تفسير سفر صموئيل الأول ١١ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الحادي عشر
محاربة العمونيين

إذا أراد ناحاش العموني أن يذل أهل يابيش جلعاد، التجأ شيوخهم إلى جبعة شاول الذي حل عليه روح الله، وجمع الشعب معًا وغلب العمونيين… إنها بداية طيبة في بدء عهده فاستحق تجديد ملكه في الجلجال دينيًا وامتلأ الكل فرحًا.

تهديد ناحاش العموني [1-3].

دُعي ملك العمونيين “ناحاش” أي “حنش” أو حية، ربما بسبب تأليههم للحية[93].

جاء في الترجمة السبعينية: “بعد شهر”، أي بعد اختيار شاول ملكًا بفترة وجيزة صعد ناحاش ليستعبد يابيش جلعاد. يُقال إن الإسرائيليين طلبوا ملكًا (1 صم 9) عندما شعروا بأن ناحاش يدبر صعوده هذا.

لقد ظهر الضعف الشديد الذي عاش فيه إسرائيل من احتقار ناحاش لهم بصورة مخزية. فمن جهة إذ قبل أهل يابيش أن يُستعبدوا له على أن يقطع لهم عهدًا لحمايتهم كعبيد له طلب منهم “تقوير كل عين يُمنى” لهم ليكون ذلك عارًا على جميع إسرائيل. ولما طلب شيوخهم مهلة سبعة أيام لاستشارة جميع تخوم إسرائيل لعله يوجد من بينهم من يخلصهم منه – في استهانة بكل إسرائيل – أعطاهم المهلة للاستغاثة، مدركًا أنه لا يوجد في كل الأسباط من يقدر أن يُخلص أو يسند… هكذا حل بهم الضعف حتى استهان بهم العدو وسخر منهم.

إن كان ناحاش يرمز للحية القديمة التى حملت عداوة ضد الإنسان منذ البداية، فإن بني إسرائيل يمثلون الطبيعة البشرية التي فسدت تمامًا ولم يكن لها قوة لمقاومة العدو. عمل ناحاش هو الاستعباد ليقيم مملكة الظلمة قانونها العنف والظلم، وقد طلب تقوير كل عين يمنى وترك العين اليسرى. وكما يقول القديس أغسطينوس[94]: [إن العين اليمنى تشير إلى البصيرة الروحية والمشورة السماوية أما العين اليسرى فتشير إلى التطلع إلى الزمنيات الفانيات. وكأن عمل عدو الخير أن يُحطم كل بصيرة روحيه ترفع القلب إلى السماويات، ويربط حياتنا بالزمنيات والأرضيات. لهذا السبب في الأيقونات القبطية يُرسم القديسون بعينين متسعتين مفتوحتين، لأن أولاد الله لهم بصيرة في الأمور السماوية كما في الزمنية، هم حكماء في تدبير حياتهم الروحية وأمورهم الزمنية. كما يُصّور السيد المسيح على الصليب مفتوح العينين، فإنه وإن مات بالجسد لكنه بلاهوته يتطلع إلى السمائيين والأرضيين، يرعى السماء والأرض ويهتم بهما. أما بالنسبة للأشرار – مثل يهوذا الخائن – فيصور بجنبه كي تظهر عين واحدة، لأنه متطلع إلى  الفضة لا إلى خلاصه الأبدي، يتطلع إلى الزمنيات دون السماويات].

يقول الكتاب عن ناحاش العموني إنه “نزل على يابيش جلعاد” [1]. وكأنه يابيش قد انحط فنزل إلى تراب هذا العالم، لذا “نزل” ناحاش إليه. وكما يقول القديس جيروم: [إن المؤمن متى كان كطائر مرتفع يحلق في الأعالي لا تقدر الحية الزاحفة على التراب أن تبتلعه، لكن متى نزل الطائر إلى التراب يسهل إلى الحية أن تبتلعه. هكذا وجدت الحية – ناحاش – أهل يابيش في وحل هذا العالم لذا زحفت إليهم مستهينة بهم، مدركة أنه ليس من يستطيع أن يخلصهم من أحشائها.

إن كانت كلمة “جلعاد” تعني “كومة شهادة”[95] أو “خشن”[96]، فإن “يابيش” تعني “جافًا”[97]. عدو الخير أو الحية القديمة يستطيع أن يعيّر النفس الجافة المملؤة خشونة، أما المملوءة محبًا ولطفًا في الرب فليس له موضع فيها، ولا يقدر أن يقاومها.

يابيش جلعاد: مدينة على جبل جلعاد شرقي الأردن، يظن أنها تل أبو خرز في شمال وادي اليابس (وادي يبيش)، تبعد 9 أميال جنوب شرقي بيت شان، دمرها الإسرائيليون لعدم اشتراكهم معهم في المصفاة (قض 21: 8).

 

غيرة شاول     [4-10].

جاء الرسل إلى جبعة شاول يتحدثون بتهديدات ناحاش، فرفع كل الشعب أصواتهم وبكوا. “وإذ بشاول آت وراء البقر من الحقل، فقال شاول: ما بال الشعب يبكون؟” [5].

سبق أن مُسح شاول بالدهن المقدس فصار “مسيح الرب”، ملك إسرائيل، لكنه لم يمارس العمل الملوكي ربما خشية حدوث انقسام وسط الشعب بسبب رفض بني بليعال له، أو لشعوره بالعجز وعدم الخبرة في ممارسة هذا المنصب منتظرًا الفرصة التي يعدها الرب له.

إن كان شاول بنيامينيًا، فإن البنيامينيين يحملون قرابة خاصة مع أهل يابيش، لأنه بعد مذبحة بنيامين أخذ البنيامينيون 400 عذراء منهم كنساء لهم (قض 21: 1-4)، لذا لا نعجب إن تعاطف البنيامينيون معهم. هذا وقد حل عليه روح الله ليمارس بغيرة وشجاعة وإيمان عمله كملك [6-7]، إذ أخذ فدان بقر وقطّعه ووزَّع القطع على كل تخوم إسرائيل ليثير فيهم الرغبة في الحرب ضد العدو. لبى الشعب الدعوة فقد أعطاه الرب مهابة في أعينهم، وخرجوا كرجل واحد وكان عددهم 300.000 رجل من إسرائيل و30.000 من يهوذا… هذا العدد لم يتدرب على الحرب، اجتمعوا في بازق، بين شكيم وبيت شان على بعد سبعة أميال من الأردن.

قام شاول بتوزيع الشعب وتنظيمه ليكون منه ثلاث فرق هاجمت العدو عند السحر من ثلاث جهات مختلفة في وقت غير متوقع. قام العدو من النوم فزعًا ينازعهم النعاس والدهشة لما حدث فحلت بهم الهزيمة كاملة، إذ أن بني إسرائيل “ضربوا العمونيين حتى حمى النهار (الظهيرة)، والذين بقوا تشتتوا لم يبق منهم اثنان معًا” [11].

بحكمة قال أهل يابيش لناحاش: “غدًا نخرج إليكم…” ليظن أنه خاب أملهم في وجود نجدة لهم، وفجأة هاجموه مع نهاية الليل وبداية الفجر… إنها صورة حية لجهاد المؤمنين، الذين يشعرون في أعماقهم وبصدق أنهم عاجزون عن محاربة عدو الخير لأن طبيعتهم قد فسدت وعدو الخير سيطر على أعماقهم بالرعب. إنهم في حاجة إلى مسيح الرب الحقيقي – كلمة الله المتجسد – الذي يجمع شمل المؤمنين بروحه القدوس ويقودهم بنفسه في المعركة الروحية الخفية مع نهاية الليل وبدء النهار، حيث يشرق على قلوبهم واهبًا إياهم الغلبة على الظلمة. بمعنى آخر بالاتضاع الحق – الذي من خلاله ندرك عجزنا الكامل مع ثقة كاملة في المسيح واهب الغلبة – ندخل إلى المعركة التي طرفها الله والشيطان.

 

رفض قتل بني بليعال   [12-13].

طلب الشعب من صموئيل النبي – الذي مسح شاول ملكًا – أن يُقتل بنو بليعال الذي احتقروا شاول بكونهم عصاة، لأن شاول حقق لإسرائيل نصرة عظيمة لم تكن متوقعة. وجاءت الإجابة من شاول: “لا يُقتل أحد في هذا اليوم، لأنه في هذا اليوم صنع الرب خلاصًا في إسرائيل” [13]. هكذا ظهر شاول كملك أبيَّ النفس يرفض قتل الناس في يوم الخلاص، حاسبًا فرح الشعب أعظم من أي انتقام شخصي.

إن كان هذا يليق بالملك فكم بالأكثر يلزم على الكاهن أن يكون طويل الأناة حتى بالنسبة لمضايقيه.

v     ينبغي أن يكون سلوك الكاهن نحو من هم في عهدته كسلوك الأب نحو أطفاله الصغار، فلا يضطرب بسبب شتائمهم أو ضرباتهم أو نحيبهم، بل وإن ضحكوا عليه وسخروا منه لا يعطي ذلك اهتمامًا.

v     إن كان الأسقف… ذا طبع ثائر، فإن هذا يُسبب كوارث عظيمة له ولإخوته.

v     لا يوجد شيء يفيد الغير ويجتذب القلوب إلى الله أكثر من وداعة من يكون مهانًا، مستهزَءا به، مثلوبًا، مَعَّيرًا، وهو يحتمل كل هذا بوجه باش وهدوء عظيم كأنه لا يشعر بشيء.

القديس يوحنا الذهبي الفم[98]

 

تجديد الملك لشاول      [14-15].

مُسح شاول ملكًا في المصفاة [25] ووُجد بنو بليعال المحتقرون له، أما وقد غلب فتم تجديد مبايعته بالإجماع في الجلجال أمام الرب حيث قدمت ذبائح سلامة، وعمّ الفرح الجميع.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى