فضيلة التمييز والاستنارة

1 – ما هى الفضيلة المسيحية؟

الفضيلة فى قلب المؤمن الكنسى هى اتحاد مع العريس السماوى، وتمتع بالشركة معه فى سماته السماوية، بقيادة روحه القدوس. ففى كل صباح، إذ يُصلى المؤمن صلاة باكر ويسبح بها، يذكر قيامة السيد المسيح، العريس السماوى، فيدرك إمكانية قيامته فيه، بالتمتع بحياة جديدة سماوية متجددة لن تقدم ولا تشيخ. يتمتع بعربون الحياة المقامة فى المسيح يسوع، فى قلبه وفى سلوكه كعربون الكمال السماوى. بفكر إنجيلى يكشف القديس يوحنا الذهبى الفم عن الفضيلة أنها ليست مجموعة أخلاقيات نلتزم بها، إنما أولاً وقبل كل شئ هى اتحاد مع المسيح الذى صار لنا براً وقداسة وفداءً (1كو1: 30). يقول القديس كيرلس الكبير: [ينبوع كل بركة هو المسيح “الذى صار لنا حكمة من الله”، إذ فيه صرنا حكماء وامتلأنا بالمواهب الروحية. الآن من كان متزن العقل يؤكد أن معرفة هذه الأشياء التى فيها نتقدم بكل وسيلة بالحياة المقدسة السامية والنمو فى الفضيلة إنما هى عطية من الله يتأهل الإنسان للفوز بها[28]].

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذى فى السماوات هو كامل “(مت5: 48). ينشر السيد اسم” السماوات “فى كل مكان بغزارة رافعاً أذهانهم” [29]].

[لقد نزل الله (ليقدم الشريعة) عندما صعد موسى إليه (على جبل سيناء)، أما هنا فالروح القدس ينزل عندما ارتقت طبيعتنا إلى السماء، أو بالأحرى إلى العرش الملوكى[30]].

[بينما ننتظر القيامة المُقبلة يطلب منا قيامة أخرى، طريقة حياة جديدة فى هذا العالم تنبع عن تغير فى طرقنا القديمة. عندما يصير الزانى طاهراً، والطماع رحوماً، والعنيف لطيفاً. هنا أيضاً قيامة، هى استباق للقيامة المقبلة. كيف يكون هذا قيامة؟ إنها قيامة، لأن الخطية تموت ويقوم البرّ، الإنسان القديم يتحطم والحياة الجديدة الملائكية تنتعش. عندما تسمع عن الحياة الجديدة تطلع إلى تغير واختلاف عظيم[31]].

[صار المسيح كل شئ بالنسبة لكم: المائدة والملبس والمنزل والرأس والأصل. “فإنكم جميعاً الذين اعتمدتم قد لبستم المسيح” (غل3: 27). انظروا كيف صارملبسكم؟ أتريدون أن تعرفوا كيف صارطعامكم؟ يقول المسيح: “كما أنا حى بالآب، هكذا من يأكلنى يحيا بى” (يو6: 58)؟ وقد صار منزلكم: “من يأكل جسدى يثبت فىّ وأنا فيه” (يو6: 57). ويظهر أنه هو أصلنا وأساسنا عندما يقول: “أنا هو الكرمة وأنتم الأغصان” (يو15: 5)، لكى يظهر أنه أخوكم وصديقكم وعريسكم، يقول: “لا أعود أدعوكم عبيداً، إذ أنتم أصدقائى” (يو15: 15). مرة أخرى يقول القديس بولس: “قد خطبتكم لرجل واحد، لأقدم لكم عذراء عفيفة للمسيح” (2كو11: 2). وأيضاً “ليكون بكراً بين إخوة كثيرين” (رو8: 29). لم نصر فقط إخوته بل أولاده، إذ يقول: “هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب” (إش8: 18). لم نصر أولاده فقط بل وأعضاءه وجسده (1كو12: 27). إن كانت هذه الأمور التى أشرت إليها غير كافية لتبرهن على حُبه ولطفه اللذين يظهرهما لنا، يُقدم لنا شيئاً آخر أكثر تقرباً من هذه عندنا يتحدث عن نفسه أنه رأسنا (أف1: 22، 23) [32]].

2 – ما هى القداسة فى الفكر المسيحى؟

الله القدوس يريد فى أبنائه القداسة أو الصلاح والفضيلة، لا ليمارسها المؤمن إلزاماً بل بكامل حريته، وإلا فقدت أصالتها وحافزها. الله الذى وهب الخليقة فى السماء وعلى الأرض حرية الإرادة لا يقبل أن يُلزم خليقته لممارسة الحياة الفاضلة بغير إرادتهم.

3 – كيف نقتنى القداسة والتمييز؟

الله القدوس هو مصدر القداسة، فمن يدخل فى شركة مع الله يدرك بنوته للآب القدوس، وسُكنى الروح القدس القدوس فيه ليُقيم منه هيكلاً لله، وصورته عضواً مقدساً فى جسد المسيح. هذا كله يتحقق بالنعمة الإلهية المجانية.

4 – إلى أى مدى ننمو فى الفضيلة بروح التمييز؟

الفضيلة الصادقة تهبنا النمو فى سمة الشباب الروحى السماوى، دون الدخول فى الشيخوخة العاجزة. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم إنه بالنسبة للجسد تحل الشيخوخة بعد الشباب، أما بالنسبة لنفس المؤمن الحقيقى فلن تحل بها شيخوخة، بل تبقى فى حالة شباب لا ينتهى، إن أراد ذلك. يقول أيضاً إن نعمة (العماد) عظيمة، لكن إن أردنا تصير أعظم[33]. فالمسيحى لا يتوقف عن النمو، إذ يدخل من حالة الطفولة الروحية إلى النضوج الروحى. لكنه، إن أراد، لا ينحدر إلى الشيخوخة الضعيفة العاجزة، بل يبقى دوماً فى شباب روحى متجدد!

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [الذين يعاقبون، فمن أجل العدالة، أما الذين يكللون، فمن أجل النعمة. فلو أنهم مارسوا ألف عمل صالح، إنما يتمتعون بالسماء والملكوت مقابل هذه الأعمال الصغيرة لأجل حرية النعمة، فيرتفعون إلى ما لا يقاس[34]]. كما يقول: [الهروب من الشر غير كافٍ، بل يليق بك أن تُظهر فضيلة عظيمة أيضاً… رب الملكوت نفسه يأتى من الآن فصاعداً، ويقودنا إلى ضبط أكبر للنفس، داعياً إيانا من السماء، وجاذباً إيانا نحو المساكن العلوية[35]].

5 – ما هى أهم الفضائل؟

سأل القديس أنبا أنطونيوس أبناءه الرهبان عن أهم الفضائل، وقدم كل راهب الفضيلة التى يعشقها، مركزاً على فضيلة التمييز أو الإفراز أو الاستنارة، فيمكن للإنسان أن يمارس عبادات كثيرة، وبدون التمييز ينحرف عن طريق الحق والقداسة.

يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [إن خطايانا تغفر بدواء عظيم، بمعمودية الكلمة. إننا بالمعمودية نتطهر من جميع خطايانا، ونصير فى الحال مُبرئين من الشر. وهى بعينها نعمة الإنارة حتى أننا لا نبقى بعد اهتدائنا (تغيير طريقنا) كما كنا قبل أن نغتسل، نظراً إلى أن المعرفة تبزغ مع الاستنارة، وتضئ حول العقل، ونحن الذين كنا بلا معرفة أصبحنا على التو متعلمين. هذه المعرفة التى قد أنعم علينا بها… لأن التعليم البديهى يقود إلى الإيمان، والإيمان يُلقن لنا بالروح القدس فى المعمودية[36]].

يقول القديس أنبا أنطونيوس[37] [أحزن البعض أجسادهم بالنسك، وبسبب عدم التمييز هم بعيدون عن الله].

[كما أن الربابنة (مديرى الدفة) وسائقى المركبات يكتسبون خبرة فى عملهم بالتمييز (الحكمة فى التصرف) والجهاد المتواصل، هكذا أيضا يليق بطالبى الحياة الفاضلة حقاً أن يستخدموا التمييز بيقظة، ويحرصوا أن يعيشوا كما يليق وكما هو مقبول لدى الله. لأن الإنسان الذى يرغب فى هذه الحياة الفاضلة ويؤمن إنه يستطيع تحقيق رغبته، ينال بالإيمان عند الفساد (الحياة النقية)].

[حقاً جاهد كثيرون فى الفضيلة جهاداً عظيماً، لكن بغبائهم (عدم التمييز) أهلكوا أنفسهم، وليس من العجيب أن يحدث هذا معكم… إذ وأنتم متكاسلون فى العمل تحسبون أنكم قد نلتم الفضائل.

لقد سقطتم فى هذا المرض الشيطانى (الذى يفوق إدراككم)، إذ وأنتم فى الظلمة حسبتم أنكم اقتربتم إلى الله وفى النور].

[صلوا لكى يهبكم الله نعمة الإدراك السليم فى كل الأمور، فتقدروا أن تميزوا بين الخير والشرّ تمييزاً حسناً. لقد كتب الرسول بولس “واما الطعام القوى فللبالغين” (عب5: 14). هؤلاء الذين بواسطة العمل المتواصل والجهاد “تدرب حواسهم وميولهم على التمييز بين الخير والشر، وقد أحصوا كأبناء الملكوت وصاروا من عداد ابناء الله، هؤلاء يعطيهم الله الحكمة والتمييز الحسن فى كل أعمالهم، فلا يقدر إنسان أو شيطان أن يخدعهم.

فالعدو يحارب المؤمنين تحت صورة الخير، وينجح فى خداع كثيرين، هؤلاء الذين ليس لهم حكمة ولا تمييز حسن. لهذا علّم الرسول بولس عن غنى الفهم الذى لا حد لعظمته، المُخصص للمؤمنين، إذ كتب إلى أهل أفسس يقول: “كى يعطيكم إله ربنا يسوع المسيح أبو المجد روح الحكمة والإعلان فى معرفته مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه مع القديسين” (أف 1: 17، 18). كاتباً هذا بدافع حُبه العظيم المتزايد نحوهم، ولعلمه أنهم إن اقتنوا الفهم لا يعود يكون بالنسبة لهم شئ فيه صعوبة، ولا يمسّهم خوف، بل يُعزيهم فرح الرب نهاراً وليلاً، وتصير الأعمال بالنسبة لهم عذبة فى كل حين.

حقاً إن كثيرين من الرهبان والعذارى فى المجمع لم يقتنوا الفهم بهذه الدرجة، وأما أنتم فإن أردتم أن تحصلوا عليه بهذا المقدار الذى فيه كمال، فاهربوا من أولئك الذين يحملون اسم “رهبان وبتوليين” دون أن يكون لهم الادراك الحقيقى والتمييز الحسن. لأنكم ان اختلطتم بهم، لن يدعوكم تتقدمون، بل وربما يُطفئون حرارة غيرتكمن إذ لا حرارة لهم، بل برودة، وهم يسيرون وراء أهوائهم. فإن أتوا إليكم وتحدثوا معكم فى أمور أرضية حسب أهوائهم الخاصة، لا تستكينوا لهذا، إذ كتب الرسول بولس: “لا تطفئوا الروح، لا تحتقروا النبوات” (1ت5: 19 – 20)، عالمين أنه لا شئ يطفئ الروح أكثر من الكلام الباطل]. (رسالة 16).

[اعرفوا مشورات الشرير فإن جاءكم فى زىّ من يُعلم بالحق لكى يخدعكم ويقودكم بمكر، أو جاءكم كملاك نور، فلا تصدقوه ولا تطيعوه، لأنه يفتن المؤمنين بمظاهر مغرية لها صورة الحق.

ولا يعرف غير الكاملين حيث الشيطان وما يبثه فيهم دائماً. أما الكاملون فيعرفونها، إذ يقول الرسول: “وأما الطعام القوى فللبالغين الذين بسبب التمرّن قد صارت لهم الحواس مُدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب5: 14). أمثال هؤلاء يعجز عن أن يخدعهم. إنما يفتن… أولئك الذين لا يسهرون على أنفسهم، فيصطادون السمك. وكما يقول سليمان الحكيم: “توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت” (أم16: 25).

هذا يحدث معهم بسبب اتكالهم على ذواتهم، إذ يتبعون دوماً ميول قلوبهم، ويحققون أهواءهم الخاصة، ولا ينصتون إلى آبائهم ولا يطلبون مشوراتهم.

هكذا يُظهر لهم الشيطان رؤى وتصورات خادعة، نافخاً قلوبهم بالكبرياء… وأحياناً يرسل لهم أحلاماً فى الليل تتحقق فى النهار، حتى يسقطوا فى حيرة عظيمة، بل وعلاوة على هذا يُظهر لهم فى الليل نور يضئ المكان الذين هم فيه، ويصنع لهم أموراً أخرى كثيرة خاطئة وعلامات… كل هذا لكى تطيب له قلوبهم فيقبلونه كملاك. وبقدرما يقبلونه، يقذف بهم من علوهم إلى أسفل، بواسطة روح الكبرياء الذى تسلط عليهم. ويجعلهم يحسبون أنفسهم عظماء وأجلاء روحياً أكثر من غيرهم، وأنهم ليسوا بمحتاجين إلى آبائهم أو الإنصات إليهم. هكذا يتم فيهم قول الكتاب المقدس إنهم عناقيد عنب حقيقية زاهرة لكنها مُرة وغير ناضجة. فقد صارت تعاليم آبائهم بالنسبة لهم صعبة، إذ يحسبون أنهم عارفون بكل شئ]. (رسالة 18).

يقول القديس مرقس الناسك: [علم التلاميذ الجموع هذا التمييز الذى للصلاة… قائلين: “لا يرضى أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد، فانتخبوا أيها الأخوة سبعة رجال منكم مشهوداً لهم ومملوئين من الروح القدس وحكمة، فنقيمهم على هذه الحاجة. وأما نحن فنواظب على الصلاة وخدمة الكلمة. فحسن هذا القول أمام كل الجمهور” (أع6: 2 – 5). ماذا نتعلم من هذا؟ أن الذين لا يقدرون أن يبقوا فى الصلاة (طول حياتهم) من الأفضل أن يخدموا (دون أن يمتنعوا عن الصلاة)، لئلا يخسروا الأولى والثانية، وأن الذين لهم الإمكانية (للتفرغ للصلاة…) فإنه خير لهم ألا يتركوا ما هو أفضل].

يقول الأب أوغريس الراهب: [تقترن الحكمة بالسكينة (النياح)، ويقترن التمييز الحسن بالعمل. لا نقدر أن نقتنى الحكمة بدون جهاد، ولا نستطيع أن ننتصر فى الجهاد بغير التمييز الحسن. من عمل “التمييز الصالح” أن يصد الغضب الذى تثيره الشياطين، وأن يشدد قوى النفس حتى تعمل هذه القوى قدر المستطاع حسب طبيعتها، وهكذا يمهد التمييز الصالح طريق الحكمة].

6 – ماذا يقول الكتاب المقدس عن التمييز أو الإفراز؟

جاء فى المناظرة الثانية للقديس يوحنا كاسيان: [هذا هو التمييز الذى لا يدعى فقط “نورا لجسد”، بل و “الشمس”، إذ يقول الرسول: “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف4: 26). ويُدعى أيضاً “سلطانا”، إذ لا يسمح لنا الكتاب القمدس أن نصنع شيئاً بدونه. “مدينة منهدمة بلا سور، الرجل الذى ليس له سلطان على روحه” (أم25: 28). وبه تسكن الحكمة يقطن الفهم والمعرفة، وبدونه لا يُبنى بيتنا الداخلى، ولا نستطيع أن نجمع الغنى الروحى الذى لنا، فقد قيل: “بالحكمة يُبنى البيت، وبالفهم يثبت. بالمعرفة تمتلئ المخادع من كل ثروة كريمة ونفيسة” (أم24: 3 – 4). وهو “الغذاء الكامل” الذى يقتات به الكاملون فى النمو والصحة، إذ قيل: “وأما الطعام القوى فللبالغين الذين بسبب التمرن قد صارت لهم الحواس مُدربة على التمييز بين الخير والشر” (عب5: 14). وتظهر أهميته وضروريته بالنسبة لنا بمقدار ما لكلمة الله وقوتها من أهمية، إذ قيل: “لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذى حدين وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ ومميزة أفكار القلب ونياته” (عب4: 12). من هذا يظهر بوضوح أنه لا يمكن أن تكون لفضيلة ما كمالها المطلوب، أو تدوم، بدون نعمة التمييز. وكما يقول الطوباوى أنطونيوس كغيره أيضاً من الآباء، بأن التمييز هو الذى يقود الإنسان الشجاع بخطوات ثابتة نحو الله، ويحفظ له دوام سلامة الفضائل المشار إليها بغير سأم، حتى تبلغ أقصى ذروة الكمال. وبدونه لا يمكن الوصول إلى مرتفعات الكمال مهما كان الجهاد بكل رغبة. فالتمييز هو أهم كل الفضائل، وحارسها، ومُنظمها].

7 – من يهبنا روح الاستنارة أو التمييز؟

يقول الأب موسى[38]: [لا توجد فضيلة واحدة يمكننا أن نحصل عليها بمجهودنا البشرى ما لم تعيننا النعمة الإلهية. ونحن نرى فى الكتاب المقدس أن التمييز حُسب ضمن مواهب الروح، إذ يقول الرسول: “فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد… ولآخر تمييز الأرواح…” لقد رأيتم إذن كيف أن موهبة التمييز ليست موهبة أرضية، ولا هى بالأمر الهين، إنما هى عطية عظمى تهبها النعمة الإلهية. إن لم يسع الإنسان[39] بكل حماس نحو التمييز… حتماً يخطئ ويصير كمن هو فى ظلمة الليل وحلكة الظلام، ولا يسقط فقط فى الأشراك والأهواء بل ويخطئ حتى فى الأمور السهلة].

يقول القديس أغسطينوس: [أيها النور الحقيقى الذى تمتع به طوبيا عند تعليمه ابنه، مع أنه كان أعمى! أيها النور الذى جعل اسحق، فاقد البصر، يُعلن بالروح لابنه عن مستقبله!… أنت هو النور الذى أنار عقل يعقوب، فكشف لأولاده عن الأمور المختلفة!… أنت هو الكلمة القائل: “ليكن نور، فكان نور”. قل هذه العبارة الآن أيضاً، حتى تستنير عيناى بالنور الحقيقى، وأميزه عن غيره من النور. فبدونك كيف أقدر أن أميز النور عن الظلمة، والظلمة عن النور؟! نعم… خارج ضيائك، تهرب الحقيقة منى، ويقترب الخطأ إلى، ويملأنى الزهو… ويصير فىّ الارتباك عوض التمييز، يصير لى الجهل عوض المعرفة، والعمى عوض البصيرة! [40]].

8 – ما هو ارتباط العقل البشرى بروح التمييز؟

وهبنا الله العقل البشرى، وقدم له عطية التمييز، ليعيش كائناً عاقلاً يتفهم الأمور المحيطة به، بل ويبحث عن معرفة الله. يريدنا الله – محب البشر – أن نحمل روح الفهم والتمييز حتى فى عبادتنا له. يقول العلامة أوريجينوس: [كما أن العين بطبيعتها تطلب النور والبصر، والجسد برغباته الطبيعية يطلب الطعام والشراب، هكذا العقل له رغبته الطبيعية أن يعرف حق الله، ويبحث فى علل الأشياء، هذه الرغبة التى هى من عند الله[41]].

فى إبداع يُحدثنا القديس مار يعقوب السروجى عن سمو العقل فى حياة الإنسان، فيشبهه وهو فى رأس الإنسان أى فى العلو بالله الساكن فى الأعالى، أى فى السماوات. فمن كلماته: [أتقن (الله) المخ بيتاً للعقل، ليجلس هناك فى الطابق العلوى مثل الله[42]]. كما يقول: [من يأتى إلى الكنيسة، لا يأتى بدون تمييز مثل الحيوانات التى لا فهم لها. لا يزور أحد عيادة الطبيب كنوع من العادة، ما لم يجبره المرض لزيارته طلباً للشفاء[43]].

مادام للعقل دوره القيادى مع الإدارة البشرية فى حياة الإنسان لهذا يُحذرنا القديس مار يعقوب السروجى من التهاون فى تقديسه، والانحراف نحو إتباع الشهوات الجسدية التى تظلم العقل، وتنحط بالنفس لتصيرفى عبودية للجسد، حتى تبدو كأنها جسدية. [يظلم العقل بالشهوات لئلا يفهم… فمن أكثر من طعامه، أنزل نفسه لتصير جسداً[44]].

9 – هل يرتبط روح التمييز بعمر الإنسان؟

يقول الأب موسى: [كما انه ليس كل الشباب متشابهين من جهة غيرتهم فى الروح أو متساوين فى تعلّمهم التعاليم والاداب القويمة، كذلك أيضاً ليس كل الشيوخ متشابهين فى الكمال والفضيلة. فالغنى (الروحى) الحقيقى لا يقاس بشيبة الرأس بل بالجهاد منذ الصغر وحسب أكاليل أعمالهم السابقة… لأن الشيخوخة المكرمة ليست هى القديمة الأيام ولا هى تُقدر بعدد السنين. “ولكن شيب الإنسان هو الفطنة وسن الشيخوخة هى الحياة المُنزهة عن العيب” (حك4: 9)… وعلى ذلك فليس لنا أن نقتدى بأى شيخ غطى الشيب رأسه… بل نتبع آثار أولئك الذين امتازوا منذ صباهم بالحياة اللائقة المستحقة كل ثناء، الذين تدربوا حسب تقاليد الآباء وليس حسب ذواتهم. عبر البعض إلى الشيخوخة بالفتور والكسل، هؤلاء يوبخهم الله بالنبى قائلاً: “أكل الغرباء ثروته وهو لا يعرف وقد رش على الشيب وهو لا يعرف” (هو7: 9)… هؤلاء يستخدم الشيطان شيبتهم لخداع الشبان، عن طريق مظهر وقارهم الخاطئ، مخادعاً من كان يلزم أن يجتهدوا فى طريق الكمال بواسطة نصائحهم… مسقطاً إياهم (الشبان) فى عدم الاكتراث أو اليأس المميت وذلك عن طريق تعاليم أمثال هؤلاء الشيوخ وأعمالهم[45]].

10 – ما هو ارتباط التمييز بالتواضع والاعتدال؟

يقول الأب موسى: [يلزمنا أن نطلب فضيلة “التمييز” بكل طاقاتنا عن طريق الاتضاع، هذا الذى يحفظنا بدون أى ضرر فى أى جانب من الجانبين… فالمغالاة فى الصوم والنهم كلاهما يؤديان إلى نهاية واحدة. والمغالاة فى السهر فى الفضائل يوازى التراخى فى نوم عميق من جهة ضررهما للراهب وحينما يضعف الراهب بسبب التقشف الزائد يعود إلى الحالة التى يكون فيها الراهب مُهملاً ومقصراً. لذلك نرى أن أولئك الذين لم ينخدعوا بانهم كثيراً ما يهلكون بالصوم الزائد. وتؤدى الفضائل غير المعتدلة والسهر ليلاً الزائد إلى نفس الهلاك الذى يُسببه النوم. وفى ذلك يقول الرسول… “بسلام البر لليمين ولليسار” (2كو6: 7).

فلنتقدم باعتدال سليم، ونسير فى الطريق الوسطى بروح التمييز.

فإننى أتذكر إننى كنت أقاوم شهوة الطعام حتى كنت أمتنع عن أخذ أى شئ لمدة يومين أو ثلاثة أيام، ولم يكن ذهنى يضطرب حتى بتذكر أى طعام ما. وأما عن النوم فإنه بخداع شيطانى نزع النوم من عينى لمدة عدة أيام وليالى، حتى أننى توسلت إلى الله أن يمنحنى قليلاً من النوم. لقد شعرت أننى فى خطر عظيم بسبب نقص الطعام والنوم أكثر مما فى الجهاد ضد الاسترخاء والنهم.

فيلزمنا أن نحذر لئلا نسقط فى التدليل عن طريق التنعم الجسدى والتساهُل مع أنفسنا بالأكل قبل الميعاد المناسب، او الأكل بشراهة، وفى نفس الوقت يلزمنا أن نقتات بالطعام والنوم كما يتناسب معنا حتى ولو لم نحب ذلك… لأن الزهد المغالى فيه أكثر ضرراً من الشبع بغير حرص، لأن الأخير يتدخل فيه تأنيب الضمير فيفيدنا ويدفعنا إلى المستوى الحقيقى بدقة، أما المغالاة فلا يحدث فيه تأنيب ضميره…

فالعقل الذى يتعب بسبب قلة الطعام يخسر نشاطه فى الصلاة، فينهك بسبب الضعف الزائد للجسد ويرغم على التراخى، ثم يعود ليتضايق بكثرة الطعام، وبالتالى لا يقدر أن ينسكب فى الصلوات بانطلاق ونقاوة أمام الله، ولا ينجح فى حفظ نقاوة عفته على الدوام. فإنه وإن أبدى أنه يطهّر الجسد بتقشفه العنيف إلا أنه يغذى شهوات الجسد بوقود الطعام الذى يأخذه[46].

11 – ما هو ملخص المبادئ التى يقدمها الأب موسى بخصوص الإفراز؟

  • التمييز هو عين القلب التى تفرز الأفكار والأعمال مميزة إياها. هو عطية إلهية يلزمنا أن نثابر فى طلبها بلجاجة من الله “الحكمة” ذاته.
  • التمييز يحفظ الإنسان من الضربات اليمينية كالمغالاة فى السهر أو الصوم أو الزهد مما يسقط الإنسان فى الكبرياء، كما يحفظه من الانحراف اليسارى فلا يقبل التراخى والكسل وأفكار الشر.
  • أولاد الله المتضعون فى تمييزهم:
  1. لا يعتمدون على فكرهم الذاتى بل يتمسكون بفكر الآباء الأولين وروحهم مقتدين بهم فى الرب.
  2. لا يخفون شيئاً من أفكارهم وأعمالهم عن أب اعترافهم، لأن الفكر الشرير ينكسر سلطانه متى خرج إلى النور، وأيضاً يظهر خداعه ويفضحه.
  3. الشيبة ليست هى كل مؤهلات الراعى (أب الاعتراف)، إنما يلزم أن يكون مُحنكاً فى الشركة مع الرب، سالكاً بلا عيب.

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ6 – المفاهيم المسيحية والحياة اليومية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى