تفسير سفر صموئيل الأول ٩ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح التاسع
لقاء شاول مع صموئيل

إذ أصر الشعب على الطلبة أقام لهم شاول بن قيس البنياميني؛ كان شابًا حسنًا لم يكن في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب [12]. يقول الرب لنبيَّه صموئيل: “امسحه رئيسًا لشعبي إسرائيل، فيُخلص شعبي من يد الفلسطينيين لأني نظرت إلى شعبي، لأن صراخهم قد جاء إليّ” [16].

شاول وأتن أبيه الضالة             [1-5].

إذ سأل الشعب صموئيل النبي أن يقيم لهم ملكًا أُختير “شاول الذي يعني “سؤال” ملكًا. لقد أعطاهم ملكًا حسب سؤل قلبهم، إنسانًا حسن الصورة طويل القامة، أما قلبه فلم يكن مستقيمًا. وكما يقول القديس أغسطينوس: [قيل إن “شاول” تعني “سؤلاً”. من المعروف جيدًا أن الشعب سأل عن ملكٍ لهم، فتسلموه ملكًا لا حسب إرادة الله بل حسب إرادتهم الذاتية[82]].

لم يتجاهل الكتاب المقدس الجوانب الطيبة التي اتسم بها شاول بل على العكس أبرزها، لكن لم يحتمل شاول الغنى والكرامة إذ كشفا انعوجاج قلبه الداخلي واهتمامه بحب الكرامة الزمنية والمظاهر الخارجية لذا انتهت حياته برفض الله له وحرمان نسله من تولي الملك.

بدأ هذا الأصحاح بإبراز نسب شاول الذي يقدمه الله للشعب لاختياره ملكًا حسب هوى قلبهم . كشف الكتاب أنه من سبط بنيامين، من نسل الستمائة الذين نجوا من الحرب وأقاموا في الصخرة رمون (قض 20: 47). وهو سبط صغير العدد جدًا بسبب حرب الأسباط الأخرى ضده (قض 20)، لكنه كان سبطًا مقتدرًا له كرامته. أما شاول نفسه فكان شابًا حسن الصورة “ولم يكن رجل في بني إسرائيل أحسن منه، من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب” [2].

يروي لنا هذا الأصحاح الأحداث التي انتهت بمسح شاول ملكًا، أحداث قد يراها البعض عارضة، أو محض صدفة، تبدو أحداثًا تافهة بلا قيمة، لكن الوحي الإلهي يكشف لنا كيف أن الله ضابط الكل، يُحّوَّل الأحداث جميعها – مهما بدت تافهة – لتحقيق خطة إلهية من جهتنا، وليس شيء ما يتم مصادفة. هنا نجد أتن قيس تضل فيخرج شاول يبحث عنها لا ليجد الأتن وإنما لكي يُدعى للمُلك، خروج الغلام معه، الذي يشير عليه أن يلتقيا بالرائي، أيضًا وجود نصف شاقل فضة لدي الغلام، لقاء شاول والغلام مع الفتيات الخارجات ليستقين، لقاؤهما مع الرائي… هذه جميعها بدت في الظاهر كأنها أمور تمت بلا تدبير مسبق، لكن الواقع أن الله كان وراء كل هذه الأمور يستخدمها لتحقيق خطته. ليتنا نؤمن أن كل ما يمر بحياتنا -مهما بدا تافهًا – يسير بتدبير الله العارف حتى بعدد شعور رؤوسنا (مت 10-30) والمعتني بالعصافير.

لقد ضاعت أتن قيس وخرج شاول والغلام يبحثان عنها، وكما يقول القديس باسيليوس: [إن الله يستخدم كل فرصة لكي يدعونا للعمل ضاعت الأتن لكي يوجد ملك لإسرائيل[83]].

“الأتن” من الجانب الرمزي تشير إلى “الجهل”، فإن شاول دُعي للمُلك حين ضاعت الأتن، وهكذا لكي نملك مع السيد المسيح يلزم انتزاع الجهل من نفوسنا والتمتع بنور المعرفة. لتخرج الأتن من بيتنا الداخلي وليحل نور المعرفة في أعماقنا فنملك مع مسيحنا النور الحقيقي. عندئذ نقول مع الملك داود: “بنورك يارب نعاين النور”. يقول القديس أكليمندس الإسكندري: [إن الغنوسي أو صاحب المعرفة الروحية بحق لا يضطرب من شيء ما… لا يخشى الموت، إذ له الضمير الصالح واستعداد لمعاينة القوات (السماوية)[84]].

مع أن الأتن أمر زهيد لكن شاول بذل جهدًا في البحث عليها إذ عبر في جبل أفرايم ثم في أرض شليشه ثم أرض شعليم فأرض بنيامين وأخيرًا أرض صوف… وإذ مرت ثلاثة أيام في البحث عنها دون جدوى خشى شاول أن يقلق أبوه عليه، فقال للغلام: “تعال نرجع لئلا يترك أبي الأتن ويهتم بنا” [5]. هذه جوانب طيبة في شاول: بحثه الجاد عن الأتن، اهتمامه بمشاعر أقرب الناس إليه، ثم تشاوره مع الغير (الغلام)… هذه سمات تجعل الإنسان جديرًا باستلام دور قيادي وإن كان كبرياء قلبه قد أفسد هذا كله فيما بعد.

“شليشه” تعني “ثلاثي”[85]، وهي مقاطعة في جبل أفرايم، جنوب غربي شكيم.

“أرض شعليم” تعني “أرض الثعالب”[86]، مقاطعة في أفرايم.

بحسب التقليد اليهودي الغلام المرافق لشاول هو دواغ الأدومي الذي صار فيما بعد مشيرًا له، بسببه قُتل كهنة نوب ونساؤهم وأولادهم حتى ماشيتهم أهلكها (22: 7-23).

 

الغلام يشير عليه باللقاء مع الرائي  [7-14].

إذ أراد شاول العودة حتى لا ينشغل أبوه بأمره هو والغلام، سأله الغلام أن يستشير رجل الله ليخبرهما عن طريقهما التي يسلكان فيها [6].

اعتاد اليهود أن يدعو النبي “رجل الله” (يش 14: 6، 1 مل 12: 22؛ أي 11: 2)، لأنه يعمل على التقدم بالشعب إلى الله خلال الصلاة والوصية الإلهية والإرشاد والنبوة؛ كما يدعى “إنسان الروح” (هو 9: 7)، بكونه مهتمًا بالروحيات، يعمل بقيادة روح الله؛ وأيضًا يدعى “الرائي” إذ ينظر إلى بعض أمور المستقبل كما ببصيرة روحية مفتوحة.

ادعى بعض النقاد أن هذا السفر يحوي مصدرين مختلفين في الفكر، كما رأينا في المقدمة، قائلين إننا نرى في الحوار بين شاول وغلامه أن الأول يجهل اسم الرائي وموضوعه بينما يسكن قريبًا منه، وكأن صموئيل رٍاء مجهول حتى ممن هم قاطنون بالقرب منه، بينما نجد في ذات السفر صموئيل كنبي عظيم وقاضٍ يحكم الشعب كله ويوجهه… كيف يكون ذلك؟

أ. يُجاب على هذا بأن شاول عاش في قريته لا يُبالي بالأمور السياسية والدينية الجارية في عصره، فلم تكن الشخصيات البارزة معروفة لديه كما يحدث مع كثيرين من سكان القرى، خاصة مع عدم وجود وسائل إعلام قوية كالعصر الحديث. أذكر أنه في عام 1953 بعد قيام الثورة المصرية كتب أحد المدرسين المنقولين إلى الصعيد إلى عائلته في القاهرة يقول: هنا يوجد أناس لازالوا يظنون أن الملك فؤاد هو حاكم مصر؛ وكأنهم على غير علم بموته وجلوس الملك فاروق ثم عزله وقيام الثورة في يوليو 1952. ربما حمل الحديث نوعًا من المبالغة لكنه يوضح كيف لا ينشغل بعض سكان القرى بالرئاسات الدينية أو المدنية العليا.

يقدم لنا واضع تفسير صموئيل الأول (مركز المطبوعات المسيحية) مثلاً واقعًيا حدث في إسكتلنده، حيث دُعي رئيس كنيسة إسكتلنده ليلقي خطابًا في حفل عام، وكان زعيمًا بارزًا في جيله، كتبت عنه الصحف عدة شهور ونشرت له صورًا مرارًا كثيرة. فلما قدمه رئيس المؤتمر إلى رئيس مجلس المدينة وهو عضو في تلك الكنيسة، سأل: “من هو هذا الرجل؟”… على ذات القياس، في كل عصر نجد الكثيرين ممن لا يهتمون حتى بمعرفة اسم الرئيس الديني.

هذا ونلاحظ أن الغلام الذي يخدم شاول كانت لديه معلومات أكثر عن الرائي وكرامته وموضع سكناه، إذ قال: “هوذا رجل الله في هذه المدينة، والرجل مكرم، كل ما يقوله يصير” [6].

هذا ولا ننسى أيضًا أن صموئيل مثل عالي الكاهن اختلف الاثنان عن بقية القضاة السابقين لهما وربما البعض كانوا معاصرين لهما، إذ التزما بالعمل القيادي الروحي والتوجيه في المسائل الزمنية دون قيادة الجيوش بنفسيهما، إذ لم يكونا رجلي حرب، الأمر الذي لم يكسبهما شهرة بين الشباب، لأن الشباب غالبًا ما تستهويه أخبار الحروب والانتصارات والأعمال البطولية.

 تساءل شاول: “ماذا نقدم للرجل، لأن الخبز قد نفذ من أوعيتنا وليس من هدية نقدمها لرجل الله، ماذا معنا؟” [7].

  إن كان شاول قد جهل اسم الرائي وموضع سكناه لكنه تربى منذ الطفولة ألاَّ يدخل بيت الله بيد فارغة، ولا يلتقي برجل الله بيد فارغة. وكانت العادة السائدة أن يقدم الإنسان من طعامه أو محصولاته كما من أمواله. هذه العادة عاشتها الكنيسة الأولى، فقيل عن والد القديس تكلا هيمانوت الأثيوبي، وهو كاهن، أنه لم يكن يدخل الكنيسة بيد فارغة. الكاهن الروحي محب للعطاء أكثر من الأخذ… أينما وجد يشتاق أن يُعطي. أقول إن كل نفس تلتقي بالله المحبة يحمل طبيعة العطاء في أعماقه، يفرح ويشبع داخليًا مع كل عطاء للغير.

كان مع الغلام ربع شاقل فضة، وهو مبلغ زهيد للغاية، لم يخجل هو وشاول من تقديمه، فإن العبرة لا في الكمية بل في طبيعة العطاء ذاتها أو اتساع القلب بالحب.

كانت الرامة – مدينة صموئيل- قائمة على أكمتين (رامتايم 1: 1)، لذا قيل “وفيما هما صاعدان في مطلع المدينة” أي متجهان نحو باب المدينة، التقيا بفتيات خارجات لاستقاء الماء، قلن لهما: “هوذا هو أمامكما، أسرعا الآن، لأنه جاء اليوم إلى المدينة لأنه اليوم ذبيحة للشعب على المرتفعة” [12].

إن كانت الرامة القائمة على أكمتين تمثل كنيسة المسيح القائمة على العهدين، القديم والجديد، فإنه يليق بكل قلب أن يترك ما هو عند السفح ويصعد بروح الله خلال كلمة الله – العهدين – ليعيش في الرامة كرٍاء ينعم بالبصيرة المفتوحة المطَّلِعة على أسرار الله وأمجاده السماوية، ما هؤلاء الفتيات الخارجات لاستقاء الماء إلا رجال العهدين القديم والجديد الذين خلال النبوات والكرازة الإنجيلية يشيرون إلى المسيح السائر أمامنا يرعانا، يفتح طريق الحق ويعبر بنا إلى الجلجثه لننعم بأسرار ذبيحته المخلِّصة.

ماذا قالت الفتيات لهما؟

عند دخولكما المدينة للوقت تجدانه قبل صعوده إلى المرتفعة ليأكل، لأن الشعب لا يأكل حتى يأتي لأنه يبارك الذبيحة، بعد ذلك يأكل المدعوون” [13].

إذ ننعم بالصعود إلى كنيسة المسيح، ماذا نرى؟ نرى مسيحنا الذي تقدم ليأكل، مقدمًا جسده المبذول ذبيحة حب مشبعة لشعبه. يبارك الذبيحة بيديه الطاهرتين ليُعطي مدعويه ليأكلوا ويشبعوا ويثبتوا فيه.

لما دخل الرجلان إلى وسط المدينة “إذ بصموئيل خارج للقائهما ليصعد إلى المرتفعة” [14]. هكذا إذ ننعم بالعضوية الكنسية، ندخل إلى كنيسته فيحملنا إلى جبل الجلجثة (المرتفعة) لنتمتع بسر الذبيحة واهبة المصالحة والمشبعة لاحتياجات النفس.

 

صموئيل يكشف لشاول رسالته    [15-27].

لقد كشف الله لصموئيل النبي بخصوص مسح شاول ملكًا أو رئيسًا لشعبه، وذلك قبل اللقاء معه بيوم [15]. ويلاحظ أن كلمة “رئيس” جاءت هنا في العبرية nagid تعني “رئيسًا” أو “أميرًا” غير أن الحديث عنه هنا كملك، كما أنه المسحة ذاتها تعني نواله الملوكية[87].

استضاف صموئيل النبي شاول، وكشف له كل شيء، إذ قال له: “وأما الأتن الضالة لك منذ ثلاثة أيام فلا تضع قلبك عليها، لأنها قد وُجدت، ولمن كل شهيِّ إسرائيل؟ أليس لك ولكل بيت أبيك؟!” [20].

في اتضاع أجاب شاول: “أمَا أنا بنياميني من أصغر أسباط إسرائيل، وعشيرتي أصغر كل عشائر أسباط بنيامين؟! فلماذا تكلمني بمثل هذا الكلام؟!” [21].

هنا يليق بنا أن نقف قليلاً لندرك عطايا الله للإنسان المرتفع إلى مدينة الرامة، أي إلى الكنيسة، والملتقى مع صموئيل رمز السيد المسيح.

أ. طلب صموئيل النبي من شاول ألا ينشغل بالأتن الضالة، فإنها أمر تافه للغاية أمام ما سيناله من عطايا، مقابل هذا أعلن له أنها قد وجدت، وأنه ينال كل شهي إسرائيل. ألم يسألنا السيد المسيح ألا نهتم بشيء إلا بملكوت الله وهذه كلها تزاد لنا؟. فإن الله في محبته يهبنا في هذا العالم مئة ضعف (مت 19: 29) بجانب تمتعنا بملكوت الله.

لنترك عنا الارتباك بالأتن الضالة، فيردها الرب إلينا ويعطينا مركبات وخيل، أما ما هو أعظم فإنه يهبنا ملكوته السماوي، كما بقيادة مركبته السماوية، لنترك الأتن الوضيعة الأرضية فنتقبل مركبة الله السماوية!

ب. أخذه صموئيل هو وغلامه إلى المنسك، أي إلى الغرفة بالمرتفعة عند المذبح المعدة للولائم الخاصة بالذبائح، وجعلهما على رأس المدعوين وهم نحو ثلاثين رجلاً [22]، ثم أوصى الطباخ أن يقدم له الساق وما عليها [24]. على أي الأحوال من يترك الانشغال بالزمنيات يرتفع كما إلى الوليمة السماوية وينعم بالطعام السماوي وينال كرامة مضاعفة وشبعًا.

ج. تمتع شاول بحديث سري مع صموئيل عند طلوع الفجر على السطح [25-26]. هكذا إذ ننعم بالطعام السماوي ندخل إلى علاقة سرية مع مسيحنا، نلتقي به مبكرًا، حيث نوجد كما على السطح، مرتفعين نحو السماء لننظر أسراره الإلهية وننصت إلى كلماته الخاصة، محدثًا إيانا عن إقامتنا ملوكًا روحيين (رؤ 1: 6؛5: 10).

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى