تفسير سفر المكابيين الأول 6 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا
موت أنطيوخس أبيفانيوس وصراع اليهود مع خليفته
عندما مات أنطيوخس ابيفانيوس في طريق عودته من الشمال إلى أنطاكية كان ابنه المسمى “أنطيوخس أوباطور” ما يزال صبيًا في التاسعة من عمره (1)، فخاض ليسياس -الوصى عليه- حروبًا باسمه مع اليهود، هزمهم فيها قبل أن يتم عقد صلح بين الطرفين، بسبب بعض التقلبات السياسية في عاصمة السلوقيين والتي أفاد منها اليهود.
نهاية أنطيوخس أبيفانيوس
1وكان أنطيوخس الملك يجول في الأقاليم العليا، فسمع بذكر ألمايس، وهي مدينة بفارس مشهورة بأموالها من الفضة والذهب، 2وأن فيها هيكلا فيه كثير من الأموال وفيه أسلحة الذهب والدروع والأسلحة التي تركها هناك الإسكندر بن فيلبس، الملك المقدونى الذي كان أول ملك في بلاد اليونان. 3فأتى وحاول أن يأخذ المدينة وينهبها، فلم يستطع لأن أهل المدينة كانوا قد علموا بالأمر، 4فقاوموه وقاتلوه، فهرب ومضى من هناك بغم شديد راجعا إلى بابل. 5وجاءه، وهو في فارس، مخبر بأن الجيوش التي سارت إلى أرض يهوذا قد انكسرت، 6وأن ليسياس قد انهزم من وجههم، وكان قد خرج عليهم في جيش في غاية القوة، فتعززوا بالسلاح والذخائر والغنائم الكثيرة التي أخذوها ممن سحقوهم من الجيوش. 7وهدموا الشناعة التي كان قد بناها على المذبح في أورشليم وحوطوا المقدس بالأسوار الرفيعة، كما كان من قبل، وفعلوا ذلك أيضًا في بيت صور، وهي مدينة من مدن الملك.8فلما سمع الملك بهذا الخبر، بهت واضطرب اضطرابا شديدا، وانطرح على الفراش وقد مرض من الغم، لأن الأمر جرى على خلاف رغبته. 9فلبث هناك أياما كثيرة لأنه تجدد فيه غم شديد وأيقن بالموت. 10فدعا جميع أصدقائه وقال لهم: “لقد شرد النوم عن عيني وسقط قلبي من الهم. 11فقلت في نفسي: إلى أي حزن صرت وما أشد الاضطراب الذي أنا فيه، بعد أن كنت مسرورا ومحبوبا في أيام سلطاني! 12أما الآن فإني أتذكر المساوىء التي صنعتها في أورشايم وكيف أخذت كل آنية الذهب والفضة التي كانت فيها، وأرسلت لإبادة سكان اليهودية بغير سبب. 13فأنا أعلم بأنى لأجل ذلك أصابتنى هذه البلايا، وها أنا أموت بغم شديد في أرض غريبة”.
ربما تفوق كراهية اليهود لأنطيوخس أبيفانيوس، كراهيتهم لتيطس الرومانى والذي أنهى على الهيكل ودمّر أورشليم، فقد كان أنطيوخس وسيظل ضمن الشخصيات التي ُتحرك حنق اليهود وتقزّزهم، مثل كراهيتهم لنبوخذ نصر في القديم، وهتلر في العصر الحديث.
ويظن أغلب الدارسين أن هناك ثلاث روايات تعرض لموت أنطيوخس أبيفانيوس، تختلف أحدها عن الاثنتين الأخريين، ولكن القصة الرئيسية هي الواردة هنا، وأما تلك الواردة في (2مكا1) فهي التقليد الشعبي بخصوص انتقام الله منه، وأما الثالثة الواردة في (2مكا9) فهي على الأرجح تخصّ أنطيوخس الثالث الكبير، والذي حاول هو من قبل نهب ذلك الهيكل كما سيجىء في التعليق عليها في حينه. وقد تناولنا هذه الفروق والرد عليها خلال مناقشة الاعتراضات فالرجاء العودة إليها (كتاب: مدخل إلى سفري المكابيين).
جدير بالذكر أن تاريخ موت أنطيوخس أبيفانيوس يعود إلى ما قبل تطهير الهيكل، غير أنه سمع بالأخبار المتواترة عن انتصارات اليهود وهو في طريقه عائدًا من الاقاليم الشمالية باتجاه أنطاكية عاصمة ملكه وقبل أن يموت (آية 5) مما سبب له انتكاسة إضافية عجّلت بموته. وكان أنطيوخس قد ورث عبئًا ماليًا كبيرًا وذلك بسبب الجزية الثقيلة التي وضعها الرومان على أبيه ضمن شروط الصلح المهينة عقب هزيمته في معركة مغنيسيا سنة 198 ق.م. ولذلك فقد كان من أولى اهتماماته جمع المال بأي وسيلة، مما دفعه إلى نهب أورشليم قبلًا، كما يرد في (1مكا3: 29) أنه لم يستطع القيام بنفقات جيوشه بسبب اسرافه الشديد ونفاذ خزائنه.
وقد بدأت جولة أنطيوخس على النحو التالي، فقد سمع في البداية عن تمرّد المكابيين بقيادة متتيا وأولاده، فلما شرع في حشد جيوشه لسحقهم، اكتشف نضب خزائن المال، ومن ثم فقد فكر في جمع المال اللازم أولًا، ومن ثم اتجه شمالًا باتجاه هيكل أرطاميس ” النناية ” في بلاد فارس لسلب كنوزه، حيث أن الأماكن العليا المشار إليها هنا هي بلاد فارس ومادى وبرثية، غير أن هناك هدفًا آخر كان لحملته وهو التأكيد على خضوع “برثية” لمملكته، إذ كان نفوذ قائدها هناك يتزايد بشكل ُيخشى منه(1)، فإذا ما نهى المهمّتين عاد لينظر في أمر اليهود العصاة.
ألمايس Elymais: وُتدعى أيضًا “المائيداى” وهي صيغة يونانية ل”عيلام” (تكوين10: 22) والمرجح أن ألمايس هو الاسم اليوناني للمنطقة بكاملها. ويرجّح كثير من علماء جغرافية الكتاب المقدس أنها “برسابوليس” (2مكا9:2) وألمايس هي كلمة عبرية من أصل أكادى معناها “مرتفعات”. وهي بلاد ما وراء “دجلة” وتقع شرق مملكة بابل وجنوب أشور وميديا، وتقع على الضفة الشمالية لخليج العجم، بالقرب من مملكة فارس، جنوب غرب إيران حاليًا “خوزستان” . وكانت شوشن عاصمتها قبل استيلاء الفرس عليها وجعلها عاصمة لملكهم (نحميا1: 1) وكان لها حضارة عريقة ومناجم فضة وذهب، ومن بين سكانها من أتى بهم نبوخذ نصر إلى السامرة بدلًا من السامرين الذين أجلاهم إلى بابل. وفيها عاش أخيكار أخو طوبيت الأب (سفر طوبيت 2: 10) وفي هذه المدينة هيكل لأحد آلهة السوريين ويسمّى هيكل النناية، كما سيجىء في(2 مكا1). أما الهيكل الذي حاول أنطيوخس نهبه هناك: فهو “معبد النناية” (2مكا1: 13-15) والذي يميزه اليونانيين بالآلهتين أفروديت وأرطاميس.
وطبقا للمؤرخ بوليبيوس ومن بعده يوسيفوس -والذي سار على نهجه- فإن الهيكل كان هيكل أفروديت (الإلهة اليونانية المطابقة للإلهة الأكادية القديمة “إنانا” (إلهة الجنس والحرب) لذلك نرى أن النسخ اليونانية لسفر المكابيين الثاني ذكرتها باسم (نناية Nanaia)، وطبقا لعلماء اللغة أصبحت إنانا تنطق في العصور اليونانية Nana، وهذه الإلهة هي صاحبة طقوس الجنس الصاخبة والتي عرفت في بلاد كنعان باسم عشتار. ويشير المؤرخ استرابو كيف أن الثروة التي هناك أغرت ملك آخر بالاستيلاء عليها في وقت لاحق، هو “ميتراداتيس الأول” ملك فارس(2).
أسلحة الذهب والأسلحة والدروع:
كانت الأشياء الثمينة التي يستولى عليها الملوك في حروبهم مع الأعداء، أو تلك التي ُتهدى إليهم من الملوك والشعوب الأخرى، ُتوضع في المعابد كهدايا تذكارية، أو كهدايا تقدم بدورها إلى إله المعبد وذلك على سبيل أنها نصيبه في غنائم الحرب، ولكن أحسنها.!! هكذا صنع الإسكندر المقدونى، وكان أول ملك بالفعل على بلاد اليونان بعد أن وحدها أبوه فيلبس وجعلها تحالف واحد (آية 2 و1: 1).
أما أسلحة الذهب فهي في الغالب ُتصنع خصيصًا من الذهب كنذور للهيكل لضمان كسب المعارك، وربما تكون الأسلحة الشخصية للملوك أنفسهم سواء المغيرين منهم أو المحليين، وبين الشعوب القديمة من كان ينذر أن يصنع من الذهب ما يشابه الجزء المريض من جسده، يقدمه للهيكل متى شفى، هكذا صنع الفلسطينيون “خمسة بواسير ذهب” كنذر بعد أصابتهم بالبواسير(صموئيل أول 3: 5). ُيضاف إلى ذلك النذور والهدايا التي ُتقدم للهيكل من الأفراد، سواء مالية أو عينية، وكذلك الودائع التي يضعها الناس هناك باعتباره أكثر الأماكن أمنًا إذ يحرسه الإله هناك. ويقال أن هيكل أورشليم في أيام السيد المسيح كان يعد أكبر مخزن للأموال والمعادن النفيسة.
ولكن أهل ألمايس لم يمكّنوا أنطيوخس أبيفانيوس من الاستيلاء على خزائن هيكلهم، بل قاوموه كرجل واحد دفاعًا ليس عن الأموال فقط بل وعن الهيكل وكرامتهم، فشعر أنطيوخس بالخوف عندما رأى تصميمهم، خاصة وأنه كان يعرف كيف ُقتل أنطيوخس الثالث من قبل لهذا السبب عينه، وهكذا انسحب بدون قتال، وتشير الآية (2مكا9: 2) لا إلى معركة بل إلى خزي أنطيوخس في التقهقر. وفي أفضل التقديرات فإن أنطيوخس قد رأى أنه من غير المقبول محاربة أناس ُعزل يدافعون عن عقيدة، وليس جنود مسلحون يحمون البلاد، لاسيّما وأن البلاد نفسها خاضعة له. وحينئذ تراجع في اتجاه اقليم بابل غرب ألمايس.
النكسة الثانية لأنطيوخس (5 – 9): ولم يكد الملك يستوعب اخفاقه في جمع المال، حتى تواردت إليه في الطريق أنباء فشل الحملة على اليهودية، مما كسر قلبه بالأكثر وأسلمه للمرض، وساءت حالته واستبد به القلق واليأس، وليس من الواضح إن كان قد استطاع خلال تلك السفرة تأكيد سلطانه على البرثيين أم لا.
وهناك وثيقة من بابل بالكتابة المسمارية Cuneiform تبين أن خبر وفاة أنطيوخس أبيفانيوس قد وصل إلى بابل في الشهر التاسع (كسلو/20 نوفمبر-18 ديسمبر) من سنة 148 السلوقي البابلي (164 ق.م.). وربما ُعرف الخبر في أورشليم في 28 يناير سنة 163 ق.م. وحيث أنه من المحتمل أن الاحتفال بعيد المظال كان يتم طبقًا للتقويم اليهودي غير السليم (انظر التعليق على 4: 36-54) ولذلك فمن المحتمل أن يكون موت أنطيوخس بعد تكريس المذبح الجديد.
وإلى نهاية أنطيوخس أبيفانيوس يشير دانيال في نبوءته قائلًا: “وُتفزعه أخبار من الشرق ومن الشمال فيخرج بغضب عظيم ليُخرب ويُحرم كثيرين وينصب فسطاطه “خيام قصره” بين البحور وجبال بهاء القدس ويبلغ نهايته ولا معين له” (دانيال 11: 44،45) وفي إشارة أخرى إلى موته على فراشه دون أن ُيقتل تقول النبوءة: “وبحذاقته ينجح أيضًا المكر في يده ويتعظّم بقلبه وفي الاطمئنان ُيهلك كثيرين ويقوم على رئيس الرؤساء وبلا يد ينكسر” (دانيال 8: 25).
ويقول “رولان” أن النص العبري يرد فيه: “وينصب أخبيته في ” ابرنو” البحرين في جانب ” زابى المقدس” . ورغم ما يرى فيها رولان من غموض، إلاّ أن “برفير” وهو مناهض كبير للمسيحية يقول أن هذه الآية تشير إلى حملة أنطيوخس على ما وراء الفرات وموته في أثناء هذه الحملة، وعليه فإن” “ هي ” تاب” أو ” تابا ” (طاباي Tabai) حيث مات أنطيوخس حسبما يروى أبيان وبوليبيوس المؤرخان.(3) ومع أنها كانت ضمن المنطقة التي يسيطر عليها، إلاّ أنه يرثي نفسه بأنه يموت في أرض غريبة (آية 13).
ويقول المؤرخان بوليبيوس ( xxxxi,11 ) وبرفيريوس أن أنطيوخس مات في مدينة جابي Gabai وهي بحرف الجيم وليس بالطاء أي طابي Tabai ، وهي إحدى المدن الرئيسية في فارس كما يقول سترابون: (مثب شوشان و برسوبوليس وبسرجدي، وهي تقع في أرض جبياني أو جبيني “Gabianh أو Gabhnh “ ).
أنطيوخس يرثى ذاته (10-13): في لحظات صدق رجع أنطيوخس إلى نفسه وهو على فراش الموت، وعند الاحتضار يكون الإنسان أصدق ما يكون، بما في ذلك اللصوص والقتلة، إذ لا يتبقى أمامه ما يحرص عليه أو يخاف منه، وقد يستطيع أن ُيخفي الأسرار المتعلقة بالآخرين، غير أنه لا يقدر أن يحجب أسراره الشخصية، إذ يكون وهو في عمق ضعفه مستخفًا بكل شيء، كما أنه لا يوجد ما يذّل الإنسان ويكسر شوكة كبريائه سوى المرض، والأكثر من ذلك: الاحتضار الذي يسبق الموت. يقول أنه كان طيبًا ومحبوبا في مملكته، والمعروف عنه أنه كان مسرفًا في كرمه كما سبقت الاشارة إلى ذلك عند استعداده لحملته الأخيرة.
ومع أن أنطيوخس هنا يندم على سلب هيكل أورشليم وسعيه في إذلال سكان اليهودية، ومع شعور اليهود بأن ذلك العقاب قد حلّ به نتيجة اهانته للهيكل والشريعة، إلاّ أن السبب المباشر كان تلك النكسة التي ُمنى بها في ألمايس ببلاد فارس، وبينما يؤكد المؤرخ بوليبيوس ذلك، يرى يوسيفوس -مثل اليهود- أن ذلك كان انتقامًا لهم من قبل الله. ومع أن اعتراف أنطيوخس قد جاء متأخرًا كثيرًا، إلاّ أن صدوره عنه قبل وفاته أمر له مغزاه ومعناه والذي ُيضاف إلى رصيد خبرات شعب الله في صراعهم مع الوثنية والمستعمرون. وكان موته في سبتمبر 164ق.م (149 سلوقية). وبذلك تكون مدة ملكه احدى عشر سنة.
ويقول يوسيفوس في هذا الصدد: ” وأني أتعجب من قول بولوبيوس الميجابوليتي ابن سمكا أن أنطيوخوس مات لرغبته بسرقة هيكل أرطاميس في فارس، وهو أمر لم يفعله حقيقة، بل تفكر به، وهذا ما يعتقده بوليبيوس، ولكن كان بالأولى أن نرى أن الملك مات من أجل سرقته هيكل أورشليم ” (4)
أنطيوخس الخامس أوباطور يعتلى العرش
14ثم دعا فيلبس أحد أصدقائه وأقامه على جميع مملكته، 15وسلم إليه تاجه وحلته وخاتمه، وأوصاه بإرشاد أنطيوخس ابنه وتربيته للُملك. 16ومات هناك أنطيوخس الملك في السنة المئة والتاسعة والأربعين. 17وعلم ليسياس أن الملك قد توفى وملك مكانه أنطيوخس ابنه الذي رباه منذ حداثته وسماه باسم أوباطور.
كان أنطيوخس الرابع أبيفانيوس قد اغتصب الُملك من أخيه ديمتريوس الأول، والذي هو الوريث الشرعي وكان قد وصل إلى سن يسمح له بأن ُيطالب بحقوقه، مثلما فعل بعد ذلك حين استرد عرشه (أصحاح 7) ولذا فقد سعى أبيفانيوس في تأمين العرش لابنه، وإذ كان ما يزال صبيًا لم يتجاوز التاسعة فقد عَهَد به في بادىء الأمر إلى ليسياس وهو أحد القواد المقربين إليه (3: 33)(5) ثم عاد فعهد به إلى فيلبس وهو المشار إليه في (2مكا9: 29) وأودع عنده الشارات الملكية والتاج والخاتم الخاص به. لا سيما وقد أخفق ليسياس بما في ذلك الهزائم التي ألحقها به اليهود. وكانت السلطة التي منحها للأخير أعظم من تلك الممنوحة لفيلبس حيث امتدت إلى الإمبراطورية بأكملها، وكان التاج والخاتم والرداء رموزا للسلطة الملكية.
وقد ولّد ذلك: الصراع بين فيلبس وليسياس الأمر الذي افاد منه اليهود في وقت حرج، وذلك عندما تراجع ليسياس عن تدمير أورشليم عاقدًا الصلح معهم مرتين، الأولى في الأصحاح الثالث، والثانية في هذا الأصحاح، ففي الأولى سمع ليسياس في أورشليم بموت أنطيوخس واستيلاء فيلبس على العرش على أساس حداثة سن أنطيوخس الصغير، فترك اليهودية واتجه إلى أنطاكية، ونادى بأنطيوخس ملكًا وذلك في أكتوبر 164 ق.م. (2مكا9: 5) غير أن ديمتريوس الأول وهو الوريث الشرعي للمُلك – كما سبق- قام بقتل الاثنين معًا واعتلى العرش (1مكا7: 2) وذلك في سنة 162 ق.م.
وكانت المدة التي مكثها الملك الصبي نظريًا تبلغ سنتان (من 164 – 162ق.م.) وقد تَسمّى ” أوباطور”: وهي كلمة يونانية تعني “الشريف أبًا” أو الذي “أبيه شريف” (وهو ما يعكس شعبية أنطيوخس الرابع).
حصار قلعة السلوقيين في أورشليم
1: 33 – 35
18وكان أهل القلعة يصدّون إسرائيل عن دخول الأقداس، ويحاولون الإضرار بهم من كل جانب وتأييد الوثنيين. 19فعزم يهوذا على إبادتهم وحشد كل الشعب لمحاصرتهم. 20فاجتمعوا معا وحاصروهم سنة مئة وخمسين، ونصبوا القذافات والمجانيق.21ولكن بعض المحاصرين خرقوا الحصار، وانضم إليهم نفر كافرون من إسرائيل، ومضوا إلى الملك فقالوا له: ” إلى متى لا تنصفنا ولا تنتقم لإخوتنا؟ 23إننا ارتضينا بخدمة أبيك والعمل بأوامره واتباع فرائضه. 24ولذلك أبناء شعبنا ينفرون منا، وكل من صادفوه منا قتلوه ونهبوا أملاكنا. 25ولم يكتفوا بمد أيديهم علينا، بل تجاوزوا إلى جميع بلادنا. 26وها إنهم يحاصرون قلعة أورشليم ليستولوا عليها، وحصنوا مقدس بيت صور. 27فإن لم تسرع الآن وتبادرهم، فسيصنعون شرًا من ذلك، فلا تقدر أن تُكفهم”.
كانت قلعة السلوقيين (قلعة عكرة) مصدمة وعثرة لليهود في أورشليم – كما سبق القول – وكانت تشبه ” قاعدة عسكرية” سلوقية في أورشليم، أمّا سكانها – والذين كانوا أغلبهم من الأمم – فقد راحوا يضايقون الشعب الداخل إلى الهيكل للعبادة، سواء أكان ذلك من جهة الإهانات أو الأذى الجسدي، كما كانت فرصة لتلصّص الوثنيين على جانب من أكثر جوانب حياتهم خصوصية وقداسة وحساسية (أي العبادة) كما شجع السلوقيين بقية الوثنيين – الذين حول اليهود – على الإساءة اليهم.
من هنا كان تفكير يهوذا المكابى في التخلّص من هذا الوجود الوثني، ومن ثم حشد جيشًا كبيرًا لهذا الغرض، وكان ذلك في سنة 163/162 ق.م. (150 سلوقية).
القذافات Firing Platforms: وهي قواعد أو مصاطب ُيقذف من فوقها بسهام ذات شعلات نارية، وُتطلق بغرض احراق الحصون أو السفن وغيرها. وقد ُعرف منذ ذلك الوقت ما يسمى ب” النار الإغريقية ” والتي اسُتخدمت في مهاجمة السفن بشكل خاص. وتستخدم في تلك القاذفات مواد قابلة للاشتعال، بحيث لا تنطفى القذيفة بسهولة رغم اطلاقها بقوة شديدة، كما أنها تستمر مشتعلة مدة طويلة قبل أن تخبو. وهي تختلف عن آلات رشق السهام النارية المذكورة في (آية 51) وأن كان الفرق بينهما غير معروف. غير أننا نقرأ في (حزقيال 17: 17 و21: 27) ما يوحي بأنها نوعًا من الأسوار المبنية للحصار.
هذا وقد استمر حصار القلعة لبعض الوقت قبل أن تصل حملة الانقاذ بقيادة ليسياس وأنطيوخس الخامس، والتي نتج عنها هزيمة يهوذا في ” بيت زكريا”. ُانظر خريطة رقم (10).
الوشاية (21 – 27):
وبينما كان المكابيون يحاصرون القلعة، استطاع بعض المحصورين من اليهود المتأغرقين (الذين اعتنقوا الحضارة الهيلينية وأصبحوا تابعين بالتالي للسلوقيين) التسلّل من الحصار، ثم ضمّوا إليهم آخرين من اليهود الذين على شاكلتهم في الخارج، مكوّنين وفدًا إلى الملك أنطيوخس الخامس وليسياس الوصي عليه، متشكّين وُمتباكين من الاضطهاد الذي يعانونه من اليهود اخوتهم! وأنهم في خطر وأن شر اليهود في تزايد مستمر، وأن الأمر لا يتعلق فقط باليهود المساكين والموالين لوالده والمخلصين له، وانما أيضًا بالمملكة السلوقية ذاتها، إذ سيكون من الصعب اخضاع اليهود إذا صارت الأمور في صالحهم على هذا المنوال.!! وقد استطاعوا استمالة الملك من خلال هذه المداهنة: فها هم ُيقتلون هم واخوتهم – من اليهود المتأغرقين- بسبب وفاءهم له.!!
مقدس بيت الصور: كانت بيت صور إحدى “مدن الملك” أي مركزا من مراكز المملكة، ولكن اليهود اقتحموها واستولوا عليها مخلّصين اخوتهم المضطهدون فيها، ثم حصّنوها وجعلوها مركزًا يهوديًا (1مكا4: 61 و5: 15) وتعبير “مقدس” الوارد هنا يعنى (مخصّص للملك).
اليهود يتعرضون لهجوم شامل:
تعتبر هذه الحملة انتكاسة لليهود، كادت تضيع بسببها كافة الانجازات التي حققوها عن يد المكابيين، بما في ذلك الهيكل والذي كان قد مضى على تطهيره أقل من عام، غير أن الله قد تدخل في الهزيع الرابع وأنقذهم من هزيمة ساحقة كانت مؤكدة.
معركة بيت زكريا
28فلما سمع الملك غضب وجمع كل أصدقائه وقواد جيشه ورؤساء الفرسان. 29وجاءته من ممالك أخرى ومن جزر البحار جنود مرتزقة. 30وبلغ عدد جيوشه مئة ألف راجل وعشرين ألف فارس واثنين وثلاثين فيلا مدرّبا على الحرب. 31فزحفوا مجتازين في أدوم وحاصروا بيت صور وحاربوا أياما كثيرة وصنعوا المجانيق، ولكن الآخرين خرجوا وأحرقوها بالنار وقاتلوا ببأس. 32فسار يهوذا عن القلعة وعسكر في بيت زكريا تجاه معسكر الملك. 33فبكر الملك وأطلق جيشه دفعة واحدة في طريق بيت زكريا، حيث تأهبت الجيوش للقتال ونفخوا في الأبواق. 34وأروا الأفيال عصير العنب والتوت حتى يهيجوها للقتال. 35ثم وزعوها على الفرق، فجعلوا عند كل فيل ألف رجل لابسين الزرود وعلى رؤوسهم خوذ النحاس، وأقاموا لكل فيل خمس مئة فارس منتخبين.36فكان أولئك حيثما وُجد الفيل سبقوا إليه، وحيثما ذهب ذهبوا معه لا يفارقونه. 37وكان على كل فيل برج حصين من الخشب يحميه، مثبت بالأحزمة، وعلى البرج المحاربون الثلاثة المقاتلون من على الأفيال، فضلا عن الفيال.38وجعل الملك سائر الفرسان من هنا ومن هناك على جانبى الجيش يضايقون العدو ويسترون الكتائب. 39فلما لمعت الشمس على تروس الذهب والنحاس، لمعت بها الجبال وتلألأت كمشاعل من نار. 40وانتشر جيش الملك قسم في أعلى الجبال وقسم في السفوح، ومشوا برباطة جأش وانتظام. 41فارتعد كل من سمع صراخ ذلك الجمهور وجلبة زحفهم وقعقعة سلاحهم، فإن الجيش كان عظيما وقويًا جدًا.42فتقدم يهوذا وجيشه للمبارزة، فسقط من جيش الملك ست مئة رجل. 43ورأى ألعازار أوأران واحدًا من الأفيال مدرعًا بدروع ملكية ويفوق جميع الأفيال جسما، فظن أن عليه الملك. 44فبذل نفسه ليخلص شعبه ويقيم لنفسه اسما مُخَلَّدًا. 45وعدا إليه بجرأة في وسط الفرقة، يقتل يمنة ويسرة، فتفرق الأعداء عنه من هنا ومن هناك.46ودخل بين قوائم الفيل حتى صار تحته وقتله، فسقط عليه الفيل إلى الأرض فمات مكانه. 47ولما رأى اليهود سطوة الملك وبطش الجيوش ارتدوا عنهم.
كان يمكن لليهود أن يبرروا هجومهم على المرتدين، بدفاعهم عن الشريعة، وأن محاربتهم للأمم المجاورة هي لحماية أنفسهم. أما حصارهم لبيت صور والقلعة ثم تحصين جبل الهيكل فقد اعتبرها الحكام السلوقيون أعمال تمرد ضد الإمبراطورية، انظر (1: 33 -40 و 6: 7)
وقد ُشنت هذه الحرب من قبل ليسياس باسم أنطيوخس الصغير، ويلاحظ أن العدد الضخم الذي ُحشد من الجنود الأساسيين، مع ما انضم إليهم من المرتزقة، يفوق بكثير جدًا احتياج المعركة مع جيش قد لا يتجاوز وقتها العشرين ألفًا. وقد اتجه الجيش الجرار بفرسانه وأفياله نحو اليهودية من خلال أدوم، ولا شك أنهم مروا بوادى البطمة (صموئيل أول 17: 2) وعدلام (2مكا12: 38) ثم وقع اشتباك في البداية في مودين (2مكا13: 14) وأمّا الاستيلاء على بيت صور فقد تأخر بعض الوقت، بسبب مقاومة أهلها من جهة وبسبب تعديل في الخطة لدى السلوقيين.
أما الجنود المرتزقة الذين انضموا إلى السلوقيين في هذه الحملة (آية 29) فقد كانوا من الجزر اليونانية التي لم تكن قد استقلت بعد، ومن الممالك التي ظلت مستقلة وهي: برغامس وبيثينية وبنطس وكبادوكيا. وكان أحد شروط الصلح بعد معركة أباميا التي ُهزم فيها أنطيوخس الثالث، منع السلوقيين من استئجار الأجانب، كما كانت تمنعهم من حيازة الفيلة، ومع ذلك لم تكن هذا الشرط نافذا في ذلك الوقت (7: 1).
إلى ذلك الوقت كان المكابى ما يزال يحاصر القلعة السلوقية في أورشليم، وما أن سمع بأنباء الحملة السلوقية واشتباكها مع مقاتلى بيت صور، حتى ترك القلعة مؤقتًا ليدرأ ذلك الخطر الذي قدم على اليهودية أولًا، فربض بجيشه عند بيت زكريا، وقد كان ليسياس قادرا على محاصرته بين جيشه والقلعة، لا سيما وأن أورشليم كان ينقصها المؤن والإمدادات.
بيت زكريا Beth zachariah: وهي قرية تبعد عن أورشليم مسافة 16 كم إلى الجنوب الغربي، ومسافة 10 كم شمال بيت صور إلى الشمال الشرقي، وتسمى حاليًا “خربة بيت شكريا” ويقال أن هناك قرية الآن باسم “بيت زكريا”. ُانظر خريطة رقم (10).
اشترك الأفيال في المعركة: تأتى أول إشارة لاستخدام الأفيال بالنسبة للأعمال العسكرية في الكتاب المقدس، في سفري المكابيين فقط، وأن كان استخدامها في الأعمال الحربية سابق على ذلك بقليل، فقد ُعثر على عملة تذكارية ُسكّت بمناسبة انتصار الرومانيين على بيروس في سنة 264 ق.م، وقد ظهر على أحد وجهي العملة صورة فيل حربى، كما سارت الفيلة في استعراض النصر الشهير لأنطيوخس الرابع سنة 166 ق.م.
وتعد أفضل الأفيال – في الإطار الحربى – تلك الواردة من الهند، وكان يثبت فوق ظهر الفيل برجًا من الخشب مثبّت بأحزمة من الجلد يتسع لعدد كبير من الجنود يصل إلى اثنين وثلاثين جنديا(6)، والبرج محصّن مثل القلعة الصغيرة. والقراءة الواردة هنا عن عدد الجنود “3 ” صحتها “30” (يرد في اليونانية واللاتينية والفولجاتا: 32 جندي) عدا قائده والذي كان من أصل هندي في الغالب، كما هو الحال هنا، ولكن الأفيال والتي كانت مرتفعة الثمن نادرة الوجود بسبب صعوبة وصولها من جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأدنى، جعل من وجودها ضمن القوة العسكرية امتيازًا كبيرًا لمالكيها، وقد ُذكر أن أنطيوخس الكبير كان يمتلك مئة وعشرون فيلًا، غنمها منه الرومانيون بعد هزيمته (1مكا8: 6). على الرغم من أن الرومان بعد حرب مغنيسيا قد منعوا الجيش السوري من استخدام الفيلة، إلا أن كل الشواهد التاريخية في المصادر المختلفة توضح بجلاء عدم انصياع الملوك السوريين لهذه الرغبة.
وفي العمليات العسكرية كان الفيل الواحد يتوسط عددا كبيرًا من الجنود، وصل إلى ألف في هذه المعركة كانوا يرتدون الخوذ النحاس (البرونز) والدروع (الزرود) ومعهم خمسمائة فارس. وكانت هذه الحملة تضمّ اثنين وثلاثين فيلًا، ومن الميزات التي يوفرها الفيل في المعارك هو إتاحة الفرصة للجنود المحمولين فوقه استخدام السيوف والرماح والسهام بشكل أكثر فعالية، إضافة إلى ميزة لا نظير لها، وهي أن رائحة الفيل، وربما منظره، يثير اشمئزاز الخيول الموجودة في المعركة مما يدفعها إلى الهرب بعيدًا، ولذلك فمن المعتاد جعل الأفيال في مقدمة الصفوف!. وفي المقابل كان يجب تدريب الخيول تدريبا خاصا لتتحمل وجود الفيلة.
وعند بدء القتال كان “الفيّال” وهو سائق الفيل ومدربه، والذي كان في العادة هنديًا (ترجمة الفولجاتا6: 37) يضع أمام الفيل عصير من العنب والتوت الأحمر، وفي ترجمات أخرى: “دم العنب” (راجع: تكوين 49: 11 وتثنية 32: 14) وذلك بغرض إثارة حميته للقتال وجعله أكثر فعالية ونشاطًا في ساحة المعركة، ولكنه من غير المعروف إن كان الفيل ُيسقى من هذا الشراب أم ُيكتفي بعرضه أمام عينيه فقط. ولكننا نعرف أن الفيلة مغرمة بعصير الفواكه. ومن المرجح جدًا أن يكون المقصود هو عصائر غير مختمرة، إذ أن الأفيال متى سكرت فإنها ستصبح خطرة على كلا الطرفين.
كان المشهد مرعبًا من شأنه أن يوقع الرعب في قلوب المحاربين من اليهود على الجانب الآخر، والذي لم تكن إمكانياته البشرية أو عتاده يتناسب مع إمكانيات الطرف الآخر، وكان هذا الحشد يشبه العرض العسكري (استعراض للقوة) كما يعكس هذا الهجوم بهذا العدد مدى حنق السلوقيين على اليهود.. لقد كانت قوة كافية لفتح عدة ممالك.
كان منظر التروس (الذهب والنحاس) في شعاع الشمس، ثم توزيع الجنود سواء في أعلى الجبال أو في السهول من أسفل، مع حركة أقدامهم المنتظمة ثم صياحهم العسكري والأبواق التي تزأر أصواتها، سبب رعدة ونذير كارثة في طريقها إلى اليهودية، فها قد تربّص بها الأعداء راغبين في الثأر لكرامتهم من “حفنة المكابيين” التي أقضّت مضاجعهم. ويمكن أن نجد هنا صدى لهذا المشهد في (حزقيال 21: 8-23) حيث يبرق سيف مصقول ويرهب ويهزم إسرائيل.
التحام الجيشان ومقتل ألعازار: إن “تقُدم يهوذا” يؤكد شجاعته واقدامه وعدم الانتظار لتلقّي الضربات، وقد استطاع جنوده قتل ستمائة جندي سلوقى في أول جولة، أما ألعازار فقد وجد أحد الأفيال وفوقه برجًا مميزًا ومزيًنا، يرتدى الجنود الذين يستقلونه ثيابًا مميزة، ومن ثم فقد ظن أنه الفيل الذي يستقله الملك، ورأى في قتله كسرة عظيمة لجيش الأعداء، فاخترق الصفوف في شجاعة حتى وصل إلى ذلك الفيل، ثم دخل بين قوائمه الأربعة ليطعنه طعنة قاتلة، ولكنها كانت قاتلة للاثنين! حيث سقط الفيل فوقه فقتله في الحال، وربما كان ذلك الفيل هو الذي كان الملك معتادا على ركوبه، ولكن الملك الطفل لم يذهب إلى المعركة. ولكن هذا السلوك مع ذلك دليل على شجاعة ألعازار وتضحيته، وبينما ينظر البعض إلى سلوكه باعتباره نوعًا من التهوّر وعدم الحكمة، فإنه عندما يحمى وطيس القتال في المعارك يفعل الجندي ما لا يفعله في الأوقات العادية. ويشار إلى هذا الحدث في (2مكا13: 15). ومع كل ذلك فقد تراجع اليهود أمام هذا السيل الجارف من الجيوش.
حصار بيت صور وجبل الهيكل
48فصعد جيش الملك نحو أورشليم لملاقاة اليهود وحاصر الملك اليهودية وجبل صهيون. 49وعقد صلحا مع أهل بيت صور، فخرجوا من المدينة لنفاد الطعام من عندهم إذا حوصروا فيها، لأن السنة كانت سنة سبت للأرض.50فاستولى الملك على بيت صور وأقام فيها حرسا يقومون بحراستها. 51وحاصر المقدس أياما كثيرة ونصب هناك القذافات والمجانيق وآلات لرشق النار والحجارة وأدوات لرمى السهام ومقاليع.52وصنع اليهود أيضًا مجانيق قبالة مجانيقهم وحاربوا أياما كثيرة.53ولم يكن في مستودعاتهم طعام، لأنها كانت السنة السابعة، وكان الذين لجأوا إلى اليهودية من الأمم قد أكلوا ما فضل من المؤونة.54فلم يبق في الأقداس إلا نفر يسير، لأن الجوع غلب عليهم. أما الآخرون فتفرقوا كل واحد إلى بيته.
واصل جيش أنطيوخس أوباطور زحفه، فحاصر أورشليم وجبل الهيكل (جبل صهيون)، وأماّ حصن بيت صور فقد استسلم دون إراقة دماء، وهو ما عبر عنه بأنه عقد مصالحة بين الطرفين، وقد ساهم في سرعة الاستسلام نفاذ مخزون الطعام بسبب السنة السبتية.
سنة سبت: كانت أوامر الشريعة بخصوص السنة السبتية مثل السبت الأسبوعى أيضًا “وست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها وأمّا في السابعة فتريحها وتتركها ليأكل فقراء شعبك وفضلتهم تأكلها وحوش البرية كذلك تفعل بكرمك وزيتونك” (خروج 23: 10) وترد الوصية بخصوص السنة السبتية بتفصيل أكثر في (لاويين 25: 1 – 7) وأما في سفر التثنية فتضيف التعليمات الاعفاء من الديون أيضا (تثنية 15: 1- 4).
ولكن اليهود لم يلتزموا بذلك وهم في أرض الموعد، ولذلك فقد كان من بين أسباب سبى بابل هو أن ” تستوفى الأرض سبوتها” فقد مكثوا في أرض الموعد حوالي 490 سنة احتوت على 70 سنة سبتية!! وهي المدة التي مكثوها في بابل مسبيين (586 – 516 ق.م.) راجع (إرميا 34: 14- 22). وبعد العودة من السبي عاد الشعب للاهتمام بالسنة السبتية شأن كافة أحكام الناموس، ولعل السنة التي كرز فيها يوحنا المعمدان كانت سبتية (سنة 26م) وهو ما أتاح لكثير من اليهود التلاقى ومتابعته.
وفي السنة السبتية كانت لا ُتزرع المحاصيل، بل وحتى الحبوب التي تنمو من تلقاء نفسها كان لا يمكن حصادها بصورة منتظمة، ورغم أن المخزون من السنوات السابقة كان يكفي عادة لغذاء اليهود حتى مجيء المحصول التالي للسنة السبتية، إلاّ أنه من المحتمل أن حملات كل من جرجياس ونيقانور وليسياس قد عطلت الزراعة في اليهودية. ُيضاف إلى ذلك سبب آخر لتناقص المخزون في اليهودية، وهو العدد الكبير من اللاجئين إلى اليهودية من الجليل وجلعاد (آية 53) وهكذا فإن تنفيذ الطقوس بمراعاة السنة السبتية قد جعل من المستحيل على يهوذا القيام بمقاومة على نطاق واسع عند النقاط الثابتة في بيت صور وأورشليم. واضطر أتقياء اليهود للبحث عن الطعام في أماكن نموه التلقائية. وهم هنا في خريف 163 ق.م. وكانت السنة السبتية قد بدأت في خريف 164ق.م. ومن ثم قام السلوقيون بفتح المدينة ثم تركوا فيها حامية عسكرية.
وكان اليهود التُقاة يؤمنون أن مراعاة السنة السبتية سيجلب لهم النصر والانتقام (لاويين 26: 7-12) كما آمنوا بنبوات الربيين القائلة بأن الله نفسه سيتدخل في السنة السبتية وينهي خضوع إسرائيل الطويل للحكام الأجانب.
حصار الهيكل:
بعد الانتصار الذي حققوه في بيت زكريا والاستيلاء على بيت صور، وجد السلوقيون الطريق ممهدًا إلى أورشليم وجبل صهيون. ولقد كان عملًا عظيمًا ذاك الذي قام به يهوذا المكابى حين وضع على رأس اهتماماته بعد الانتصار على أعدائهم: تحصين جبل صهيون تحسّبًا لأي اعتداء آخر محتمل، وقد أفاد ذلك كثيرا في ظل هذه الحملة المرعبة، إذ حال دون تدنيس المقدسات مرة أخرى، كما حالت التحصينات القوية دون سقوطه سريعًا، وفي النهاية لم ُيمسّ الموضع بأذى، نتيجة تغيير خطة الأعداء، كما سيأتي.
ولاشك أن العتاد والأساليب القتالية للسلوقيين، كانت تفوق نظيرتها لدى اليهود، لا سيما من جهة استخدام الأفيال أو آلات رشق الحجارة والسهام والمقاليع، ولا ُيعرف على وجه الدقة الفرق بين: ” القذافات ” و” آلات رشق النار” أو الفرق بين: ” المجانيق ” و” آلات رشق الحجارة ” وكذلك ما هي أدوات رمى السهام والمقاليع.؟
وربما قام اليهود بنصب المجانق أيضًا على أسوارهم، أو القلاع التي تنتشر على السور، غير أن الجوع الناتج عن نفاذ مخازنهم- لا سيما وقد استهلك اليهود المستوطنين كل ما تبقى من الاحتياطى (وهم اليهود الذين خلصهم المكابيون من المدن الوثنية / آية 53) كل ذلك جعل بقاء رجال اليهود في الصفوف العسكرية أمرًا صعبًا، ومن ثمّ فقد تفرّقوا لأجل تأمين حكامهم وطعام أسرهم.
أما يهوذا المكابي -ونلاحظ أنه لا ُيذكر في الآيات السابقة- فيقول يوسيفوس أنه قد توارى في “جفنة Gophna ” أو في بعض التلال أو في بيته في مودين، وذلك في إطار عودة كل واحد إلى بيته (انظر آية 54)(7).
الله ينقذ اليهود من هزيمة محققة
السلوقيون يمنحون اليهود الحرية الدينية
مكابيين ثان 11: 13 -33
55وبلغ ليسياس أن فيلبس الذي أقامه أنطيوخس في حياته ليربّى أنطيوخس ابنه للُملك 56قد رجع من فارس وميديا ومعه جيوش الملك التي سارت في صحبته، وحاول أن يتولى الأمور. 57فبادر ليسياس وأومأ بالانصراف، وقال للملك وقواد الجيش والرجال: ” إننا نضعف يومًا بعد يوم، وقد قل طعامنا، والمكان الذي نحاصره حصين، وأمور المملكة تنتظرنا. 58والآن فلنمد يدنا اليمنى لهؤلاء الناس، ولنعقد صلحا معهم ومع كل أمتهم.59ولنقرر لهم أن يسيروا على سننهم، كما كانوا من قبل، لأنهم لأجل سننهم التي نقضناها غضبوا وفعلوا كل ذلك”. 60فحسن الكلام في عيون الملك والرؤساء، فأرسل يعرض الصلح على اليهود، فقبلوا. 61فحلف لهم الملك والرؤساء، وعلى ذلك خرجوا من الحصن. 62فدخل الملك إلى جبل صهيون ورأى المكان حصينًا، فنقض الحلف الذي حلفه وأمر بهدم السور الذي حوله. 63ثم انصرف مسرعا ورجع إلى أنطاكية، فوجد فيلبس قد استولىعلى المدينة، فقاتله وأخذ المدينة عنوة.
بعد أن عقد ليسياس صلحًا مع اليهود بعد فشله في الحرب السابقة معهم، وكان ذلك متزامنًا مع رغبته في الاطمئنان على الأحوال في أنطاكية، عاد فتراجع عن ذلك بلا تردد، غير أن الُطموح الشخصي له قد أنقذ اليهود ثانية من هزيمة وشيكة.
ولا بُد أن اليهود التقاة قد تعجبوا بعد انسحاب أنطيوخس الخامس من أورشليم، فقد تنبأت النبوات بأنه في ذلك الوقت ستكون فترة خضوع إسرائيل للحكام الأجانب قد انتهت وستكون هناك أحداث عظيمة أخرى قد حدثت. وربما اعتقدوا أن نسل أنطيوخس الرابع كان مقدرا له الهلاك بسبب الخطايا الشنيعة لهذا الطاغية (إشعياء 14: 21 و2مكا7: 17) وربما لهذا السبب تمرّدوا على ديمتريوس الأول باعتباره من نسله.
كان أنطيوخس أبيفانيوس قد عين ليسياس هذا وصيًا على ابنه أوباطور، ثم عاد فعهد به إلى فيلبس عند احتضاره ربما بسبب فشل الأول بالأعمال القتالية – كما سبق القول – ولكن الأمر قد استقر في النهاية بأن عّين الملك الصغير مكان أبيه وما يزال ليسياس وصيًا عليه. ولكن الدسائس والمؤامرات والصراعات على السلطة، دائمًا ما تجد لها مجالًا متسعًا وقويًا في أروقة القصور الملكية.
فقد طمع فيلبس(8) في الوصاية على العرش مستعيدًا بذلك الامتياز الذي كان قد منحه أبيفانيوس إياه من قبل، فهو المطّلع على شتى جوانب وخبايا المملكة بحكم وظيفته، كما أن الجو كان خاليا في أنطاكية في غياب كل من الملك ووصيّه، يضاف إلى ذلك احتمال قيام ديمتريوس بالمطالبة بالعرش (الأمر الذي حدث بالفعل بعد قليل). كل ذلك جعل “الملك” يعقد الصلح مع اليهود، وكان فيلبس قد عاد لتوّه من بلاد ميديا وفارس، وبصحبته الجيوش التي كانت مع أنطيوخس في حملته هناك قبل موته.
اقترح ليسياس مع الملك الصغير وكبار الضباط خيار الصلح مع اليهود والعودة من ثم إلى أنطاكية، لا سيما وأن الضعف آخذ في الانتشار بين الجنود مع نفاذ المؤن. وهكذا لعبت عوامل ثلاثة دورًا كبيرًا في هذا التحوّل في سياسة الحملة: أولها موت أنطيوخس مما أضعف التأثير الهيللينى للسلوقيين في اليهودية، وثانيها الإعياء ونقص الإمدادات في المعسكرين، والثالثة دسائس فيلبس في أنطاكية.
وقد عقد ليسياس من قبل صلحًا مع اليهود، مصدرا عفوا ينهي به الاضطهاد سنة 164 ق.م. (راجع التعليق على 4: 35) وأن كان الصلح ساريا على الذين ألقوا أسلحتهم، ولكن العفو هنا يشمل جميع اليهود، انظر (2مكا11: 23-26). وقد أقسم السلوقيون هنا على احترام شروط الصلح، ومن ثم خرج المتمردون من حصونهم لاستقبالهم، ولكن الملك (والتأثير الحقيقي لليسياس) نقد الاتفاق.
إذ ما أن دخل إلى المدينة كزائر يتفقد الموضع، حتى ساءه متانة الحصون، فأراد حرمان اليهود هذه الميزة تحسبًا لنشوب الحرب بينهم ثانية، ومؤكدا أيضًا تفوقه العسكري، ومن ثمّ أمر بهدم تلك الحصون والأسوار. وقد احتمل اليهود ذلك صاغرين إذ لم يكن لهم طاقة بهم.
ولم يستمر الأمر طويلًا حيث اتجه الملك بالجيوش إلى أنطاكية ليسترد العرش من فيلبس. ولم تمض سنة 162 ق.م حتى قام ديمتريوس بقتل كل من الملك ووصيّه منتزعًا العرش منهما، كما سيجىء. وان كان يوسيفوس يذكر أن أنطيوخس الخامس بعد انتصاره أمر بإعدام فيلبس(9).
وقد أيد السلوقيون هذه المعاهدة كتابة حيث صدرت وثيقة بهذا الشأن تمنح اليهود مزيدًا من الامتيازات، كما أيدّ الرومان هذه المعاهدة برسائل وجهوها إلى اليهود، إذ كانوا يؤثرون بقاء الملك الصغير على العرش مقارنة بديمتريوس والذي كان معروفًا عندهم، إذ مكث أسيرًا لفترة مكان أخيه أنطيوخس، راجع (2مكا11). ومن المهم أن نلاحظ أن الأخوة المكابيين لم يشتركوا في تلك المفاوضات.
_____
(1) حسبما أورد المؤرخ تاكيتوس.
(2) سترابو: 16، 18،744
(3) وهما مؤرخان وثنيان موثوق بهما: تاريخ سورية/الياس الدبس. عدد 433/ص190 من المجلد الثالث.
(4) يوسيفوس: (الآثار 12: 60، 1).
(5) يذكر المؤرخ ابيان أن أنطيوخس كان سنه 9 سنوات عندما نولى الملك، أما المؤرخ بورفير فيقول أن سنه كان 12 سنة، ويشاركه في الرأي المؤرخ يوسابيوس. ومع ذلك ُيحتمل أن الزوجة الوحيدة لأنطيوخس الرابع كانت لاوديكيا أرملة سلوقس الرابع، وبالتالي يكون أنطيوخس الخامس قد ُولد في سنة 174 ق.م. وليس قبل ذلك، وربما حدث خلط بين أنطيوخس الخامس والطفل أنطيوخس ابن سلوقس الرابع.
(6) رأى البعض أن الرقم مبالغ فيه، وأنه ربما كان: اثنان والثالث هو القائد، وهناك نقش قديم على حجر كريم يبين فيلا وفوقه رجلان في الهودج بينما السائق الهندي على رقبته (آية 37).
(7) يعود يوسيفوس فيقول في كتابه AT (الآثار) أنه كان في الهيكل المحاصر.
(8) فيلبس صديق حميم لأبيفانيوس وأخيه في الرضاعة وأحد قادة جيشه. راجع: (2مكا9: 29).
(9) ربما يكون يوسيفوس قد استقى هذه المعلومات من كتب ياسون القيريني، أو كتاب حونيا الرابع، راجع: يوناثان أ جولدشتاين /ص325.