تفسير سفر الحكمة ٤ للقس أنطونيوس فكري
الإصحاح الرابع
الآيات (1،2): “1 إن البتولية مع الفضيلة اجمل فان معها ذكرا خالدا لأنها تبقى معلومة عند الله والناس. 2إذا حضرت يقتدى بها وإذا غابت يشتاق إليه ومدى الدهور تفتخر بإكليل الظفر بعد انتصارها في ساحة المعارك الطاهرة.”
في الإصحاح السابق طَوَّب الحكيم الخصي الطاهر. وهنا نجده يتكلم عن نوع جديد من الإخصاء أشار إليه السيد المسيح، وهو من يخصي نفسه، أي يحيا في بتولية دون أن يستمتع بحقه في تكوين أسرة. راجع (مت12:19). فمن عاش بتولاً على أن يكون في حياة الفضيلة= البتولية مع الفضيلة. فهذا أجمل من أن تحيا في أسرة، لأن البتول أعطى حياته كلها لله. ومع أن الأبناء يحملون إسم أبيهم فيبقى له ذكر بعد موته، لكن البتول الطاهر تظل سيرته أجمل= ذكراً خالداً فذكراه معلومة عند الله (الذي يذكر له أنه ترك شيئاً لأجله) وعند الناس= لطهارة سيرته. ثم يمدح البتولية بقوله= إذا حضرت يقتدي بها فإذا عاش في وسطنا إنسان بتول طاهر يشتاق كثير من الشباب أن يفعلوا مثله. ويقول عنها أنها تفتخر بإكليل الظفر بعد إنتصارها في ساحة المعارك الطاهرة= إذ إستطاع البتول أن يتغلب على شهواته الجسدية.
الآيات (3-6): “3 أما لفيف المنافقين الكثير التوالد فلا ينجح وفراخهم النغلة لا تتعمق أصولها ولا تقوم على ساق راسخة. 4 وان أخرجت فروعا إلى حين فأنها لعدم رسوخها تزعزعها الريح وتقتلعها الزوبعة. 5 فتنقصف فروعها قبل إناها وتكون ثمرتها خبيثة غير ناضجة للأكل ولا تصلح لشيء. 6 والمولودون من المضجع الأثيم يشهدون بفاحشة والديهم عند استنطاق حالهم.”
هنا نرى صورة معكوسة لأشرار لهم أولاد كثيرين ويتساءل الحكيم عنهم فيجدهم بلا نجاح، لا هم ولا أولادهم. إذاً من الأفضل؟ هؤلاء الأشرار بسيرتهم الرديئة أم البتوليين بسيرتهم الحلوة؟ وهنا يسمى الأشرار بالمنافقين= يظهرون غير ما يبطنون. وفراخهم النغلة= أي أولادهم غير الشرعيين. هؤلاء يفتخرون بأن لهم أولاد كثيرين، لكن ظن هؤلاء الأشرار يخيب، فأولادهم هؤلاء لا تتعمق أصولها= أي لا يشعرون بالإنتماء ولا الإحترام لآبائهم الأشرار، وهم أبناء تافهين= لا تقوم على ساق راسخة= ضعفاء روحياً وفاشلين إجتماعياً فهم نتاج أسرة منحلة شريرة. حتى لو صار لهم فروع، فلعدم علاقة هذه الأسرة بالله، فمع التجارب تقتلع هذه الفروع من الريح وتقتلعها الزوبعة= تجارب هذا العالم. فتنقصف قبل إناها= إناها أي وقتها أي قبل أن تثمر، فهم لخطاياهم يحيون بلا بركة وبلا تعزيات إلهية. أبناءهم غير صالحين= لا تصلح لشيء والأولاد ينقلون صورة والديهم الأشرار= يشهدون بفاحشة والديهم عند إستنطاق حالهم= أي أن شرهم ينطق بحالة والديهم الشريرة.
آيات (7-14): “7 أما الصديق فانه وان تعجله الموت يستقر في الراحة. 8 لأن الشيخوخة المكرمة ليست هي القديمة الأيام ولا هي تقدر بعدد السنين. 9 ولكن شيب الإنسان هو الفطنة وسن الشيخوخة هي الحياة المنزهة عن العيب. 10 انه كان مرضيا لله فاحبه وكان يعيش بين الخطاة فنقله. 11 خطفه لكي لا يغير الشر عقله ولا يطغي الغش نفسه. 12 لأن سحر الأباطيل يغشي الخير ودوار الشهوة يطيش العقل السليم. 13 قد بلغ الكمال في أيام قليلة فكان مستوفيا سنين كثيرة. 14 وإذ كانت نفسه مرضية للرب فقد اخرج سريعا من بين الشرور. أما الشعوب فابصروا ولم يفقهوا ولم يجعلوا هذا في قلوبهم.”
أيضاً يظن اليهود أن طول الأيام هو بركة. والحكيم هنا يقول إن من يموت في سن صغيرة لكن في طهارة فهذا بركة عظيمة. فلعل هذا الشاب كان يعيش بين الخطاة فنقله الرب من وسطهم حتى لا يصير مثلهم= خطفه لكي لا يغير الشر عقله. فالعالم بما فيه من إغراءات يدير عقل الشباب= دوار الشهوة يطيش العقل السليم. وجده الرب مرضياً له فنقله قبل أن ينحرف. والمعنى أن الشيخوخة المكرمة ليست في كثرة السنين بل في الحياة الطاهرة= أما الشعوب فلم يفقهوا هذا. فهناك شيوخ سناً لكنهم يعيشون في سفاهة (مثل الشيوخ الذي حكموا على سوسنة بالمقارنة بحكمة دانيال الشاب وطهارته) ولذلك هناك فكر آبائي أن الله ينقل الإنسان في أفضل حالاته.
وغالباً فهذه الآيات تتحدث عن أخنوخ الذي أخذه الرب بعيداً عن شرور العالم إذ هو قد بلغ الكمال في أيام قليلة وكان يعيش بين الخطاة فنقله.
إذاً الحكمة لا تحسب بطول السنين، بل بمقدار عمل الروح القدس في الإنسان وتحويله لإنسان حكيم. ويتفق إشعياء مع هذه الآيات إذ يقول “من وجه الشر يضم الصديق” (إش1:57) وهذا البار الذي نقله الله سريعاً، هو لم يكافأ على الأرض لكن الله سيكافأه في السماء.
آيات (15-20): “15 إن نعمته ورحمته لمختاريه وافتقاده لقديسيه. 16 لكن الصديق الذي قد مات يحكم على المنافقين الباقين بعده والشبيبة السريعة الكمال تحكم على شيخوخة الأثيم الكثيرة السنين. 17 فانهم يبصرون موت الحكيم ولا يفقهون ماذا أراد الرب به ولماذا نقله إلى عصمته. 18 يبصرون ويزدرون والرب يستهزئ بهم. 19 سيسقطون من بعد سقوطا مهينا ويكونون عاراً بين الأموات مدى الدهور فأنه يحطمهم وهم مبلسون مطرقون ويقتلعهم من الأسس ويتم خرابهم فيكونون في العذاب وذكرهم يهلك. 20يتقدمون فزعين من تذكر خطاياهم وآثامهم تحجهم في وجوههم.”
نعمته ورحمته لمختاريه= هنا على الأرض يفيض الله بمراحمه ونعمه على قديسيه ومختاريه وفي السماء لهم أبدية في مجد= وإفتقاده لقديسيه.
ولكن الصديق الذي قد مات يحكم على المنافقين الباقين= لماذا؟ فإنهم يبصرون موت الحكيم ولا يفقهون ماذا أراد الرب به وأنه نقله بعيداً عن شروره، والله نقله في كرامة بعيداً عن سفههم. بل ربما يستهزئون بموته= يبصرون ويزدرون والرب يستهزئ بهم= الرب يستهزئ على مفاهيمهم الخاطئة وذلك لإنغلاق عيونهم بسبب خطاياهم. إذ هم غير فاهمين أنهم سيموتون أيضاً وربما فوراً ولكن بلا كرامة ولا أبدية. فموت الصديق وموت كل إنسان هو درس للباقين أن الموت قادم بلا ريبة فلماذا لا تستعد؟ = الصديق الذي قد مات يحكم على المنافقين الباقين وهو سيدينهم في الأبدية ببره، فبينما سلك هو في بره سلكوا هم في شرهم ولهم نفس الظروف. والشاب الذي بلغ درجة من الكمال سيدين الشيخ الأثيم كثير السنين. لأنه مع كثرة سنيه لم يتعلم الكمال الذي وصل له هذا الشاب مع أن الكمال كان متاحاً له، لكنه إختار طريق الإثم ففقد كماله. هؤلاء الأشرار حين يموتون يكونون عاراً بين الأموات= فهم في عار أبدي= مدى الدهور. فإنه يحطمهم= الله سيدينهم ويكونون مبلسون= أي حزانى بعد أفراحهم الشهوانية الأرضية. مطرقون= مطأطأون رؤوسهم في خجل. وآثامهم تحجهم في وجوههم= تحجهم أي تقيم عليهم حجة أو دليل. فآثامهم دليل على شرهم وعلى أنهم يستحقون ما هم فيه من عذاب. والله يقتلعهم من الأسس= أي من الأرض التي أسسوا عليها حياتهم ظناً أنهم مخلدون فيها. ويتم خرابهم= بإلقائهم في العذاب الأبدي.