تفسير سفر المكابيين الثاني 8 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا
بدايات الثورة المكابية
(1مكا 3: 1 – 4: 26)
اكتملت سلسلة الاضطهادات السلوقية من نشر الهيلينية بالقوة ونهب الهيكل إلى التعذيب والقتل من أجل الإيمان، وعند هذا الحد كان من الضروري أن يأخذ الغيوريين من اليهود على عاتقهم دفع تلك الشرور وقيادة الأمة لتصحيح المسار ومواصلة المسيرة. وعندما بدأ يهوذا المكابي وجد تعاطفًا وتجاوبًا كبيرًا مع دعوته. فاستطاع بعد عدة معارك خاطفة إيقاع الرعب في قلوب السلوقيين. وكانت تلك هي بداية الحقبة المكابية.
يهوذا المكابي والغيرة المقدسة
1وكان يهوذا المكابى ومن معه يتسللون إلى القرى ويدعون إليهم أبناء جنسهم ويضمون إليهم الذين ثبتوا على دين اليهود، حتى جمعوا نحو ستة آلاف. 2 وكانو يبتهلون إلى الرب أن ينظر إلى الشعب الذي أصبح يدوسه كل أحد، ويعطف على الهيكل الذي دنسه الكافرون، 3ويرحم المدينة المتهدمة والتي أشرفت على الزوال، ويُصغى إلى صوت الدماء الصارخة إليه، 4ويذكر إهلا الأطفال الأبرياء ظلمًا والتجاديف على أسمه، ويُظهر بُغضه للشر.
أقربائهم: جاءت في اليونانية (suggeneiV: أي من أبناء اسرهم) ويؤكد هذا المعنى الكلمة الواردة في الترجمة اللاتينية الفولجاتا (Propinquos أو Cognatos) ونرى من سياق النص هنا أن الباقين في اليهودية كدين كانوا ستة آلاف شخص، وطبقا لما ورد في (1مكا6:4) نرى أن الذين اشتبكوا في القتال مع جرجياس من جيش يهوذا ثلاثة آلاف، مما يعني استعفاء نصف قوته بسبب الخوف.
بعد أن هرب يهوذا المكابي ومن معه إلى الجبال (5: 27) بدأوا في حشد الغيورين من الشعب من أجل تنسيق المقاومة ضد هذا الخطر الذي زحف على الأمة، وقد وجدوا مناصرين كثيرين كانوا فيما يبدو ينتظرون مَن يقودهم في تلك الحرب المقدسة (1)، حيث جعلوا هدفهم منذ البداية ودافعهم هو إنقاذ الشعب من الضلال وإعادة الكرامة والطقوس إلى الهيكل، وصيانة المدينة المقدسة أورشليم. ولذلك فهي حرب مقدسة في منشأها، وإن كانت قد انحرفت عن هذا الهدف بعد ذلك، حين برزت الأهداف
السياسية والتوسعية.
الدماء الصارخة إليه:
إنها بالتأكيد دماء الشهداء المكابيين (ألعازر والأم وبنيها السبعة ثم استشهاد السيدتين مع ابنيهما اللذين ختناهما) والتي صعدت إلى قدام الله، فسمع لصراخهم ونزل وخلصهم كما سيجيئ لاحقًا “.. وتنهّد بنو إسرائيل من العبودية وصرخوا فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية. فسمع الله أنينهم فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب ونظر الله بني إسرائيل وعلم الله” (خروج 2: 23، 24) ومرة أخرى سنقرأ في سفر الرؤيا كيف صرخ الشهداء من جديد إلى الله”.. رأيت تحت المذبح نفوس الذين قتلوا من أجل كلمة الله ومن أجل الشهادة التي كانت عندهم وصرخوا بصوت عظيم قائلين حتى متى أيها السيد القدوس والحق لا تقضى وتنتقم لدمائنا من الساكنين على الأرض..” (رؤيا 6: 9، 10). وفي حين انتقم الله للشهداء المكابيين في العصر المكابي ذاته، فإن أكبر انتقام أجراه الله لشهداء سفر الرؤيا هو أن بعض مضطهديهم قد استشهدوا مثلهم فجاءوا هم الآخرين واخذوا ثيابًا بيض مثلهم ورقدوا إلى جوارهم!! مثل لونجينوس وأريانوس وغيرهم (رؤيا 6: 11).
هذا ويلاحظ أن هذه الصلاة قد جاءت عقب صلاة الأخ السابع بين الشهداء المكابيين في الأصحاح السابق (7: 38) ولاحقًا سيدرك المحاربون كيف أسهمت دماء هؤلاء الشهداء في الانتصار (آية 28).
وهكذا تحددت دوافع الثورة المكابية وتبلورت (آية 2-4):
1 الشعب الذي صار مدوسًا.
2 الهيكل الذي دنّسته الأمم.
3 أورشليم المدينة التي تهدّمت.
4 دماء الشهداء الذين قُتلوا.
5 إهلاك الأطفال الأبرياء (الذين خُتنوا).
6 التجاديف على اسم الله.
7 الشر الذي استشرى بشكل عام. (راجع 1مكا 2).
بواكير الثورة الماكبية
1 مكا 3: 10 – 26
5 ولما أصبح المكابى على رأس جيش، لم تعد الأمم تثبت أمامه، إذ استحال سخط الرب إلى رحمة. 6 فجعل يفاجئ المدن والقرى ويحرقها، حتى إذا استولى على مواقع توافقه، هزم الأعداء الكثيرين. 7 وكان أكثر غاراته في جنح الليل، فذاع خبر شجاعته في كل مكان.
هنا عرض مختصر لأعمال يهوذا المكابي، ولعل الأصحاحات السبعة السابقة كانت تمهيدًا ضروريًا لإبراز حتميّة قيام المكابي بما هو آت، فها قد تبلورت الثورة المكابية وصار لها جيش، ومن ثم بدأ يهوذا في شن حملات خاطفة في عمل عسكري محلّى وفي مواقع منفصلة، كانت أشبه بغارات ليلية، حيث كان لعنصر المفاجآت العامل الفعّال في إحراز الانتصارات، ويتضح لنا هنا بجلاء أن يهوذا كان يجيد التخطيط وأنه قائد موهوب وفذّ، وكما سبق في حديثنا عنه في (1مكا 3: 2-9) فهو يعد القائد العسكري الأشهر بعد داود النبي في التاريخ اليهودي كله، ومن بين أسباب نجاحه أيضًا أنه لم تكن له أية أهداف شخصية، غير أن السرّ الحقيقي لهذا النجاح الباهر هو أن:
سخط الرب تحول إلى رحمة (آية 5/ب): فالحرب للرب، وهو قادر أن يغلب بالكثير وبالقليل (1 صموئيل 4: 16) وكما سمح الله للأعداء بالإساءة إلى الشعب، فهوذا يعود من جديد ليرحم هذا الشعب. وكان هذا هو مفتاح الحل، أن يرحم الله هذا الشعب ومن ثم فلن تقدر عليه أية قوة.
وهكذا بدأ السلوقيون في الانتباه إلى أن هناك ثورة وجيش وهجمات وانتصارات، ومن ثم بدأت المواجهات العسكرية الحقيقية، بعد أن كانت مجرد اضطهادات عنيفة من قوم لهم اليد العليا في البلاد، ضد شعب مقهور ومفكك بلا قائد.
حمله نكانور وجرجياس
8 فلما رأى فيلبس أن هذا الرجل آخذ في التقدم شيئًا فشيئًا وأن انتصاراته تتزايد، كتب إلى بطليمس، قائد بقاع سورية وفينيقية، يسأله النجدة لشؤون الملك. 9 فاختار الساعته نكانور بن بتركلس، من خواص أصدقاء الملك، وجعل تحت يده لا أقل من عشرين ألفًا من مختلف الأمم، ليستأصل ذرية اليهود عن آخرهم، وضم إليه جرجياس، وهو من القواد المحنكين في شؤون الحرب. 10 فعزم نكانور أن يؤخذ من مبيع اليهود المسبيين جزية ألفى القنطار التي كانت للرومانيين على الملك. 11وأرسل لوقته إلى مدن الساحل يدعو إلى شراء عبيد يهود، مُسعرًا كل تسعين عبدًا بقنطار، ولم يخطر له ما سيحل به من عقاب القدير.
فيلبس المذكور ههنا هو ممثل الملك في أورشليم (راجع التعليق على 5: 22، 23) وكان هو أول من أحسّ بتلك التحركات والهجمات المتلاحقة، وقد خشى من تفاقم المقاومة وانفلات زمام الأمور من يده وقد أفلت لاحقًا بالفعل وقام بطليموس قائد إقليم بقاع سورية وفينيقية (راجع 1مكا 3: 38 و2مكا 4: 45 و6: 8) ويشمل الإقليم أيضًا أورشليم: بتجهيز حملة عسكرية قوية أسند قيادتها إلى قائد محنك يُدعى جرجياس، (راجع التعليق على 1مكا 3: 27-60).
أما عن نكانور بتركلس، فقد كان الاسم نكانور شائعًا في الفترة التاريخية التي نحن بصددها، وقد يكون من الصعب تحديد شخصية نكانور هنا، ولكن النص هنا يوحى بأنه هو ذاته المذكور في (1: 12-15: 37). وقد جاء ومعه أكثر من عشرين ألف جندي(1).
من خواص أصدقاء الملك: جاءت في الأصل العبري (ميه أَهَفايو هَريشونيم = من أحبائه الأوائل).
جرجياس: ربما كان هو الشخص ذاته المذكور في (10: 14 و12: 32-37) وقد شارك في حملة مهمة ثم حكم مواقع استراتيجية بعد ذلك، وإن كانت أخطاؤه التكتيكية (1مكا 4: 1-22) قد أسهمت في انتصار يهوذا المكابي هنا، ومع ذلك فقد واصل ليسياس ثقته به (ُانظر التعليق على 10: 14، 15).
في ذلك الوقت كان السلوقيون قد وثقوا بقوتهم أكثر من الضروري فلم يحتطوا، وهو شرك تقليدي يسقط فيه الأقوياء، إذ يجب على الإنسان مهما كان قويًا أو ناجحًا: التحسّب لكل شيء، وألا يفْرط في الثقة بنفسه وإمكانياته. وقد اعتمد السلوقيون على قوتهم وجنودهم وعتادهم، ولم يكونوا قد عرفوا أن الله قد حوّل سخطه إلى رحمه لشعبه (آية 5/ب) وأنه ليس بالكثرة ولا بالقوة “بل بروحي قال رب الجنود” (زكريا 6: 4).
بل ومن المؤسف أنهم قد نشروا إعلانًا بين سكان الشعوب الوثنية لاسيّما سكان الساحل مثل صور وصيدا وهم أغنياء يعملون في التجارة وفي الرقيق، بأن هناك أعدادًا ضخمة من الأسرى اليهود سيتم بيعهم، وأن كل تسعين منهم سيباعون بقنطار، أي أن العبد يساوى 67 دراخمة أو 12 جنيه مصري (إذا كان قنطار ذهب) وهو سعر منخفض جدًا، حتى إذا كان سعر الجملة ! أما إن كان المقصود قنطار فضة فسيكون أقل من ذلك بكثير جدًا. فإذا كان المطلوب تحصيل ألفى قنطار من بيع الأسرى فإنهم في هذه الحالة يحتاجون إلى بيع مئة وثمانين ألف يهودي (ما بين عبد وأمَة) راجع في ذلك (1مكا 3: 41).
إلى هذا الحد كان السلوقيون واثقون بأنفسهم، وهكذا “باع” نكانور وجرجياس اليهود قبل المُلتقى (آية 14) ولكن الله خذلهم إذ نفخ في تلك الفتيلة المدخنة..
الجزية المقررة:
فُرِضَت الجزية من الرومان على أنطيوخس الثالث بموجب معاهدة السلام الُمبرمة بين الطرفين في سنة 188 ق.م. وحتى ذلك الوقت كانت ما تزال بعض الأقساط واجبة السداد، ومع أن الغنائم التي حصل عليها أنطيوخس الرابع من مصر كانت كافية لسداد جميع الديون، إلاّ أنه كان مُسرفًا بطبيعته، مما أرهق خزانته، كان على أنطيوخس أن يدفع مبلغ 12000 طالن على 12 قسطًا سنويًا متساويًا، مما حدا به إلى الاستيلاء على كنوز مصر ومحاولة نهب الهيكل وكذلك نهب هيكل برسابوليس.. ويقول المؤرخون أن أنطيوخس قام بدفع المبلغ المتبقي من التعويض للرومان بالكامل مصحوبًا بالاعتذار عن التأخير حيث كان يتوجّب سداد الأقساط بالكامل عند عام 177 أو 176 ق.م.
ويقول المؤرخ بوليبيوس أن فترة دفع الجزية كانت اثنتي عشر سنة (تبدأ سنة 188 أي تاريخ معاهدة أباميا) ونعرف من العالم ليفي Livy أن أبولونيوس كان في روما في سنة 173 ق.م. ليعتذر عن التأخير في الدفع(1)، رغم أن الوصف الذي يورده يوحى بأنه في تلك المناسبة كان يحضر معه آخر دفعة من المبلغ، ولهذا فمن المرجح أن الرومان قد وافقوا على تأجيل دفع الدين، كما أنه قد جاء بدفعة معدّلة الموعد.
يهوذا يعظ جنوده التوجيه المعنوني
12 فبلغ يهوذا خبر قدوم نكانور، فأخبر الذين معه بمجيء الجيش، 13فهرب الخائفون وقليلو الإيمان ببر الله وهاجروا إلى أماكن أخرى. 14 وباع الآخرون كل ما كان باقيًا لهم، وكانوا يبتهلون إلى الرب أن يُنقذ من نكانور الكافر من باعهم قبل الملتقى، 15 وإن لم يكن ذلك من أجلهم، فمن أجل العهود المقطوعة مع آبائهم وحُرمِة اسمه العظيم الذي أطلق عليهم. 16 فحشد المكابي رجاله وهم ستة آلاف، وحرضهم أن لا يرتاعوا من الأعداء ولا يخافوا من كثرة الأمم المجتمعة عليهم ظلمًا، وأن يقاتلوا ببأس، 17 جاعلين نُصب عيونهم الإهانة الأثيمة التي ألحقوها بالمكان المقدس وما أنزلوه بالمدينة من سوء المعاملة والعار، مع القضاء على سُنن الآباء. 18 وقال إن هؤلاء إنما يتوكلون على سلاحهم وأعمالهم الجريئة، وأما نحن فنتوكل على الله القدير الذي يستطيع بإيماءة واحدة أن يصرع الزاحفين علينا، بل العالم بأسره. 19 ثم ذكر لهم النجدات التي أمد بها آباؤهم، وما كان من إبادة المئة والخمسة والثمانين ألفًا على عهد سنحاريب، 20 وما كان من المعركة التي شنوها على الغلاطيين في بابل، كيف برز اليهود للقتال وهم ثمانية آلاف رجل، ومعهم أربعة آلاف من المقدونيين، وكيف، حين أصبح المقدونيون في وضع حرج، أهلك أولئك الثمانية الآلاف مئة وعشرين ألفًا بالنجدة التي أتتهم من السماء، وعادوا بغنيمة وافرة.
كانت تلك نذير أول معركة حقيقية ما بين جيش يهودي والجيش السلوقي، إذ سيتحول الأمر من الآن فصاعدًا إلى مواجهات عسكرية منظمة وليس اضطهاد شعب من ِقبل الحكام، أو المناوشات المتفرقة. وكالعادة في كافة الحروب فقد تراجع البعض بسبب الخوف، وحتى وبعد سن القوانين التي تمنع الهروب من الخدمة العسكرية ما تزال هذه الظاهرة موجودة. وهنا يخشى بعض الجنود اليهود من عدم التكافؤ ما بين القوة السلوقية الكبيرة المدرّبة والمسلحة تسليحًا جيدًا، والجيش اليهودي الناشئ قليل العدد والعتاد.
ولا شك أن ذلك كان يعكس ضعف إيمان منهم، لأن الحرب مقدسة في حالتهم هذه ومع ذلك فنحن نقرأ في (1مكا 3: 56) أن يهوذا نفسه قد صرف البعض منهم عملًا بما ورد في (تثنية 20: 1-9) والذي يقضي بإعفاء كل خائف وحديث الزواج وصاحب البيت أو الكرم الجديد، من الخروج للحرب لئلا يضعف قلبه فيؤثر على الباقين. وفي المقابل فقد باع البعض الآخر جميع ما يملك ليتفرغ للحرب على الأرجح. حاسبين ذلك رسالتهم وجُلّ اهتمامهم وربما وضعوا مالهم تحت تصرف القادة اليهود.
وفي (1مكا 3: 40-54) يُذكر أن الشعب اجتمع في المصفاة مع يهوذا ورجاله، مثلما اجتمع من قبل صموئيل النبي، ويتبع اليهود في ذلك ذات الخطوات التي سلكها حزقيا بعد ما واجه إنذار سنحاريب الأشوري.
وصلى اليهود إلى الله لكي يمد لهم يد العون، إن لم يكن لأجلهم لأنهم خطاة، فليكن من أجل العهود التي قطعها مع آبائهم(1) ومن أجل مدينته وهيكله ومن أجل:
اسمه الذي دعي عليهم (1مكا 7: 37):
وهو اصطلاح عبري ظهر للمرة الأولى في (تثنية 28: 10) راجع أيضًا (1مل 8: 43 و2 أخ7: 14 و عاموس 9: 22 وأعمال 15: 17) هكذا يقول الرب “فإن تواضع شعبي الذين دُعي اسمي عليهم وصلّوا وطلبوا وجهي ورجعوا عن طرقهم الرديئة فإنني أسمع من السماء وأغفر خطيتهم وأبرئ أرضهم” (2أخ7: 14). وفي الصلوات اليهودية وُجدت هذه الصلاة ” أبانا وملكنا تصرف من أجل اسمك القدير المرهوب الذي دعى علينا.. ” (2)
التوجيه المعنوي:
وهو أمر شائع وضروري لاسيّما قبل البدء في المعارك، والهدف منه تذكير الجنود بالقضية التي سيحاربون لأجلها، ويظهر من حديث يهوذا أنه كان شخصية روحية وليس قائدًا عسكريًا فذًا فحسب، فهو مُطّلِع بشكل جيد على الأسفار وتاريخ الآباء وتراثهم، وهو الآن يرسّخ في أذهانهم المبدأ الهام بأن الرب ليس كثير عليه أن يغلب بالقليل.
فإن داود النبي قد سبق فأكّد هذه الحقيقة وترك هذه الخبرة ميراثًا لكل الآتين من بعده، إذ وقف أمام جليات الفلسطيني قائلًا “أنت تأتى إليَّ بسيف ورمح وأما أنا فآتى إليك باسم رب الجنود” وفي المزامير يقول “هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل أما نحن فبإسم الرب إلهنا نذكر. هم جثوا وسقطوا أما نحن فقمنا وانتصبنا” (مزمور 20: 8) وهكذا يستطيع الله بنفخة فاه أن يبيد الأمم، بإيماءة واحدة.. أي بمجرد إرادته(1)، وهو ما حدث مع الأشوريين بقيادة سنحاريب إذ هلك منهم 185 ألف (2مل 19: 35 وإشعياء 37: 36).
معركة الغلاطيين:
الغلاطيون هم الغاليون Galatians: وُيعرف عنهم قوة أبدانهم وبطشهم في الحروب وهم قبائل سلفية شرسة غزت العالم الناطق باليونانية في النصف الأول من القرن الثالث ق.م. وقد استقرت أعداد كبيرة منهم في منطقة وسط آسيا الصغرى، وسببوا ضيقًا شديدًا لسكان المنطقة على مدار سنين طويلة. وقد خاضوا حروبًا كثيرة مع الرومان قبل أن يخضعوا لهم في سنة 189/188 ق.م. بعد حملة ناجحة بقيادة جنايوس مانليوس، ومع ذلك فقد منحهم الرومان مزيدًا من الحريات (راجع التعليق على1مكا 8: 2) كما قام أومنيس ملك برغامس بإخماد ثورة كبيرة لهم فيما بعد خلال عامي 168-166 ق.م.
أما عن معركتهم مع اليهود المذكورة هنا فالأرجح أنها دارت في سنة 220 ق.م. عندما تحالف اليهود مع أنطيوخس الثالث الكبير لمحاربة المرتزقة الغلاطيين التابعين للقائد الثائر (مولون) وهو حاكم ولاية متمرد في ميديا، وكان معه قوة كبيرة من الغلاطيين في جيشه، حسبما أورد المؤرخ بوليبيوس(1) ومن المحتمل أن يكون اليهود وقتها يعملون كمرتزقة في جيش أنطيوخس هذا، حيث يوجد في التاريخ أكثر من دليل على أن اليهود كثيرًا ما عملوا كمرتزقة مع ملوك يونانيين.
وقد انضم إلى اليهود في تلك المعركة أربعة آلاف جندي مقدوني ما لبثوا أن انسحبوا متخلّين عنهم تاركين اليهود يجيشهم الُمؤلّف من ثمانية آلاف مقاتل فقط. يواجهون هذا العدد الضخم من جنود الغلاطيين. ولا غرابة في الاعتماد على اليهود في حماية المملكة المقدونية، إذ شكّل اليهود نسبة كبيرة في التعداد البابلي، كما كانوا مفضّلين عن غيرهم بسبب إخلاصهم ومهارتهم العسكرية. وبالرغم من تشكيك العالم ” ليفي” في هذا العدد الضخم من الغلاطيين (120 ألفا) حيث يظن أنهم (20 فقط) إلاّ أن العشرين في حد ذاتهم كثيرين أيضا، ونحن نعلم أن الحرب لها مفاجآتها وقوانينها وثغراتها أيضًا، يضاف إلى ذلك التدخل المباشر لله، فإن النجدة أتتهم من السماء وعادوا بغنيمة وافرة (آية 20).
الهجمة الأولى على نكانور
21 و بعدما شددهم بهذا الكلام حتى أصبحوا مستعدين للموت في سبيل الشريعة والوطن، قسمهم إلى أربع فرق. 22 وأقام كل واحد من إخوته، سمعان و يوسف ويوناثان، قائدًا على فرقة، وجعل تحت يده ألفًا وخمس مئة. 23 ثم أمر عزرا أن يتلو عليهم الكتاب المقدس، وجعل لهم كلمة السر نجدة الله، ثم اتخذ قيادة الكتيبة الأولى وحمل على نكانور. 24 فأيدهم القدير، فقتلوا من الأعداء ما يزيد على تسعة آلاف، وجرحوا وجدعوا أعضاء معظم جيش نكانور، وألجأوا الجميع جميع جنوده إلى الهرب. 25 و غنموا أموال الذين جاءوا لشرائهم ثم تعقبوهم مسافة غير قصيرة، إلى أن استعجلتهم الساعة، فأمسكوا وعادوا.
كان تقسيم الجيش إلى فرق وأقسام، يعد تكتيكًا عسكريًا قديمًا وضروريًا وناجحًا، حيث يمكن إرباك العدو من خلال مهاجمته من أكثر من جهة، أو محاصرته من كل جانب، كما أن ذلك يتم خوفًا من تمكن العدو من كسر الجيش، فلا يخور الجيش كله ويهلك جميع الجنود. كما استخدمت في هذا الإطار أيضًا طرقًا أخرى مثل الكمائن والتربصّ وغيرها..
الفرق العسكرية:
الكلمة اليونانية المستخدمة هنا هي Speira بمعنى فرقة وتضم حوالي 1500 رجل، وبنهاية القرن الثاني ق.م. ونتيجة لجهود جريويس ماريو Grius Mariu الإصلاحية تحولت الكتيبة أو الفرقة من مجرد شرذمة من الجنود، فأصبحت تضم من 500 إلى 1000 رجل، وهكذا يكون يهوذا المكابي قد حاكى التكتيكات الرومانية مقابل المقدونية.
وأما القادة الذين جعلهم يهوذا رؤساءً للفرق ومنهم سمعان (وهو شقيقه الأكبر) ويوناثان وهو شقيقه أيضًا، وأماَ يوسف المذكور هنا فهو نفسه المذكور في (1مكا 5: 55-62) وهو الذي أضرّ بالجيش حين رغب في كسب نصر باسمه، وأما ذكره هنا باعتباره أخو يهوذا المكابي فهو من قبيل الأخوية في الأهداف والود، وإن كان البعض يخمّن أن يوسف هذا هو: يوحنا “الأخ الخامس للمكابيين” (مع يهوذا / سمعان / ألعازر / يوناثان) وفي اتجاه آخر يرى البعض أن يهوذا اختار ثلاثة قادة منهم اثنان من إخوته والثالث وهو يوسف ليس من اخوته، إذ أن ألعازر أخوه والمذكور لاحقًا هنا لم يعمل كقائد عسكري (إذ لم تكن له هذه الموهبة) بل كمرشد ديني، مثل يوحنا أيضًا وهو الأخ الخامس والذي كانت تنقصه الحكمة إلى جوار شجاعته.
الكتاب المقدس: لعلها المرة الأولى التي يذكر فيها مصطلح “الكتاب المقدس” كتعبير عن الكتب الإلهية، وهو التعبير المستخدم الآن للدلالة على العهدين القديم والجديد، بل أن كلمة “ال كتاب” وحدها مع “ال التعريف” تعني على الفور الكتاب المقدس، ولكنه للتأكيد يقال الكتاب المقدس، وهو الصفحات التي تقدست بأنفاس الله من خلال ما أوحى به إلى رجال الله القديسون الذين دونوه. هذا وقد وردت تعبيرات مشابهة لذلك في (رومية 1: 2 وتيموثاؤس الثانية 3: 15 “الكتب”).
ويؤكد لنا من جديد هذا السلوك قبل الحرب من حيث التقوى والتسلّح بكلمة الله، أن الحرب ليست استعمارية وليست مبنية على مخططات توسعية، بل هي من أجل الرب والوصية والعبادة(1).
كلمة السرّ Watch word: وهي عادة حربية متبعة منذ القديم، فقد وُجدت في التراث اليوناني والروماني، كما وردت في كتاب “قاعدة الحرب” في خرائب قمران، والهدف منها هو التمييز بين الجندي الوطني وجنود الأعداء، وكذلك على سبيل الحذر من أندساس الأعداء، وإن كان البعض يرى في هذه الكلمة: الهتاف الذي يطلقه الجنود عند الهجوم، مثل صيحة الهجوم في المباريات والمعارك أيضًا.
أبقى يهوذا المكابي معه عدد ألف وخمسمائة جندي فقط، في حين جعل بقية الآلاف الستة مع القادة الثلاثة الآخرين، وهذا يفسر لنا ما ورد في (1مكا4: 6) حين هاجم جرجياس ومعه ثلاثة آلاف فقط، فلعله هناك استعان ببعض مما لدى القادة الآخرين في تلك الهجمة، فقتلوا كثيرين وجرحوا مثلهم، وأما عن “جدع الأعضاء” الُمشار إليه هنا فهو لا يعنى التمثيل بالجثث وإنما يعنى المصابين والجرحى، بينما هرب الجنود المتبقين أحياء.. ويذكر هنا أنه في بعض الحروب كان الجنود يحملون أعضاء قتلاهم مثل الأيادي أو الآذان كدليل على النصر ولإحصاء عدد القتلى أمام القائد.
وأما الذين استعدوا لشراء اليهود! حسبما بشّرهم نكانور وجعلهم برفقة جيشه، فقد لاذوا بالفرار حالما رأوا أن اليهود قد ألحقوا الهزيمة بأعدائهم، ولكن اليهود طاردوهم واستولوا على أموالهم. ثم توقّفوا عن مطاردة جنود نكانور إذ كان اليوم هو الجمعة وقد قارب السبت على المجيء. فكان من اللائق أن يستريحوا محتفلين بالسبت. وفي حين يذكر (1 مكا 3: 38 إلخ و4: 1-25) دورًا أكبر ل جرجياس وليسياس في المعركة في حين لا يشار إلى دور نكانور، فإنه هنا يركز على دوره.
الاحتفال بالسبت وتقسيم الغنائم
26 وكان ذلك اليوم عشية السبت، ولذلك لم يُطيلوا تعقبهم. 27 وجمعوا أسلحة الأعداء وأخذوا أسلابهم، ثم حفظوا السبت، وهم يباركون الرب كثيرًا ويحمدونه لأنه حفظ لهم إلى ذلك اليوم أولى قطرات ندى رحمته. 28 ولما أنقضى السبت، وزعوا على المعذبين والأرامل واليتامى قسمًا من الغنائم، واقتسموا الباقي بينهم وبين أولادهم. 29 وبعدما انتهوا من ذلك، أقاموا صلاة عامة، سائلين الرب الرحيم أن يعود فيصالح عبيده مُصالحة تامة.
كان الهجوم على قوات نكانور في فجر الجمعة، وقد قُهرت قوات جرجياس ولاذت بالفرار، وهكذا تدخّلت العناية الإلهية لتعفي اليهود من الدفاع عن أنفسهم في السبت، ورغم أن ذلك قد أصبح مقبولًا بعد الفتوى الحشمونية بجواز القتال الدفاعي في السبوت، إلاّ أن يهوذا ورجاله توقّفوا عن متابعة الأعداء لقرب دخول السبت.
أما تسابيح الانتصار اليهودية، فقد كان لها صيغة مناسبة هي “مبارك هو الرب الذي…” راجع (خروج 18: 1 وصموئيل أول 25: 39 ومزمور 106: 1 – 107: 1 وإرميا 33: 11) وفي الاستخدام الحالي لدى اليهود، يرد: ” مبارك أنت أيها الرب إلهنا ملك الكون الذي أحيانا وحفظنا وأتى بنا إلى هذه الساعة.. “
كانت أول باكورات المكابيين، وأول ما اهتموا أن يفعلوه بعد أول فوز ونصر حقيقي، هو الاحتفال بالسبت والوصية والطقس الذي حاربوا لأجله، حيث كان ذلك أول ما اهتم بتأكيده، حين قدّموا الشكر للرب الذي حفظهم إلى اليوم الذي ينعمون فيه بأولى قطرات (ندى) رحمة الله كمقدمة لسيل فياض من تلك الرحمة.
ولكن هل هناك علاقة أو تشابه ما بين هذه العبارة “قطرات الندى” وتلك الواقعة الواردة في (صموئيل الثاني 21: 10) حيث قدم الشعب سبعة من أبناء شاول عُلقوا على خشب وحرستهم رصفة (أم اثنين منهم) ابتداءًا من يوم الحصاد و حتى نزل المطر؟ ففي النسخة اليونانية لسفر صموئيل الثاني تُرجمت الآية (21: 10) بنفس الكلمات الواردة هنا، إذا فهناك تواز ما بين دماء الشهداء السبعة وأمهم والتي استدرت مراحم الله. ودماء السبعة في أيام داود النبي والتي استدرت أيضًا مراحمه..
وأما الغنائم فقد وزّعوها فيما بين أُسرهم هم والطبقات المحرومة من الشعب مثل المعوزين المُعدمين (المُعذّبين) والأيتام والأرامل، هذا وقد اتبعوا تقليدًا قد يعدّ جديدًا، وذلك بتوزيع قسم من الغنائم على أُسَر الشهداء باعتبارهم جنودًا، راجع في ذلك أيضًا صموئيل الأول (30: 24، 25 وسفر العدد 31: 26، 27). وهو الأمر الذي فعلوه من جديد بعد المعركة الثانية الناجحة (آية 30) ولا يُعرف بالضبط المقصود بـ الصلاة العامة هنا: هل هي بديل لذبيحة الشكر والسلامة والتي كانت تُقدم في مثل تلك الحالات بعد النصر، حيث الطقوس في الهيكل متوقفة، هل صلى الجنود معًا، أم أن القادة نادوا بصلاة عامة في الشعب، ولكنها على أية حال بادرة على عودة الأمة للتماسك روحيًا. ومما لا شك فيه أن للاستعمار وللحروب آثارها السلبية سواء على العبادة أو الاقتصاد أو الثقافة والأدب والفن وغيرها.
ملاحظة حول الجزء (2مكا 8: 30 – 10: 9)
يلاحظ القارئ أن الأحداث الواردة في هذا الجزء من السفر غير مرتبة ترتيبًا تاريخيا. ولكنه يجب أن تُفهم من جهة المضمون وعلاقتها بما قبلها وبما بعدها.
فمن جهة المضمون: نرى من خلال (1مكا 3: 38 – 4: 25) أن هذه الحرب مع ليسياس كانت مع جيش واحد كبير وكان حلفاؤه – طبقا ل (1مكا) هما: نكانور وجرجياس، ولا يوجد ذكر لطيموتاوس وبكيديس هناك. ونعرف أنه من خلال عدد القتلى الذين كانوا من جيش تيموثاوس وبكيديس عشرين ألف، أي أنهم كانوا مساويين لجميع جيش نكانور (2مكا 9:8)، ومن هذا نرى أن جيش طيموتاوس وبكيديس كان كبيرًا جدًا وأكبر من جيش نكانور وجرجياس. ومن خلال هذا أيضًا نرى أنه لا علاقة بهذه القطعة بالحرب الأولى مع ليسياس.
وأمّا من ناحية المكان: فإنه لا توجد أية علاقة بما قبلها أو بعدها، إذ أن الفقرة كلها تتحدث عن نكانور فقط، ونرى أنها جاءت فاصلة وقاطعة للموضوع من خلال (2مكا 8: 29، 34-36) كما أنه لا علاقة ل (2مكا 8: 30-33) بحرب ليسياس الأولى. لكنها ترتبط بحرب ليسياس الثانية وليس الأولى.
ونجد خبر حرب ليسياس الثانية في (1مكا 4: 1- 38) أنه في السنة التالية خرج على يهوذا بستين ألف راجل وخمسة ألاف فارس، وهنا نرى أن عدد جيشه الثاني كان أكثر ب 20 عشرين ألف من عدد جيشه في السنة الأولى. وأكبر دليل على ذلك أن السفر في (2مكا 33:8) يتكلم عن احتفالية الانتصار في أورشليم التي لم تكن قد أُخِذَت بعد – وفي الانتصار الأول على نكانور الوارد ذكره في (1مكا 4: 24-25) لم يأخذوا أورشليم، وهذا أكبر دليل على أن هذه القطعة (2مكا 8: 30 – 33) تتعلق بخبر هجوم يهوذا على ليسياس في المرة الثانية. هذا بالإضافة لعدم ذكر أسماء طيموتاوس وبكيديس رؤساء جيش ليسياس في الحرب الأولى الواردة في 1مك 4: 25… إلخ.
- من كل ما تقدم يمكننا ترتيب الأصحاحات (8-10) بناءً على رؤيتها التاريخية على النحو التالي:
1- (ص 1:8-29) سقوط نكانور وجرجياس في عماوس.
2- (ص 8: 34 -36) هروب نكانور.
3- (ص 8: 30 – 33) سقوط (نكانور؟) وتيموثاوس وبكيديس (رؤساء جيش ليسياس) في ملحمة بيت صور وصعود يهوذا لأورشليم ومعاقبة كليستانيس وأصدقاؤه.
4- (ص 10: 1-8) تطهير الهيكل وتدشينه والاحتفال بعيد المظال.
5- (ص 9: 1- 29) عودة أنطيوخس أبيفانيوس من فارس ومرضه. في الطريق وموته.
6- (ص 10: 9) آية عن موت أبيفانيوس.
7- (ص 10: 10) أنطيوخس أوباطور وليسياس وصيّه والقيم العام.
ولكن اهتمام الروح القدس بالطبع هنا كان جمع الانتصارات في قطعة واحدة، ثم التفرغ لخبر موت الأثيم ضد المسيح أنطيوخس أبيفانيوس، ثم التفرغ لخبر تطهير الهيكل، وهذا لا يخلّ بالسفر مطلقا لأن ترتيبه إلهي، وهو أمر شائع في سائر الأسفار تبعًا للهدف العام من السفر.
هزيمة طيمو تاوس وبكيديس
عرض سريع لعقاب المضطهدين
30 وبارزوا رجال طيموثاوس وبكيديس، فقتلوا منهم ما يزيد على عشرين ألفًا واستولوا على حصون شامخة، واقتسموا كثيرًا من الأسلاب جعلوها حصصًا متساوية لهم وللمُعذبين واليتامى والأرامل والشيوخ. 31 وجمعوا أسلحة الأعداء واهتموا بوضعها في أماكن مناسبة، وحملوا ما بقى من الغنائم إلى أورشليم. 32وقتلوا رئيس سبط من أصحاب طيموثاوس، وكان رجلًا شديد الكفر، ألحق باليهود أضرارًا كثيرة. 33 وبينما هم يحتفلون بالظفر في وطنهم، أحرقوا الذين أضرموا النار في الأبواب المقدسة، كما أحرقوا كلستانيس الذين كان قد فر إلى بيت صغير. فنال الجزاء الذي استوجبه بكفره.
أعطى توقف المكابيين عن مطارة فلول الأعداء بعد الانتصار، الفرصة للأعداء لإعادة الكرّة ومهاجمتهم، فقد تمكن نكانور قائد قوات العدو من الفرار. وعاد الجيشان إلى الالتحام من جديد، وأحرز اليهود نصرًا جديدًا غنموا من ورائه الكثير من العتاد والمؤن والأسلحة.
إلى جوار الغنائم استولى المكابيين على الأسلحة وبعض الحصون، وأغلب الظن أن أسلحتهم هم كانت من صنع محلّى أو مستوردة من ذلك النوع العادي، بل كانو يحتاجون إلى الأسلحة بشكل عام، أنظر (1مكا 3: 6) ذلك مقارنة بما لدى السلوقيين من أسلحة متطورة وحديثة، وها هم قد استولوا على كميات ضخمة منها، الأمر الذي احتاجوا معه إلى البحث عن كيفية تخزينها، حيث يشير تعبير “أماكن مناسبة” هنا إلى أنه قد صار لهم ترسانة من الأسلحة!!
وقد قضت الشريعة في (سفر العدد 31: 12 و21-54) بأن يُؤتى بالغنائم إلى المحلة، حيث يقدم منها أولًا نصيب الرب، قبل تقسيمها بين الشعب، وفيما بعد الانتصار على نكانور في هذا الأصحاح كان السؤال الذي يطرح نفسه أين المحلة.؟ هل أورشليم وهي التي لم يستردّوها إلاّ فيما بعد (10: 1)؟ وكيف يأخذ الرب نصيبه في حين ما يزال الهيكل ليس في أيدي اليهود؟
طيموتاوس وبكيديس:
طيموتاؤس المذكور هنا هو ذاته المذكور في (1مكا 5: 11-44) وفي (2مكا 12: 2 و 10-26) وأما بكيديس فهو أحد رجال طيموتاوس، مع أنه لم يُذكر سواء في (1مكا 5: 11-44 أو 2مكا 12: 10-26) وإذا كان بكيديس قد نجا من الموت، فسيكون هو ذاته القائد الذي عمل تحت إمرة ديمتريوس الأول والذي هزم يهوذا المكابى في النهاية (1مكا 7: 8-20 و9: 1-18).
رئيس السبط: جاءت في اليونانية (fularchn = رئيس الفيلة) من (fulh)، وجاءت في اللاتينية (الفولجاتا) بأكثر وضوحًا: (فيلارخوس من جيش تيموثاوس). والمقصود به هنا هو رئيس قبيلة عربية، تحالف مع طيموتاوس العموني ضد اليهود، وقد هُزم في بدايات الحملة المكابية كما هو واضح هنا راجع (12: 10 وما يليها) ولفظة سبط هنا تعني قبيلة. أما عن الرجل نفسه فإنه يوصف بأنه شرير أضرّ باليهود كثيرًا.
كلستانيس Callistanece: هو أحد الضباط السلوقيين المعاونين لنكانور، يبدو أن الأخير كلّفه بإحراق أبواب الهيكل، غير أن المكابيين قبضوا عليه هو ورجاله حيث قتلوهم وأما هو فقد هرب إلى أحد أزقة الهيكل، ولكنهم أمسكوا به وقاموا بحرقه بالنار التي أراد هو اضرامها في المكان المقدس.
ولاشك أن الذين اضرموا النار في الموضع المقدس هم من اليهود المرتدين والذين عملوا كمعاونين ومرشدين للقادة السلوقيين مثل نكانور وجرجياس ونقرأ في (1مكا 4: 38) عن احراق الأبواب كما قام ياسون رئيس الكهنة بإحراق أحد الأبواب، أنظرأيضًا، 2مكا 5: 5-16) ومع أن الدمار قد شمل أكثر من جانب من الهيكل، إلاّ أن البوابة كان لها مدلول خاص لدى المهتمّين اليهود، إذ ربطوا بينها وبين بعض النبوات كدليل على عقاب الله، راجع (إرميا 17: 27 و وقارنها ب 1مكا 1: 43، 45، 52 ثم حزقيال 44: 1، 2 مع 2 مكا 1: 8).
نكانور يهرب ويشهد لإله إسرائيل
34 وأما نكانور الشديد الفجور، الذي كان قد استصحب ألف تاجر لبيع اليهود، 35 فلما رأى الذين كان يحتقرهم قد أذلوه بعون الرب، خلع ما عليه من الثياب الفاخرة، واعتزل عن الآخرين جميعًا وفر كالعبد الآبق في الحقول، حتى وصل إلى أنطاكية، محفوظًا فوق كل شيء، بعد أن انقرض جيشه. 36 وبعدما كان قد وعد الرومانيين بأن يؤدى لهم الجزية من ثمن مسبيى أورشليم، عاد يعلن أن اليهود لهم من يحارب عنهم، وأنهم لذلك لا يُغلبون، لأنهم يتبعون ما رسم لهم من الشرائع.
يحمل اليهود لهذا الرجل ذكريات مؤلمة ويحتفظون له بكراهية كبيرة، إذ جدّف كثيرًا على الموضع المقدس، وأقسم أن يفنى اليهود عن بِكرة أبيهم، حتى أنهم بعدما قتلوه في احدى معاركهم لاحقًا قاموا بتعليق جثته على سور أورشليم، ومن بين بوابات الهيكل كانت هناك “بوابة نكانور” سُميت تذكارًا لانتصارهم عليه. (1) ومن المحتمل أن يكون موضعها باتجاه الموضع الذي علقوا جسده عليه. ويستخدم كاتب السفر التعبير اليوناني Trisaliteuos والوارد أيضًا في(1: 3) ويعنى ” شديد الفجور” أو “خاطئ ثلاثة أضعاف ! !” (2).
وُيضيف السفر هنا بعض التفاصيل، لما ورد في (1مكا 3 و7: 33-50) إذ يُذكر أنه تخفى في شكل شخص فقير حتى لا يُقبض عليه ويقتل، واتخذ الحقول والجبال طرقًا حتى وصل إلى أنطاكية، متحسرًا على جيشه الذي انكسر وحلمه الذي تبدد بجمع المال من بيع اليهود ! .! وبدلًا من رغبته في بيع اليهود كعبيد بأبخس الأثمان، ها هو يهرب مثل عبد فقير(3).
إعترافه: وأكثر ما يهمنا في الأمر أن نكانور يعترف بأن اليهود لهم من يحارب عنهم، والمقصود من (الآية 36) هنا هو أنهم لن يُغلبوا ماداموا يتبعون وصايا إلههم والذي سيتولى حيئذ الدفاع عنهم. ويذكرنا ذلك باعتراف هليودورس رئيس وزراء سلوقس الرابع الذي حاول نهب كنوز الهيكل ولم يستطع، راجع (3: 36-39).
_____
(1) بينما يرد هنا أن عدد الذين تجمعوا حول يهوذا المكابى هو ستة آلاف جندي، فإنه يرد في (1مكا 4: 6) أن عددهم ثلاثة آلاف، وقد يبدو أن هناك تناقضًا ولكن الثلاثة آلاف كانوا قوة أساسية بينما البقية التي انضمت مع الوقت كانت احتياطية راجع أيضًا (1مكا 7: 40 ؛ 9: 5).
(1) ورد في (1مكا 3: 39) أنهم كانوا أربعين ألفا وليس عشرين. وربما كان عشرين ألفا كانوا تحت إمرة نكانور فقط، وفي كتاب المكابيين الثالث “كتاب غير قانوني” (38:3) فنرى أن القوات كلها كانت أربعين ألفا، نصفهم خاضعين لإمرة نكانور (العشرين ألف).أما الرابي كوهين فيقول: رئيس الجيش الموكل ببقاع سوريا وفينيقية أرسل 20 ألف رجل، وانضم هؤلاء للجيش الذي جاء مع القواد الآخرين، فكان التعداد الإجمالي 40 ألفا.
(1) بوليبيوس (21: 17) و Livy (42: 6).
(1) كما ورد في (لاويين 26: 42-45 وتثنية 28: 10 وصموئيل أول 12: 22 و أشعياء 43: 7 وإرميا 14: 7 وحزقيال 36: 22 ودانيال 9: 19 و2 أخ 7: 14).
(2) وتسمى صلاة (أبينو ملكينو (Abinu malkenu أُنظر:Jonathan A. Goldsten, II Macc.
(1) بإيماءة واحدة: جاءت في اليونانية (eni neumiati) وجاءت في الآرامية: (بروح فيه)، كما قُرِئَت في بعض المخطوطات اليونانية: (بروحه = pneumati).
(1) بوليبيوس (5: 40-43)
(1) ويقول الرابي كوهين ما يلي: قرأوا الكتاب المقدس لأنه كان عيد الأسابيع كما جاء في (1مكا 5:3) إذ قرأوا الجزء المخصص لليوم (البراشا = القطمارس katameooc) وهذا يدل على نجاح البعض في إخفاء الكتاب المقدس بطريقة ما أثناء الاضطهاد السلوقي.
(1) راجع كتاب الهيكل / للناشر الباب الثاني.
(2) جاءت في الأصل العبري: (رِشَع همروشاع)، وفي اليونانية: (مثلث الإثم = trisalithrioV) وهكذا جاءت في (3:15).
(3) جاءت الآية 13 في الأصل العبري: (ذُلّ بمعونة الرب على أيدي الرجال الذي كان يعتقد في قلبه أنهم لا شيء ]إِفِس = صفر، لا قيمة له [ بعدما خلع ثياب مجده، هرب وحيدا في الأرض كعبد هارب، وجاء لأنطاكية مُحطّما على فقدان الجيش).