تفسير سفر الحكمة ١١ للقمص تادرس يعقوب


 

الأصحاح الحادي عشر

غاية الحكمة للأبرار والأشرار

يكشف المعلم الروحي الماهر عن ما وراء أحداث الخروج, مبرزًا دور الحكمة الإلهية الفائق بالنسبة للمؤمنين كما بالنسبة للوثنيين عبدة الأصنام.

إن كان الله هو مصدر الحكمة، بل هو الحكمة ذاتها، ففي اقترابنا منه ننال رحمته. والبعد عنه هو حرمان من الرعاية الإلهية وفقدان للأبدية.

بحكمةٍ يسقط المؤمن تحت التأديب الصادر عن أبيه، أما الشرير فيسقط تحت العقاب كما من ملك يقضي عليه (10:11-11). ومع هذا فإن الله ليس عنده محاباة: “لكنك ترحم الجميع، لأنك قادر على كل شيءٍ، وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا، لأنك تحب جميع الكائنات، ولا تمقت شيئًا مما صنعت، فإنك لو أبغضت شيئًا لما كوِّنته… إنك تشفق على كل شيءٍ، لأن كل شيءٍ لك أيها السيد المحب للحياة” (25:11-27).

  1. إقامة قائدٍ1-3.
  2. المقابلة الأولى: ماء للموت في مصر وآخر للحياة في البرية 4-9.
  3. الله الأب والحاكم!10-14.
  4. حلم الله في معاملته مع مصر15.
  5. المقابلة الثانية: سلوى في البرية مقابل ضربة الحشرات16-20.
  6. ما وراء حِلم الله21-26.
  7. إقامة قائدٍ

وأنجحت مساعيهم بيد نبيٍ قديسٍ. [1]

بعد أن تحدث عن عمل الحكمة في حياة الآباء الأولين يسجل لنا الآن عن عملها مع الشعب تحت قيادة موسى “نبي قديس“، قائد مسيرة الخروج. وكما قيل عنه: “إن كان منكم نبي للرب، فبالرؤيا استعلن له، في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا، بل هو أمين في كل بيتي، فمًا إلى فمٍ وعيانًا أتكلم معه، لا بالألغاز، وشبه الرب يعاين” (عد 12: 6-8).

كما تحاشى ذكر أسماء الأبرار السابقين، تجنب هنا أيضًا اسم موسى النبي القديس.

في كل عصر يرسل الله قادة قلوبهم ملتهبة بالروح، يعملون على الدوام لحساب ملكوت الله. يختار الله القائد المناسب لكل عصر، كما يؤهله بسماتٍ وإمكاناتٍ تتناسب مع ظروف العصر. فأرسل موسى ليقود الشعب في رحلة الخروج. وأعدّ الله يشوع رمزًا ليسوع المسيح، ليدخل بهم إلى أرض الموعد، وأقام داود ليُصلح ما أفسده شاول، وأعدّ سليمان لبناء الهيكل، وأرسل القديس أثناسيوس لمقاومة آريوس، والقديس كيرلس الكبير لمقاومة نسطور.

v     بعد أن أُعطي موسى سلطانًا من الثيؤفانيا (رؤية الله) التي ظهرت له، تلقى أمرًا بأن يحرر مواطنيه العبرانيين من عبودية المصريين. ولكي يتحقق أكثر من القوة التي وضعها الله فيه، اختبر الأمر الإلهي بالأشياء التي في يديه (خر 4: 1-7)، فعندما سقطت العصا من يده دبت فيها الحياة[463]، وعندما أمسكها بيده مرة أخرى عادت إلى ما كانت عليه. وعندما أخرج يده من صدره (عُبَّه) صارت برصاء كالثلج، وعندما وضعها مرة ثانية في صدره عادت إلى لونها الطبيعي[464].

v     بعد أن اكتسب موسى قوة من الضوء الذي تجلى له، وجاء أخوه كحليفٍ ونصيرٍ له، أعلن للشعب بجرأة بشرى الحرية، وذكَّرهم بعظمة آبائهم. وعبَّر عن رأيه بالنسبة للطريقة التي يمكن أن يخلصوا بها من العمل الشاق في صنع الطوب اللبن (خر6).

ماذا نتعلم من هذا؟

يجب أن نتعلم أن مَنْ لم يعد نفسه بهذا النوع من التدريب الروحي ليُعَلِم الجموع لا يجب أن يتحدث إلى الناس. فإننا نرى أن موسى عندما كان مازال صغيرًا ولم ينضج بعد ويصل إلى درجة رفيعة في الفضيلة، لم يبالِ الرجلان اللذان كانا يتشاجران بنصيحته السليمة ولم يقبلاها. ومع ذلك فبعد نزوله من الجبل خاطب عشرات الآلاف بنفس الطريقة.

إن تاريخ موسى يوضح لنا بجلاء أنه يجب ألا نتجرأ على إعطاء النصائح لسامعينا في تعليمنا لهم إلا إذا اكتملت فينا القدرة على ذلك بالتدريب الطويل والشاق مثلما كان لموسى[465].

القديس غريغوريوس النيسي

فساروا في بريَّة غير مسكونة،

ونصبوا خيامهم في أماكن لم تطأها قدم. [2]

كان قائد رحلة الخروج الحقيقي هو حكمة الله، فلم يكن للشعب وللقائد خبرات سابقة في رحلة شعب وسط برية مقفرة فلا ضمانات، في طريق مرعبة خاوية ليس بها أثر للحياة.

واجهوا في رحلتهم أعداء جبابرة مثل عماليق وغيرهم، ولم يكونوا رجال حرب، ولا معهم أسلحة، فجاءت النصرة هبة إلهية قُدمت لهم.

تجنب أيضًا الإشارة إلى أسماء معينة مثل هرون ومريم وغيرهما، فإن ما قدمته حكمة الله هو لكل الجماعة إن تقدست في الرب.

وقاوموا مُحاربيهم، وردُّوا أعداءهم. [3]

ليس من وجه للمقارنة بين شعب عاش في عبودية، لم يمارس الحياة العسكرية مطلقًا، وليس لديه أسلحة، وبين أعداء أقوياء أصحاب خبرة في القتال. لكن حكمة الله، أو كلمة الله كان القائد الخفي، واهب النصرة.

  1. المقابلة الأولى: ماء للموت في مصر وآخر للحياة في البرية

إذ عطشوا دعوا إليكَ،

فأُعطوا ماءً من صخرة الصوان،

وشفاءً لغليلهم من حجر صلد. [4]

فرغ الماء من أوعيتهم في وسط صحراء قاحلة، هؤلاء الذين عاشوا كل أيامهم يعتمدون على مياه النيل، وبالمنطق البشري ليس من سبيل للحياة، لكن حكمة الله عملت، ووُهب لهم ينبوع ماء يتفجر من صخرة صلبة ترافقهم (خـر 17: 1-7؛ عد 20: 2-13)، دون مجهود بشري. إذ لم يطالبهم بحفر آبار يشربون منها. هذه العطية المجانية لا تُقدر بثمنٍ، فهي موضوع حياة أو موت؛ موضوع وجود للشعب أو دمار لهم. لذا صارت هذه الصخرة رمزًا للسيد المسيح واهب القيامة. “وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1 كو 10: 4).

إذ أراد الكاتب منا أن نعطش إلى ماء الحياة، فنشرب من ينابيع حب السيد المسيح، حكمة الله، ركز أنظارنا على التجاء الشعب إلى الله ليرتووا، ولم يشر إلى تذمرهم (خر 17: 2-3)، وأنهم كادوا أن يرجموا موسى.

ما يشغل الكاتب ليس العرض التاريخي للأحداث، إنما تركيز أنظارنا على حكمة الله حتى لا نعتاز إلى شيء.

يصف لنا الإنجيلي دعوة السيد المسيح البشرية كلها لتأتي إليه وتشرب، إذ يقول: “وقف يسوع ونادي قائلاً: إن عطش أحدّ فليقبل إلىّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي. قال هذا عن الروح القدس كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 7: 37- 39). بقوله “إن عطش أحد” يفتح الباب للجميع، ليأتوا ويشربوا.

فالأمور التي عوقبَ بها أعداؤهم

أصبحت تلك التي أحسن بها إليهم في ضيقهم. [5]

عاقب الله المصريين غير المؤمنين بالمياه التي تلوثت بالدم (خر 7: 24)، وخلص شعبه بمياه نقية تتفجر من الصخرة في البرية. النيل الذي يُحسب مصدر حياة صار مصدر موت، والبرية التي تُحسب علة للهلاك تُقدم حياة. صار الماء عقوبة لرافضي حكمة الله، وبركة للذين يتمتعون بالحكمة. فما كان عقوبة بالنسبة لأعدائهم صار لشعبه علامة رعاية الله لهم واهتمامه بهم، إذ قدم لهم الماء، لا من نهر النيل، بل من صخرة صماء.

يمكننا أيضًا القول إنه في مياه المعمودية يفقد عدو الخير إبليس سلطانه وتتحطم مملكته، وفي ذات المياه يتمتع المُعمد بالبنوة لله.

v     بأمر موسى تحولت كل المياه في مصر إلى دم (خر 7: 20-22)، ومات السمك بسبب تكثف المياه، ولكن بالنسبة للعبرانيين استمر الماء كما هو. واستغل السحرة الفرصة ليستخدموا فنهم في أن يجعلوا الماء الذي لم يتحول إلى دمٍ، والذي كان موجودًا عند العبرانيين يبدو كأنه دم[466].

v     من يملك عصا الفضيلة التي لا تُهزم، التي تبتلع عصا السحرة، يتقدم إلى التدريب على عجائب أعظم. ولا تحدث العجائب لكي ترهب الحاضرين، لكنها لفائدة من يتم إنقاذهم. فعن طريق عجائب الفضيلة ينهزم العدو ويتقوى الشعب.

إذا علمنا أولاً القصد الروحي العام من عجائب الفضيلة، نستطيع عندئذ أن نطبق هذا المفهوم على كل معجزة في حد ذاتها. ويتفق الإيمان الحقيقي مع ميول من يسمعون الكلمة، فبالرغم من أن الكلمة تبين للجميع ما هو خير وما هو شر، إلا أن الشخص ذا الميول الحسنة لما يسمعه يستنير فهمه، بينما يظل كلام الجهل مخيمًا على الشخص ذي الميول العنيدة الذي لا يسمح لروحه بأن تبصر شعاع الحق. وإذا لم يكن فهمنا العام لهذه الأمور خاطئًا فإن كل أمر في حد ذاته لن يبدو مختلفًا، حيث أن الجزء يتم إظهاره وبيانه بالكل.

لذا ليس بالأمر العجيب على الإطلاق ألا يتأثر العبراني، رغم معيشته في وسط غرباء، بشر المصريين. ويمكن أن نرى نفس الشيء يحدث الآن في المدن المزدحمة بالسكان ولأهلها آراء متناقضة. فبالنسبة للبعض فإن نهر الإيمان الذي يستقون منه بالتعليم الإلهي عذب ونقي، بينما بالنسبة للبعض الآخر الذين يعيشون مثل المصريين ويستقون بأهوائهم الشريرة، فإن الماء يصبح لهم دمًا فاسدًا.

ومرات كثيرة يحاول سيد الشر والخداع أن يحول ماء العبرانيين أيضًا إلى دم بإفساده بالغش والبطلان، أي بإظهاره لنا عقيدتنا على غير الحقيقة، لكنه لا يستطيع أن يفسد الماء تمامًا بحيث لا يصلح للاستخدام بالمرة، حتى ولو حوله بسهولة إلى اللون الأحمر بخداعه، فإن العبراني الذي لا يلقي بالاً للخداع البصري يشرب الماء الحقيقي، حتى ولو نجح خصومه في تضليله[467].

v     مرة أخرى ارتفعت السحابة وقادتهم إلى مكان آخر (خر 17: 1-7). ولكن هذا المكان كان صحراء جرداء برمال محرقة، وليس به قطرة ماء. وهنا مرة أخرى أجهد العطش الشعب. ولكن عندما ضرب موسى صخرة بارزة بعصاه أخرجت ماء عذبًا وصالحًا للشرب بغزارة أكبر مما كان يحتاجه كل هذا الجمع العظيم[468].

القديس غريغوريوس النيسي

وبدلاً من ينبوع نهرٍ دائم، يعكِّره دمٌ فاسد. [6]

وهبهم الله نهرًا بمياهه العذبة، لكن بفسادهم فسد ماؤه، وصار مصدر هلاك لهم لا مصدر حياة.  هكذا وهبنا الله وصيته كنيرٍ حلو، لكن بشر إرادتنا يصير النير ثقيلاً، وتتحول الوصية الصالحة إلى علة إدانتنا وهلاكنا.

v     إذن كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مُرة إلا بسبب مرارة شرنا؟ كيف يصير الحمل الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً، إلا لأننا في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به نحمل حمله، خاصة وأن الكتاب المقدس بنفسه يشهد بذلك بوضوح قائلاً: “الشرير تأخذهُ آثامهُ، وبحبال خطيتهِ يُمسَك” (أم 22:5، حك 11: 16)؟

أقول إنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة، إذ بغباوة نجعل الطريق الملوكي محجرًا، ونترك الطريق الذي وطأته أقدام كل القديسين، بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا اغراءات المباهج الحاضرة، ويتمزق ثوب العرس بالأشواك في الظلام… وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا، حتى أننا ليس فقط نتمزق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيات المميتة والأفاعي المتوارية هناك، لأنه: “شوك وفخاخ في طريق الملتوي” (أم 5:22).

يقول الرب في موضع آخر بالنبي: “لأن شعبي قد نسيني… وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في شُعَبٍ في طريق غير مسهل” (إر15:18). ويقول سليمان: “طريق الكسلان كسياج من شوك” (أم19:15). هكذا إذ يضلون الطريق السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وجهت إليها نظرتنا. وقد عبر عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلاً عنها أنها أورشليم… (جا 15:10). بمعنى أنها “أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة” (غل 26:4).

أما الذي يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال التعب، لأن الرب “وديع ومتواضع القلب” (مت29:11)، فإنه يبقى على الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له “كل الأشياءِ تعمل معًا للخير” (رو28:8). فكما يقول النبي (ميخا) إن كلمات الله صالحةً نَحْوَ مَنْ يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7)[469].

الأب إبراهيم

عقابًا على أمرٍ بقتل أطفال

أعطَيتَهم على غير رجاءٍ ماءً غزيرًا. [7]

لقد تحوَّل الماء الجاري في نهر النيل إلى عقوبة بالنسبة للمصريين، إذ صار دمًا (خر 7: 17-21)، لأنهم سفكوا دماء أطفال كثيرين بأمر فرعون (خر 1: 8-10)، فهدَّد الموت المصريين.

جاء في خروج 7: 14-24 أن هذه الضربة جاءت لحث فرعون أن يترك شعب الله ينطلق، أما هنا فيرى في هذه الضربة تأديبًا على قرار فرعون بقتل أطفال العبرانيين (خر 1: 16، 22). يُمكن أن تخدم هذه الضربة الهدفين معًا.

v     في الماء كان المصريون يقتلون أطفال بني إسرائيل، وبالماء بدأ الله بعذابهم، لما صٌَيره دمًا لا يمكنهم شربه. كال لهم بالكليل الذي به كالوا لغيرهم[470].

 القديس مار افرام السرياني

v     في الواقع كان تحويل ماء النهر إلى دمٍ مناسبًا. النهر الذي فيه أُغرق أطفال العبرانيين بقسوةٍ ردُ لمرتكبي تلك الجريمة كأس الدم، وعندما شربوا منه قُتلوا بالمياه الفاسدة التي نجسوها بالقتل الشرير[471].

 الأب قيصريوس أسقف آرل

بعد أن أريتهم بعطشهم إذ ذاك،

كيف عاقبت خصومهم. [8]

إن كان الله قد سمح بهذه الضربة للمصريين المقاومين للحق، فإنه أيضًا سمح للعبرانيين بالعطش في وسط البرية لكي يختبروا إلى حين مرارة الضربة التي أصابت المصريين بحرمانهم من ماء النيل النقي، فيكون لهم درسًا في وسط البرية.

فإنهم لما امتُحِنوا،

وإن كان ذلك تأديب رحمة،

تعلموا كيف كان عذاب الأشرار،

الذين حوكموا بالغضب. [9]

تأديب الله لشعبه عمل تعليمي مملوء رحمة.

ليس عند الله محاباة لليهود؛ لقد أدَّب المصريين غبر المؤمنين بضربة الماء الذي صار دمًا، وتوالت الضربات مما يكشف عن قسوة قلوبهم، وإصرارهم على عدم الإيمان بالله الصانع العجائب. أما بالنسبة لليهود فسمح لهم بتجربة العطش لكي يؤدبهم برحمته، وإذ لجأ موسى لله قدم له الماء من صخرة حوريب.

  1. الله الأب والحاكم!

لأن هؤلاء قد امتحنتهم كأبٍ يُنذرهم،

وأولئك حاسَبتَهم كمَلكٍ قاسٍ يحكُمُ عليهم. [10]

ما حلّ بالمصريين كان عقابًا للردع، أما العطش الذي حلّ بالعبرانيين فكان تأديبًا أبويًا للإنذار.

وسواء كانوا من بعيدٍ أو من قريب،

يذوقون عذابًا على السواء. [11]

عانى الطرفان من العذاب على السواء، فالعطش لحق بالطرفين، لكن الموقف في كل حالة مختلف عن الآخر.

فقد أخذهَم حُزنُ مُضاعف،

وأنين بتذكُّر الماضي. [12]

في وجود اليهود لحق المصريين الحزن حيث تحول الماء إلى دمٍ، وبعد انطلاقهم إلى البرية تضاعف حزنهم، إذ رأوا أولئك الذين سبق فاستعبدوهم قد صاروا شعبًا عظيمًا يحملون قوة فائقة، يتغلبون على صعوبات البرية بواسطة إله المستحيلات، القادر أن يقدم لهم ماءً من صخرة جامدة تتبعهم في رحلتهم.

يرى البعض أن حزن الأشرار مضاعف, حزن بسبب التأديب الذي يحل بهم , وحزن آخر بسبب البركات التي تُمنح للذين يضايقونهم ويظلمونهم[472].

لأنهم لما سمعوا أن ما كان لهم عقابًا،

كان لأعدائهم إحسانًا،

شعروا بيد الرب. [13]

فإن الذي سبق أن طرحوه،

ورذلوه ساخرين،

أدهشهم في آخر الأمر،

إذ كان عطشُهم يختلف عن عطَش الأبرار. [14]

يبدو أن كل الأمم المحيطة بالمنطقة – بما فيها مصر – كانت تتابع أحداث الخروج. فعندما سمع المصريون بعطش العبرانيين ثم إخراج ماء من الصخرة دُهشوا، وأدركوا أنهم سبق لهم فسخروا بالله خلال شعبه ورذلوه، الأمر الذي دمرّ ملكهم وجيشهم، أما العبرانيون فانتفعوا من العطش!

موسى النبي الذي رذله المصريون واليهود أيضًا، صار موضوع دهشة الاثنين.

موسى أداة استخدمها الله لعطش المصريين, وهو بعينه صار أداة لارتواء ظمأ الإسرائيليين.

  1. حلم الله في معاملته مع مصر

في مقابل الأفكار الغبيَّة الظالمة،

التي أضلَّتهم حتى عبدوا حيات لا نُطْق لها،

وحشرات حقيرة،

عاقبتَهم بأن أرسلت عليهم جمًّا من الحيوانات التي لا نُطق لها. [15]

انتشرت في مصر القديمة بعض العبادات مثل عبادة التمساح والثعابين والثعلب والكبش (الإله آمون)، وعجل أبيس واللبؤة والبقرة (الإله هاتور) والصقر والقرد وفرس البحر والقط والضفدعة والحية كما الجعل والجعران (من الحشرات).

أما الحشرة الحقيرة فيقصد بها ربما الجعران الذي أجَّله المصريون القدماء، فنقشوه على خواتمهم وحُليِّهم وذهبهم.

جاء التأديب من نفس العمل، فإذ عبدوا الحيوانات والزواحف والحشرات كآلهة ضربهم بالحشرات والضفادع التي هجمت على بيوتهم ودخلت إلى مخادعهم، ومات الكثير منها وأنتن، فكانوا يطلبون أن يتخلصوا منها (خر 8:8).

ضُرب المصريون بثلاث حيوانات صغيرة أو حشرات في الضربات 2 و3 و4 وهي ضربات الضفادع والبعوض والذباب.

بالنسبة للضفادع: يرى القديس أغسطينوس أنها تشير إلى كثيري الكلام الباطل غير النافع، وبرى العلامة أوريجينوس أنها تشير إلى أغاني الشعراء التي هي كنقيق الضفادع تُقدم أصواتًا ملتوية مزعجة بلا عمل. وأخذ عنه ذلك اسيذور من سيفي Isidore of Seville (مات عام 636)، إذ يقول: [في الضربة الثانية أُحضرت الضفادع. ويظن أنها ترمز لأغاني الشعراء الذين قدموا إلى هذا العالم قصصًا واهية مخادعة. بأغانيهم الفارغة المملوءة غرورًا، وذلك مثل نقيق الضفادع. فإن الضفدعة تقدم ثرثرة فارغة. هذا الحيوان لا ينفع في شيءٍ، وإنما يقدم أصواتًا مزعجة كريهة[473].]

وبالنسبة للبعوض: فقد كان كهنة المصريين يهتمون جدًا بالنظافة ويحترسون من التدنس بالبعوض والقمل. يرى العلامة أوريجينوس أن البعوض يشير إلى الكلمات المعسولة التي تخدع الإنسان بمكرٍ، فلا يشعر بها أثناء خداعه، كالبعوض التي تلدغ ولا يشعر بها الإنسان إلا بعد اللدغة، لذا يرى الأب اسيذور من سيرفي أنها تشير إلى الهراطقة[474].

وأما الذباب، فقد سمح به الله للكشف عن عجز آلهة المصريين، حيث كانوا يعتقدون أنها تقوم بطرد الذباب. ويقول الأب اسيذور إن الذبابة هي حشرة وقحة لا تستريح قط، وقد سمح الله للمصريين بضربهم بالذباب ليدركوا أن قلوبهم المُحبة للعالم مضروبة بإزعاج الشهوات التي لا تنقطع.

  1. المقابلة الثانية: سلوى في البرية مقابل ضربة الحشرات.

لكي يعلموا أن كل واحدٍ يعاقبُ بما خطِئَ به. [16]

حلت الحشرات على المصريين مقابل عبادتهم للحيوانات مثل التمساح والحية والسحلية والضفدعة. لهذا ضربوا بالضفادع (خر 8: 1-15)، والبعوض (خر 8: 16-19)، والذباب (خر 8: 20-24)، والجراد (خر 10: 3-15).

يربط بين الآلهة الباطلة وعابديها وتأديباتهم. فإذ هم أغبياء – بلا تعقل – عبدوا حيوانات غير عاقلة, وسقطوا تحت التأديب بحيواناتٍ أو حشراتٍ غير عاقلة. هكذا العابدون يشتركون مع آلهتهم في سماتهم. فمن يعبد آلهة باطلة يصير هو نفسه باطلاًً , ومن يعبد محب البشرية ومخلصها يصير محبًا للبشر، ويشتهي أن يُبذل من أجل كل أحدٍ.

في هذا الفصل يؤكد الكاتب أن العقوبة (أو التأديب) تحل على الشرير بذات الأمور التي أخطأ بها. فإذ عبد المصريون حيوانات عوض الله، حلَّت عليهم الضربات بحيوانات وحشرات.

v     ليس من السهل أن نقرر إن كان يلزمنا أن نحتقر العابدين لها أم الأشياء موضوع العبادة. الاحتمال الأكثر هو العابدون، فهم أكثر تفاهة، لأنهم وهم من طبيعة عاقلة، ونالوا نعمة من الله، أقاموا الأردأ عوض الأفضل. وهذا هو خداع الشرير، الذي أفسد ما هو صالح ليُستخدم بهدف شرير، وذلك في أغلب أعماله الشريرة[475].

القديس غريغوريوس النزينزي

ولم يكن صعبًا على يدك كلية القدرة،

التي صنعت العالم،

من مادةٍ لا صورة لها،

أن تُرسل عليهم جمًّا من الدببة،

أو الأسود الباسلة. [17]

إنها رعاية الله حتى للأشرار، فكان يمكن أن يهلك المصريين دفعة واحدة بأن يرسل عليهم دببه وأسود تفترسهم، لكنه أرسل حشرات صغيرة تضايقهم دون أن تقتلهم، وذلك لتأديبهم. لم يرد هلاكهم وموتهم، بل يطلب توبتهم وحياتهم.

خالق العالم من أرض خالية وخاوية (تك 1 : 2) قادر أن يُعاقب بإرسال وحوش مفترسة ومرعبة كما حدث في السامرة (2 مل 17 :26).

v     بالرغم من أنه خلق أشياءً من أشياءٍ، كما خلق الإنسان من التراب، إلاَّ أن الأرض التي جاء منها التراب خلقها من العدم[476].

القديس أغسطينوس

أو وحوشًا ضارية غير معروفةٍ ومخلوقةً جديدًا،

ملؤها الغضب،

وتبعثُ نفحةً نارية أو تنفُثُ دُخانًا نتنًا،

أو تُرسل من أعيُنها شرارًا مُخيفًا. [18]

مرة أخرى يقول إنه لم تكن هناك حاجة إلى إرسال حيوانات ضارية شرسة تفترسهم، ولا إلى خلق حيوانات جديدة مرعبة تهلكهم بمنظرها المفزع، وإنما يكفي نفسُ واحد، فيسقط الكل ولا يقومون.

في عدله كان يمكن أن يطاردهم بنسمةٍ من فمه؛ يقول كلمة تصدر حكمًا بموتهم فيموتون. لكن الله لا يريد أن يُهلك، بل أن يؤدب بقدرٍ لائقٍ.

فكانت تُهلكهم خوفًا من منظرها،

فضلاً عن أن تُبيدهم بضررها. [19]

حتى بدون هؤلاء الحيوانات،

كان نفسٌ واحدة كافيًا لإسقاطهم،

يُطاردهم العدل ويُبددهم بنسمة قُدرتِك.

لكنك رتبت كل شيءٍ بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ. [20]

الله الخالق كان قادرًا أن يخلق وحوشًا جديدة تهلكهم لا بافتراسهم فقط؛ وإنما أيضاً بالرعب الذي يحل عليهم من منظرها وذلك كما جاء عن Medusa الذي كان يهلك الناس بمنظره المرعب[477]. فإنه حتى في تأديبه للأشرار يقدم ذلك بحكمةٍ، بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ، أي بتدبير إلهي دقيق، ولغايةٍ في ذهن الله من نحوهم، دون إلزامهم بالرجوع إليه عنوة.

الله، إله نظام، وليس إله تشويش (1 كو 14: 33)، كل ما يفعله إنما بدقة وتدبيرٍ إلهيٍ فائقٍ.

v     كل خليقة، عظيمة أو صغيرة، صُنعت بواسطته. فيه خُلقت أشياء علوية وأشياء سفلية، روحية ومادية. فليس من شكلٍ ولا من ترتيب لأجزاء، ولا لمادةٍ ما أيا كان وزنها أو عددها أو مقاييسها وُجدت إلا بذاك الكلمة الخالق الذي قيل له: “رتبت كل شيء بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ” (حك 11: 20)[478].

v     في أسفار كتابنا قيل لله: “رتَّبتَ كل شيء بمقدارٍ وعددٍ ووزنٍ” (حك 21: 20). يقول أيضًا النبي: “يدعو كلها (جند السماء) بأسماءٍ” (إش 40: 26). ويقول المخلص في الإنجيل: “وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جميعها محصاة” (مت 10: 30)[479].

v     لا نعرف عدد القديسين أو عدد الشياطين، لكننا نعرف أن أبناء الأم المقدسة التي دُعيت عاقرًا على الأرض (الكنيسة) سيحتلون موضع الملائكة الساقطين، ويقطنون إلى الأبد في ذلك المسكن المملوء سلامًا الذي سقطوا منه. أما عدد المواطنين، سواء حاليًا أو ما سيكون عليه، فهو حاضر في أفكار الخالق العظيم، هذا الذي دعا الموجودات من العدم (رو 4: 7)، ويدبر كل الأمور بقياسٍ وعددٍ ووزنٍ (حك 11: 20)[480].

القديس أغسطينوس

يرى القديس أغسطينوس أيضًا أنه إن كان الله في معرفته غير المحدودة يرتب كل شيء بعددٍ معينٍ يعرفه تمامًا، فإنه يليق بنا أن نهتم بالأعداد الواردة في الكتاب المقدس، ونعرف مفاهيمها الرمزية الروحية[481].

يرى القديس أغسطينوس أن الإنسان في حياته الروحية قد يسلك بترتيبٍ خاص، خلال أربع مراحل تطابق المراحل الأربع لتاريخ الكنيسة. فالإنسان في المرحلة الأولى يكون كمن في عمق الجهالة لا يدري ما هو عليه، أما المرحلة الثانية فهي عندما يعرف الخطية خلال الناموس، فيشعر أنه مغلوب من الخطية وعبد لها (رو 5:5)، وكما يقول الرسول إن الناموس دخل لكي ما تزداد المعصية (رو 5: 20). وإذ يهبه الله الإيمان ينال قوة الحب، فيصارع ضد شهوات الجسد، فيحيا بارًا بالإيمان، ويُحسب بارًا مادام لا يخضع للشهوة الشريرة، إنما يغلبها بحبه للقداسة. هذه هي المرحلة الثالثة للرجاء الصالح. من يتمسك بهذا ينال أخيرًا في المرحلة الرابعة السلام، خاصة في النهاية حيث يقوم الجسد ممجدًا. هذه المراحل الأربع تطابق مراحل تاريخ الكنيسة. المرحلة الأولى ما قبل الناموس، والثانية في ظل الناموس، والثالثة في عهد النعمة حيث جاء المخلص، ثم الرابعة في القيامة[482].

  1. ما وراء حِلم الله

فإن قدرتك العظيمة هي دائمًا رهن إشارتك،

فمن الذي يُقاوم قدرة ذراعك؟ [21]

ليس من وجه للمقارنة بين قدرة الله العظيمة وقدرة الإنسان، فقدرة الله مصدرها ليس خارجًا عنه، بل يحمل في ذاته قوته وقدرته، لذا فهي رهن إشارته، يستخدمها كيفما يشاء. أما قدرة الإنسان فهي ليست من عنده، إنما هي عطية مُقدمة له حتمًا تزول عنه يومًا ما. فإن أُصيب بمرضٍ أو بفقرٍ أو فقد مركزه الاجتماعي تزول معه قوته أو تضعف، ويصبح هزيلاً. كثيرون تحطمت أذرعهم ونفسياتهم، أما الله الكلي القدرة، فلا يوجد من يقاوم ذراعه!

كثيرًا ما يسيء الإنسان إلى الله بسبب عجزه عن معرفة خطة الله وأفكاره، فينسب له الضعف بسبب طول أناته. أو العجز بسبب ما يسمح به من ضيقاتٍ واضطهاداتٍ تحل بكنيسته أو أولاده. إنه القدير، يستطيع كل شيء بقوة فائقة، لكن ما أبعد أحكامه عن الفحص، وطرقه عن الاستقصاء؟ (رو 11: 33)؛ “لأن من عرف فكر الرب؟ أو من كان له مشيرًا؟” (رو 11: 34).

جاء في تضرع مردخاي لله: أنت رب الجميع وليس من يقاوم عزتك (إس  13: 11). تقول يهوديت: “من أنتم حتى تجربوا الرب” (يهوديت 8: 11). ويقول الرسول بولس: “بل من أنت أيها الإنسان الذي تجاوب الله؟ ألعل الجبلة تقول لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟” (رو 9: 20)

لأن العالم كلَّه أمامك مثل ما ترجح به كفه الميزان،

وكنقطة ندى الفجر التي تسقط على الأرض. [22]

“هوذا الأمم كنقطةٍ من دلو وكغبار الميزان” (إش 40: 15) يشَّبه الله بمن يمسك بميزان ليضع العالم كله في كفة، فإذا به كقطرة ندى الصباح أو كغبار الميزان. ومن جانبٍ آخر يضع العالم كله في كفة والبشر في كفة، فلا يوجد وجه للمقارنة أو الموازنة بينهما. يقدم الله حبه للإنسان بدقةٍ شديدةٍ، حسبما هو لبنيانه.

v     على هذا الرجاء تلتصق نفوسنا بالأمين في مواعيده، العادل في أحكامه.

لن يكذب ذاك الذي أمرنا بعدم الكذب، فإنه ليس شيء غير مستطاع لديه خارج الكذب.

ليتّقد إيماننا في داخلنا لندرك أن كل شيءٍ قريب منه.

فبكلمة قدرته أقام الكل، وبكلمته يقدر أن يدمّر كل شيء.

“من يسأله: ماذا فعلت؟ من يقاوم قوّة سلطانه؟” (حك ١٢: ١٢؛ ١١: ٢٢) إنّه يفعل ما يريد وكما يريد، وليس شيء يخالف أمره[483].

القديس إكليمنضس الروماني

لكنك ترحم الجميع،

لأنك على كل شيءٍ قدير،

وتتغاضى عن خطايا الناس لكي يتوبوا. [23]

رحمة الله تشمل كل الخليقة، لأنها من عمله، فكم بالأكثر يترفق بالإنسان الذي خلق كل الأشياء لأجله. الله محب للبشر حتى في تأديباته لهم، إذ غايتها التوبة metanoia، يطلبها من كل الخطاة، وليس من أمة معينة، فبابه مفتوح للجميع.

نظرته للبشرية رائعة، فالبشر خليقة الله الصالحة، إنما اختيارهم للشر يعزلهم عن الله مصدر صلاحهم. لذلك يبقى الله يدعوهم للتوبة، أي للرجوع إليه، فهم موضوع حبه ورحمته.

تتغاضى” هنا تعني “تطيل أناتك”، إذ لا يشاء أن يهلك الناس، بل أن يقبل الجميع إلى التوبة (2 بط 3: 9). وإذ نرجع إليه بالتوبة يقول إنه لا يعود يذكر خطايانا.

فإنك تُحب جميع الكائنات الموجودة،

ولا تمقُتُ شيئًا مما صنعتَ،

فإنك لو أبغضتَ شيئًا لما كوََّنته. [24]

الله قدير، ولا يُمكن مقاومته، وهو الحب عينه نحو جميع الكائنات السماوية والأرضية. بهذه النظرة يهيئ الإنسان لقبول الخلاص المجاني من الله محب كل العالم ببذل الابن الوحيد الجنس (يو 3 :16).

v     الآب السماوي يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله (مت 6: 8). إنه من المعقول أن هذا الذي هو أب المسكونة وخالقها الذي يحب جميع الكائنات ولا يمقت شيئًا مما صنع (حك 11: 24)، يقدم ما هو لنفع كل واحدٍ بدون الصلاة إليه، يفعل ذلك كأبٍ يحمي صغاره ولا ينتظر أن يسألوه، وذلك إن كانوا غير قادرين أن يسألوه نهائيًا، أو بسبب جهلهم، إذ غالبًا ما يطلبون ما هو ضد نفعهم تمامًا[484].

العلامة أوريجينوس

يتساءل القديس أغسطينوس: إن كان الله لا يبغض شيئًا صنعه، فكيف قيل أنه أبغض عيسو؟ يجيب على ذلك قائلاً: [الله صانع كل المخلوقات. كل خليقة الله صالحة. كل إنسانٍ هو مخلوق بكونه إنسانًا لا بكونه خاطئًا. الله خالق كلاً من جسم الإنسان ونفسه. ليس شيء منهما شرير، والله لا يكرههما. إنه لا يكره في الإنسان شيئًا سوى الخطية. الخطية في الإنسان هي انحراف وعدم نظام، أي ضلال عن الخالق، الذي هو الأسمى (من النفس)، والتجاء إلى المخلوقات الأقل منه (شهوات الجسد ومحبة العالم الخ). الله يبغض عيسو ليس الإنسان، وإنما الخاطئ[485].]

v     الحب الذي يحبه الله لا يمكن إدراكه ولا يتغير. فإنه لم يبدأ يحبنا منذ الوقت الذي فيه صُولحنا معه بواسطة دم ابنه، وإنما كان يحبنا حتى قبل تأسيس العالم، لكي ما نصير له أبناء مع ابنه الوحيد الجنس، أحبنا حتى قبل أي وجود لنا. ليتنا لا نتطلع إلى حقيقة مصالحتنا مع الله خلال موت ابنه، ولا نفهمها كما لو تحققت مصالحة الابن لنا معه بهذه الكيفية: أنه قد بدأ الآن يحب من كان قبلاً يبغضهم، كما لو أن عدوًا قد تصالح مع عدوٍّ، فصارا صديقين، واحتل الحب المشترك موضع البغضة، المشتركة. إنما تصالحنا مع ذاك الذي هو بالفعل يحبنا، ولكننا نحن صرنا أعداء بسبب خطايانا.

لتدركوا إني أقول الحق في هذا، فليشهد الرسول القائل: “الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا” (رو 5: 8). إذن يحمل الله لنا الحب حتى حين كنا نمارس العداوة ضده، ونفعل الإثم.

قيل له بالحق الكامل: “أبغضت كل فاعلي الإثم” (مز 5: 5). بهذا فإنه بطريقة مدهشة إلهية عندما أبغضناه كان هو يحبنا. فإنه أبغضنا فيما نحن عليه مما لم يخلقنا عليه… إنه يبغض ما قد فعلناه نحن في أنفسنا، ويحب ما فعله هو فينا!

هذا يمكن أن يُفهم بالحق في حالة الجميع، بخصوص ذاك الذي قيل له بالحق: “لا تمقت شيئًا مما صنعت” (حك 11 24)[486].

القديس أغسطينوس

وكيف يبقى شيء لم تُرِدْه،

أم كيف يُحفظ ما لم تدَعُه؟ [25]

يبرز هنا روعة محبة الله، فقد خلق الإنسان لكي يبقى معه، يحفظه من كل خطرٍ. فالله يريد الإنسان ويحبه ويحميه من كل ضررٍ، ويُعد له موضعًا في السماء.

v     إذا كانت هناك امرأة غنية تملك أموالاً كثيرة وبيتًا فاخرًا، لكنها مع ذلك لا تجد من يحميها، فكثيرون يهاجمونها راغبين أن يُلحقوا بها الأذى والخراب. فلأنها لا تستطيع أن تقبل هذا الأذى والهجوم، لذلك تبحث عن زوجٍ قويٍ يكون كفوًا لهذا الغرض، ومتدربًا من جميع الوجوه. وحينما تجد مثل هذا الرجل بعد سعيٍ كثيرٍ، تفرح به فرحًا عظيمًا، وتجد فيه حصنًا يحميها[487].

القديس مقاريوس الكبير

إنك تُشفق على كلِّ الأشياء،

لأنها هي لك،

أيها السيد المُحب للأحياء. [26]

غاية خلقه الإنسان والهدف منها هو وجود الإنسان مع الله، بكونه الابن الذي يستريح في حضن أبيه المملوء حنانًا نحوه.

الله هو الحياة، يقتني الإنسان له ويهبه الحياة.

v     الله يحكم كل الخليقة (الأرضية)، لكنه لم يُثبت عرشه فيها، ولا دخل في شركة معها، بل سُر بالإنسان وحده، ودخل في شركة معه، وفيه وحده استراح… النفس الحكيمة بعد مرورها على جميع المخلوقات لا تجد راحة لنفسها، إلا في الرب وحده، والرب أيضًا لا يُسر بأحدٍ سوى الإنسان وحده[488].

 القديس مقاريوس الكبير

 


 

من وحي الحكمة 11

هب لي حكمتك، فأدرك أسرار حبك!

 

v     حكمتك أقامت لشعبك قائدًا.

وهبتهم نبيًا قديسًا يعمل بروحك!

موسى في شبابه ظن أنه قادر أن يخلص شعبك!

في عجزٍ لم يستطع مصالحة أخين من شعبك المُستعبد!

لكن حكمتك سندته وهو شيخ في الثمانين.

حركته الحكمة وجددت شبابه الداخلي.

تحدى عنف فرعون وقسوة البرية.

غلب الشيخ ملوكًا، وتمتع ببركات عجيبة!

حكمتك يا إلهي قادرة أن تقيم من الضعيف بطلاً!

حكمتك ترعى شعبك، وتهتم بكل مؤمن!

حكمتك هي الراعي الصالح، الذي يقيم من المؤمنين قادة.

 

v     انهار شعبك من الظمأ وسط البرية.

فتفجرت لهم المياه من صخرة صوان.

ورأوا فيها حكمتك التي تفجر في بطونها- الحجارة الصلدة – ينابيع مياه حب حية.

حُرم غير المؤمنين من الحكمة،

فقدم لهم نهر النيل ماءً فاسدًا ممزوجًا بدم الأطفال الذي سفكوه!

وتمتع المؤمنون بالحكمة،

فتفجرت فيهم ينابيع مياه حية!

ماء النيل تحول لغير المؤمنين إلى دم،

وماء الصخر أنعش المؤمنين وهيأهم للحياة في البرية.

عطش غير المؤمنين وماتوا،

وعطش المؤمنون فاختبروا الحياة بك ومعك!

 

v     في غير محاباة تؤدب،

هب لي أن أقبل تأديبك من يديك المحييتين

فأتذوق أبوتك، وأتجاوب مع حبك لي.

لأراك أبًا يؤدب لكي يحيي،

وليس قاضيًا تعاقب لأنك لا تطيق الخطية.

 

v     يضطرب الأشرار ويحزنون،

لأنهم يحسبون في تأديبهم قسوة خارجة من لدنك.

ويراك أبرارك ويتهللون وسط الضيق، ويختبرون حبك.

 

v     عجيب أنت يا حكمة الله في حنوك،

حتى مع الأشرار تترفق وتحنو،

تؤدب وتعاقب، ولكن شيئًا فشيئًا.

فإنك خلقت الإنسان، لا لتهلكه بل لتحييه.

تنتظر حتى من الأشرار أن يرجعوا إليك.

في حزمٍ تؤدب لعلهم يرجعون إلى أنفسهم،

يطلبونك فيحيون.

 

v     عبد قدماء المصريين حيوانات وزحافات وحشرات.

من صنوف آلهتهم عاقبتهم بذات خطاياهم،

لكي ما تتمرر الخطية في أفواههم.

كان يمكن أن ترسل عليهم وحوشًا تفترسهم.

أو بكلمة من فمك تهلكهم.

 لكنك لا تشاء موت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا.

أرسلت لهم حشرات لمضايقتهم لا لقتلهم.

فإنك وأنت تؤدب تشفق!

لأن خليقتك محبوبة جدًا لديك.

لك المجد يا محب كل البشرية!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى