تفسير سفر زكريا ١٢ للقمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الثاني عشر

بعد أن تنبأ عن مجيء ضد المسيح وقبول اليهود له، والعجز الذي سيصيب هذا الراعي الأحمق، سيكتشف اليهود غالباً (بعضهم فقط) أن هذا المضل كان هو غير المسيح المنتظر، فيؤمنوا بالمسيح الحقيقي. وهؤلاء ما يسميهم الكتاب “البقية” وهنا نرى وعود لحمايتهم من الاضطهاد الذي سيقع عليهم، بل حماية كل الكنيسة، فهذه البقية حين آمنت بالمسيح صاروا أعضاء في الكنيسة الواحدة، والكنيسة هي أورشليم الجديدة، وإسرائيل الله (غل16:6) وهي بيت يهوذا، وكما هاج الشيطان على المسيح هكذا سيهيج على الكنيسة خلال مركزها الروحي الجديد وذلك بأن يثير الأمم ضدها. ولكن بهذه الثورة يُكمِل الشرير كأس غضب الله عليه، وبهذه الآلام ينقي الله كنيسته، ويتجلى الرب أخيراً في نصرة كنيسته.

 

آية (1): “وحي كلام الرب على إسرائيل. يقول الرب باسط السموات ومؤسس الأرض وجابل روح الإنسان في داخله.”

وحي= إذاً ما سيأتي هو كلام ثقيل ضد أعداء الكنيسة= إسرائيل الله وهو أيضاً سيكون ثقيلاً على الكنيسة التي ستواجه اضطهادات وضيقاً لم يكن مثله (دا 1:12 + مت21:24،22). ولكن الله ينقذ كنيسته (سواء المؤمنين الأصليين أو البقية التي آمنت من اليهود. فنحن نرى هنا الضيقات ونرى نصرة الكنيسة عليها في كل زمان، خصوصاً وقت الضيقة العظمى. الرب باسط السموات إذا كان الرب سيتكلم عن بعض الآلام لشعبه يصور نفسه في هذه الصورة المقتدرة ليظهر أنه قادر أن يفي بما وعد به. جابل روح الإنسان= إذاً هو لم يخلق روحاً حية خالدة ليتركها تموت وتهلك، فلماذا الخوف. والخالق قادر أن يحمي أيضاً.

 

آية (2): “هانذا اجعل أورشليم كأس ترنّح لجميع الشعوب حولها وأيضاً على يهوذا تكون في حصار أورشليم.”

كأس ترنح= هذا يحدث عندما يرى الأعداء أن الله وسط أورشليم يدافع عنها، ويرعبهم فيتحيرون ويضطربون كمن شرب كأس خمر. فهم كانوا يمنون أنفسهم بأن أورشليم لقمة سائغة في أيديهم، أو هي كأس خمر يشربونها بلذة. فكانت لهم كأس ترنح. وهذه تشير لغضب الله المصوَّر هنا بكأس يشربه الإنسان فيفقد وعيه ويصير كمن هو في عدم إتزان (أش17:51 + أر15:25).ولنعلم أن أورشليم الأرضية يمكن تدميرها وهدمها أما الكنيسة، أورشليم الروحية فأبواب الجحيم لن تقوى عليها (مت18:16)

وأيضاً على يهوذا – تكون في حصار أورشليم= هكذا تنقسم الآية ولها معنيين :

    أ‌-    أن الرب يقول وأيضاً على يهوذا تكون عيني (كما في آية 4 “وأفتح عيني”) في أثناء حصار أورشليم. وربما تعني يهوذا الكنيسة كلها، وأرشليم تعنى البقية المؤمنة من اليهود، والمعنى أن الله سيحمي الجميع. وحصار أورشليم يعني الضيقات التي تواجهها البقية المؤمنة في أورشليم.

   ب‌-   أن الرب يقول وأيضاً على يهوذا (الكنيسة كلها في كل العالم) تكون ضيقات في أثناء الضيقة التي تواجهها البقية (حصار أورشليم). وهذا التفسير ينطبق مع آية (3) “ويجتمع عليها كل أمم الأرض”.

وبجمع كلا التفسيرين يتضح المعنى، أن الكنيسة كلها ستكون في ضيق سواء البقية المؤمنة في أورشليم أو كل المؤمنين في كل العالم. ولكن عين الله ستكون على الكنيسة في كل مكان.

 

آية (3) : ويكون في ذلك اليوم أني أجعل أورشليم حجراً مشوالاً لجميع الشعوب وكل الذين يشيلونه ينشقون شقاً. ويجتمع عليها كل أمم الأرض.”

حجراً مشوالاً= أي حجراً مشالاً. وهو حجر كبير وثقيل يتعب في حمله أو “شيله” الذين يحملونه لبناء الأدوار العليا، مثل أحجار الأهرامات وكثيرون من العمال قتلوا لسقوط هذه الأحجار عليهم” (مت44:21). من سقط على هذا الحجر يترضض ومن سقط هو عليه يسحقه”. ومعنى الآية أن الأشرار المقاومين للكنيسة، يحملون الكنيسة لكي يلقونها لأسفل لكي تتحطم، فإذا بها والمسيح فيها “حجر” بل حجر الزاوية لها، تسقط على أعدائها وتسحقهم= وينشقون شقاً ويجتمع عليها كل أمم الأرض= أي كل أمم الأرض تهيج ضد الكنيسة.

 

آية (4): “في ذلك اليوم يقول الرب أضرب كل فرس بالحيرة وراكبه بالجنون.وأفتح عينيّ على بيت يهوذا وأضرب كل خيل الشعوب بالعمى.”

الله المتسلط على الجميع ويعطي الشجاعة لمن يريد، ويرعب من يريد، يوقع ذعراً على جيوش الأعداء فتجفل خيل الجيش ولا يقدر ركابها من أن يضبطوها. وأفتح عيني على بيت يهوذا= أي الرب يرضى عنهم ويعينهم وهو يرى الاضطهاد الواقع عليهم، وسيعاقب الأشرار.

 

الآيات (5،6): “فتقول أمراء يهوذا في قلبهم أن سكان أورشليم قوة لي برب الجنود إلههم. في ذلك اليوم أجعل أمراء يهوذا كمصباح نار بين الحطب وكمشعل نار بين الحزم فيأكلون كل الشعوب حولهم عن اليمين وعن اليسار فتثبت أورشليم أيضاً في مكانها بأورشليم.”

في أيام زكريا كانت أورشليم مازالت محروقة وأسوارها منهدمة. لكن أمراء يهوذا سسيشعرون بقوة الله حين تبنى الأسوار وسيشعرون أن الله كان هو العامل مع سكان أورشليم. ومن ناحية الكنيسة فالمسيا هو الملك الروحي لها والتلاميذ هم أمراء يهوذا، وهؤلاء سيمتلئون قوة إذ يشعرون بعمل الله بقوة في أولادهم الذين كرزوا لهم. فالخادم يمتلئ قوة حين يرى عمل الله المثمر فيمن يعلمهم ويكرز لهم، ويشعر بضعف وإلتهاب في قلبه إذا ضعفوا (2كو29:11) والله يهبهم قوة إلهية تحرق أعدائهم المشبهين هنا بالحطب وحزم القش. وأمراء يهوذا مشبهين بمصباح نار فهم ينيروا ليس من ذواتهم بل من شعلة النار الإلهية التي فيهم. فالكنيسة يهوذا الجديد دعيت بالقطيع الصغير، لكنه يحمل نار الروح، وبها يحرقون كل قوات الشر، وكذلك الإرادة العقيمة والجسدانية والنيات والأعمال الشريرة للنفس والجسد. وقد تشير كلمة أمراء يهوذا للمؤمنين عامة فالله جعلنا ملوكاً وكهنة (رؤ6:1) وتسمية أمراء لأن الأمير هو ابن الملك ونحن صرنا أبناء لله ملك الملوك. عن اليمين وعن اليسار= هذا ما يسميه الآباء بالضربات اليمينية (البر الذاتي) والضربات اليسارية (النجاسات والشهوات) وتثبت أورشليم في مكانها= هذه نبوة بثبات الكنيسة فهي ثابتة لثبات عريسها فيها، فهي جسده ولن يقوى عليها أبواب الجحيم (مت18:16). أورشليم الأرضية           ذهبت للسبي أيام بابل ثم في أيام الرومان، والسبي إشارة للعبودية، أما الكنيسة حين حررها المسيح فتكون حرة لا تذهب بعيداً للسبي ثانية (يو36:8) أما من يترك الكنيسة ويترك الإيمان، فهو ليس من القطيع الصغير، ليس من الكنيسة، بل هو أوراق صفراء في الشجرة (عصافة) تسقطها الريح أي التجارب التي يثيرها إبليس (رؤ13:6).

 

آية (7): “ويخلص الرب خيام يهوذا أولاً لكيلا يتعاظم أفتخار بيت داود وأفتخار سكان أورشليم على يهوذا.”

الريح التي تسقط الأوراق الصفراء هي نفسها تعطي قوة وحيوية لباقي الأوراق الخضراء فتزداد ثباتاً. هذه طبيعة التجارب التي يسمح بها الله لأولاده أنها تثبتهم في الإيمان “ولكننا في هذه جميعها يعظم إنتصارنا بالذي أحبنا” (رو37:8).وهذا يعبر عنه هنا بأن المساكين والضعفاء= خيام يهوذا هؤلاء يخلصهم الرب. خيام يهوذا هي بلا سور يحميها كأورشليم، لكن الله يكون للكل سور من نار. أما بيت داود مع سكان أورشليم= فهذا إشارة للأقوياء الذين لهم أسوار، هم محصنين فيها. والمعنى أنه لا داعي لأن يفتخر الأقوياء بقوتهم، فالله قوة للجميع ويسند ويحمي الجميع (1كو7:4). عموماً على المؤمن مهما كان قوياً روحياً أو مادياً، محصناً روحياً أو مادياً أن ينسب القوة لله.

 

آية (8): “في ذلك اليوم يستر الرب سكان أورشليم فيكون العاثر منهم في ذلك اليوم مثل داود وبيت داود مثل الله مثل ملاك الرب أمامهم.

أي أن أضعف واحد من المؤمنين = العاثر منهم= أي سكان القرى والحقول الذين بلا أسوار تحميهم. يكون مثل داود= هذا لأن الله يسند هذا الضعيف فيكون كداود في قصره المحصن. وبيت داود مثل الله= بيت داود هو الكنيسة جسد المسيح نسل داود بالجسد، هذه الكنيسة يصورها الروح القدس لتكون صورة المسيح “يا أولادي الذين أتمخض بكم إلى أن يتصور المسيح فيكم”)غل19:4). المسيح سيحيا في الجميع، في كنيسته (غل20:2) فيعمل الكل أعمالاً عظيمة بالمسيح الذي فيهم (يو12:14). والله يرفع المتضعين (لو52:1).

 

آية (9): “ويكون في ذلك اليوم أني ألتمس هلاك كل الأمم الآتين على أورشليم.”

الله يعطي نفسه لأولاده كسر قوتهم ويكون ناراً آكلة لأعدائهم الشياطين.

 

آية (10): “وأفيض على بيت داود وعلى سكان أورشليم روح النعمة والتضرعات فينظرون إليكم الذي طعنوه وينوحون عليه كنائح على وحيد له ويكونون في مرارة عليه كمن هو في مرارة على بكره.”

إذ يملك الرب على بيت يهوذا يفيض بروحه القدوس على كنيسته ليهبها كل نعمة ويسندها في جهادها= فينظرون إلىَّ الذي طعنوه= حين يؤمن البقية بالمسيح سيبكون على ما فعله أبائهم بالمسيح الذي صلبوه وطعنوه. وسيبكون على عدم إيمانهم السابق، وعلى كل كلمة شريرة قالوها على المسيح. بل أن كل خاطئ تائب حين يكتشف ما قدمه له المسيح، وكيف أنه طعن لأجله، وصلب لأجل خطاياه، ستكون توبته بنوح مقدس على الخطية التي سببت كل هذه الآلام للمخلص، هذا هو الحزن المقدس. وهذه الآلام تلهب في القلب محبة شديدة نحو المخلص تزيد من الإحساس بالألم لما سببناه له بخطايانا. ولاحظ أنه بعد عظة بطرس (أع37:2) نخسوا في قلوبهم حينما علموا أن الذي صلبوه كان هو المسيح الذي طالما إنتظروه. وقد تعنى الآية أن من لا يقبل المسيح الآن سيبكي بمرارة يوم الدينونة، ويكون بكاؤه كمن فقد بكره. فهم سيدركون أن غضب الله سيحل عليهم إلى الأبد.

 

آية (11): ” في ذلك اليوم يعظم النوح في أورشليم كنوح هدد رمون في بقعة مجدّون.”

بقعة مجدون= حيث قتل يوشيا الملك الصالح، فحزن عليه الشعب، إذ قيل لهم أنه مات بسبب خطاياهم، وصرخوا “سقط إكليل رأسنا. ويل لنا لأننا قد أخطأنا” (مراثي16:5). وكان حزنهم شديداً لم يكن مثله منذ قيام إسرائيل حينما حملت المركبة الملكية جثة يوشيا في شوارع أورشليم ورثاه المرنمون والمرنمات، وكان يوشيا الملك إشارة للمسيح الذي مات فناح عليه الجميع، وهو فعلاً مات لأجل خطايا الجميع. وكل مؤمن يتأمل في صورة المسيح المصلوب فليبكي على خطاياه التي سببت هذا للمسيح. وقد يكون هذا البكاء هو بكاء البقية التي آمنت بالمسيح على ما فعله الآباء بصلب المسيح، وعدم إيمانهم السابق.

 

الآيات (12-14): “وتنوح الأرض عشائر عشائر على حدتها عشيرة بيت داود على حدتها ونساؤهم على حدتهنّ. عشيرة بيت ناثان على حدتها ونساؤهم على حدتهنّ. عشيرة بيت لاوي على حدتها ونساؤهم على حدتهنّ. عشيرة شمعي على حدتها ونساؤهم على حدتهنّ. كل العشائر الباقية عشيرة عشيرة على حدتها ونساؤهم على حدتهنّ.”

سيكون هناك حزناً مقدساً على الخطايا لأننا كنا السبب في زيادة آلام المسيح، وقد يكون الحزن على طول المدة في الخطية ورفض المسيح. والحزن سيكون عاماً وفردياً. وهذا الحزن سيدفع المرء أن يكون وحيداً لا يقبل أي تعزية من إنسان= على حدتهن= وسيكون الفكر محصوراً في موضوع الحزن، حتى لن يطيق الفرد أحداً بجواره. وناثان= قد يكون هو أصغر أبناء داود. أي الحزن سيشمل الجميع من الكبير إلى الصغير، ومن العظيم حتى أصغر واحد. وربما تحقق هذا في حائط المبكى، وحالة الحزن التي سادت اليهود بعد الصليب، وتشتتهم. وقد تتحقق في نهاية الأيام حين يؤمنوا بالمسيح ويكتشفوا كم أحزنوا قلبه بقبولهم لضد المسيح. وسيبكي الرجال لوحدهم والنساء وحدهن، وكأن الرجل لن يطيق تعزية حتى امرأته. وهذا سيكون وضع كل من رفض المسيح في الأبدية. فكل من رفض المسيح على الأرض مخلصاً له سيكون حزيناً هكذا في الأبدية وبلا عزاء.

ولقد رأي البعض في الأسماء المذكورة أنها تمثل قيادات إسرائيل. بيت داود= يمثل القيادات، أي الفئات القيادية في الأمة. عشيرة بيت ناثان= يمثلون النسل الملكي أو الأنبياء، فناثان كان النبي أيام داود الملك (2صم1:12). ولكن هنا يتكلم عن الأنبياء الكذبة الذين يضللون.[1] بيت لاوي= هم الكهنة ورجال الدين. عشيرة شمعي (شمعون)= وهؤلاء خرج منهم الكتبة والمعلمون.

وبهذا يكون كل المذكورين هم القادة الذين يوجهون الأمة، وهؤلاء كانوا سبباً في ضلال أمة اليهود، فهؤلاء هم الذين أشاروا بصلب المسيح، وهم كقادة مسئولين عبر العصور وحتى الآن عن موقف إسرائيل الرافض للمسيح، وهؤلاء القادة، إذ يكتشفوا في الأبدية أن من رفضوه كان هو مخلص إسرائيل، الذي جاء إلى خاصته ورفضته خاصته، يكون حزنهم بلا عزاء. فكلما زادت المراكز علواً، كلما زادت المسئولية، وكلما زادت المسئولية زاد حزن من خانوا هذه المسئولية في أبديتهم.

فاصل

فاصل

تفسير زكريا 11 تفسير سفر زكريا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير زكريا 13
تفسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى