تفسير المزمور ٢٩ للقس أنطونيوس فكري
المزمور التاسع والعشرون (الثامن والعشرون في الأجبية)
- العواصف الرعدية شئ مرعب يراها كل إنسان فيخاف، ولكن داود المرتل الذي اعتاد التسبيح حَوَّل منظر عاصفة مرعبة إلى مصدر تسبيح لله، إذ رأى فيها علامة مجد وعظمة الله، فإن كان الرعد والعاصفة مرهبين هكذا فكم أنت رهيب وعظيم يا الله.
- داود كن رقيق المشاعر مملوء حباً لله، ويعزف أنشودة حب لله تحت أي ظرف، إذا رأى السموات صافية قال “السموات تحدث بمجد الله” وإن رآها عاصفة قال هذا علامة مجد وعظمة وقوة الله. في الضيق يسبح وفي انفراج الضيق يسبح.
- هنا نراه يصف عاصفة رعدية وأثارها، وهذه العاصفة بدأت من البحر الغربي قاطعة تلال فلسطين المكسوة بالغابات حتى براري قادش في أقصى حدود آدوم وهنا داود يدعو أبناء الله (الملائكة في السماء والمؤمنين في الأرض) أن يسبحوا الله على قوته، فهذه الطبيعة الثائرة التي يقف أمامها الإنسان عاجزاً هي تحت سيطرة الله. بل هذا الرعد هو صدى لصوت الله الذي كل الأمور بيده وفي نهاية المزمور يعلن عدم خوفه من هذه الظواهر الطبيعية إذ هي في يد الله والله يعطي عزة لشعبه وقوة، وهو يسبحه الآن ليس فقط لقدرته وقوته بل محبته وأنه قادر أن يحول كل شئ لعز شعبه.
- ولقد بدأت العاصفة تتكون على البحر= صوت الرب على المياه. وكانت هناك سيول كثيرة على التلال الساحلية. والعواصف كسرت أغصان الأشجار العظيمة وتترك الجذوع عارية وذروة العاصفة موصوفة في صورة واضحة، أن جذوع الأشجار التي أقتلعت فتقاومها الرياح فتقفز كما يفعل العجل أو الثور البري حين يتمرغ بشدة حمقاء. ومظهر آخر ربما نتيجة البروق تخرج نيران في وسط هذه الغابات. وبسبب الخوف تلد الوعول قبل أوانها. ونتيجة كل هذا تعرت الغابات من أشجارها. هنا نجد على الأرض هذه القوة الصاخبة، وداود امتد بصره للسماء فوجد هناك الملائكة تسبح. وعلى الأرض رأى الله يريد البركة لشعبه.
- جاء في الترجمة السبعينية أن هذا المزمور كان يرتل في عيد المظال، وفي عيد المظال كانوا يبتهجون فيه بنهاية الحصاد.
- تكرر في هذا المزمور كلمة صوت الرب 7 مرات وكلمة الرب 18 مرة.
- صوت الرب هو الروح القدس الذي يتكلم في قلوبنا، ويذكرنا ويعلمنا، يأخذ مما للمسيح ويعطينا، يرشدنا ويقودنا ويبكتنا لو أخطأنا. وعلى كل منا أن يدرب نفسه أن يجلس في خلوة هادئة وبروح الصلاة يتسمع لصوت الله الهادئ داخل النفس، فالصلاة حوار مع الله، ونسمع صوت الله في جلسات الاعتراف. وما يعطلنا عن سماع صوت الله هو إنشغال الإنسان بأهداف أخرى غير خلاص نفسه، أما من كان قلبه نقياً غير منقسم الاتجاه يكون جهاز استقباله الداخلي مستعداً لسماع صوت الروح القدس. ونلاحظ أن حلول الروح القدس يوم الخمسين على التلاميذ صاحبته أصوات كأنها هبوب ريح عاصفة، ثم ظهرت ألسنة نار. ثم تعمد بالمياه 3000 نفس. هنا نرى الروح القدس صوت الرب الذي نخس قلوبهم فآمنوا، ونرى صوت الرب الروح القدس على المياه التي ولدوا منها ثانية بالمعمودية، وصوت الرب كنار يحل على التلاميذ، وصوت الرب كعاصفة تزلزل قلوب غير المؤمنين فيؤمنوا. لذلك نصلي هذا المزمور في الثالثة.
الآيات (1،2): “قدموا للرب يا أبناء الله قدموا للرب مجداً وعزاً. قدموا للرب مجد اسمه اسجدوا للرب في زينة مقدسة.”
هنا يطلب المرتل من كل أبناء الله أن يسجدوا لله ويمجدوا اسمه. وفي السجود إنسحاق وشعور بالاحتياج. وكيف نمجد اسم الله؟ بأعمالنا الصالحة ليراها الناس ويمجدوه (مت16:5). وفي الترجمة السبعينية نجد قدموا للرب مجداً وعزاً= قدموا أبناء الكباش. بمعنى أن نقدم أنفسنا ذبائح حية. والكبش وظيفته أن يتقدم القطيع وهذا عمل الرؤساء كقدوة لكل مؤمن. أسجدوا للرب في زينة مقدسة= اسجدوا للرب في دار قدسه= أي الكنيسة الواحدة الوحيدة على الأرض ليكون لنا نصيب في ديار قدسه في السماء.. إذا ما وقفنا في هيكلك المقدس نحسب كالقيام في السماء “قطع الثالثة”.
آية (3): “صوت الرب على المياه. إله المجد أرعد. الرب فوق المياه الكثيرة.”
هذا ما حدث يوم الخمسين. والمياه إشارة للمعمودية. وصوت العاصفة. ونرى في أول أيام الخليقة روح الرب يرف فوق المياه لتخرج حياة. وهنا خرج مؤمنين وخرجت الكنيسة. وكون أن كلمة صوت الرب تكررت 7 مرات ففي هذا إشارة لعمل الروح القدس الكامل في الكنيسة وفي السبع أسرار. وفي (رؤ1:3) نسمع عن سبع أرواح الله. كذلك نسمع عن أن اسم الرب تكرر 18 مرة 18 – 3 × 6 و(3) هي إشارة للثالوث أو الأقنوم الثالث، (6) إشارة للإنسان الذي صار هيكلاً للروح القدس. وفي معمودية المسيح حل عليه الروح القدس وسمع صوت الآب “هذا هو ابني الحبيب.. ” والمياه تشير للروح القدس (يو37:7،38) لذلك صوت الرب على المياه.
آية (4): “صوت الرب بالقوة. صوت الرب بالجلال.”
صوت الرب ليس ضعيفاً، فكلمة بطرس في هذا اليوم آمن بسببها 3000 نفس وفي العهد القديم حينما تكلم الله أرعد الجبل وخرجت نار فخاف الجميع، وحينما تكلم بولس إرتعب فيلكس الوالي، وحينما كلم المسيح السامرية تغيرت، وشاول آمن. وصوت الرب بالجلال= شعر موسى بجلال الرب وهو أمامه في العليقة، وكان المسيح بالرغم من اتضاعه في جلال عجيب فهو مولود في مزود ولكن ملائكة السماء تزفه في جلال. يهرب إلى مصر فتتحطم أصنامها، يتجلي أمام تلاميذه، يصلبونه فتظلم الشمس ويقوم الأموات، ومن يقبل صوت الله يكون له جلال، فتلاميذ المسيح أحاطهم هذا الجلال وصنعوا المعجزات، وهكذا كل القديسين.
آية (5): “صوت الرب مكسر الأرز ويكسر الرب أرز لبنان.”
الأرز المتشامخ رمزاً للكبرياء وتشامخ الفكر، مثل من يريد أن تكون له أفكاره الخاصة بالانفصال عن الله، أو شاعراً ببره الذاتي. والأرز شجر معمّر إشارة إلى أن خطية الكبرياء مزمنة. وصوت الرب أول شئ يعمله يكسر هذا الكبرياء فتسقط معه باقي الخطايا ويبدأ الإنسان في الاستعداد لقبول مشيئة الله. الله لا يبدأ بأن يحارب الخطايا السهلة، بل يحارب الجبابرة ويخضعهم فهو ملك قوي.
آية(6): “ويمرحها مثل عجل لبنان وسريون مثل فريز البقر الوحشي.”
يمرحها مثل عجل لبنان= أشجار الأرز الضخمة تتطاير أمامه كما يجري عجل لبنان. وسريون مثل فريز البقر الوحشي= سريون جبل في لبنان.. لا شئ يثبت أمام صوت الله مهما كانت قوته. أين كانت قوة موسى الأسود وكبريائه في مشهد استشهاده النهائي.
آية(7): “صوت الرب يقدح لهب نار.”
هذه هي ألسنة النار التي حلَّت على التلاميذ فإلتهبوا حباً في الله، وغيرة على مجده، فتركوا كل شئ وجالوا مبشرين غير خائفين. وفي بعض الترجمات جاءت عوضاً عن يقدح يقطع لهيب نار= هنا نرى الروح القدس يطفئ لهيب الشهوة.
آية(8): “صوت الرب يزلزل البرية يزلزل الرب برية قادش.”
البرية عادة تكون قاحلة، لا حياة فيها، وهكذا الإنسان بدون الروح القدس يكون بلا ثمار، قلبه كبرية قاحلة، وصوت الروح القدس يحوله لجنة مثمرة، حوَّل اليهود وغير المؤمنين إلى مسيحيين، فتحولت القلوب الحجرية لقلوب لحمية حية، إذ تغير الجحود والقساوة فيها إلى حب وتوبة وإشتياق لله.
آية(9): “صوت الرب يولد الأيل ويكشف الوعور وفي هيكله الكل قائل مجد.”
يولد الأيل= الأيل نوع من الغزلان لها غريزة طبيعية عجيبة هي أنها تضع أنفها عند جحور الثعابين فتسرع هذه للخروج فتبطش بها الأيائل بحوافر أرجلها وتميتها، وهي تبدو في فرح بعد الانتصار فتسير كأنها ترقص وتتجمع بعد جهاد الحرب حول ينابيع المياه لتشرب، وصوت الرب ولَّدَ مؤمنين لهم سلطان أن يدوسوا على الحيات والعقارب، ويولد في نفس المؤمن الفرح والسلام والاشتياق إلى ينابيع المياه أي الامتلاء من الروح القدس. وهكذا فرح وتهلل الوزير الحبشي بعد معموديته وسجان فيلبي. يكشف الوعور أي الغابات الكثيفة. وهذه الغابات بسبب كثافة أشجارها يحجز عنها نور الشمس فتكون مظلمة، وأرضها موحلة تحيا فيها الثعابين والزواحف السامة، وداود رأى أن صوت الله يكشف هذه الغابات فيشرق فيها نور الشمس والمسيح هو شمس برنا. فهربت الحيات والعقارب وجفت المياه المتعفنة، وتحولت الطرق إلى طرق مستقيمة. خلال جلسات فحص النفس والاعتراف يستطيع صوت الرب أن يكشف الوعور ليصبح الداخل نقياً. وفي هيكله الكل قائل مجداً= هذه هي ثمار عمل النعمة في الشعوب وفي الأفراد حين يشرق نور المسيح فيهم. فنرى الآن الأرز قد تكسَّر= الكبرياء. وفي القديم نرى نتيجة الكبرياء بلبلة الألسن وفي يوم الخمسين حدث العكس إذ فهم الكل ما قاله بطرس، لقد اجتمعت الكنيسة كلها في لسان واحد يسبح الله وكل من قدَّم توبة ينطلق لسانه مسبحاً.
آية(10): “الرب بالطوفان جلس ويجلس الرب ملكاً إلى الأبد.”
الرب بالطوفان جلس= نرى في الطوفان هلاك العالم القديم بسبب خطاياهم وقيامة عالم جديد ممثلاً في نوح عن طريق الفلك. والفلك رمز للكنيسة، وحادثة الطوفان رمز للمعمودية (1بط20:3،21)، وهذا ما رأيناه في كلمات هذا المزمور أن صوت الرب حطّم الإنسان العتيق بكبريائه وشهواته ليقيم إنساناً جديداً (رو3:6،4) وهذا الإنسان الجديد يملك الله علي قلبه، ويعطي مجداً لله مسبحاً الله على عمله.
آية(11): “الرب يعطي عزاً لشعبه. الرب يبارك شعبه بالسلام.”
صوت الرب جاء ليعلن فاعليته في حياة البشر ويحول قفر العالم إلى فردوس ويعطي شعبه قوة ويمنحهم سلام “سلامي أنا أعطيكم سلامي أترك لكم”