ميلاد المسيح

تعوقت العذراء القديسة مريم عند أليصابات نسيبتها ثلاثة شهور رجعت بعدها إلى الناصرة. ولما رآها يوسف وهي حُبلى في ثالث شهر أخطأ الظن بها، وبعض الظن إثم؛ ولكنه تكتم الخبر و لم يشأ أن يشهرها أي يُعلن طلاقها أمام السنهدرين، بل أراد تخليتها سرا عطفاً عليها. ويتلقفنا هنا إنجيل ق. متى ولكن فيما هو متفكر في هذه الأمور، إذا ملاك الرب قد ظهــر لـه في حلم قائلاً: يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هـو من الروح القدس. فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يُخلص شعبه من خطاياهم.» (مت 1: 21,20).

في تلك الأيام صدر أمر من أغسطس قيصر أن تكتتب المسكونة. فالقياصرة مغرمــــون بتعـــداد رعاياهم، مضافا إليها حسابات الضرائب والجزية التي كانوا يصرفون الكثير منها على تحسين معيشة البلاد التي تحت رعايتهم من تعبيد الطرق لتأمين المواصلات إلى إنشاء المدن والمواني حتى تعـــود الفوائد على البلاد وعلى روما لتنشيط التجارة واستتباب الأمن والسلام ومن هذا الاكتتاب وملابساته استطاع العلماء بشيء من التدقيق أن يحددوا زمن ميلاد المسيح؛ إذ رجحوا أن يكون في سنة 4 أو 5 قبل الميلاد.

والذي ضبط تحديدها لأقرب سنة هو موت هيرودس الملك سنة 4 ق.م وقد ولد المسيح قبل موت هيرودس بقليل، كذلك موعد الاكتتاب الذي كان في زمن كيرينيوس عندما كان والياً على سوريا، وحدث في أيامه اكتتابان: الأول سنة 8 ق.م (أع 37:5) والثاني سنة 6 ق.م. وقــــد وجدت السجلات التي تشير أنه كان اكتتاب في سنة 746 لروما وهي المرادفة لسنة 8 ق.م، وقــــد وجدت السجلات في مصر التي تشير أن هذا حدث أيضاً في سنة 6 ق.م، ومعروف أن تعداد فلسطين حدث بعد مصر بسنة واحدة وهكذا انحصر بوجه ما ميلاد المسيح في سنة 5 ق.م على أنه من المعروف أن موت هيرودس حدث بعد خسوف القمر، وهذا الخسوف بحسابات الفلك الدقيقة وقع في مارس سنة 750 لروما وهي المقابلة لسنة 4 ق.م.

على أنه من المعروف أن المسيح ولد قبل موت هيرودس بحسب إنجيل ق. متى؛ وحيث أنه من المؤكد تاريخياً أن هيرودس الملك مات سنة 4 ق.م، فهذا يجعل ميلاد المسيح بصورة شبه مؤكدة سنة 5 ق.م. على أن يوحنا المعمدان بحسب القديس لوقا قد بدأ خدمته في السنة الخامسة عشر لطيبـــاريوس قيصر عن عمر ثلاثين سنة وهذا يجعل ميلاده (يوحنا) في بكور سنة 749 لروما، فيكون ميلاد المسيح تم (في شتاء) سنة 5 ق.م.

كذلك يمكن ضبط تاريخ ميلاد المسيح على حساب بدء بناء هيرودس للهيكل (يو 20:2) الذي كان في السنة الثامنة عشرة من حكمه. والذي استغرق 46 سنة في بنائه. وهذا يعطينا سنة 26 بعد الميلاد وهي سنة بدء خدمة المسيح. ويؤكد لنا أن ميلاده تم سنة 5 ق.م ويرجح أنه كان 25 ديسمبر.

أمَّا تعييد أقباط مصر للميلاد فكان ولا زال في 29 كيهك الذي كان موافقاً لـ 25 ديسمبر في الخمسة عشر قرناً الأولى. وفي سنة 1582 اكتشف الفلكيون فرق بضع دقائق في السنة الشمسية، فحسبوها منذ ميلاد المسيح إلى ذلك الحين فوجدوها عشرة أيام فأجروا التعديل الغريغوري بحذف هذه العشرة أيام حيث باتوا في 4 أكتوبر 1582 واستيقظوا باكراً في 15 أكتوبر وفي تلك السنة صار 29 كيهك موافقاً لـ 4 يناير بفرق العشرة أيام. ثم من سنة 1700 صار 29 كيهك يقابل 5 يناير. وفي سنة 1800 صار يقابل 6 يناير. ومنذ سنة 1900 صار يقابل 7 يناير. ولكن الأقباط ظلُّوا ملتزمين بتاريخ 29 كيهك، معتبرين أن التراث الديني لا يقوم على الضبط الزمني بالدقائق والثواني، فاليوم هو يوم والسنة هي سنة قلت دقائقها أو زادت.

وحسب عادة اليهود كان يُكتتب كل واحد في مدينته، فذهب يوسف مع خطيبته إلى بيت لحــــم مسقط رأسه، وهي مدينة داود الذي رعى أغنامه فيها وألف أشعاره ولعب بمزماره مـــرنـم إسرائيل الحلو» (2صم 1:23). علماً بأن مريم كانت في شهرها التاسع، على أنها امرأته، بحسب أمر الملاك. كان لابد أن تلد في بيت لحم اليهودية حسب أقوال الآباء والأنبياء وترقـــب حساب الـــربيين.

وكان ذلك بتدبير من الله. حتى يُسجل اسم المسيح كابن لداود في مدينة أبيه «أنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب.» (لو 11:2)

وكانت الرحلة شاقة بكل المقاييس الجو شتاء وبرد فلسطين قارس والرحلة تستغرق ثلاثة أيام سفر بلياليها، والعذراء حامل في شهرها التاسع. ومما زاد المشقة على الوالدة أنها بمجرد أن دخلوا مشارف بيت لحم وافاها المخاض، ولم يكن موضع في المدينة، فقصدوا خاناً كان مزدحما هو الآخر، فالتجأوا إلى المغارة الملحقة بالخان وكانت مربطاً للبهائم. وهناك صدر الأمر الإلهي بأن يولد المسيح في مذود للبقر، وأسندت الأم ظهر مولودها على أرضية المذود بعد أن لفته بالخرق، حالة ميلاد لفقر مدقع!

ولم يأت المذود مصادفة في حياة المسيح، بل كان محصلة حسابات كثيرة ليس بالنسبة للزمان والمكان، فهذا أمر سهل على السماء؛ ولكن كان يتحتّم أن يكون الاختيار مناسباً للرسالة، ومن أين تبدأ علاقتها بالإنسان؟ «وحتم بالأوقات المعيَّنة وبحدود مسكنهم» (أع 26:17). فللمذود والصليب في حياة المسيح بالقياس اللاهوتي معنى وقيمة في أمــر خــلاص الإنسان کامتحان أشد ما يكون الامتحان لقدرة الإنسان على الإيمان، متخطياً كل ما هو معقول وغير معقول. والذي قال يوماً: «انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد … تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو. لا تتعب ولا تغزل» (مت :6 26 و 28 )، اهتم أن يكون لميلاده هذه الصورة عينها. فالبساطة توجت ميلاده، والعوز والفقر كانا زينتها. فالذي تخلى عن محـــده السماوي كان حَريًّا به أن يكون في ميلاده على مستوى اللاشيء.

لم تعطنا الأناجيل في شأن ميلاد المسيح كثيراً، لأن العوز حرم القصة من الاسترسال في شيء: « وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد فوَلَدَت ابنها البكر وقمَّطَته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل (اللوكاندة الريفية)» (لو 2: 7،6)، وبهذا الخبر أسدل الستار على سر الميلاد المقدس.

مغارة الميلاد:

يعطينا القديس يوستين الشهيد شهادة عن ميلاد المسيح في مغارة، وهذا القديس الشهيد عاش في الجيل الأول بعد المسيح، فقد ولد سنة 100م، واستشهد سنة 165م. ولأنه مولود في شكيم (نابلس) في السامرة، فهو مواطن فلسطيني. وقد بنيت فوق هذه المغارة فيما بعد كنيسة الميلاد ودير عُرف باسم دير مغارة الميلاد. على أنه تأتينا شهادة أخرى مبدعة من قديس آخر عالم وخطيــب وهـو جيروم – إيرونيموس –- الذي ترجم الإنجيل إلى اللغة اللاتينية، هذا ذهب إلى بيت لحم سنة 386م. ومكث الثلاثين سنة الأخيرة من حياته في مغارة ملاصقة لمغارة بيت لحم، عاشها صائماً مصلياً متأملاً. فالمعروف والمسجل تاريخياً أنه عاش في بيت لحم من سنة 386م حتى توفي سنة 420م. واسمه يوسابيوس إيرونيموس المولود في ستريدو بجوار أكويلا بإيطاليا.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى