تفسير سفر صموئيل الأول ١٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع عشر
نصرة يوناثان
لم يحتمل يوناثان فقدان شعبه كرامته، وإذ آمن أنه “ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل” [6] عبر مع حامل سلاحه وحدهما الوادي الضيق العميق ووهبه الله نعمة لتحقيق النصرة. بسبب تسرع أبيه شاول سقط يوناثان تحت اللعنة لأنه ذاق عسلاً وسط النهار بينما أقسم أبوه ألا يأكل أحد حتى المساء…
عبور يوناثان إلى الفلسطينيين [1-15].
وقف الجيشان قبالة بعضهما البعض؛ الفلسطينيون عند سن الصخرة التي في الشمال “بوصيص” (أي مضيئ) مقابل مخماس؛ وشاول ورجاله في الجنوب عند سن الصخرة “سنة” (أي شجرة السنط) عند جبع بينهما ممر ضيق لكنه شديد الانحدار لا يستطيع إلا الماعز الجبلي، أو من يحبو على يديه أو رجليه. كل جيش يترقب الآخر، بينما كان الفلسطينيون يخربون أرض بنيامين.
غار يوناثان بن شاول على شعبه، وكان على خلاف أبيه إنسانًا مستقيمًا محبًا للحق مهما كلفه الثمن، أمينًا في علاقته بالغير، مملوءًا إيمانًا. في إيمانه تحرك للعمل دون أن يخبر أباه حتى لا يمنعه، إذ كان شاول مرتبكًا والشعب في رعب وقد هرب الكثيرون ولم يبق مع الملك سوى الستمائة رجل لا يعرفون ماذا يفعلون.
كان شاول في طرف جبعة [2] أي خارج المدينة، ربما في البرية بالقرب من جبعة إلى جهة جبع، وكان أخيا – ربما هو نفسه أخيمالك وقد حمل الاسم الأخير توقيرًا لاسم الله، لأن أخيا تعني أخا لله بينما أخيمالك تعني أخا للملك – في شيلوه يلبس الأفود، أي الملابس الكهنوتية (خر 28: 6)، وذلك في مسكنه، لأن خدمة الخيمة توقفت بعد أخذ الفلسطينيين التابوت (1 صم 4).
لم يحتمل يوناثان هذا الموقف المخزي، فقد آمن بالله القادر أن يحقق وعوده لشعبه واهبًا النصرة بالقليل كما بالكثير، وكان الغلام حامل السلاح يشاركه ذات الإيمان، فكان سندًا له يشاركه تحركاته. هنا تبرز أهمية الأصدقاء المملوئين إيمانًا، يشاركوننا جهادنا الروحي، يرافقوننا الطريق في رجاء ويسندوننا لا أن يثبطوا هممنا، وعلى العكس خطورة الأصدقاء الأشرار إذ يحدرون الإنسان نحو الهلاك ويفقدونه رجاءه.
v يوجد علو الفرح متى تمتعنا بالله وكنا في أمان ووحدة الأخوة.
القديس أغسطينوس[112]
قال يوناثان لحامل سلاحه: “تعال نعبر إلى صف هؤلاء الغلف لعل الله يعمل معنا، لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو القليل” [6]. لقد أدرك يوناثان ضعفه لكنه سلم هذا الضعف في يدي الله ليتمم مقاصده، واثقًا في الله الذي يعمل بقوة في حياة المؤمنين. يقول الرسول بولس: “بالإيمان قهروا ممالك، صنعوا برًا، نالوا مواعيد، سدوا أفواه أسود، أطفئوا قوة النار، نجوا من حد السيف، تقوموا من ضعف، صاروا أشداء في الحرب، هزموا جيوش غرباء” (عب 11: 33-34).
v سلاح القلب هو الإيمان بالمسيح.
v بإيمان الذهن يصير (الإنسان) كمن استقر فعلاً في الملكوت.
مار اسحق السرياني[113]
وضع يوناثان علامة، إن قال الفلسطينيون: “اصعدوا إلينا”، يصعد مع غلامه لأن الرب قد دفعهم لأيدي الشعب. وبالفعل إذ رآهما الفلسطينيون سخروا منهم قائلين: “هوذا العبرانيون خارجون من الثقوب التي اختباؤا فيها”، وقال رجال الصف لهما: “اصعدوا لنعلمكم شيئًا“. في سخرية تطلعوا إليهما حاسبين أن العبرانين قد خرجوا كبنات آوي من الثقوب، وفي استهزاء قالوا ليوناثان وغلامه أن يصعدا ليعلموهما شيئًا، أي ليقتلاهما. تحدثوا معهما في صيغة مزاح واستخفاف، لكن يوناثان حسبها علامة من السماء. ربما تأكد من هزيمة العدو مدركًا بعد كبريائهم السقوط الحتمي.
لم يكن ممكنا الصعود والإنسان منتصبًا، فتسلق يوناثان الصخور على يديه ورجليه محتملاً هذه الصورة المخزية وما تحمله أيضًا من مخاطر، وتبعه غلامه أيضًا. هنا أرعب الرب العدو وحسبوا أن وراءهما جيشًا عظيمًا فهربوا. قتلا نحو عشرين رجلاً في منطقة تبلغ مساحتها نصف فدان، بينما سقط الكثيرون من الانحدار الشديد حيث كان المكان ضيقًا، وكأن العدو ضرب نفسه بنفسه. حدث ارتعاد في المحلة في الحقل [15]؛ هذا حديث مجازي يكني عن شدة خوفهم، وربما حدث زلزال فعلاً حطمهم.
هكذا صعد يوناثان يحبو على يديه ورجليه متكئًا على الله بالإيمان، فبدد أمامه الجيوش القوية المتشامخة.
نزول شاول إلى الحرب [16-23].
كان شاول ورجاله في طرف جبعة [2] فنظروا جيش العدو هاربين ومرتبكين. تعجب شاول لما يحدث، وإذ سأل أن يبحثوا عمن هم غائب عنهم أدرك يوناثان وحامل سلاحه غائبان. طلب من الكاهن أخيا أن يسأل الرب خلال الأفود (حسب الترجمة السبعينية)، لكن ضجيج العدو كان يتزايد فلم يحتمل شاول الانتظار، بل قال للكاهن “كف يدك” [19].
هذا التصرف يكشف عن قلب شاول، فإن كانت له أعمال كثيرة صالحة لكنه كان قليل الصبر يعتمد على أفكاره الخاصة… يسأل الرب، وقبل بلوغ الإجابة يسرع بالقرار، كان غير مستقيم القلب. لقد أراد أن يسرع فيلحق بالعدو ويحقق نصرة كاملة، لكن في تسرعه أخذ قرارًا أسقط ابنه في التعدّي إذ حلّف للشعب قائلاً: “ملعون الرجل الذي يأكل خبزًا إلى المساء حتى أنتقم من أعدائي” [24].
أخطأ شاول في هذا التصرف إذ حسب النصرة هي ثمرة العمل المستمر غير مبالٍ بالجانب الإيماني، على خلاف ابنه يوناثان الذي لم يتوقف عن العمل بل ألقى بنفسه في الخطر لكن خلال الإيمان بالله واهب النصرة. أما الخطأ الثاني فإنه لم يعطِ اعتبارًا لاحتياجات رجاله، فإنهم لا يقدرون على الجهاد وهم خائرون بسبب الجوع. أما عدم استقامة قلبه فتظهر من قوله “أنتقم من أعدائي”، فحسبهم أعداءه هو… وكبرياء قلب متشامخ!
يوناثان يكسر قسم أبيه [24-31].
كاد حلف شاول أن يؤدي إلى قتل ابنه يوناثان المؤمن الذي أنقذ الشعب، كما سبَّب إعياءً للشعب مع أن الله أعد لهم في البرية عسلاً للأكل.
لقد مدّ يوناثان النشابة (السهم) وغمسه في قطر العسل ليذوق في عجلة، فاستنارت عيناه وتجددت قوته بعد الجوع والإرهاق. وإذ أخبره واحد من الشعب بقسم أبيه، قال: “قد كدَّر أبي الأرض. انظروا كيف استنارت عيناي لأني ذقت قليلاً من العسل، فكم بالحرى لو أكل اليوم الشعب من غنيمة أعدائهم التي وجدوا. أما كانت الآن ضربة أعظم على الفلسطينيين؟!” [29-30].
بالقرارات السريعة النابعة عن قلب غير مستقيم يفقد الإنسان الكثير، إذ يحرم نفسه من عطايا الله له، ويفقد فرصًا يقدمها له الرب.
الشعب يأكل على الدم [32-35].
من ثمار قرار شاول المتسرع أن خارت قوى الشعب، لذا “ثاروا على الغنيمة فأخذوا غنمًا وبقرًا وعجولاً وذبحوا على الأرض وأكلوا على الدم” [32]. حسب شاول هذا غدرًا إذ نكثوا العهد مع الله، وطلب أن يدحرجوا حجرًا كبيرًا، ليذبحوا عليه الحيوانات فتكون الذبائح مرتفعة عن الأرض فيخرج الدم كله قبلما يأكلون منه؛ وبالفعل أطاعه الشعب.
الشعب يفدي يوناثان [36-46].
بنى شاول مذبحًا للرب، وتقدم غالبًا خلال الكاهن أخيا إلى الله يسأله إن كانوا ينحدرون وراء الفلسطينيين، لكن الله لم يجبه، فأدرك شاول وجود خطية وسط الشعب. في عجلة أقسم شاول: “لأنه حيّ هو الرب مخلص إسرائيل ولو كانت في يوناثان ابني فإنه يموت موتًا” [39]. وقعت القرعة على يوناثان، الذي أعترف بما فعله دون أن يخاف الموت. لم يستطع الشعب أن يقبل موت يوناثان الذي بإيمانه وشجاعته عرض نفسه للموت ليخلصهم من العدو. أمام إصرار الشعب تراجع شاول.
نصرات مستمرة [47-52].
إذ غلب شاول قيل “أخذ شاول الملك على إسرائيل” [47]، وكأنه بالغلبة صار بالحقيقة ملكًا واتحد كل الشعب معه. قام بحروب كثيرة “وحيثما توجه غلـب” [48]، فصـار ملكًا مهوبًا، أنقذ شعبه من عماليق وغيرهم…
يقول الكتاب: “وكانت حرب شديدة على الفلسطينيين كل أيام شاول، وإذ رأى شاول رجلاً جبارًا أو ذا بأس ضمه إلى نفسه” [52].
كان شاول غير مستقيم القلب ومتسرعًا في قراراته، لكنه اتسم بالغيرة والشجاعة؛ لم يتوقف عن الجهاد، يضم كل جبار إلى جيشه!
هذه صورة حية للقيادة الروحية التي لا تتوقف عن الجهاد، تضم كل نفس للعمل لحساب ملكوت الله. القائد الناجح هو ذاك الذي يوجه الطاقات للعمل، فلا يمركز الخدمة فيه وإنما يعرف كيف يشجع كل نفس ويسند كل يد للجهاد الروحي.