البابا متاؤس الثالث

البطريرك رقم 100

 

 ادراك صحيح للمسئولية 

وسط القلق والفوضى ، وأمام المباغتة المريرة التي هزت الشعب من تردّي أحد أبنائه في هوة الخطية السحيقة، أدرك الجميع بأن الضرورة الموضوعة عليهم هي أن يسارعوا إلى انتخاب الراعي الأعلى الذي يمكن الناس ان يفزعوا إليه في شدتهم فدفعهم هذا الادراك الصحيح لمسئوليتهم إلى الإجتماع والتشاور:

فدعا الأساقفة الأراخنة وتبادلوا وإياهم الرأي فيمن يختارونه. و فيما هم يتشاورون ارشده الروح القدس إلى راهب اسمه تادرس في دير الأنبا مكاري الكبير .

و بالبحث تبين لهم أن هذا الراهب ولد في طوخ النصارى بالمنوفية من أبوين تقيين اشتهرا بخوف الله وبالصلاح، سهرا على تربيته فأنشأه على حب العلوم الكنيسة والحقاه بكتاب البلدة.

ولما بلغ سن الشباب تاقت نفسه إلى حياة الحلوة والتأمل في الإلهيات ، وكلما ازداد تفكيراً في الموضوع ازدادت نفسه شوقا إليه . فلما طغى عليه هذا الشوق ترك أهله و بلدته واتجه نحو برية شيهت قاصداً إلى دير الأنبا مكارى الكبير .

واتخذ من حياة هذا القديس العظيم نجمه الهادی الذي سار على ضوئه. فدرب نفسه على التواضع وعلى خدمة الآخرين في وداعة ومحبة . ووجد فيه الرهبان اخاً محباً عطوفاً ممتلئاً صلاحاً و ملتهباً غيرة فانتخبوه ليكون رئيساً عليهم ، ورجوا

من البابا رسامته قساً فقمصاً. فزاده الكهنوت محبة وتفانياً . فلما استعرض الأساقفة والأراخنة سيرة هذا الراهب القمص أجمعوا على انتخابه . فتمت رسامته يوم الأحد 8 سبتمبر سنة 1631 باسم متاؤس الثالث . وبذلك أصبح المئة في سلسلة الباباوات المرقسيين.

سلام عابر فمؤامرة دنيئة

 وكانت الفترة الأولى لبابويته فترة من تلك الفترات العابرة الممتلئة سلام . فنعم الشعب بالصلاة و نعم البابا بتفقده شعبه ورعايته .

على ان السلام لم يلبث أن تبخر . ذلك أن نفراً من أخوان السوء قابلوا الوالى – خليل باشا – واوغروا صدره ضد الأنبا متاؤس بأن افهموه أن من يقام بطريركاً عليه أن يدفع رسماً معيناً للوالى و بالطبع أخذوا على عاتقهم المبالغة في مقدار هذا الرسم فزعم خليل باشا أن البابا المرقسى تجاهله شخصياً و تجاهل دفع المبلغ المفروض وارسل يستدعي رجل الله.

وسمع بعض الأراخنة بهذه المؤامرة المدبرة ضد ابيهم الروحى فسارعوا إلى القلعة وطلبوا الاذن في مقابلة الوالى فأذن لهم بالدخول . و تحدث إليهم من غير أن يطلب منهم استحضار الانبا متاوس – لان بركته ومحبه الفائضة بالتواضع جعلت الله تعالى يسدل على ذاكرة الوالى ستاراً من النسيان فاکتفي بالتحدث مع الأراخنة . وبعد أخذ ورد فرض عليهم غرامة مقدارها اربعة آلاف قرش وصرفهم مشددة عليهم باحضار المبلغ المطلوب على الفور . وامتلأ الأراخنة غماً. ومن مراحم القدير على شعبه آنذال أنه حنن قاب رجل يهودی فأقرضهم المبلغ لساعته على أن يسددوه له في اقرب فرصة. فشكره الأراخنة وقدموا السبح لله المتحنن الملين القلوب . وصعدوا لساعتهم إلى القلعة وقدموا لخليل باشا المال الذي طلبه .

زيارة مبروكة

41- وبما أن الانبا متاؤس الثالث كان ناسكاً زاهداً فإنه لم يكن يملك من المبلغ المفروض درهماً واحداً . فرای ان يستعين بأولاده. وعلى ذلك ركب مرکبا سارت به في النيل جنوباً. فكانت زيارة بابوية مبروكة للصعيد التقي فيها الأب الروحي الأعلى باولاده وامتلأت القلوب فرحا بهذا اللقاء وقدم كل واحد ما في إمكانه مساندة منه للأنبا متاؤس الذي رجع إلى القاهرة ممتلئاً غبطة بأزاء تلبية أولاده لندائه .

قحط وتخريب

 على أنه من الواضح ان ایام الهدوء كانت عابرة إذ لم تلبث أن انتهت، وجاءت في اعقابها ايام من الشح والقحط . ولم يكن فيضان النيل ناقصاً فحسب بل هبطت مياهه فجأة أيضا ، ومن المؤلم أن هذا الهبوط في منسوب النيل استمر سنتين فارتفعت أسعار الحاجيات ارتفاعاً باهظاً ، وعم الجوع بشكل مزعج فقضى على المئات من الناس. 

وكان هذه البلايا لم تكن كافية بل زاد عليها أن الوالى قصد إلى المحلة الكبرى فوجد بها كنيسة عظمى من أفخم العمارات القديمة ، كما وجد بها عدد من الكهنة يؤدون فيها الشعائر كل بدوره . فاستعظمها على القبط وأمر بهدمها . ثم زعم أنه يستطيع أن يكفر عن جرمه هذا ببناء مدرسة مكان الكنيسة التي هدمها.

على أن التناغم الذي وضعه الله الحياة المصرية هو تناوب الفيضان والهبوط فعاد النيل إلى وفائه بعد السنتين المريرتين وروى بفيضه الأرض العطشي ، فأعطت محاصيلها بوفرة ، واعادت الطمانينة إلى القلوب . 

حادث غريب

 ثم حدث حادث غاية في الغرابة يتلخص في أن السلطان العثماني ارسل إلى واليه في مصر (واسمه احمد باشا الكورجی) اثني عشر الف قنطار من النحاس لیسکها نقوداً ويدفع له مقابلها ثلاثمائة ألف محبوب (يعادل الجنية الان). فأذعن الوالي للأمر واعد المعامل والمال و بدا يعطيهم النحاس شيئا فشيئا . ولكن العمل كان مرهقاً إلى حد أن عددا وفيرا من العمال مات من الاعياء . وحار الوالى في امره. فجمع في القلعة ذوى الشورى من الأمراء والقضاة . وعرض عليهم الموضوع . وأشار عليه أحد القضاة بان يجبر المصريين على شراء النحاس بواقع ثمانين قرشا للقنطار وأقره الباقون على رأيه . وعندها انزل الوالي رجاله بالنحاس يفرضون شراءه على الجميع : اغنياء وفقراء. فأدى هذا إلى ضرر بالغ إذ قد اضطر الكثيرون إلى دفع ارزاقهم ، وتضاعفت المأساة بارتفاع الأسعار ارتفاعاً فاحشاً . ولكن ما قيمة الشعب وآلامه في نظر من يستهدف ملء جيوبه ! إلا أن العجب العجاب هو ان السلطان حين علم بما حدث غضب على واليه غضبة جامحة ما فأقاله من ولايته!

ولما مثل بين يديه قال له في حدة “لقد أرسلت النحاس إليك لتسبكه عملة يتعامل بها الناس ۔ فما الذي دهاك حتى ألقيت به عليهم فظلمتهم ؟، وبعد هذا التعنيف امر بضرب عنقه.

زيارة رعوية للوجه البحري

 ثم رای الانبا متاؤس أن يقوم بتفقد أبنائه في الوجه البحرى و بدا رحلته بذهابه إلى طنطا ومنها إلى برما. ثم قصد إلى طوخ مسقط راسه . و حين سمع الأهالي باقتراب البابا خرجوا جميعاً لإستقباله فرحين مستبشرين ، والفوا له موكباً سار امامه وخلفه : البعض يحملون الشموع الموقدة والبعض الآخر المجامر الملأى بالبخور ، بينما حمل الكهنة صلبانهم . وسار الكل وهم يترنمون بالصلوات والتسابيح الروحية . وما أن وصلوا المدينة حتى ذهبوا إلى الكنيسة رأساً. وقد رجا۔ شعب طوخ من البابا أن يبق في وسطهم . فأقام بينهم سنة كاملة يعلمهم ويوجههم التوجيهات الروحية البناءة.

تطلع نسوي

وحدث أن كان سبت لعازر. وبعد أن سعد الناس بالصلاة معه وبتناول الأسرار المقدسة من يده ، جلس عند باب الكنيسة يستقبل زائريه وطالبى تعاليمه الروحية . ثم حانت منه التفاتة إلى ركن من اركان الكنيسة. فوجد به بعض النسوة جالسات في خشوع ووقار . فسأل کهنته: لماذا النسوة داخل الكنيسة حتى الآن ؟ أجابوه : ولقد تناولن من الأسرار المقدسة وهن لذلك يرغبن في البقاء داخل بيت الله صوناً لكرامة الأسرار، فتنهد بالروح وقال : حقاً إن النسوة يسعين لان يسبقنا إلى الفردوس “

وما كاد يتفوه بهذه الكلمات حتى جاء احد الشمامسة يقول: ” یا أبي البطريرك لقد اتفق جماعة منا على الذهاب لزيارة الأماكن المقدسة في السنة القادمة بإذن الله ، ونحن نرغب في أن تكون ضيفنا في هذه الرحلة المباركة” .. فأجابه البابا بصوت يسمعه كل من حوله : ها هنا يكون قبری – في هذه البيعة المقدسة . ولن ابرح هذا المكان لغيره، ثم قام ليستريح قليلا كعادته . وصرف الناس بالبركة .

نياحته

ومن الطبيعي أن المحيطين به ترکوه حين دخل غرفته الخاصة. و بعد قليل دخل عليه تلميذه ليرى إن كان قد قام ام مازال مستيقظاً ، فوجد انه قد نام نومته الأخيرة وجده راقدا على سريره ووجه نحو الشرق و يداه على صدره على مثال الصليب فخرج لساعته واخبر الكهنة . فدخلوا ليتحققوا الأمر ووجدوا انه فعلاً قد تنيح بسلام وكان وجهه يسطع لامعاً كالشمس . فحملوه إلى البيعة وصلوا عليه ودفنوه بها . وهي على اسم الشهيد العظيم مار جرجس .

وقد تنيح البابا متاؤس في شيخوخة صالحة بعد أن قضى حياة مليئة بالبر في عشرة وثيقة مع الله.

فاصل

البابا يوحنا الخامس عشر  القرن السابع عشر العصور الوسطى البابا مرقس السادس 
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى