تفسير سفر صموئيل الأول ١٥ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الخامس عشر
رفض شاول

أمر الله صموئيل أن يخبر شاول ليحارب عماليق، لأن الرب وهبه الانتصار عليهم، على أن يحرم كل إنسان وحيوان… لكن شاول لم يقتل أجاج الملك بل جاء به حيًا، ولم يحرم الغنم والبقر الجيد، بل حرم ما هو ضعيف فقط، مقدمًا أعذارًا بشرية لعصيانه. جاء الأمر الإلهي برفض شاول وانتزاع المملكة منه، وناح صموئيل على شاول.

أمر إلهي بمحاربة عماليق [1-5].

مضت سنوات طويلة بين ما حدث في الأصحاح السابق وما يتم الآن في هذا الأصحاح، فبعد أن كان قوام جيش شاول ستمائة رجل صار الآن له جيش عظيم تحت قيادة ابنير بن نير عمه، قوامه 200.000 رجل من إسرائيل و10.000 نسمة من يهوذا، وقد تمتع بنصرات متوالية على موآب وبني عمون في الشرق، وآدوم في الجنوب، وملوك صوبة في الشمال الخ…   

خلال هذه الفترة يبدو أن تصرفات شاول كان يشوبها الانحراف عن وصية الله وعصيانًا، وأن صموئيل النبي كرجل الله وماسح له كان ينذره، والآن يقدم الله فرصة أخيرة لشاول، واهبًا إياه النصرة على عماليق على أن يحرم كل إنسان وحيوان.

“قال صموئيل لشاول: إياي أرسل الرب لمسحك ملكًا على شعبه إسرائيل، والآن فاسمع صوت كلام الرب” [1]. كأن صموئيل النبي يؤكد له أنه هو الذي مسحه بأمر إلهي، لذا وجب أن يقبل نصيحته ويطيع صوت كلام الرب ولا يعيش في العصيان… كان هذا في الواقع إنذار له.

لقد طلب منه أن يُحارب عماليق ويحرم كل ماله، لأن النصرة التي ينالها ليست من ذاته بل هي هبة من الله الذي سبق فأعلنها منذ حوالي 400 عام: “للرب الحرب مع عماليق من دور إلى دور” (خر 17: 8-16). إنه لن ينسى وعوده، إنما يُحققها في الوقت المناسب. منح الله شاول هذه النصرة، طالبًا منه تحريم كل ما لعماليق… قد يبدو أن في التحريم نوعًا من القسوة على الإنسان وتبديدًا للممتلكات والموارد، لكن عماليق كان قد فسد تمامًا، إذ كانوا جماعة لصوص متوحشين، يرتكبون الجرائم ويمارسون الرجاسات.

كثيرًا ما يُثار التساؤل: لماذا سمح الله بقتل الوثنين في العهد القديم وإبادة الحيوانات أحيانًا؟ بلا شك هذا الأمر يتعب فكر الكثيرين، لكنهم إن أدركوا مفهوم المجد الأبدي والميراث الذي أعده الله لمؤمنيه مع فهم مدى بشاعة الخطية لكان الأولى بهم أن يحزنوا على تصرفات البشرية واندفاعها نحو الرجسات التي تدفعهم إلى هلاك أبدي. سيموت كل البشر وسينحل العالم كله، عندئذ ندرك أن موت الجسد وإبادة الممتلكات والموارد أمور وقتية ليست بذات قيمة بجوار خلود الإنسان وتمتعه  بشركة الأمجاد السماوية.

نفذ شاول طلبة صموئيل النبي، وجمع الشعب وعدّه في طلايم. ربما قُصد بها طالم المذكورة في (يش 15: 24)، في جنوب يهوذا،. “طلايم” تعني “حملانًا صغارًا”[114].

 

غلبة شاول وعصيانه     [6-9].

دخل شاول امتحانًا رهيبًا كفرصة نهائية لتحديد موقفه، لعله يرجع عن انحراف قلبه ويطيع الرب بلا تحفظ.

طلب شاول من القينيين – وهم شعب مسالم محب من المديانيين – أن يبتعدوا عن العمالقة. لقد صنع القينيون معروفًا مع إسرائيل (خر 18؛ عد 10: 29-32)، رافقوهم إلى أريحا (قض 1: 16)، ثم سكنوا أرض العمالقة جنوب يهوذا. من القينين يثيرون حمو موسى (قض 1: 16)، وياعيل التي قتلت سيسرا (قض 4: 17)، والركابيون (1 أي 2: 55؛ إر 35: 6-10). لما كانت كلمة “قينيين” تعني “حدادين” لذا يرى البعض أنهم جماعة من الحدادين الرُّحل في منطقة المعادن بوادي العربة ومهروا في الحدادة[115].

إذ رحل القينيون ضرب شاول عماليق من حويلة إلى شور التي في مقابل مصر، أي من الجهة الشرقية منها [7].

“حويلة” اسم سامي يعني “رملية”، يجب التمييز بين حويلة التي يحتضنها نهر قيشون المتفرع من عدن، وهي منطقة غنية بالذهب والمقل، – صمغ عطري طبي- والأحجار الكريمة (تك 2: 11-12)، وتعتبر شرق أرض العمالقة، وبين حويلة التي في الشمال شيبا في العربية (تك 10: 29؛ 25: 18) [116].

“شور” تعني “سور” أو “حصن”، جنوب فلسطين، أو على الأخص جنوب بئر لحي رئي (تك 16: 7؛ 25: 18)، سار فيها بنو إسرائيل ثلاثة أيام حال عبورهم البحر الأحمر (خر 15: 22)، تُسمى أحيانًا برية إيثام (عد 33: 8)، تُقابل مصر في الشرق، دعيت “شور” لأنها تمثل سورًا حصينًا للطرق الخارجة من شمال شرق مصر، يحمي مصر من الهجمات القادمة من الشرق[117].

انتصر شاول على عماليق لكنه عاد مهزومًا من الأنا ego ، فلم يسمع لصوت الرب. لقد قتل كل من وقع في يديه من الشعب لكنه أبقى أجاج [غالبًا لقب ملوك عماليق كما يقُال “فرعون” عن ملوك مصر]، وقتل الغنم الضعيف واستبقى الجيد منها. لعله أبقى أجاج ليشبع غرور نفسه أو لأنه أشفق عليه بكونه ملكًا مع أنه كان ملكًا على جماعة من اللصوص، أثكل سيفه النساء [33]. وأبقى خيار الغنم بحجة تقديم ذبائح للرب مع أن الدافع هو النفع الشخصي.

 

صموئيل ينتهر شاول     [10-33].

لقد كشف الرب لصموئيل كيف رفض شاول: “ندمت على أني قد جعلت شاول ملكًا، لأنه رجع من ورائي ولم يقُم كلامي” [10].

لقد رفض الرب شاول لأن شاول رفضه، ورجع من وراءه ليسلك حسب هواه. لم يقبل الله كقائد له يكون الأول في حياته…

تضايق صموئيل لأن شاول لم يستفد من الفرصة الإلهية المقدمة له، إذ قرر أن ينتهره “صرخ إلى الرب الليل كله[11]. ما أنقى قلب صموئيل الذي يقضي الليل في الصلاة حتى لا ينتهر شاول من ذاتهلقد ناح أيضًا على شاول [35]، واستمر في البكاء فقال له الرب: “حتى متى تنوح على شاول وأنا قد رفضته عن أن يملك على إسرائيل؟!” (16: 1).

برز صموئيل كقائد روحي حيّ، نراه حازمًا لكن في حنو. في حزمه لم يحتمل استمرار شاول في كسر الوصية، إذ “اغتاظ” [11]، وتكلم بكل صراحة مع شاول الملك. وفي حنوه كان يصرخ الليل كله مصليًا ونائحًا على الملك الساقط.

ما أحوج الكنيسة إلى الحزم مع الحب في حياة الراعي.

v     ليست هي فضيلة (التراخي مع الخطاة) بل ضعفًا، ولا هي محبة أو وداعة بل إهمالاً، لا بل هي قساوة على تلك النفوس التي يُغفل عنها فتهلك دون أن تُنبه إلى خرابها.  

القديس أغسطينوس[118]

v     يجب أن تكون هناك معايير حقيقية لكلماتنا وتعاليمنا حتى لا تأخذ مظهر الّلين الزائد أو الخشونة المغالي فيها.

القديس أمبروسيوس[119]

v     من يرعى الغنم ينبغي ألا يكون أسدًا ولا نعجة.

القديس يوحنا الدرجي[120]

أما بالنسبة للحب واللطف والصلاة المستمر من أجل المخدومين فقيل:

v     ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم، لا ولا حتى النور!…

عزيز عليّ جدًا خلاصكم، أكثر من النور نفسه!

v     لو أمكننا لفتحنا قلوبنا وأريناكم إيَّاها، لتنظروا مدى اتساعها لحملكم فيها: نساءً وأطفالاً ورجالاً، لأن هذا هو قوة الحب، يجعل النفس أكثر اتساعًا من السماء.

القديس يوحنا الذهبي الفم[121]

هكذا كان صموئيل النبي قائدًا حقيقيًا يعمل بروح الرب، وعلى العكس كان شاول لا يصلح للقيادة إذ اهتم بذاته؛ ذهب إلى الكرمل ونصب تذكارًا في الجلجال لانتصاره على عماليق [12]، وعندما جاءه صموئيل النبي مبكرًا أراد أن يهنئ نفسه بطريق غير مباشر، إذ قال لصموئيل: “مبارك أنت للرب؛ قد أقمت كلام الرب” [13]. لقد غطى على عصيانه بكلمات معسولة لم ينخدع بها صموئيل النبي، الذي كشف الرب له عن عصيان الملك.

في الجلجال نادى الشعب بشاول ملكًا أمام الرب (11: 14)، وفي نفس المدينة لامه صموئيل على عصيانه وأنذره (12: 14)، وفيها أيضًا جاء التوبيخ الأخير وإعلان انتزاع المُلك عنه وعن نسله.

لقد سأله صموئيل: “وما هو صوت الغنم هذا في أذني وصوت البقر الذي أنا سامع” [14].

قدم شاول عذرًا لعصيانه: “لأن الشعب قد عفا عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للرب إلهك، وأما الباقي فقد حرمناه” [15]. عوض اعترافه بالخطأ ألقى باللوم على الشعب بأنه هو الذي عفا عن خيار الغنم والبقر [12]. ما أسهل أن يلقى الإنسان باللوم على الغير كما فعل هرون عندما صنع العجل الذهبي (خر 32: 21-24) وبيلاطس عندما برر محاكمته للسيد المسيح، مع أن هرون كان قلبه قد انحرف، وبيلاطس خاف على مركزه، وشاول أحب الغنيمة.

ينسب شاول العصيان للشعب مكررًا ذلك وإن كان قد قدم له عذرًا، وينسب لنفسه الطاعة. بينما يقول “أخذ الشعب من الغنيمة” [21] يقول: “أما الباقي فقد حرمناه” [15]، حاسبًا نفسه ضمن الذين أطاعوا الوصية (حرمناه)، وفي أكثر وضوح يقول: “إني قد سمعت لصوت الرب وذهبت في الطريق التي أرسلني فيها الرب وأتيت بأجاج ملك عماليق وحرمت عماليق، فأخذ الشعب من الغنيمة” [20-21].

تأمل أسلوبه في الحديث مع صموئيل النبي، إذ برر العفو عن خيار الغنم والبقر: “لأجل الذبح للرب إلهك” [15]. لم يقل “الرب إلهنا” بل “الرب إلهك”. وكأنه يقول إن ما أتينا به ليس لأنفسنا بل لإلهك أنت!

قدم شاول عذرًا لعصيان الشعب: “لأجل الذبح للرب إلهك في الجلجال” [31]. وجاءت إجابة صموئيل: “هل مسرة الرب بالمحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب؟! هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة، والإصغاء أفضل من شحم الكباش، لأن التمرد كخطية العرافة، والعناد كالوثن والترافيم” [22- 23].

الله يُريد الطاعة والرحمة لا الذبائح والمحرقات، إذ جاء في المزمور: “بذبيحة وتقدمة لم تُسر. أذنيّ فتحتَ. محرَقةً وذبيحةَ خطية لم تطلب” (مز 40: 6).

ويعلق القديس إيريناوس: [هكذا يعلمهم (داود) أن الله يطلب الطاعة التي ترد لهم أمانًا، لا الذبائح والمحرقات التي تقدمهم إلى البر[122]]. 

يمكننا القول إن سبب هلاك شاول هو فقدانه روح التمييز فاندفع إلى الظلمة مقدمًا مبررات كثيرة لتصرفاته الخاطئة. لهذا يركز الأب موسى في مناظرته مع القديس يوحنا كاسيان على التمييز كطريق للملكوت. من كلماته: [لا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان “الحكم على الأمور” في القلب خاطئًا، أي كان القلب مملوءًا جهلاً، تكون أفكارنا وأعمالنا – التي هي ثمرة التمييز والتأمل – في ظلام الخطية العظمى… الرجل الذي كان في نظر الله مستحقًا أن يكون ملكًا على شعبه سقط من مُلكه بسبب نقصه في “عين التمييز” (مت 6: 22-23) فصار جسده كله مظلمًا… لقد ظن أن تقدماته مقبولة لدي الله أكثر من طاعته لأوامر صموئيل، حاسبًا أنه بهذا يستعطف العظمة الإلهية[123]].

 

رجوع صموئيل مع شاول [24-31].

قال شاول “أخطأت” [24] وفي نفس الوقت يلقي باللوم على الشعب: “لأني خفت من الشعب، وسمعت لصوتهم”. لم تكن توبته صادقة، إذ لم يخف غضب الرب إنما لكي يستميل صموئيل النبي كي يرجع معه ويكرمه أمام شيوخ الشعب، إذ يقول: “قد أخطأت. والآن فأكرمني أمام شيوخ شعبي وأمام إسرائيل وارجع معي” [30]. في كبرياء ينسب الشعب إليه: “شعبي”، لا إلى الله.

 

اعتزال صموئيل شاول    [32-35].

طلب صموئيل تقديم أجاج ملك عماليق، وإذ عُرف صموئيل بلطفه ورقته، “ذهـب إليه أجاج فرحًا، وقال أجاج: “حقًا قد زالت مرارة الموت” [22]. قال صموئيل:

“كما أثكل سيفك النساء كذلك تُثكل أمك بين النساء” [23].

أجاج يمثل الخطية العنيفة التي قتلاها أقوياء، لذا كان قتله يشير إلى نزع كل خطية وفساد؛ كل تهاون معه يحمل رمزًا للتهاون مع الخطية نفسها. هذا ما أوضحته الدسقولية إذ طالبت الكاهن بأمرين:

أ. عدم تجاهل الخطية أو التراخي مع الخاطئ، كما فعل شاول مع أجاج، وعالي مع ابنيه (1 صم 2).     

ب. عدم التدخل فيما لا يخصنا خاصة في الأمور الكهنوتية والمقدسات كما فعل عزة مع تابوت الرب (2 صم 6).

خُتم السفر بالقول: “والرب ندم لأنه ملّك شاول على إسرائيل” [35]. هكذا ينسب الله “الندم” ليس لأن الله قد غيّر رأيه، وإنما يحدثنا باللغة التي نفهمها… حين عصى شاول سقط تحت العدل الإلهي فصار مرفوضًا، لذا حُرم من العطية التي سبق أن وهبه الله إيّاها.

يقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [غالبًا ما ينسب الكتاب المقدس لله عبارات تبدو مناسبة لنا (كي نفهمها)[124]].

التغيير يحدث من جانبنا، لا من جانب الله غير المتغيّر، فالله في حبه يريد أن الكل يخلصون، فإن أصرّ الإنسان على الشر وعدم التوبة يفقد وعد الله الذي يريد له خلاصه. هكذا يشتاق الله أن يهب شاول نجاحًا، لكن شاول في إصرار رفض حب الله وانتزع نفسه من دائرة الرحمة الإلهية بإصراره على العصيان ففقد الوعد الإلهي، وظهر كأن الله قد ندم على الوعد، إذ لا يحققه مع شاول قسرًا.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى