشف وتنطبق على صورتها الأولى لإسرائيل في بداية ميلاده كشعب تغرب وهو صغير “لما كان إسرائيل غلاماً أحببته ومن مصر دعوت ابني” (هو 1:11). هوشع هنا ليس مشغولاً بالتاريخ القديم بل يتكلم عن مسيا القادم وتغربه في مصر!! معتبراً إسرائيل وخروجه من مصر مثالاً لخروج الابن الوحيد المحبوب بعد تغربه في مصر. كان ميلاد المسيح قبل وفاة هيرودس بقليل ربما بشهور ، ونزوله إلى مصر وهو لا يزال في المهد على صدر أمه بعد زيارة المجوس مباشرة. وبقاؤه بمصر لم يدم كثيراً لأن هيرودس مات بعد ذلك بقليل.

قتل أطفال بيت لحم
البشرية تقدم جحودها من نحو الله المنعم
[18-16:2]

16:2 “حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا بِهِ غَضِبَ جِدًا، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصَّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا، مِن ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونَ، بِحَسَبِ الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ”.

في الحقيقة قد رد المجوس سخرية هيرودس لهم، فحينما أمرهم أن يردُّوا عليه كان أكثر من ساخر. لقد أحس المجوس وهم يسيرون بهدى نجم الله وحكمته أن الرجل لم يكن جاداً فيما يقول، لذلك جاء الحلم محققا لما ظنوه فهربوا من أمام وجهه. والذي يتعجب له أن هيرودس المدعي العبادة لم يُدرك أن فوق العالي عاليا، وأن هناك يدا عليا تؤدّب وتحنو. فإن كان هيرودس قد فقد إحساسه الآدمي بالنسبة للأطفال الصغار فما عاد يستحق أن يعيش، بل الأفضل أن يعلق في عنقه حجر رحى ويُلقى في البحر !!

ويبدو لنا أن عمل هيرودس الفظيع في قتل أطفال بيت لحم الذكور هو المقابل لقتل فرعون الذكور من شعب إسرائيل بلا رحمة حتى يفني الشعب فناءً بطيئاً. فالنية السيئة واحدة والتنفيذ الإجرامي مطابق. وكان الخوف على موسى وهو في المهد رضيعاً من سيف فرعون هو نفس الخوف على يسوع الطفل من سيف هيرودس.

وبحسابات العالم هاندركسن مستخدماً تواريخ يوسيفوس وبناء الهيكل وعمر المسيح عند بدء الخدمة، انتهى إلى الحقيقة أن المسيح ولد في ديسمبر سنة 5 ق.م، ولا نستطيع أن نعطي فرصة للخطأ أكثر من سنة واحدة. وق. متى يعطينا انطباعاً أن قتل أطفال بيت لحم كان قبل موت هيرودس بقليل، ويحدد هذا التاريخ بشهر إبريل سنة 4 ق.م، وهكذا لا يزيد الفرق في التحديد أكثر من شهور، ولكن من الصعب بلوغ اليقين. والمعروف عن هيرودس أنه كان محترفا القتل ولم يتورع عن قتل أولاده عندما أحس أنهم ينازعونه في العرش.

17:2 و18 «حِينَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِإِرْمِيَا النَّبيِّ القائل: صَوْتُ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ، نَوْحٌ وَبُكَاءً وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلى أَوْلادِهَا وَلا تُريدُ أنْ تَتَعَزَّى ، لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بموجودين».

في العهد القديم كانت الرامة (الآن الرام) واقعة في الحدود بين مملكة إسرائيل ومملكة يهوذا [انظر (1مل 17:15)، (2أي 16: 1] وكانت على بعد خمسة أميال من شمال أورشليم وبسبب موقعها هذا كانت تمثل كلا المملكتين.

وبخصوص يعقوب وزوجته المحبوبة راحيل ( راشيل) التي كانت قد ولدت يوسف أبا افرايم ومنسى فكانت تمثل إسرائيل مملكة العشرة أسباط التي كانت للاختصار تسمى افرايم، كذلك فهي ولدت بنيامين أخا يوسف وكانت بسبب ذلك تمثل اليهودية مملكة السبطين يهوذا وبنيامين.

وراحيل هنا في (إر 15:31) يصوّرها النبي وكأنها مازالت حية تعيش وتراقب الجماعة البائسة من الشعب التي جمعت في الرامة تمهيداً لنقلهم إلى السبي. وبينما هي تسمع صراخهم وعويلهم صورها إرميا أنها أخذت تنوح على أولادها من كلا المملكتين. وكانت تنوح بمرارة لأن أولادها – بمعنى نسلها – من المملكتين سينتزعان من حضنها مجرد تمثيل وبعدها لا يوجدون إذ يُرحلون للأسر وهم الجماعة الأولى من إسرائيل الذين رحلوا :

+ “وصعد ملك أشور على كل الأرض وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين، وفي السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك أشور السامرة وسبى إسرائيل إلى أشور، وأسكنهم في حلح وخابور نهر جوزان وفي مدن مادي.” (2مل 17: 5و6)

وبعدها جاء دور يهوذا:

+ «حتى أن جميع رؤساء الكهنة والشعب أكثروا الخيانة … ونجسوا بيت الرب الذي قدسه في أورشليم. فأرسل الرب إله آبائهم إليهم عن يد رسله مبكراً ومرسلاً، لأنه شفق على شعبه وعلى مسكنه فكانوا يهزأون برسل الله ورذلوا كلامه وتهاونوا بأنبيائه، حتى ثار غضب الرب على شعبه (يهوذا) حتى لم يكن شفاء، فأصعد عليهم ملك الكلدانيين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم، ولم يشفق على فتى أو عذراء ولا على شيخ أو أشيب، بل دفع الجميع ليده … وأحرقوا بيت الله وهدموا سور أورشليم وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل فكانوا له ولبنيه عبيداً لإكمال سبعين سنة .» (2أي 36: 14-21)

وعلى هؤلاء وهؤلاء تصوّر إرميا النبي نواح راحيل زوجة يعقوب وكأنها تعيش وهي تنتحب على نسلها لأنها كانت عاقراً تطلب نسلاً هب لي بنين وإلا فأنا أموت (تك 1:30) فأخذت البنين وأخذت الأجيال وأجيال الأجيال، وأخيراً لزعوا جميعاً من حضنها إلى السبي، إلى أشور أولاً وثانياً إلى بابل. صورة حزينة يعتصر لها القلب اعتصاراً !!

والآن يأتي ق. متى ليصوّر نحيب راحيل على أولادها الذين ليسوا بموجودين على ذبح أطفال بيت لحم من ابن سنتين فما دون ولكن ليس بعد يد ملك أشور أو ملك بابل بل هيرودس الأدومي. أما الطفل الذي ركز عليه هذا السفاح فقد نجا وفرَّ إلى السبي بإرادته لينجي العالم بعد ذلك بموته!! فكان دائماً صديق التعابي: تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم (مت 28:11)، وحبيب الأطفال “دعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (مت 14:19). وما من حبيب مثل حبيبي !

العودة من مصر والسكنى في الناصرة [19:2-23]

21-19:2 «فلما مَاتَ هِيرُودُسُ ، إِذا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ فِي حُلم لِيُوسُفَ فِي مِصْرَ قَائِلاً: قم وخذ الصَّبِيَّ وَأمَّهُ وَاذْهَبْ إِلى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، لأنَّهُ قَدْ مَاتَ الَّذِينَ كَانُوا يطلبون نفس الصبي. فقام وأخذ الصَّبِيَّ وَأمَّهُ وَجَاءَ إِلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ».

كانت طاعة يوسف لأمر الملاك حاضرة دائماً ، فقام وأخذ الصبي وأمه وعاد إلى أرض إسرائيل. ولابد أن الرحلة كانت ميسرة بعناية القدير. وكانت النية مبيتة أن يستقروا في بيت لحم لقربها من أورشليم ووجود المعارف والأصدقاء. علماً بأن ق. متى لم يذكر أن إقامتهم السابقة على بيت لحم كانت في الناصرة لأنه لم يذكر من أمر الاكتتاب شيئاً. ولكن عند وصوله إلى أرض إسرائيل واقترابه من بيت لحم علم أن أرخيلاوس يملك على اليهودية عوض هيرودس أبيه فخاف.

22:2 و 23 ولكن لمَّا سَمِعَ أَنَّ أَرْخِيلاوُسَ يَمْلِكُ عَلَى الْيَهُودِيَّةِ عِوَضًا عَنْ هِيرُودُسَ أبيهِ، خَافَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى هُناكَ. وَإِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ فِي حُلم، انْصَرَفَ إِلَى نواحي الجَلِيل. وأتَى وَسَكَنَ فِي مَدِينَةٍ يُقالُ لَهَا نَاصِرَةُ، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بالأنبياء: إنه سَيُدْعَى نَاصِريًا.

ومعروف أنه بموت هيرودس تعين ثلاثة من أولاده خلفا له الأول هيرودس أنتيباس من مالتيس Malthace رئيس ربع (تترارخ tetrarch) على الجليل وبيرية، والابن الآخر أرخيلاوس من نفس المرأة على اليهودية والسامرة وأدومية برتبة إثنارخ ثم صار ملكا، وفيلبس ابن كليوباترا (من أورشليم وهي غير كليوباترا مصر) رئيس ربع على المناطق الشمالية إيطورية وتراخونيتس وجولانيتس وأورانيتس وباتانيا، وكانت أعظم هذه الرتب هي رتبة “ملك”. أما ما دون الملك من سلطان وكرامة فكان يُدعى إثنارخ أو تترارخ.

فلما سمع يوسف أن أرخيلاوس قد ورث استبداد أبيه وقد تولى على اليهودية خاف أن يسكن هناك. والسبب المباشر هو بسبب أن هيرودس قبل موته أمر بأن يُرفع تمثال على هيئة نسر وهو إشارة الامبراطورية الرومانية التي يحملها العساكر والضباط أيضاً، والنسر مؤله عند الرومان وهو رجس عند اليهود، ووضع النسر فوق جناح الهيكل، ولكن اليهود الشبان الغيورين من تلاميذ رابي ماتياس ورابي يهوذا تسلقوا الهيكل وأسقطوا النسر وقطعوه قطعاً. فقبضوا عليهم وأحضروهم أمام هيرودس فنگل بمعلميهم ودفنهم بمحقرة. فلما مات هيرودس قام اليهود بثورة في أورشليم للانتقام من موت يهوذا وماتياس إذ كانا من الناموسيين، فانبرى لهم أرخيلاوس وقد ورث عنف أبيه فقتل من الثوار ثلاثة آلاف شخص كان من بينهم كثير من اليهود الحجاج الآتين من الشتات للعيد. ولم يطق سكان اليهودية والسامرة فقدموا شكوى لروما حقق فيها وأسقط أرخيلاوس، وحل محله حكام وولاة رومانيون كان منهم بيلاطس البنطي الذي قضى لليهود بقتل المسيح.

هذه القسوة هي التي جعلت يوسف يخاف أن يدخل اليهودية وانطلق حسب أمر الملاك إلى أرض الجليل إلى مدينة الناصرة التي يقول ق. لوقا إنها كانت وطنا لمريم العذراء ويوسف قبل الاكتتاب.

وهكذا عاد يوسف ومعه الطفل وأمه إلى الناصرة وهي وطنهم السابق (لو 4:2) ، وبسبب ذهاب المسيح إلى الناصرة لأول مرة أخذ لقب ناصري”. وكانت النبوات قد أشارت إلى ذلك، على أساس أن تكون هذه التسمية نوعاً من الاحتقار، لأن الناصرة كانت مدينة حقيرة خاملة وبالتالي سكانها أيضاً (راجع يو 46:1) وحتى تلاميذ المسيح احتقروا بسبب تبعيتهم للناصري (أع 5:24). وقد وردت في إشعياء هذه التسمية ولكن تحت اسم “غصن: “ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله …” (إش 1:11) كلمة “غصن ” هنا ليست غصناً طبيعياً بل “نسر ” الذي يخرج من أسفل الساق ولا يثمر بسهولة وكلمة نسر بالعبرية هي تتسير ” تحقيرا لطبيعة الغصن وتنطق “نصر” والصفة منها ناصري”، وقد شاع هذا اللقب حتى اليوم. فالذي يقبل الإيمان بالمسيح ويعتمد يُعتبر أنه تنصر “، والمعنى الأصلي أنه صار تابعا للمسيح الناصري. وهكذا تنتهى قصة الميلاد بالمطابقة مع النبوات من نواح عديدة.

ملخص الأصحاح الثاني:

رأينا كيف دخل في قصة ميلاد المسيح العنصر الأممي من طبقة الحكماء المتدينين والذين تجشموا رحلة الألف ميل ليقدموا السجود والعبادة والكرامة للمولود ملك اليهود، والذين كانوا سببا غير مباشر لهروب المسيح إلى مصر كجزء رسمي في قصة ميلاده، لتدخل مصر كعنصر سلامي في خطة الله من جهة حياة الطفل كما كانت خطة الله في حياة إسرائيل. وكان دخول المسيح مصر سبق البشارة بقيامة المسيح، فقد تمت البشارة بميلاده وزيارة المسيح نفسه شخصيا. وكما تصف قصص التقليد أنه بدخول المسيح مصر في المهد صبيا سقطت أوثان مصر، وذلك تحقيقا للنبوة: هوذا الرب راكب على سحابة سريعة وقادم إلى مصر، فترتجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها . » (إش 1:19) ورافق ميلاد المسيح مذبحة بيت لحم. وهكذا أحاط بالمسيح هالة من الأرواح البريئة القديسة شهداء ميلاد يضافون إلى ملايين شهداء القيامة والنزول إلى مصر مهد للاستيطان في الناصرة.

زر الذهاب إلى الأعلى