تفسير سفر الحكمة ١ للقس أنطونيوس فكري

الإصحاح الأول

آية (1): “احبوا العدل يا قضاة الأرض واعتقدوا في الرب خيراً والتمسوه بقلب سليم.”

السفر هو سفر الحكمة، وبدء الحكمة مخافة الرب (مز10:111). وهذه الآية تشير من بداية السفر لطريق الحكمة [1] أحبوا العدل [2] اعتقدوا في الرب خيراً [3] التمسوه بقلب سليم.

أحبوا العدل= وكلمة العدل هي نفسها كلمة البر. وقوله أحبوا أي عليكم أن تقتنعوا بأن تسلكوا بالبر وتنفذوا هذا الإقتناع. إذاً قوله أحبوا هي إتخاذ قرار وتنفيذه. فلن يجد الله ولن يعرف الله إلاّ كل من يسلك بالبر ويحكم بالعدل.

إعتقدوا في الرب خيراً= الله صانع خيرات. وكل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله (رو28:8) وهذا إعتقاد الكنيسة أن الله صانع خيرات (صلاة الشكر). وهذا ما يقوله الكتاب المقدس. وكذب إبليس المستمر هو إقناع كل من في تجربة أن الله إله قاسي. وكل من يصدق إبليس لن يجد الله.

إلتمسوه بقلب سليم= السيد المسيح علمنا أن نصلي بلجاجة (لو1:18-8) وماذا نطلب؟ أهم ما نطلبه هو الإمتلاء من الروح القدس (لو13:11) والروح القدس هو روح الحكمة (إش2:11) وهو روح النصح (2تي7:1).

يا قضاة الأرض= يا كل قاض ويا كل أب وأم وخادم. بل يا كل إنسان تحكم على الأمور، بل يا من كل إنسان تنسب لله أنه أخطأ إذ أصابك بتجربة ما. يا كل إنسان هل تريد أن يكون لك حكماً صائباً على الأمور؟ إذاً لابد أن تكون لك حكمة.. والسبيل إليها هو ما سبق. أما من يسلك في شهواته (عكس البر) ويتصادم مع الله ولا يطلب الله ويصلي، فهو بلا حكمة.

 

آية (2): “فإنما يجده الذين لا يجربونه ويتجلى للذين لا يكفرون به.”

يجربونه.. يكفرون به= يجربونه أي يكون لهم سلوك خاطئ. ويكفرون به أي يشكون في صلاحه وأنه إله خير وصانع خيرات (وهذا عكس ما سبق). وقارن مع (عد22:14،23) “جميع الرجال الذين رأوا مجدي.. وجربوني الآن عشر مرات.. لن يروا الأرض..” والمعنى أن الله بطبعه صانع خيرات، يريد أن يسكب من خيراته على أولاده، ولكن من يسلك معه بالخلاف ويسلك في الشر فهو يجرب الله، أي يغيظه فيرى ما هو عكس الخيرات والرعاية والحنان، لأنه ببساطة لا يصدق أن الله يعاقب على الشر.

 

آية (3): “لأن الأفكار الزائغة تقصي من الله واختبار قدرته يثقف الجهال.”

الأفكار الزائغة= أي الشريرة والمنحرفة تقصي من الله= أي تبعد الإنسان عن الله، لأنه لا شركة للنور مع الظلمة (2كو14:6). وإختبار قدرته يثقف الجهال= قدرته هنا أصلها اللغوي “ضابط الكل” فمن يسير في طريق الخطأ فهو يختبر قدرة الله القادرة على تأديبه وعقابه= يثقف الجهال= وهذه جاءت في ترجمة أخرى تخزي الأغبياء= فضربات الله هدفها الأساسي التأديب وهي تخجل من سار في طريق الشر (الإبن الضال). ولكن قوله ضابط الكل، فنرى أن الله قادر أن يحرك قوى الطبيعة ضد الشرير (طوفان/ حريق لسدوم وعمورة/ مجاعة للإبن الضال/ حوت وبحر هائج ليونان..) ومن يتجاوب كالإبن الضال تثقفه هذه التأديبات. ومن هنا نفهم أن الله حتى في هذه التأديبات هو صانع خيرات هدفه خلاص النفس.

آية (4): “أن الحكمة لا تلج النفس الساعية بالمكر ولا تحل في الجسد المسترق للخطيئة.”

الحكمة لا تلج (تدخل) النفس الساعية بالمكر ولا تحل في الجسد المسترق (المستعبد)للخطيئة= هذه رد على آية (1). المسترق من الرق أي العبودية. ومن هو مستعبد للخطية، كيف يكون عبداً لله في وقت واحد. ولاحظ هنا أنه يميز بين الجسد والنفس. فالجسد قد يستعبد لشهواته وهذا يؤدي لأن الحكمة لا تسكن في النفس.

 

آية (5): “لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش ويتحول عن الأفكار السفيهة وينهزم إذا حضر الإثم.”

روح التأديب القدوس= هو الروح القدس المؤدب والذي “يبكت على خطية..” (يو8:16). وطالما يتجاوب الإنسان مع الروح القدس يستمر في عمله. أما من يقاوم عمله مستمراً في شروره بتحدي وسفاهة فإن الروح يتركه= يهرب من الغش= وهذه قيل عنها لا تحزنوا الروح (أف30:4) ولا تطفئوا الروح (1تس19:5) وروحك القدوس لا تنزعه مني (مز11:51). فالروح لا يرضى أن يسكن فيمن يصر على شره وسفاهته، فلا شركة للنور مع الظلمة، لذلك قال عنه أنه يهرب. أما قوله ينهزم إذا حضر الإثم= فيمكن ترجمته إذ حضر الروح القدس ينهزم الإثم، فالروح يبكت ويعين (رو26:8).

 

آيات (6-8): “6 أن روح الحكمة محب للإنسان فلا يبرئ المجدف مما نطق لأن الله ناظر لكليتيه ورقيب لقلبه لا يغفل وسامع لفمه. 7 لأن روح الرب ملا المسكونة وواسع الكل عنده علم كل كلمة. 8 فلذلك لا يخفى عليه ناطق بسوء ولا ينجو من القضاء المفحم.”

أن روح الحكمة محب للإنسان= “الحكمة روح يحب الإنسان” ترجمة أخرى. فالحكمة هو الإبن الأقنوم الثاني، وظهرت محبته على الصليب. فلا يبرئ المجدف= ليس معنى أن الله محب للإنسان أنه يبرئ الإنسان مهما فعل، لكنه يؤدبه حتى ينقيه، بل ينقيه حتى من الشوائب التي في داخله ولا يراها البشر= لأن الله ناظر لكليتيه ورقيب لقلبه= والتأديب هو عمل محبة، فكيف نخلص إن لم نتنقى. ومهما ظن الإنسان أنه إبتعد عن الله، فالله هناك يراه ويراقبه= لأن روح الرب ملأ المسكونة فهو غير محدود ويحتضن الكل= واسع الكل وتترجم في ترجمات أخرى “الذي به يتماسك كل شئ” (عب3:1) “حامل كل الأشياء بكلمة قدرته” والله يشغل كل مساحة المكان والزمان فلا يخفى عليه شئ= عنده علم كل كلمة. فلذلك لا يخفى عليه ناطق بسوء. ولا ينجو هذا الشرير من تأديب الله وعقابه= لا ينجو من القضاء المفحم= أي الذي تعجز أمامه كل حجة، وهذه مثل “تتبرر في أحكامك وتغلب إذا حوكمت” (مز4:51). حقيقة أن الله موجود في كل مكان تفرح الأبرار بوجود الله كحامي لهم من كل شر، لكنها لا تسعد الأشرار.

 

آية (9): “لكن سيفحص عن أفكار المنافق وكل ما سمع من أقواله يبلغ إلى الرب فيحكم على آثامه.”

العالم بكل شئ يجازي المنافق (الذي يظهر غير ما يبطن).

 

آية (10): “لأن الأذن الغيرى تسمع كل شيء وصياح المتذمرين لا يخفى عليها.”

الأذن الغيرى= الأذن التي تغار، فالله إلهنا إله غيور (خر5:20) غيور على عبيده، ينصت لكل ما يقولونه، ويسمع كل شئ وصياح المتذمرين عليه= فالتذمر على الله هو كصياح. لأنه ضد الإيمان بأن الله خَيِّر (آية1). وقوله غيور أي أن الله يغار على أولاده إذ أنهم سيهلكون لأنهم صدقوا إبليس وشككوا في محبته وبدأوا يتذمرون على الله. وفي التذمر على الله إنفصال عن الله وبالتالي هلاك.

 

آية (11): “فاحترزوا من التذمر الذي لا خير فيه وكفوا ألسنتكم عن الثلب فإن المنطوق به في الخفية    لا يذهب سدى والفم الكاذب يقتل النفس.”

كفوا ألسنتكم عن الثلب= الثلب هو إدانة الله والكلام عليه بصورة غير لائقة، وهذا يحدث عادة من إنسان وقع في تجربة. لكن إذا فهم أن هذا التجربة كانت لتنقيته، فهو سيشكر الله عليها (يع2:1) بل كفوا عن التذمر حتى في القلب، فحتى هذا يسمعه الله، وهو يعبر عن قلب متمرد على أحكام الله، والتي هي كلها للخير= فإن المنطوق به في الخفية لا يذهب سدى= الله يسمعه ويعاقب عليه. والفم الكاذب يقتل النفس= الشيطان كذاب وأبو الكذاب (يو44:8). وهو يضع على فم المتذمر على الله أقوال أكاذيب، مثل أن الله قاسي. وما أن يردد الإنسان أقوال الشيطان هذه فهو في طريقه للموت، فتصديق الشيطان هو طريق الموت، فهذا ما حدث لآدم وحواء.

 

آية (12): “لا تغاروا على الموت في ضلال حياتكم ولا تجلبوا عليكم الهلاك بأعمال أيديكم.”

لا تغاروا على الموت= في ترجمة أخرى “لا تسعوا إلى الموت” أي لا تسعوا وراء الموت بتصديقكم للشيطان، فتجعلوا الله كاذباً= في ضلال حياتكم= فمن جعل الله كاذباً فهو في ضلال، لا يعرف طريق الحياة. فالله هو الحياة “أنا هو القيامة والحياة” (يو25:11). والموت المذكور هنا هو الموت الروحي. فالكل سيموت جسدياً.

 

آية (13): “إذ ليس الموت من صنع الله ولا هلاك الأحياء يسره.”

الله خلق حياة ولم يخلق موتاً، “أنا إختطفت لي قضية الموت” وذلك إذ سلك الإنسان في الشر= ليس الموت من صنع الله. وأيضاً الألم ليس من صنع الله= ولا هلاك الأحياء يسره. قارن مع (حز32:18+ حز11:33).

 

آية (14): “لأنه إنما خلق الجميع للبقاء فمواليد العالم إنما كونت معافاة وليس فيها سم مهلك ولا ولاية للجحيم على الأرض.”

بل الله خلق العالم بدون فساد= مواليد العالم إنما كونت معافاة= أي صحيحة وسليمة، فهذه إرادة الله (القداس الباسيلي “الذي خلق الإنسان على غير فسادٍ”). ولا ولاية للجحيم على الأرض= لا سلطان للجحيم أن يضم إليه أحد، هكذا أراد الله للإنسان، ولكن الإنسان إختار الشر، فذهب للجحيم. بعد أن كان الموت لا يستطيع أن يمس الإنسان إذا إستمر في بره.

 

آية (15): “لأن البر خالد.”

لأن البر خالد= هكذا خلق الله الإنسان في بر وليصير خالداً لا سلطان للموت ولا للجحيم عليه. فالجحيم وجهنم وبحيرة النار أصلاً كانت معدة لإبليس وملائكته. والحياة الأبدية أي المقصودة هنا بالخلود للإنسان. ولكنها ضاعت بالخطية وعادت بالفداء.

 

آية (16): “لكن المنافقين هم استدعوا الموت بأيديهم وأقوالهم. ظنوه حليفا لهم فاضمحلوا وإنما عاهدوه لأنهم أهل أن يكونوا من حزبه.”

لكن المنافقين هم استدعوا الموت بأيديهم وأقوالهم= “أنا إختطفت لي قضية الموت”. ظنوه حليفاً لهم= الله يقول لأولاده لا تتحالفوا مع الشر فبهذا أنتم تسعون وراء الموت والهلاك الأبدي. أما من يتحالف مع البر فيختار الحياة والخلود.

الآن بعد الفداء صارت معاني هذا الإصحاح واضحة وضوح الشمس. هذا الإصحاح يتلخص في أن من يسعى لله بالحكمة ويتخذ البر طريقاً له، فله حياة أبدية وخلود.

 

زر الذهاب إلى الأعلى