الثورة المكابية بقيادة يوحنا هركانوس

(١٣٤-١٠٤ ق.م )

كان أول عمل اهتم به يوحنا هركانوس هو التخلُّص من قاتل أبيه بطليمـوس أبوبس، وذلك في ربيع سنة ١٣٤ ق.م، الذي قاوم ثم هرب وانضم إلى الأعداء.

وفي بداية حكم يوحنا هركانوس جدَّد أنطيوخس الـسابع “سـيديتس ” حملاته لإخضاع اليهودية، وحاصر أُورشليم . ولكن بحلول عيد المظال طلـب يوحنا الهدنة ليتمكن من الاحتفال بالعيد، وقد استجاب أنطيوخس في الحـال وجامل اليهود بكرامة عظيمة، وقدَّم ذبيحة عيد المظال كلها على نفقته، مـع أدوات الهيكل اللازمة من ذهب وفضة . وقد ردَّ اليهود على ذلك بأن قـدَّموا الجزية عن البلاد التي كانت خارج حدودهم التي كانوا يحتلونها . والمُلاحظ هنا أن أُورشليم لم تُمس بسوء في هذا الحصار الذي دام سنة كاملة، فقد دخلـها هدايا وذبائح من العدو وهذا يطابق ما جاء في سفر زكريا .

وبموت أنطيوخس السابع سنة ١٢٩ق.م حاول هركـانوس الاسـتقلال الكامل عن السلوقيين بسوريا، واتصل بروما وتفاهم مع مجلس الشيوخ هناك، وعقد معاهدة معهم، وذلك حوالي سنة ١٢٧ق.م.

وبمقتضى هذه المعاهدة استطاع هركانوس أن يقـف في وجـه المطـالبين بخضوع اليهودية سواءً من السلوقيين شمالاً أو البطالسة في مصر جنوباً.

واستطاع هركانوس أن يمتد بحدوده شرقاً شرق الأُردن فاحتل ميدبا وكل الإقليم الشرقي، وتوسع شمالاً حتى جرزيم وشكيم، وخرَّب معابد الـسامريين، وتوسع جنوباً وتوغَّل في أرض أدو مية وأرغم شعبها أن يتهودوا. كما بنى قلعة دفاعية كبيرة في شمال غرب الهيكل بأُورشليم . وصكَّ نقوداً وكتب عليها اسمه: “رئيس الكهنة ورئيس جماعة اليهود المتحدة ” وكان أول رئيس في عائلة المكابيين (الحشمونيين) يسك نقوداً باسمه .

في هذه المدة تقوت عائلة البطالسة الحاكمة في مصر ودخلت في صـراعها التقليدي مع السلوقيين الحكام في سوريا وتبادلوا النصرة والكسرة، كل ذلـك وهركانوس في سلام يمتد ويتسع ويتقوى في كافة الجهات. وفي أواخر حكـم هركانوس قام بحملة للاتساع شمالاً وحارب السامريين وحاصـرهم بقيـادة ولديه أنتيجونيس وأرسطوبولس، وحاول السامريون الاستعانة بحاكم سـوريا أنطيوخس سيسيزيكينوس (التاسع) ولكنه هُزم وارتد . وأخيراً سلَّمت السامرة وخضعت لهركانوس مع كل سهل يزرعيل وبيت شـان، وضُـمت إلى أرض اليهودية.

 وقد أصاب هركانوس متاعب كثيرة من شيعة الفريسيين وهي الشيعة التي انحدرت من جماعة الأتقياء الحسيديم، الذين كانوا يعارضون دائماً سياسة التوسع ويقاومونها، فكانوا يتعاونون في الحرب مع المكابيين إذا كانت للتحرر الديني، ويعارضونها إذا كانت لمجرد التوسع .

وقد انحدرت طبقة الفريسيين من جماعة “الحسيديم” الـتي كـان يمثلـها المكابيون أيضاً، وكانوا في البدء وحدة واحدة متعاونة في كل شيء، إلاَّ أنـه منذ بدء حكم يوحنا هركانوس بدأ الانفصال والبغضة والمقاومة تـزداد بـين الحسيديم والمكابيين، وابتدأ الحسيديم (الأتقيـاء ) ينفـصلون عـن المكـابيين وسياستهم الاستعمارية التوسعية، لذلك دعاهم اليهود بالمنفصلين أو المعتزلة، وهي ترجمة الكلمة العبرية “فريسيين” أي جماعـة الأتقيـاء “المنفـصلين ”.
وانفصالهم يُفهم على المعنى الديني أولاً، أي منفصلون عن نجاسـات الأُمـم وسياستهم وعن كل ما لا يتصل بالشريعة والعبادة والناموس بتعصب شـديد حتى الموت . ويُفهم بالمعنى الاجتماعي لأنهم انفصلوا عن المكابيين الذين كانوا أولاً من جماعة “الأتقياء” ولكن بسعيهم وراء الكهنوت والسياسة انضموا إلى جماعة اليهود اليونانيين سواء من جهة أفكارهم الدينية أو الاجتماعية . ويُفهـم بالمعنى السياسي أي منفصلين عن كل عمل أو حرب أو مبدأ ينادي بالتوسـع الاستعماري، والتزامهم فقط بالحرب إذا كانت من أجل اسـترداد حريتـهم الدينية أو أراضيهم المغتصبة.

وإزاء انفصال شيعة الفريسيين من جماعة الأتقياء وتسميتهم بالفريـسيين، اتخذ جماعة المكابيين الذين احتكروا رئاسة الكهنوت لقب الصدوقيين أي التابعين لصادوق رئيس الكهنة الكبير الذي عيَّنه سليمان الملك محـل أبياثـار(١ مل ٣٥:٢)، والذي احتكرت عائلته رئاسة الكهنوت من أيام داود الـنبي (أي١١:١٥، ١٦ :٣٩ ،٤٠) حتى زمن أنطيوخس إبيفانس.

ومما هو جدير بالذكر أن يوحنا هركانوس كان منضماً إلى جماعة الأتقياء (الفريسيين) في بدء حكمه بالرغم من أنه كان رئيس كهنة، ولكـن انفـصل عنهم بعد ذلك وانضم لجماعة الصدوقيين. والسبب يقدمه يوسيفوس ملخصاً أن الفريسيين عارضوا أن يكون رئيس الكهنة قائداً عسكرياً مدنياً وقدموا السبب له رسمياً في المؤتمر الذي عقدوه من أجل هذا الغرض وبيَّنوا فيه أن أُمه كانت قد وقعت في الأسر وعاشت مسبية زمناً مما لا يجوز بسبب ذلـك أن يكون ابنها الذي ولد لها بعد ذلك صالحاً للكهنوت، إذ تحسب في نظر التقليد نجسة. ولقد انضم لهذا الرأي أحد المفسرين المسيحيين وهو القديس جـيروم الذي اعتمد في تفسيره على نبوَّة حزقيال الصريحة التي تشير إلى هركانوس (حز٢٥:٢١-٢٧).

ومن هذه الحادثة يظهر على مسرح التاريخ الديني اليهودي أول الـصراع المستحكم التقليدي بين شيعة الفريسيين وشيعة الصدوقيين.

ومنذ ذلك الحين والعداء شديد ومستحكم بين جماعة الفريـسيين الـذين يمثلون الديمقراطية الشعبية الدينية على أساس النـ اموس والـشريعة، وجماعـة الصدوقيين ويمثلون الارستقراطية السياسية على أسـاس رئاسـة الكهنـوت والطقوس والتقليد المكتوب فقط أي الأسفار القانونية، والغنى !!

ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن قوة الفريسيين كانت في شعبيتهم، فكل ما كانوا يقولونه ضد رئيس الكهنة أو ضد الملك يقتنع به الشعب وينـادي بـه.
وهذا مما أثار حفيظة الصدوقيين باستمرار وخصوصاً أيام هركانوس لأنه قلَّـد نفسه الملوكية رغماً عن معارضة الفريسيين الذين لم يعترفوا بملوكيتـه قـط . فانضم إليهم الشعب في ذلك. والسبب الذي حدا بالفريسيين لعدم الاعتراف بملوكية هركانوس أنه لم يكن من بيت داود، وبذلك يكون مخالفـاً لرجـاء إسرائيل ووعد االله وانتظار المسيَّا !!
ومات يوحنا هركانوس سنة ١٠٤ق.م بعد أن تولَّى قيـادة إسـرائيل في حروبها وتوسعاتها وأعيادها ومسرتها مدة ٣١ عاماً كأفضل ما تكـون الإدارة والقيادة. ويقول يوسيفوس المؤرخ أن االله وهبه ثلاث مواهب عظمى : موهبـة الحكم وموهبة الكهنوت وموهبة النبوة لأن االله كان معه

فاصل

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين

فاصل

كما يمكنك أن تقرأ أيضاً

زر الذهاب إلى الأعلى