تفسير المزمور ٥٠ للقمص تادرس يعقوب
المزمور الخمسون
ذبيحة التسبيح
آساف:
أول مزمور لآساف؛ وآساف اسم عبري معناه “من يجمع”، وربما هو اختصار “يهوه ساف” أي “الرب جمع”. كان رئيس فرقة الموسيقيين المقدسة في الخيمة حيث وضع فيها تابوت العهد. وقد عُين في وظيفة دائمة في ضرب الصنوج أثناء خدمة الهيكل (1 أي 16: 4-5، 7).
يُدعى بالمرائي كغيره من رؤساء المغنين (2 أي 29: 30)؛ عُهد إلى عشريته عزف الموسيقى في بيت الرب (1 أي 25: 1-9)، وكانوا يقفون على اليمين أثناء القيام بالخدمة (1 أي 6: 39). وقد رجع من السبي من عشيرته 128 من المغنين (عز 2: 41؛ نح 7: 44). وفي أيام زربابل أُقيم بنو آساف للتسبيح بالصنوج (عز 3: 10).
مزمور نبوي ليتروجي:
يرى البعض أنه ليس بالمزمور في معناه العادي، وإنما هو نبوة تعلن عن الدينونة العامة، وتكشف عن إدانة الله للرياء في العبادة حيث تمارس في شكليات بلا روح، وإدانة الحياة الشريرة. يرى البعض أن المزمور يُناسب عصر حزقيال حيث الإصلاح وإن كان البعض ينسبه إلى عصر يوشيا.
هو خطاب نبوي قُدم في الهيكل في مناسبة عيد كبير، يحذر من الاستخدام الخاطئ للطقس، خاصة تقديم الذبائح، كقناع يخفي وراءه العابدون شرورهم. ويلاحظ أن المزمور لم يدن طقس الذبائح في ذاته، وإنما إساءة استخدامه، كأن يظن الإنسان أن الله في حاجة إلى عبادته أو ذبائحه أو عطاياه[949].
واضح أن المزمور ينتسب إلى فترة ما قبل السبي حيث كانت أورشليم في جمالها الكامل البهي.
الإطار العام:
- ثيؤفانيا (ظهور إلهي) ملوكية [1-6].
- إدانة الشكليين في العبادة [7-15].
- إدانة الأشرار المرائين [16-20].
- تحذير [21-23].
- ثيؤفانيا ملوكية:
جاءت مقدمة المزمور تصف ظهور الله في الهيكل، أو على جبل صهيون، في نار وعاصف، ليجمع العالم كله أمام قضاء حكمه وكرسي دينونته. وإن كانت كل عيون الشر تتجه إليه فإن عيني الرب تتطلعان إلى شعبه لتقديسهم، كما تتطلع إلى القساة والمنافقين لعلهم يعرفون طريق الخلاص ويتمتعون بحياة التسبيح حتى لا يحل بهم القضاء الأبدي.
“إله الآلهة الرب تكلم،
ودعا الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربها.
من صهيون حسن بهاء جماله.
الله يأتي جهارًا.
وإلهنا لا يصمت.
النار قدامه تتقد،
وحوله عاصف جدًا” [1-3].
- الله هو إله العالم كله، لكنه في حبه للإنسان ينسب نفسه إليه، حاسبًا الإنسان التقي المتمتع بالشركة معه إلهًا، لا من حيث جوهره، وإنما من حيث تمتعه بالتمثل به والرغبة في الاتحاد مع خالقه. لهذا يدعو الله نفسه: “إله الآلهة”، أي إله القديسين المحبوبين لديه جدًا والمتمتعين بالشركة معه.
v من هم هؤلاء الآلهة؟ أو أين هم هؤلاء الذين إلههم هو الله الحقيقي!
يقول مزمور آخر: “قام الله في مجمع الآلهة، وفي الوسط يُدين الآلهة” (مز 82: 1)… لاحظ في نفس المزمور أولئك الذين يقول عنهم: “أنا قلت أنكم آلهة وبنو العلي كلكم، فأنتم مثل البشر تموتون، وكأحد الرؤساء تسقطون” (مز 82: 6-7). واضح إذن إنه يدعو البشر آلهة، إذ يتألهوا (يتقدسوا) بنعمته، ليس مولودين من جوهره… إن كنا قد صرنا أبناء الله، فإننا قد صرنا آلهة، هذا بعمل نعمة التبني وليست ولادة طبيعية.
القديس أغسطينوس
- بينما ينسب الله نفسه إلى أحبائه الذين قبلوا عمل نعمته لتقديسهم إذ به يتكلم مع الأرض كلها، من مشارق الشمس إلى مغاربها، وكما يقول القديس أغسطينوس: [الذي يدعو العالم كله إنما يدعو ما قد خلقه]. إنه يعتز بخليقته جدًا، ويكّرمها، مشتاقًا إلى خلاص الكل، ويطلبها للشهادة عن أعمال محبته الفائقة، خاصة مع أولاده. ولعل مشارق الشمس تشير إلى الصديقين الذين يشرق عليهم شمس البر، ومغاربها إلى الأشرار رافضي الرب.
- إن كان الله يدعو المسكونة، سكان الأرض كلها، ليظهر معاملاته مع شعبه، فإنه يشرق على صهيون الجديدة، أي كنيسته، بكونها موضع اختياره، وقصره الملوكي المجيد: “من صهيون حسن بهاء جماله”. جمالها إنما هو انعكاس “حسن بهاء جماله”.
مادام المزمور يحذرنا من الانشغال بالشكليات في العبادة بلا روح أو تغطية سلوكنا الشرير بمظاهر خادعة، يؤكد لنا في مقدمة المزمور أن الله يطلب جمال كنيسته وصلاحها لا عن احتياج من جانبه وإنما كانعكاس لعمله الإلهي فيها. خلال العبادة بالروح والحق والسلوك المقدس يشرق عريس الكنيسة عليها، ويتجلى في داخلها فتستنير ببهائه، وتحمل جماله، وتتمتع بالطاعة لإرادته بفرح وسرور.
سرّ بهاء صهيون الجديدة هو عمل الروح القدس فيها، الذي يأخذ مما للمسيح ويخبرها، ليُشكّلها ويجّملها فتصير على مثال عريسها، تحمل سماته. يقول القديس أغسطينوس: [في هذا الموضع (صهيون) كان التلاميذ الذين قبلوا الروح القدس المُرسل من السماء في يوم الخمسين بعد قيامته. عندئذ (ظهر) الإنجيل فالكرازة، وامتلأت الأرض بنعمة الإيمان].
- الله في حبه يطيل أناته جدًا، لكنه حتمًا يأتي ليُدين ولا يصمت. كلما تأخر الله تكون العقوبة أشد متى حلت. لقد انتظر الله 120 عامًا على العالم القديم، وعندما حلَّ الطوفان واكتسح الكل؛ كان المنظر أكثر رعبًا مما يتخيله أحد[950].
“الله يأتي جهارًا،
وإلهنا لا يصمت” [3].
v عندما جاء الرب كان مختفيًا، لأنه جاء لكي يتألم، ومع كونه قويًا في ذاته ظهر في الجسد ضعيفًا. كان يحتاج أن يظهر بطريقة لا يُدرك بها، فيُحتقرّ ويُقتل. كان ذلك اخفاءً لمجد اللاهوت في الجسد. “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 8). هكذا سار مختفيًا بين اليهود، بين أعدائه، يصنع عجائب، ويحتمل شرورًا، حتى عُلّق على الخشبة. وإذ رآه اليهود معلقًا بالأكثر احتقروه وكانوا ينغصون رؤوسهم أمام الصليب، قائلين: “إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب” (مت 27: 40). كان إله الآلهة مخفيًا، مقدمًا كلمات أكثر حنوًا مما تصدر عن جلاله…
كان مخفيًا عن الذين سار بينهم، وعن الذين صلبوه، وأيضًا عن الذين قام أمام أعينهم، وعنا نحن الذين نؤمن إنه يجلس في السموات، نحن الذين لم نره على الأرض ماشيًا…
كان إله الآلهة مخفيًا ولا يزال مخفيًا، فهل يبقى مخفيًا إلى الأبد؟ حتمًا لا، اسمع ماذا يُقال: “الله سيأتي جهارًا”. ذاك الذي جاء مخفيًا سيأتي جهارًا. جاء مخفيًا لكي يُحِاكَم، وسيأتي جهارًا لكي يُدين. جاء مخفيًا لكي يقف أمام قاضٍ، وسيأتي جهارًا ليُدين حتى القضاة.
“الله يأتي جهارًا، وإلهنا لا يصمت”… أنه ليس صامتًا وصامتُ أيضًا؛ إنه لا يصمت من جهة التحذير، وصامت عن المعقبة؛ ليس صامتًا عن الوصية وهو صامت عن الدينونة…
إنه صامت عن الدينونة؛ إذ هو مخفي في السماء، يشفع فينا، إنه طويل الأناة بالنسبة للخطاة، لا ينتقم، لكنه ينتظر التوبة[951]!
القديس أغسطينوس
v “سيأتي إلهنا ولا يصمت”. حينما يأتي ليُدين الأحياء والأموات، ويعطي كل واحد حسب أعماله. حينما يوقظ البوق بصوته المرهوب أولئك الذين رقدوا عبر الأجيال؛ ويأتي الذين عملوا الصالحات إلى قيامة الحياة، والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة[952].
القديس باسيليوس الكبير
v عندما يأتي جهارًا في مجيئه الثاني لا يصمت، لأنه إن كان قد التحف بالاتضاع في مجيئه الأول إلا أنه يأتي جهارًا في قوة[953].
الشهيد كبريانوس
v حقًا يقول: الآن إني صامت لأني لا أزال أُرجيء العقاب، فهل حينما تفعلون هذه الأمور أسكت عنكم؟ إن كنت لم أصدر حكمًا فإني أؤجل تأديبي الصارم وأطيل أناتي لنفعكم. لقد انتظرت توبتكم زمانًا طويلاً؛ فهل عندما تفعلون هذه الأشياء أصمت عنكم؟ إنني أُرقب ذلك بمنتهى الدقة لتتوبوا ولا زلتم تحتقروني وترفضون الالتفات إلى الرسول: “من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب. واستعلان دينونة الله العادلة” (رو 2: 5)…
إنك تخدع نفسك حتى إن قدمت كل ما لديك وفقدت أموالك، دون الكفارة عن خطاياك. هل تظن إنني مثلك؟ سأوبخك؟… ماذا أفعل بك؟ إنك الآن لا ترى نفسه، فسأجعلك ترى نفسك. فإنك إن رأيتها واستأت منها تُسرّني! وطالما لا ترى نفسك فأنت راضٍ عليها، فتسيء إليّ وإلى نفسك…
إنك تغلق على ذاتك، فهذه هي رغبتك. إنك تقف خلف ظهرك فلا ترى نفسك؛ سأجعلك تراها بأن أضع أمام عينيك ما قد وضعته أنت خلف ظهرك، فترى بشاعتك، لا لكي تقّومها، بل لكي تحمر خجلاً إزاءها[954]!
الأب قيصريوس أسقف آرل
الله يصمت عن العقوبة هنا منتظرًا توبتنا، حتى متى جاء في اليوم الأخير نتمتع بجمالها الإلهي وشركة أمجاده، وإلا يصير اليوم مرعبًا. نرى قدامه النار تتقد التي تُمحّص حياتنا، فإن كنا ذهبًا وفضة نزداد بهاءً، وإن كنا عشبًا وقشًا نصير رمادًا. حوله عاصف شديد جدًا، يفصل الحنطة عن الزوان!
“النار قدامه تتقد،
وحوله عاصف جدًا” [3].
v “النار قدامه تتقد”، أتخاف؟ لنتغير فلا نخاف. ليُخفَ التبن من النار، ولكن ماذا تفعل النار بالذهب؟… ستأتي عذوبة حضرته. إن كنت لا تتغير، لا تستيقظ ولا تتنهد، ولا تشتاق (إليه)، بل تحتضن خطاياك وملذات الجسد فإنك تجمع جُذامة (التبن المتبقي بعد الحصاد) لنفسك، النار قادمة!…
إن كنا نؤمن أن الدينونة قادمة يا إخوة، لنحيا حسنًا. الآن هو وقت للرحمة، وسيأتي وقت للحكم. سوف لا يقول أحد: “ردني إلى أيامي السابقة”.
v وحوله هذا العاصف الذي يصنع نوعًا من الفصل… بين الصالحين والأشرار… البعض يُدين مع الرب (مت 19: 28)، والآخرون يُدانون.
القديس أغسطينوس
يرى بعض الآباء مثل القديس أثناسيوس والعلامة أوريجانوس ويوسابيوس القيصري أن المرتل يتحدث هنا عن مجيء الله الكلمة متجسدًا، أي المجيء الأول، حيث يأتي جهارًا أي منظورًا خلال التجسد، وينطق بشفتيه بعدما تحدث قبلاً خلال الرموز والأنبياء، يبعث بروحه الناري على كنيسته لتقديسها حيث يتم العاصف الشديد كما حدث يوم الخمسين في عُليّة صهيون (أع 2: 2). بينما يرى آباء آخرون مثل القديسين ديديموس الضرير وأغسطينوس أنه يتحدث عن مجيئه الثاني للدينونة.
v قوله “سيأتي جهارًا” يعني أنه يكون منظورًا وملموسًا بجسد بشري، “لا يصمت” لأنه قد قال وتكلم وأخبر عن مشيئة أبيه ولم يخفِ شيئًا مما أدى إلى خلاص الأمم.
أما النار المتقدة أمامه فهي حرارة الروح القدس التي قال من أجلها ربنا: قد أتيت لألقي نارًا. ولما كنا بادرين (مثلجين) من الخطايا جعلتنا هذه النار حارين بالروح القدس، كما ألهبت قلبيْ اللذين خاطبهما في الطريق إلى عمواس وقال: “ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يكلمنا في الطريق؟!” (لو 24: 32). وأيضًا النار التي تصاحب المعمودية إذ قيل إنه يعمد بالروح القدس ونار، لأنه يحرق ويُبدد دنس خطية المعمدين. وأيضًا من أجل هذه النار جاء في الأصحاح الثالث من نبوة ملاخي النبي: “لأنه مثل نار المُمحص ومثل أشنان القصَّار، فيجلس مُمحصًا ومُنقيًا للفضة (والذهب)” (ملا 3: 2). وقد قيل عن جماعة اليهود الذين لم يقبلوا المعمودية المقدسة: “قد غاب المنفاخ من النار، فنى الرصاص؛ باطلاً صاغ الصائغ” (إر 6: 29)…
يقول العلامة أوريجانوس: [إن النار والعاصف هما سلطان ربنا يسوع المسيح وقدرته. كأن النبي يقول: وإن كان قد جاء بجسد بشري لكن له القدرة والسلطان، بهما يُلهب ويضرب الذين لا يطيعونه].
وأما يوسابيوس فيقول: [إن العاصف هي الشدائد والضيقات التي تلحق بالمؤمنين].
الأب أنثيموس أسقف أورشليم
يُقدم لنا الأب أنثيموس الرأيين بخصوص الظهور الألهي: ظهور للخلاص بالتجسد وظهوره الأخير للدينونة. الأول ليُقدم نار الروح الذي يلهب القلوب بالحب الإلهي، والثاني نار الدينونة والعدل الإلهي التي تفرز أولاد الله عن الأشرار.
خلال هذا الظهور الإلهي المهيب حيث تتقد النار قدامه وحوله عاصف جدًا، يدعو الديان السماء والأرض لتشهدا حكمه، حيث يفصل المؤمنين الحقيقين عن المرائين، والحنطة عن الزوان.
يوجه دعوة عامة إلى كل الخليقة السماوية والأرضية للشهادة، أما أتقياؤه الذين دخلوا في عهد معه خلال ذبيحة الصليب فيجمعهم ليكونوا معه يتمتعون بيمينه:
“يدعو السماء من فوق والأرض
إلى محاكمة شعبه.
اجمعوا إليه أبراره،
الواضعين عهده على الذبائح.
وتخبر السموات بعدله،
لأن الله هو الديان” [4-6].
سبق فدعى المسكونة من مشارق الشمس إلى مغاربها، وقد قلنا إنه يقصد الأبرار الذين أشرق عليهم شمس البر بنوره على قلوبهم، والأشرار الذين يغرب عنهم الإيمان بشمس البر؛ وربما يقصد بمشارق الشمس جماعة اليهود الذين عرفوا الله مبكرًا والمغارب الأمم الذين عرفوه في أواخر الدهر… هنا يدعو السماء أي الطغمات السمائية، والأرض أي البشر جميعًا، لكي يشهد الكل عدل الله في محاكمته لشعبه.
يطلب أن يُجمع أبراره الواضعون عهده على الذبائح، وكما يقول القديس ديديموس الضرير: [يأمر ربنا الملائكة والرجال الأفاضل أن يجمعوا له أبراره وقديسيه ليضعوا ويرتبوا عهدًا، ويقدموا قربان التسبحة، ويذبحوا ذبائح روحية يهواها[955]].
ويرى القديس أثناسيوس أن الأمر هنا صادر بخصوص الأبرار من اليهود قبل يوم الدينونة ليكفوا عن تقديم الذبائح الحيوانية ويبطلونها، ويستبدلونها بقرابين الفهم والعلم. وبمعنى آخر هي دعوة لقبولهم الإيمان بذبيحة السيد المسيح عوض إنكارهم الإيمان به.
ويرى يوسابيوس القيصري أن الرب يرسل ملائكته ليجمعوا الأبرار ويفرزوهم عن الأشرار ما جاء في الإنجيل المقدس عن يوم الدينونة.
ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الدعوة هنا موجهة إلى جميع اليهود الذين قطعوا عهد الله خلال الذبائح، وقد ظنوا أنهم أبرار لممارستهم العبادة في شكليات بلا روح، ولسلوكهم الشريرة.
جاء تعليق القديس أغسطينوس على العبارت السابقة [4-6] هكذا:
v يدعو من فوق السماء، كل القديسين، هؤلاء الذين صاروا كاملين يحكمون، يجلسون معه ليدينوا أسباط إسرائيل الإثنى عشر (مت 19: 28)…
في البداية دعى الكل معًا عندما “تكلم إله الآله ودعا العالم من مشارق الشمس إلى مغاربها”. لم يكن بعد قد حاكم. لقد أُرسل الخدام ليدعو إلى العرس، فجمعوا الصالحين والطالحين. ولكن عندما يأتي إله الآلهة جهارًا ولا يصمت فإنه يدعو السماء من فوق، لكي تُدين معه…
يجمعوا إليه أبراره. من هم أبراره إلا الذين يعيشون في الإيمان ويمارسون أعمال الرحمة. فإن هذه الأعمال هي أعمال البر…
حقًا السموات (الإنجيليون) تعلن عن برّ الله لنا. لقد سبق الإنجيليون فأخبرونا فسمعنا أن البعض سيكونون عن اليمين حيث يقول رب البيت: “تعالوا يا مباركي أبي، رثوا…”.
بالحق الديان يحكم ولا يخلط، لأن الرب يعرف من هم له. فإنه وإن كانت الحنطة مختفية في التبن لكنها معروفة للمزارع. ليته لا يخف أحد حتى وإن كان حبة حنطة وسط التبن، فإن عينيْ المذرّى لا تُخدعان. لا تخشى العاصف الذي حوله من أن يخلطك مع التبن.
القديس أغسطينوس
- إدانة الشكليين في العبادة:
يُستهل هذا القسم [7-25] بمقدمة فب الآية [7] يؤكد فيها المتكلم: “إني أنا هو الله إلهك”… فإن كان هو الله خالق الكل: السماء والأرض، لكنه مُنتسب إلى سامعيه بكونه إله شعبه المحبوب لديه؛ يجمع المؤمنين ليكشف لهم الفكر الروحي الحيّ للعبادة. فهو لا يطلب استصدار حكم، بل إلقاء ضوء على الحق، والكشف عن مفاهيم العبادة، والدخول بشعبه إلى حياة التوبة. ففي تقديم الذبائح يطلب ذبيحة القلب الكاملة، أي ذبيحة المحرقة الروحية، كما يطلب تهليل النفس بإلهها، أي ذبيحة الحمد والتسبيح. إنه لا يحتاج إلى طعام (ذبائح حيوانية) ليأكل بل إلى إقامة عهد مع شعبه.
“اسمع يا شعبي فأكلمك،
ويا إسرائيل فأشهد عليك.
إني أنا هو الله إلهك،
لست أوبخك على ذبائحك،
محرقاتك هي قدامي في كل حين” [7-8].
عجيب الله في معاملاته مع الإنسان، فإنه حتى حينما ينتقد أو يُعاتب أو يوبخ لا يستخدم كلمات جارحة بل في لطف يبدأ بكلمات رقيقة للغاية تجتذب النفس إليه لتتقبل كلماته. نُلاحظ هنا في توبيخه الآتي:
- يدعوهم “شعبي“… وكأنهم يقول لهم أنتم لي، إن إنتقدتكم فليس للتشهير بكم ولا لمحاكمتكم، وإنما لتقديسكم… ما يمسكم يمسني: “أنا هو الله إلهك”! أنتم تنتسبون لي وأنا لكم، لذا فالأمر يحتاج إلى صراحة كاملة خلال دائرة الحب!
v إنه يأتي ولا يصمت؛ أنظر كيف أنه حتى الآن، إن سمعت لا يصمت.
إسمع يا شعبي فأكلمك، فإنك إن لم تسمع لا أتكلم معك…
متى تسمع؟ عندما تكون شعبي!
“اسمع يا شعبي”، فإنك لا تسمع لي حين تكون شعبًا غريبًا (عني)!
القديس أغسطينوس
- يبدأ حديثه لا بالعمل السلبي، أي بالكشف عن ضعفاتهم وأخطائهم ومفاهيمهم غير الصحيحة، وإنما بالعمل الإيجابي، وهو “الاستماع” أو “الطاعة”، فإن الاستماع أفضل من ذبائح الجهال. يطالب الله شعبه بالاستماع قبل أن يحدثهم عن اتجاهاتهم الخاطئة في العبادة والسلوك!
- إذ ينتقدهم الله في عبادتهم وسلوكهم يقدم لهم ذاته هبة وعطية حتى لا يحسبوه رافضًا إياهم، فيقول: “أنا هو الله إلهك”. وكما يقول القديس أغسطينوس: [انظروا الله نفسه يُعطي ذاته. أي غني أعظم منه؟ تطلبون عطايا، ها هو لكم واهب العطايا نفسه: “أنا هو الله إلهك”].
- إن كانت الشريعة الإلهية قد ركزت على الحياة المقدسة في الرب، فإن الذبائح الحيوانية لم تكن إلا ظلاً لذبيحة حمل الله أو ذبيحة كلمة الله المتجسد، فإنه هو وحده القادر على المصالحة بين الآب والبشرية، وعلى تجديد طبيعتنا بروحه القدوس في استحقاقات دمه الثمين. الله ليس بمحتاج إلى ذبائح، وهو لا يجوع! لقد أخطأوا حين ظنوا أنهم يجلبون رضا الله وسروره بكثرة ذبائحهم كتغطية على شرورهم التي لا يودون التوبة عنها. فإن الله لن يُحاسبنا عن تقديم ذبائحنا وإنما عن تقديس حياتنا به وفيه.
“لست أوبخك على ذبائحك،
محرقاتك هي قدامي في كل حين” [7-8].
v أي أنكم لو تهاونتم في تقديم الذبائح فلا أوبخكم، وإن لم تقدموا لي محرقات فكأنها هي تجاهي دائمًا، أن الله قد مدح هابيل وقبل تقدمته وترك قربان قايين. ليس هذا نظرًا إلى ما قدماه بل إلى ضميريهما ونيتهما. وهكذا تقدمة المسيحيين إن كانت بنيّة صالحة يقبلها. وهكذا يكون الأمر في سائر الفضائل إذا مارسها الإنسان بقلب مستقيم يقبلهما منه.
الأب أنثيموس أسقف أورشليم
إن كان الله لا يوبخ شعبه لعدم تقديم الذبائح الحيوانية لكنه يطلب المحرقات الروحية التي هي قدامه في كل حين، أي محرقة “بذل الذات”، حيث تُقدم على مذبح القلب الملتهب بنار الروح القدس بلا انقطاع.
v يقول إن محرقات معينة يقبلها الله؛ ولكن، ما هي المحرقة holocaust؟ كلمة “Causis” تعني “يحترق”، “holon” تعني “بالكامل whole“. فالمحرقة هي احتراق كامل بالنار. توجد نار معينة للحب الأكثر احتراقًا.
ليلتهب العقل بالحب، ولينتقل سريعًا إلى الأعضاء، فلا يسمح لها أن تخدم الطمع؛ فنتوهج بالكامل بنار الحب الإلهي التي تقدمنا محرقة لله. مثل هذه المحرقة “هي قدامه في كل حين”.
القديس أغسطينوس
“لست أقبل من بيتك عجولاً،
ولا من قطعانك جداءً.
لأن لي هي كل وحوش البر.
البهائم التي في الجبال والبقر.
قد عرفت سائر طيور السماء،
وبهائم الحقل هي معي” [9-11].
v لقد سبق فأخبر عن العهد الجديد، الذي فيه بطلت كل هذه الذبائح. فقد كانت تُنبئ عن ذبيحة معينة تُقدم، الدم الذي به نتطهر: “لست أقبل من بيتك عجولاً، ولا من قطعانك جداءً”…
القديس أغسطينوس
v يظهر الطوباوي بولس أن خدمة الناموس (الذبائح حسب الشريعة) عاجزة عن التقديس[956].
القديس كيرلس الإسكنري
لم يطلب الله الذبائح الحيوانية إلا بكونها رمزًا لذبيحته الفريدة، التي قدمها الكلمة المتجسد. فالله ليس في عوز إلى ذبائح أو خدمات بشرية، إنما الإنسان في حاجة إلى مصالحته مع الله الذي لا يعوزه شيء، لأن كل الخليقة هي من صنع يديه وتخضع له، لكن الإنسان في حالة عوز واحتياج.
v قول دود: “لست أقبل من بيتك عجولاً” هو نبوة تشير إلى إبطال الذبائح عندما يحل الوقت المعين…
كان العبرانيون يقدمون لله إما من الحيوانات بقرًا وتيوسًا وخرافًا وما يماثلها، وإما من الطيور حمامًا ويمامًا، وإما من الأثمار فريكًا وخمرًا وزيتًا. فيقول الرب إن الوحوش والبهائم والطيور وكل ما في جملة الأض والحق أنا صنعتها وأنا أُعطيها، وهي لي، أعني صنعتي وعطيتي.
الأب أنثيموس أسقف أورشليم
v لم يأخذ منكم ذبائح ولا أمر بها أولاً أن تُقدم له عن احتياج وإنما من أجل خطاياكم… فبالحقيقية اعتبر الهيكل الذي في أورشليم بيته أو ساحته لا كمن هو محتاج إليه وإنما لكي تقدموا أنفسكم له، ولا تتعبدوا للأوثان. ولهذا يقول إشعياء: “أي بيتٍ تبنون لي، يقول الرب، السماء كرسيّ والأرض موطئ قدميَّ”[957].
القديس يوستين
v إن لي ما تمتلكه وما لست تمتلكه. فإن كنت خادمي فكل ممتلكاتك هي لي…
قد عرفت سائر طيور السماء التي لا تقدر أنت أن تُعطيها…
“وجمال الحقل هو معي”. أفضل ما في الحقل، كل ما هو وفير… هو معي… أنت محتاج إلى ما لديك، أما الله فليس محتاجًا إلى الحقل الذي معه. معه الحقل، ومعه جمال الأرض، ومعه جمال السماء، ومعه الطيور، لأنه هو موجود في كل مكان.
القديس أغسطينوس
لعل الله يود أن يوبخ الإنسان الذي يظن أنه يُقدم خدمة لله عندما يدخل بذبائح وتقدمات إلى هيكله المقدس، فإن الله ليس محتاجًا إلى شيء من كل الخليقة. يقول إن هذه الخليقة هي لي، لأني خالقها، وأنا أعرفها لأني عالم بكل شيء، وهي معي لأني حال في كل موضع. وكأنه يقول: إن كانت الحيوانات والطيور والمحاصيل الزراعية هي لله فبالأولى الإنسان على صورة الله ومثاله أن يكون له. الله لا يطلب ما بين يديْ الإنسان بل يطلب الإنسان نفسه. وإن كان الله عارف بهذه الخلائق فهو يعلم أعماق قلب الإنسان، يهتم حتى باحتياجاته الخليقة، وإن كان الله حاضرًا مع خليقته أينما وُجدت فهو يطلب أن يسكن في قلب محبوبه الإنسان ليهبه شركة الحياة معه!
بمعنى آخر الله لا يطلب ذبائح وتقدمات وهبات إنما يطلب الإنسان نفسه أن يُبادله الحب: يقدم نفسه مِلكًا لمن قدم ذاته له يمتلكه، ويقبل رعايته وعنايته ونعمته، ويدخل معه في شركة واتحاد! خلال هذا المفهوم يقدم الإنسان كيانه كله محرقة حب يشتمها رائحة رضا وسرور.
“إن جعت فلا أقول لك.
لأن لي المسكونة وكل ما فيها.
هل آكل لحم الثيران.
أو أشرب دم التيوس؟!” [12-13].
كان الله يُرسل نارًا لتلتهم الذبيحة علامة قبوله إياها، ورضاه على مقدمها. هذه النار النازلة من السماء كانت تُحسب أشبه بفم الله… إنه لا يأكل لحوم حيوانات أو يشرب دمها، إنما يعلن عن جوعه إلى قلب الإنسان: “يا ابني اعطني قلبك، ولتلاحظ عيناك طرقي” (أم 23: 26).
لقد جاع كلمة الله المتجسد وعطش، وكما قال لتلاميذه: “أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم… طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله” (يو 4: 32، 34). طعامه أن يتمم مشيئة أبيه، ألا وهي خلاص بني البشر والدخول بهم إلى مجد ميراثه.
لقد افتقر وهو الغني لكي بفقره يغنينا؛ وجاع لكي يشبعنا، وعطش لكي يروينا بينابيع روحه القدوس.
v من أجلنا رسم إله الآلهة أن يجوع؛ جاء ليجوع ويشبعنا!
جاء ليعطش ويروينا.
جاء لكي يكتسي بالقابل للموت لكي يكسونا بالخلود!
جاء فقيرًا ليغنينا! فإنه لم يفقد غناه باقتنائه فقرنا، إذ هو “المذّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو 2: 3). “إن جعت فلا أقول لك، لأن لي المسكونة وكل ما فيها” إذن لا تتعب لتجد ما تعطيني إياه، فإنني بدونك لي كل ما أريده.
القديس أغسطينوس
إذن ماذا يطلب الله منا؟
“اذبح لله ذبيحة التسبيح.
أوفِ العلّي نذورك،
وادعني في يوم شدتك،
فأنقذك وتمجدني” [14-15].
إن كان الله لا يُسر بالذبائح الحيوانية التي تقوم على عشور الإنسان أو الجماعة باحتياج الله إليها، إنما يقبلها كرمز لذبيحة الصليب التي تحقق المصالحة مع الله، والقادرة على تجديد الإنسان الداخلي، فما هي ذبيحة التسبيح التي يطلبها الله؟ وماذا يعني بايفاء النذور؟
قدم السيد المسيح حياته مبذولة لأجلنا، لكي يُصلح من طبيعتنا الفاسدة ويحوّله إلى طبيعة جديدة مقدسة في الرب، وبهذا نتحول من حالة الجحود إلى حالة شكر مع تسبيح لله وحمد، لهذا تُدعى ذبيحة الصليب “أفخارستيا” أي “الشكر”.
إذ نتناول جسد الرب المبذول ودمه الكريم يليق بنا أن نعيش شاكرين ومسبحين له في كل ظروف حياتنا. بهذا نذبح للرب “ذبيحة تسبيح” ونوفي له نذورنا.
v ما هي المحرقة الروحية؟ “ذبيحة التسبيح”!
أين نقدمها؟ في الروح القدس[958].
القديس باسيليوس الكبير
يرى القديس أغسطينوس أن ذبيحة التسبيح وإيفاء نذورها لا يتحقق بالكلمات وحدها بالممارسة العملية، فنُعَبَّر عن شكرنا لله وفرحنا به وتسبيحنا له بحبنا لاخوته الأصاغر الذين هم في احتياح مادي أو نفسي أو روحي، كما نقدمها بالقلب المستقيم في الرب.
v كان لزكا ذبيحة التسبيح هذه في ميراثه،
وكان للأرملة في حقيبتها…
والبعض لهم هذه بالكامل في قلوبهم…
“اذبح لله ذبيحة التسبيح”. يا لها من ذبيحة مجانية، توهب لنا بالنعمة! حقًا إنني لست أحضرها لكي أقدمها، بل أنت تهبني إياها، فإنه حتى هذه ليست من عندي!
هذا هو ذبح ذبيحة التسبيح، أن ترد الشكر لذالك الذي أعطاك الصالحات، وبرحمته غفر لك الشرور التي لك…
بهذه الرائحة الذكية يُسر الله!
القديس أغسطينوس
يرى بعض الآباء[959]. أن السيد المسيح هو ذبيحة التسبيح التي قدمها ممثلاً عن البشرية، فمن يقتني السيد في حياته، إنما يقتني حياة الشكر والتسبيح، مشتاقًا أن يموت كل النهار من أجل الله… بهذا يقدم ذبيحة التسبيح ويوفي نذوره.
إن كنا نقدم ذبيحة التسبيح ونوفي هذا النذر باتحادنا بالمسيح الذبيح، فإننا نطلب الله في وقت الضيق فينقذنا ويتمجد فينا.
كثيرون يتجاهلون “واو” العطف في كلمة “وأدعني”… فإن الوعد الإلهي بإنقاذنا يضع شرط التسبيح وإيفاء النذر الروحي عتذئذ ندعوه فيتمجد فينا! فإن الله يطلب القلب المتهلل به والمتكل عليه عندئذ يتحقق له كل طلباته ويسمع صلواته. بمعنى آخر الله يسمح لنا بالضيق لنتعلم أمرين: التسليم له بفرح والصراخ إليه… إنه يشتاق إلى راحتنا، ويود أن يهبنا أكثر مما نسأل وفوق ما نطلب، لكنه يسمح بالضيق حت نتكئ عليه بفرح ويزداد التصاقنا به.
يرى البعض أن يوم الضيق هنا هو يوم الدينونة، فإنه ليس ما ينقذنا منه إلا التمتع بعربون الحياة السماوية هنا، أي حياة التسبيح، فنجد في يوم الرب يوم عُرس سماوي!
- ادانة الأشرار المرائين:
يكمل المرتل حديثه إلى المرائين الاسميين في إيمانهم، الذين يمارسون العبادة ويقدمون الذبائح لكنهم متمسكون بشرهم، لهذا يصرّ على فضح الخطية والاعتراف بها والهروب منها، قبل مجيء الرب ليُدين شعبه.
- الالتزام بطاعة الوصية وليس مجرد النطق بها أو الكرازة بها:
“للخاطئ قال الله:
لماذا تحدث بعدلي؟
وتأخذ عهدي فيك؟” [16]”.
v ماذا أكون إذن وأنا لا أسمع ما يقوله (الله) فيّ بينما أُريد أن يسمع الآخرون ما ينطق به الله خلالي؟
لأسمع أولاً، وخاصة ما ينطق به الرب الإله فيّ، وعندئذ يتكلم بالسلام مع شعبه (خلالي).
لأسمع و”أقمع جسدي وأستعبده حتى بعد ما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 9: 26).
لماذا تحدث بعدلي؟… إنه ينصحه أن يسمع، لا أن يكرز بل أن يطيع!
القديس أغسطينوس
جاء في الترجمة السبعينية: “التسبيح غير لائق في فم الشرير”.
v “لا يليق التسبيح في فم الشرير، لأنه كيف يمكن لنا أن نسبح الله بفهم نجس؟!
إذ لا تقوم معًا الأشياء المتناقضة، فإنه أية خلطة للبر والاثم؟! وأية شركة للنور مع الظلمة؟! (2 كو 6: 14). هكذا يعلن خادم الإنجيل[960].
القديس أثناسيوس الرسولي
يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن هذا القول ينطبق على الهراطقة الذين يستخدمون عبارات كتابية كمن يكرزون ويشهدون للحق ولكن بخبث وشر، لهذا عندما كان الشيطان يستخدم عبارات كتابية كان المخلص يبكمه[961]، إذ كان الرب يخشى لئلا تُلقي الشياطين بذار الشر مع الكلمات الإلهية فتُهلك سامعيها[962].
- قبول تأديب الرب:
“وأنت قد أبغضت أدبي،
وألقيت كلامي إلى خلفك” [17].
لكي تكون عبادتنا وكرازتنا مقبولة يليق بنا أن نقبل أحكام الرب في حياتنا وتأديباته بفرح وسرور… فإن من يرفض التأديب يكون كمن وضع كلام الرب خلف ظهره، فكيف يجسر ويعبد الله أو يشهد له؟!
v لقد أبغضت التأديب. عندما أصفح تُرتل وتُسبح، وعندما أؤدب تتذمر. عندما أعفو أكون إلهك، وعندما أؤدب لا أكون إلهك. “إني كل من أحبه أوبخه وأؤدبه” (رؤ 3: 19).
القديس أغسطينوس
- عدم الشركة مع الأشرار:
“إذا رأيت سارقًا سعيت معه،
ومع الفسقة جعلن نصيبك” [18].
هذه ثمرة عدم قبول تأديب الرب، أن تكون للإنسان شركة مع الأشرار في شرهم، أو على الأقل رضا بما يفعلونه وكما يقول القديس أغسطينوس: [إنك لا تفعل الشرور، فهل تمدح فاعلي الشر؟!].
v أن تعلن برَّ الرب وعهده ولا تفعل ما يفعله الرب، ماذا عساه؟ إنه طَرْحُ لكلماته، واحتقار لتعاليم الرب، وارتكاب لسرقات وزنا روحي لا أرضي.
من يسرق الحق الإنجيلي وكلمات ربنا وأعماله ويختلسها، إنما يفسد الوصايا الإلهية ويدنسها، كما هو مكتوب في إرميا: “ما للتبن مع الحنطة يقول الرب؟… لذلك هأنذا على الأنبياء يقول الرب، الذين يسرقون كلمتي بعضهم مع بعض… الذين يضلون شعبي بأكاذيبهم واستخفافهم” (إر 23: 28-32)[963].
الشهيد كبريانوس
هكذا يحسب المرتل من يُعلّم بكلمة الرب ولا يتممها كمن يختلسها ويخونها، أو كمن يرتكب زنا روحي. هذا ما فعله بعض قادة اليهود في عصر السيد المسيح، إذ كانوا مؤتمنين على كلمة الله، يظهرون غيرة في تعليمهم للشريعة، وفي نفس الوقت رفضوا الرب، ودبروا قتله، بينما التصقوا بيهوذا السارق وبارباس الفاسق وجعلوا نصيبهم معهما.
يرى العلامة ترتليان[964] أنه يليق بنا لا أن نكف عن هذه الشرور (السرقة والزنا) فحسب وإنما أن نقطع علاقتنا بمن يرتكبونها، فننفصل عنهم فيما هم يسلكونه من الشر. إننا معهم في ذات العالم لأنه من خلقة الله الصالح، لكننا لسنا معهم في السلوك العالمي الشرير الذي وُضع تحت سلطان إبليس. بمعنى آخر، لنحيا معهم في العالم ولكن ليس بروح العالم الشرير!
- انتزاع الخداع والمكر:
“فمك أكثر من الشر،
ولسانك ضفر غشًا.
إذا جلست تقع بأخيك
وعلى ابن أمك وضعت شكًا” [19-20].
هنا يشير إلى اليهود رافضي الإيمان، إذ كانوا يخططون إبادة إخوتهم المسيحيين كما فعل شاول الطرسوسي الذي لم يكف عن استخدام كل وسيلة للتشكيك في الإيمان بالمسيح، ووضع معثرة لإخوته، حتى ظهر له الرب نفسه، قائلاً له: “صعب عليك أن ترفس مناخس” (أع 9: 5).
بالنسبة لنا يليق بنا ألا نكون نمامين، ولا نحكم على الآخرين، ولا نكون مخادعين.
ما هو الفارق بين “أخيك” و”ابن أمك”؟ ربما قصد بالأولى كل إنسان لأن البشر جميعًا إخوة، وبالثانية “الإنسان المسيحي” بكونه ابن الكنيسة أم المؤمنين. فمن أطلق للسانه العنان للخداع يعثر الكل: المؤمنين وغير المؤمنين!
v احترزوا من أن يكون لكم لسان أو آذان مستحكّة؛ أي لا تشوّه سمعة الآخرين ولا تنصت لمن يقذفون الغير[965].
القديس جيروم
- تحذير:
“هذه صنعتها وسكت،
فظننت إثمًا إني أكون مثلك.
أوبخك وأقيمها أمام وجهك.
افهموا هذه أيها الذين نسوا الله
لئلا يخطف ولا يكون منقذ” [21-22].
v أعني أني قد أمهلت وأطلت أناتي منتظرًا توبتك ولم أعاقبك وقتئذ. وأما أنت فظننت أن إمهالي هو رضا مني على رذائلك. ولكنني أوبخك على قلة ندامتك، وفي يوم الدينونة أشهر بأعمالك أمام وجهك.
الأب أنثيموس الأورشليمي
يُقدم لنا الأب قيصريوس أسقف آرل[966]. تفسيرًا مطولاً لهذه العبارات، جاء فيه:
- الإنسان في شره ليس فقط يُسر بآثامه، وإنما يظن أن الله أيضًا مثله يُسر بهذه الأفعال، وهكذا يجعل من الله قاضيًا غير بار، يُشاركه مشاعره الخاطئة. هكذا يستغل الشرير طول أناة الله، حاسبًا ذلك رضا منه على أفعاله.
- إن كان الله في طول أناته يسكت ولكنه في يوم الدينونة يوبخه، حيث يأتي بأفعاله الشريرة التي وضعها الشرير وراء ظهره، ويقيمها أمام وجهه في دينونة علنية عامة.
- أساء الأشرار فهم طول أناة الله وصمته على شرورهم، فنسوا الله أو تجاهلوا وجوده أو لم يضعوا دينونته في حساباتهم… وبهذا نسوا حياتهم وأبديتهم.
- يصير الله بالنسبة لهم كديان أشبه بأسد “يخطف ولا يكون منقذ”!
- العلاج هو التسبيح لله بالقلب والعمل والشفتين كطريق للتمتع بالمخلص:
“ذبيحة التسبيح تمجدني،
وهناك الطريق
حيث أريه خلاص الله” [23].
يختم حديثه قائلاً:
[أنصحكم يا أحبائي بمعونة الله أن نُجاهد ما استطعنا.
لنسبح الله بحياة صالحة كما بالكلمات.
لأنه من الأفضل أن نصمت ونصنع الخير من أن نسبحه ونرتكب الإثم. فإن كان أحد يحمد الله بلسانه وبحياته في آن واحد، أي بالكلمات والأعمال الصالحة، يجلب عليه نعمة الله مضافعة. فإن كان عاجزًا عن تسبيحه بالكلمات، فليسبحه بالأعمل الصالحة والصلاة الدائمة والأفكار المقدسة. إن كنا نفعل هذا على الدوام يمكننا أن نحمد الله بضمير صالح في هذا العالم، ونبلغ إلى الفرح الأبدي في الحياة الآتية في سعادة].
العبادة بالروح والحق
v بحبك اخترتنا شعبًا لك،
لا لتهبنا خيراتك فحسب،
وإنما تعطينا ذاتك واهب الخيرات!
أغنيتنا بك،
وأرويت أعماقنا بروحك القدوس!
v ماذا أرد لك؟
أنت لست بمحتاج إلى شيء!
الخليقة كلها هي لك، أنت تعرفها، وهي معك!
أقدم لك قلبي لكي تعرفه متبررًا بدمك، ويكون معك!
v لستَ محتاجًا إلى محرقات دموية!
إقبل نيران قلبي الملتهبة حبًا محرقة حب!
إقبل حياتي ذبيحة تسبيح!
v علمني كيف أسبحك بفمي كما بفكري وقلبي وكل حياتي!
أحملك في داخلي، فتلهج كل حياتي بالتسبيح!
تعمل نعمتك فيّ، فتهبني شركة التسبيح مع ملائكتك.
v قدسني فأسبحك،
فأنه لا يليق بفم الشرير أن يُسبحك!
لتكن أنت فرحي وتسبحتي!