تفسير يشوع بن سيراخ ٢٤ للقس أنطونيوس فكري
الإصحاح الرابع والعشرون
الآيات (1-10): “1 الحكمة تمدح نفسها وتفتخر بين شعبها. 2 تفتح فاها في جماعة العلي وتفتخر أمام جنوده. 3 وتعظم في شعبها وتمجد في ملا القديسين. 4وتحمد في جمع المختارين وتبارك بين المباركين وتقول. 5 أني خرجت من فم العلي بكرا قبل كل خليقة. 6 وجعلت النور يشرق في السماوات على الدوام وغشيت الأرض كلها بمثل الضباب. 7 وسكنت في الأعالي وجعلت عرشي في عمود الغمام. 8 أنا وحدي جلت في دائرة السماء وسلكت في عمق الغمار ومشيت على أمواج البحر. 9 وداست قدمي كل الأرض وعلى كل شعب. 10وكل أمة تسلطت.”
نرى هنا عظمة الحكمة، وأن مصدرها هو الله، فمن أين يأتي إنسان بالحكمة، هي من الله. الحكمة تمدح نفسها= المعنى أن الحكمة حين تظهر في عمل الله أو في تصرف إنسان وهبه الله هذه الحكمة فإنها تنال المدح، فالله يمدح على خليقته التي خلقها بحكمته. فتمح نفسها تعني تتكلم عن نفسها، وهذا ما كان داود يعنيه حين قال “السموات تحدث بمجد الله” (مز1:19). وتفتخر بين شعبها= فأي عمل إنساني بدون حكمة يدعو للهوان، أما من يتصرف بحكمة فهذا مدعاة للإفختار. وإذا فهمنا أن الحكمة هي الأقنوم الثاني، الإبن الكلمة، خالق كل شئ (1كو24:1 + يو1:1-3). فكل خلقة في الكون كانت منه. وينتقل الحكيم ليشخص الحكمة، أي يجعلها شخص يتكلم في جماعة العلي ويفتخر أمام جنوده= هذا الشخص هو الأقنوم الثاني الذي خلق الكل وفرحت كل الخليقة بخليقته، وهكذا قال الله لأيوب “أين كنت حين أسست الأرض.. عندما ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله (جنوده)” (أي4:38،7). تعظم في شعبها وتمجد في ملأ القديسين= لا يقدر الحكمة سوى شعب الله، ومن ناحية أخرى لا يمجد المسيح سوى القديسين من شعبه. إني خرجت من فم العلي بكراً قبل كل خليقة= الحكمة لا مصدر لها سوى الله، والإبن هو بكر كل خليقة (كو15:1). خرجت= “خرجت من عند الآب” (يو28:16) وأول خليقة الإبن كان النور (تك3:1). وجاء بعد ذلك الضباب وهو بخار الماء والهواء كان فاصلاً بين مياه على الأرض والضباب أي المياه التي في السماء (تك6:1). سكنت في الأعالي= إشارة لأن الله قدوس منزه عن كل الأرضيات. وجعلت عرشي في عمود الغمام= أينما ظهر مجد الله كان السحاب يغشيه ليحجب مجده عن البشر، فلا أحد يرى مجده ويعيش (خر15:24 + خر34:40 + 1مل12:8 + 1مل11:8 + أع9:1 + خر20:33). ثم نرى الله في كل مكان في دائرة السماء وعمق الغمار. ومشيت على أمواج البحر (مت25:14) وفي كل أمة فهو ضابط الكل. وحيثما وُجِدَ توجد الحكمة.
الآيات (11-16): “11 ووطئت بقدرتي قلوب الكبار والصغار في هذه كلها التمست الراحة وبأي ميراث احل. 12 حينئذ أوصاني خالق الجميع والذي حازني عين مقر مسكني. 13 وقال اسكني في يعقوب ورثي في إسرائيل. 14 قبل الدهر من الأول حازني والى الدهر لا أزول وقد خدمت أمامه في المسكن المقدس. 15 وهكذا في صهيون ترسخت وجعل لي مقرا في المدينة المحبوبة وسلطنتي هي في أورشليم. 16 فتأصلت في شعب مجيد وفي نصيب الرب نصيب ميراثه وفي ملا القديسين مقامي.”
هناك لفظان يطلقهما الكتاب عن الله [1] الله [2] الرب. وبينما أن الله تشير له كخالق ومالك لكل الخليقة يشير لفظ الرب لعلاقته الخاصة بشعبه. لذلك نسمع عن (الله) في (تك1) ونسمع لقب (الرب الإله) في (تك2) حين خُلِقَ آدم وصار له علاقة خاصة مع الله. وهنا نسمع أنه بينما هو موجود في كل مكان ويحكم كل مكان، نجده يسكن في يعقوب الذي له علاقة خاصة مع الله، فهو شعب الله وسط شعوب العالم كلها التي لا تعرفه. وتعنى الآيات أيضاً أن شعب الله الذي يعرف وصيته هو وحده الذي يستطيع أن يحوز الحكمة. والحكمة أزلية= قبل الدهر من الأول حازني، وهي أبدية= وإلى الدهر لا أزول.
في المسكن المقدس أمامه خدمت= المسكن المقدس هو الهيكل، ووجود الحكمة فيه إشارة للعبادة داخل الهيكل، والشريعة هي محور العبادة. ولكن الهيكل يشير لجسد المسيح (يو21:2) وفي جسده حل كل ملء اللاهوت (كو9:2). وخدمت تشير لخدمة الفداء، فإبن الإنسان أتى ليَخْدِم لا ليُخْدَم. وهنا نرى الله كأنه يبحث عن مكان لراحته= التمست الراحة آية (11). ثم إختار يعقوب ليسكن وسطه. وتجسد وجاء لأورشليم ليقيم فيها سلطنته أي ملكه وهو ملك بصليبه على شعب مجيد (16) هو شعب المسيح.
الآيات (17-31): “17ارتفعت كالأرز في لبنان وكالسروفي جبال حرمون. 18 كالنخل في السواحل وكغراس الورد في أريحا. 19 كالزيتون النضير في السهل وكالدلب على مجارى المياه في الشوارع. 20 فاح عرفي كالدارصيني والقندول العطر وانتشرت رائحتي كالمر المنتقى. 21 كالقنة والجزع والميعة ومثل بخور اللبان في المسكن. 22 أني مددت أغصاني كالبطمة وأغصاني أغصان مجد ونعمة. 23 أنا كالكرمة المنبتة النعمة وأزهاري ثمار مجد وغنى. 24 أنا أم المحبة البهية والمخافة والعلم والرجاء الطاهر. 25 في كل نعمة الطريق والحق وكل رجاء الحياة والفضيلة. 26 تعالوا إلىّ أيها الراغبون في واشبعوا من ثماري. 27 فان روحي أحلى من العسل وميراثي ألذ من شهد العسل. 28 وذكري يبقى في أجيال الدهور. 29 من أكلني عاد إلى جائعا ومن شربني عاد ظامئا. 30 من سمع لي فلا يخزى ومن عمل بإرشادي فلا يخطا. 31 من شرحني فله الحياة الأبدية.”
إرتفاع شأن المسيح أمام كل العالم بعد ما عمله بصليبه كان كالأرز في سمو عمله فالأرز عالٍ جداً (والمسيح سماوي)، والأرز راسخ وخشبه قوي، وجميل. وكالسرو= شجرة عالية، يستخدم خشبه في الآلات الموسيقية، خشب فخم يستخدم للعظماء ويشير للعظمة والقوة وفداء المسيح كان بقوة. وكالنخل= الذي يرمز للصديقين، فهو ينمو مرتفع يثبت أمام الرياح، ثمره حلو، من الداخل أبيض إشارة للبر ولونه من الخارج أحمر إشارة للدم الذي يبرر. وإذا قذفت النخلة تلقي لك بثمارها الحلوة، والمسيح صلبوه فلم نجد منه سوى المحبة. كغراس الورد في أريحا= أريحا كان ينبت فيها أروع أنواع الورود، وهكذا كان عمل المسيح له رائحة عطرة في كل العالم.
كالزيتون النضير= صار مصدراً لسكنى الروح القدس فينا، فالزيتون مصدر للزيت والزيت يرمز للروح القدس. فهو زيت المسحة. الدُلب= شجرة عظيمة عريضة الورق وتعد من أجمل الأشجار وتزهر على مجاري المياه. إشارة للمسيح الرجل الذي بلا عيب، والأبرع جمالاً من بني البشر (مز3:1 + مز2:45). الدارصيني (كالقرفة). القندول (اللبان العطر). المر= كل هذه روائح عطرة وتستخدم في المسحة المقدسة (راجع إصحاح 30 من سفر الخروج ومقدمة خيمة الاجتماع من سفر الخروج تحت عنوان المواد المستخدمة في الخيمة) والمواد المذكورة هنا ذكرت عن المسيح (مز8:45).
عَرفي= رائحتي. ونحن رائحة المسيح الزكية (2كو15:2). وراجع القنة و الجزع والميعة أيضاً في المواد المستخدمة في خيمة الاجتماع. وبخور اللبان في المسكن= والبخور يشير للمسيح أيضاً برائحته الحلوة (راجع المواد المستخدمة في خيمة الاجتماع). ولقد أسس المسيح الكنيسة التي إنتشرت كالبطمة في مجد ونعمة. فالمسيح ليعطي للمؤمنين مجد ويملأهم نعمة. وشكل العلاقة بين المسيح والمؤمنين (الأغصان) هي كشكل الكرمة= ففي الكرمة لا تميز جذعاً مستقلاً عن الأغصان. فالكنيسة ككل هي جسد المسيح. وهذه الكرمة أي المسيح، الإلتصاق بها هو مصدر النعمة= المنبتة النعمة. وهو مصدر الروح القدس الذي يسكب المحبة (رو5:5). وهذه المحبة تسبب نوعاً مقدساً من المخافة، به نخاف أن نغضب الله الذي أحبنا كل هذا الحب، أو أن ننفصل عنه. والعلم= المسيح به عرفنا الله الآب، هو الذي إستعلن لنا الله “من رآني فقد رأى الآب” (يو9:14). والرجاء الطاهر= من أدرك محبة الله له سيكون له رجاء لا يخزى (رو5:5) وكل رجاؤنا هو في المسيح الذي هو الطريق والحق والحياة (يو6:14). وحياة المسيح فينا هي التي تعطينا أن نحيا في الفضيلة. إذا كان المسيح لنا كل هذا فلنقبل دعوته= تعالوا إليَّ أيها الراغبون فيّ. ولنقل مع بطرس “إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك” (يو68:6). فإن روحي أحلى من العسل= وفي ترجمة أخرى “فإن ذكرى أحلى من العسل” من يذكر إسم يسوع يفرح ويكون له هذا لذة، وهذا ما إكتشفه من يردد صلاة يسوع “يا ربي يسوع المسيح إرحمني أنا الخاطئ” وفي (29) هذه الآية تشبه طوبى للجياع والعطاش إلى البر فإنهم يشبعون” (مت6:5) وآيات (30،31) هذه مثل “أما من عَمِلَ وعَلَّم، فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السموات” (مت19:5)= من عَمِل بإرشادي + من شرحني فله الحياة الأبدية= أي من عَلَّم الناس عني.
الآيات (32-47): “32 هذه كلها هي سفر الحياة وعهد العلي وعلم الحق. 33 أن موسى أمر بالشريعة وأحكام العدل ميراث آل يعقوب ومواعيد إسرائيل. 34 أن الرب وعد داود عبده أن يقيم منه الملك القدير الجالس على عرش المجد إلى الأبد.35 هو يفيض الحكمة كفيشون ومثل دجلة في أيام الغلال. 36 ويملا فهما كالفرات ومثل الأردن في أيام الحصاد. 37ويبدي التأديب كالنور ومثل جيحون في أيام القطاف. 38 الحكمة لا يستوفي معرفتها الأول ولا يستقصيها الآخر. 39 لأن فكرها أوسع من البحر ومشورتها اعمق من الغمر العظيم. 40 أنا الحكمة مفيضة الأنهار. 41 أنا كساقية من النهر وكقناة خرجت إلى الفردوس. 42 قلت اسقي جنتي واروي روضتي. 43 فإذا بساقيتي قد صارت نهرا وبنهري قد صار بحرا. 44 فأني أضيء بالتأديب مثل الفجر وأذيعه إلى الأقاصي. 45انفذ إلى جميع أعماق الأرض وانظر إلى جميع الراقدين وأنير لجميع الذين يرجون الرب. 46 أني أفيض التعليم مثل نبوة واخلفه لأجيال الدهور. 47 فانظروا كيف لم يكن عنائي لي وحدي بل أيضا لجميع الذين يلتمسون الحكمة.”
هذه كلها هي سفر الحياة.. إن موسى أمر بالشريعة= أي أن الحكمة موجودة في شريعة موسى. ولنلاحظ أن الكتاب المقدس بعهديه هو كلمة الله. والمسيح هو كلمة الله. والمعنى أن من يدرس وينفذ كلمة الله المكتوبة سيكتشف المسيح كلمة الله، وستكون له الحكمة الحقيقية. إن الرب وَعَدَ داود.. إلى الأبد= قوله إلى الأبد تجعل الكلام يخرج من داود إلى إبن داود أي المسيح. وبنفس المفهوم قوله عرش المجد. وبضم الآيات (32-34) نفهم أن عهد الله ووعوده في شريعة العهد القديم أن يأتي المسيح ليكون ملكاً على محبيه، تابعي وصاياه، فيكون لهم المجد. وفي (35) يفيض الحكمة كفيشون= لم يذكر نهر فيشون سوى في (تك2) وكان موجوداً في الفردوس، فالروح القدس الذي سكبه المسيح، روح الحكمة، أعاد للمؤمنين الحالة الفردوسية الأولى أي الفرح. (جنة عدن تعني جنة الفرح). والروح القدس روح الحكمة (إش2:11) يفيض حكمة وشبه الروح القدس الذي إنسكب على المؤمنين بفيضان الأنهار وقت إمتلائها أي أيام الغلال والحصاد وهو يعطي حكمة وفهماً وتأديب كالنور أي يبكت تبكيتاً واضحاً ويكشف الخطايا كالنور. ولا أحد يستطيع فهم أعماق حكمة الله (38،39) لا يستوفى معرفتها الأول في البشر (آدم) فهي أسبق منه، لأنها أزلية ولا يستقصيها الآخر في البشر فهي أبدية. أنا الحكمة هنا المسيح يتكلم. مفيضة الأنهار= قارن مع أرسل لكم الروح المعزي (يو26:15 + 7:16) والروح القدس هو الأنهار (يو37:7-39). أنا كساقية من النهر= هذا بفم الحكيم الذي إمتلأ بالروح وبدأ يفيض على الآخرين، وهذا عمل كل خادم. والساقية تأخذ من النهر وتفيض على الأرض فتصير فردوس= خرجت إلى الفردوس. وتصير جنة وروضة أي مملوء ثماراً من ثمار الروح القدس (غل22:5،23). وفي (43) هذه بلسان المسيح الذي فرح بخادمه الذي كان ساقية فخرج منه نهراً يُروى الناس “فاضت من بطنه أنهار” (يو37:7-39) وبنهري قد صار بحراً= المقصود أن الخادم ينمو مع خدمته “فالمروِي هو أيضاً يُروى” (أم25:11)= فإني أضئ بالتأديب= كلما قام الخادم الحكيم بدوره بأمانة في تأديب أي تعليم الآخرين يضئ أي يزداد حكمة= وأذيعه إلى الأقاصي= يصير الخادم الأمين منارة لكل إنسان. أنفذ إلى جميع أعماق الأرض.. جميع الراقدين= هم موتى الخطية الذين يعيشون في الظلام= وأنير لجميع الذين يرجون الرب= من يستجيب للحكيم هو الذي يرجو الرب وفي (46) نبوة= هي الوعظ والتعليم. ويختم في آية (47) بأنه لم يتعب في إقتناء الحكمة لفائدته هو نفسه فقط، بل لجميع الذين يلتمسون الحكمة.