تفسير سفر المكابيين الاول ١ للقمص أنطونيوس فكري
الإصحاح الأول
الآيات (1-10):
“1 أن الاسكندر بن فيلبس المكدوني بعد خروجه من ارض كتيم وإيقاعه بداريوس ملك فارس وماداي ملك مكانه وهو أول من ملك على اليونان. 2 ثم آثار حروبا كثيرة وفتح حصونا متعددة وقتل ملوك الأرض. 3 واجتاز إلى أقاصي الأرض وسلب غنائم جمهور من الأمم فسكتت الأرض بين يديه فترفع في قلبه وتشامخ. 4 وحشد جيشا قويا جدا. 5واستولى على البلاد والأمم والسلاطين فكانوا يحملون إليه الجزية. 6 وبعد ذلك انطرح على فراشه وأحس من نفسه بالموت. 7 فدعا عبيده الكبراء الذين نشأوا معه منذ الصباء فقسم مملكته بينهم في حياته. 8 وكان ملك الاسكندر اثنتي عشرة سنة ومات.9 فتملك عبيده كل واحد في مكانه. 10 ولبس كل منهم التاج بعد وفاته وكذلك بنوهم من بعدهم سنين كثيرة فكثرت الشرور في الأرض.”
هذا عرض سريع لتكوين مملكة اليونان كمدخل ليتكلم عن أشر ملوكهم أنطيوخس أبيفانيوس. وهو أول من ملك على اليونان= تترجم في ترجمات أخرى مبتدئاً من اليونان. ولقد مات الإسكندر سنة 323ق.م. وبعد موته إنقسمت المملكة إلى أربعة ممالك، ما يهمنا منها هنا سوريا وتحكمها أسرة السلوكيين نسبة إلى مؤسسها سلوكس ومصر وعاصمتها الإسكندرية ويحكها البطالمة. أما اليهودية فكانت مرة مع هؤلاء ومرة مع أولئك ثم خضعت نهائياً لسوريا سنة 198ق.م. علي يد أنطيوخس الثالث (الكبير). كتيم= أصلاً تشير لقبرص ومع الوقت صارت تشير لكل اليونان بل صارت تشير لكل الغرب البعيد. وداريوس الذي هزمه= إيقاعه هو داريوس كودومانوس. ووصلت فتوحات الإسكندر إلى (إيران وأفغانستان وكازاخستان حالياً) وكان هذا الإنتشار لليونان بسماح من الله لتنتشر اللغة اليونانية في العالم كله، وهي لغة غنية بمفرداتها، ولتكون لغة الإنجيل فيما بعد. ولقد دارت معارك كثيرة بين الأربعة القادة الذين حكموا الإمبراطورية بعد الإسكندر.
الآيات (11-16):
“11 وخرجت منهم جرثومة أثيمة هي أنطيوكس الشهير ابن أنطيوكس الملك وكان رهينة في رومية وملك في السنة المئة والسابعة والثلاثين من دولة اليونان. 12 وفي تلك الأيام خرج من إسرائيل أبناء منافقون فأغروا كثيرين قائلين هلم نعقد عهدا مع الأمم حولنا فأنا منذ انفصلنا عنهم لحقتنا شرور كثيرة. 13 فحسن الكلام في عيونهم. 14 وبادر نفر من الشعب وذهبوا إلى الملك فأطلق لهم أن يصنعوا بحسب أحكام الأمم. 15 فابتنوا مدرسة في أورشليم على حسب سنن الأمم. 16 وعملوا لهم غلفا وارتدوا عن العهد المقدس ومازجوا الأمم وباعوا أنفسهم لصنيع الشر.”
أنطيوخس هو أنطيوخس الرابع أو أبيفانس إبن أنطيوخس الكبير (الثالث). وأبيفانس تعني اللامع أو المتجلي، وهو أطلق هذا على نفسه إذ إعتقد أنه تجسد للإله زيوس على الأرض. وأسماه اليهود إبيمانوس أي المجنون. وفي معركة بين الأب أنطيوخس الثالث الكبير مع الرومان، إضطر الأب أن يسلم إبنه أنطيوخس إبيفانيوس كرهينة في يد الرومان وذلك ضمن إتفاقية هدنة بين الطرفين ليضم الرومان أن لا يبدأ أنطيوخس حرباً ضدهم. فظل هناك 14سنة بدأت في سنة 198ق.م. إلى أن حل محله ديمتريوس الأول وهو الإبن الثاني لسلوكس الرابع كرهينة. وعينوا أنطيوخس في أثينا رئيساً للقضاة ثم في سنة 175 قبل الميلاد تولى الملك، وذلك بالإحتيال إذ أن هناك من إخوته من هم أحق منه بالعرش، وقتل أحدهم بعد أن تولى الملك. السنة المئة والسابعة والثلاثين من دولة اليونان= ودولة اليونان تأسست سنة 312ق.م. فتصبح هذه السنة هي 312-137= 175ق.م.
أبناء منافقون=هذه=”بنو بليعال” أي أشرار. وهؤلاء تجاوبوا مع دعوة أنطيوخس في نشر الثقافة اليونانية. فإنقسمت اليهودية إلى قسمين [1] هذا الحزب اليوناني الذي يميل للتشبه باليونانيين [2] قسم آخر أصروا على التقوى وعرفوا بعد ذلك بالحسيديين.
أما الحزب اليوناني فعرف بإسم أبناء طوبيا. وهؤلاء ذهبوا ووشوا بإخوتهم عند الملك. وطلبوا تأييد الملك ضد إخوتهم، وكان منذ أيام الفرس وحتى أنطيوخس الرابع هناك قوانين ملكية سواء من الفرس أو اليونان تجعل التوراة هي التي تحكم اليهود، فهؤلاء إحتاجوا لقرار ملكي حتى يسلكوا بعكس التوراة وحسب عادات اليونانيين. وكان رئيس الكهنة أونيا رجل تقي، فجاء أخيه ودفع رشوة للملك فعينه رئيساً للكهنة وعزل أونيا. وكان هذا إسمه يشوع فصار ياسون. فإبتنوا مدرسة= هي مؤسسة رياضية للألعاب (جري/ ماراثون/ فروسية..) بالإضافة للتعليم المدني والأدبي. وهذه الألعاب خطورتها أنها كانت تقام على شرف الإله زيوس بالإضافة للعري بداخلها، فكانوا يمارسون بعض الألعاب عاريين تماماً. وعملوا لهم غلفاً= إذ كانوا يمارسون بعض الرياضات عاريين، كان اليونانيين يسخرون من ختانهم، فعلموا جراحات تعيد لهم غلفتهم وفي هذا إنكار لعلامة إنتسابهم لله. وللآن فهناك من يسخر من المتدينين ويدعو للتشبه بالعالم الخاطئ. بل هناك دعوات في الغرب لحذف الآيات التي تهاجم الشذوذ الجنسي من الكتاب المقدس ليكون كتاباً متحضراً.
الآيات (17-29):
“17 ولما استتب الملك لأنطيوكس أزمع على امتلاك مصر ليكون مالكا على كلتا المملكتين. 18 فدخل مصر بجيش كثيف وعجلات وفيلة وفرسان وأسطول عظيم. 19وأثار الحرب على بطلماوس ملك مصر فارتاع بطلماوس من وجهه وهرب وسقط قتلى كثيرون. 20 فاستحوذوا على المدن الحصينة بأرض مصر وسلبوا غنائم ارض مصر. 21 ورجع أنطيوكس بعدما أوقع بمصر وذلك في السنة المئة والثالثة والأربعين ونهض نحو إسرائيل. 22فصعد إلى أورشليم بجيش كثيف. 23 ودخل المقدس بتجبر واخذ مذبح الذهب ومنارة النور مع جميع أدواتها ومائدة التنضيد والمساكب والجامات ومجامر الذهب والحجاب والأكاليل والحلية الذهبية التي كانت على وجه الهيكل وحطمها جميعا. 24 واخذ الفضة والذهب والآنية النفيسة واخذ ما وجد من الكنوز المكنونة اخذ الجميع وانصرف إلى أرضه. 25 واكثر من القتل وتكلم بتجبر عظيم. 26فكانت مناحة عظيمة في إسرائيل في كل أرضهم. 27وانتحب الرؤساء والشيوخ وخارت العذارى والفتيان وتغير جمال النساء. 28وكل عروس اتخذ مرثاة والجالسة في الحجلة عقدت مناحة. 29 فارتجت الأرض على سكانها وجميع آل يعقوب لبسوا الخزي.”
هذه الحرب بين أنطيوخس وبطليموس= بطلماوس تنبأ عنها دانيال النبي (25:11-27). الفيلة= كانت حاملة للجنود والعتاد وكان يثبت صندوق خشبي ضخم فوق الفيل يتسع لعشرة جنود مع أسلحتهم، وكانت الأفيال بشكلها ورائحتها تجعل خيول الأعداء تنفر فتهرب وهذا يحدث إرتباك في صفوف الأعداء. وعند عودته من مصر هاجم أورشليم والهيكل، لأنه سمع بحدوث إضطرابات في اليهودية وقطعاً إذ يهاجم الهيكل ويضعفه فهو ينتصر للحزب اليوناني. وتصرف أنطيوخس ضد الهيكل كان سبباً في حزن لا يوصف لليهود الأتقياء إذ أن الهيكل هو حياتهم وفخرهم، وقيل هنا= جميع آل يعقوب لبسوا الخزي.
الآيات (30-42):
“30 وبعد سنتين من الأيام أرسل الملك رئيس الجزية إلى مدن يهوذا فوفد على أورشليم في جيش كثيف. 31 وخاطبهم خطاب سلام مكرا فوثقوا به. 32 ثم هجم على المدينة فجأة وضربها ضربة عظيمة واهلك شعبا كثيرا من إسرائيل. 33 وسلب غنائم المدينة واحرقها بالنار وهدم بيوتها وأسوارها من حولها. 34 وسبوا النساء والأولاد واستولوا على المواشي. 35 وبنوا على مدينة داود سورا عظيما متينا وبروجا حصينة فصارت قلعة لهم. 36 وجعلوا هناك أمة أثيمة رجالا منافقين فتحصنوا فيها ووضعوا فيها السلاح والطعام وجمعوا غنائم أورشليم. 37 ووضعوها هناك فصاروا لهم شركا مهلكا. 38وكان ذلك مكمنا للمقدس وشيطانا خبيثا لإسرائيل على الدوام. 39 فسفكوا الدم الزكي حول المقدس ونجسوا المقدس. 40 فهرب أهل أورشليم بسببهم فأمست مسكن غرباء وصارت غريبة للمولودين فيها وأبناؤها هجروها. 41ورد مقدسها خرابا كالقفر وحولت أعيادها مناحة وسبوتها عارا وعزها اضمحلالا. 42 وعلى قدر مجدها اكثر هوانها ورفعتها آلت إلى مناحة.”
رئيس الجزية= هو أبولونيوس بن منستاؤس (2مك24:5-26) وكلمة رئيس الجزية أصلاً تعني “قائد المرتزقة”. ثم عينه أنطيوخس رئيساً لوزرائه (2مك21:4).
خاطبهم خطاب سلام= أي حتى يطمئنهم حتى تنتشر جنوده وسطهم، ثم ضربهم عظيمة حتى يجعل اليهودية خاضعة تماماً للملك، فهي حتى الآن كان لها إمتيازات. بنوا على مدينة داود.. قلعة= كانت هذه القلعة سبب آلام شديدة لليهود، لأن عساكر اليونان الذين فيها كانوا يطلون على الهيكل ويشاهدون كل طقوسهم، وينزلون منها ليلحقون الأذى باليهود. وهذا الحصن يسمى “عكرة أو أكرا”.
الآيات (43-56):
“43 وكتب الملك انطيوكس إلى مملكته كلها بان يكونوا جميعهم شعبا واحدا ويتركوا كل واحد سننه. 44 فأذعنت الأمم بأسرها لكلام الملك. 45وكثيرون من إسرائيل ارتضوا دينه وذبحوا للأصنام ودنسوا السبت. 46 وانفذ الملك كتبا على أيدي رسل إلى أورشليم ومدن يهوذا أن يتبعوا سنن الأجانب في الأرض. 47 ويمتنعوا عن المحرقات والذبيحة والسكيب في المقدس. 48ويدنسوا السبوت والأعياد. 49 وينجسوا المقادس والقديسين. 50 ويبتنوا مذابح وهياكل ومعابد للأصنام ويذبحوا الخنازير والحيوانات النجسة.51ويتركوا بنيهم قلفا ويقذروا نفوسهم بكل نجاسة ورجس حتى ينسوا الشريعة ويغيروا جميع الأحكام. 52 ومن لا يعمل بمقتضى كلام الملك يقتل.53 وكتب بمثل هذا الكلام كله إلى مملكته بأسرها وأقام رقباء على جميع الشعب. 54 وأمر مدائن يهوذا بان يذبحوا في كل مدينة. 55 فانضم إليهم كثيرون من الشعب كل من نبذ الشريعة فصنعوا الشر في الأرض. 56 وألجأوا إسرائيل إلى المختبآت في كل موضع فروا إليه.”
أنطيوخس كان يحاول أن يجعل لمملكته كلها شكلاً واحداً، لذلك أرغم كل من يخضع له بما فيهم اليهود أن يلتزموا بالعبادات اليونانية والثقافة اليونانية. وأمر أن تكون المذابح في كل مكان= يذبحوا في كل مدينة ليلغي شريعة اليهود التي تنص بتقديم الذبائح في الهيكل فقط (تث5:12-27) ومن هنا بدأ الإضطهاد السلوكي لليهود لمن تمسك بعبادة الله بحسب الشريعة.
الآيات (57-67):
“57 وفي اليوم الخامس عشر من كسلو في السنة المئة والخامسة والأربعين بنوا رجاسة الخراب على المذبح وبنوا مذابح في مدن يهوذا من كل ناحية. 58 وكانوا يقترون على أبواب البيوت وفي الساحات. 59 وما وجدوه من أسفار الشريعة مزقوه واحرقوه بالنار. 60 وكل من وجد عنده سفر من العهد أو اتبع الشريعة فانه مقتول بأمر الملك. 61 هكذا كانوا يفعلون بسطوتهم في إسرائيل بالذين يصادفونهم في المدن شهرا فشهرا. 62 وفي اليوم الخامس والعشرين من الشهر ذبحوا على مذبح الأصنام الذي فوق المذبح. 63 والنساء اللواتي ختن أولادهن قتلوهن بمقتضى الأمر. 64 وعلقوا الأطفال في أعناقهن ونهبوا بيوتهن وقتلوا الذين ختنوهم. 65 وان كثيرين في إسرائيل عزموا وصمموا في أنفسهم على أن لا يأكلوا نجسا واختاروا الموت لئلا يتنجسوا بالأطعمة. 66 ولا يدنسوا العهد المقدس فماتوا. 67 وكان على إسرائيل غضب شديد جدا.”
رجاسة الخراب= مذابح للإله زيوس فوق مذابح الله. يقترون= يحرقون البخور. وقدم خنزيرة على هيكل الله. الملك أراد تحويل العبادة إلى زيوس وإلى نفسه فهو زيوس المتجسد. وكانت عبادات الأوثان هذه تشمل الدعارة، ولذلك سمى كل هذا رجاسة الخراب. على أبواب البيوت وفي الساحات= لضمان إشتراك كل الناس في هذه العبادات. شهراً فشهر= المقصود في مناسبة العيد الشهري لزيوس كان الجنود يقتلون من يخالفهم ويرفض تقديم ذبيحة لزيوس ومع كل هذا العنف نجد أتقياء يرفضون النجاسة مهما حدث حباً في الله. وكان على إسرائيل غضب شديد= إذاً ما يحدث لم يكن راجعاً لقوة أنطيوخس ولا أن الله غير قادر على حماية شعبه، بل لأن الله غاضب عليهم، وهو سمح بهذا التأديب بسبب خطاياهم.