تفسير صموئيل الثاني ١١ للقمص تادرس يعقوب
الباب الثاني
متاعب داود وضعفاته
١. داود وامرأة أوريا الحثِّي [١١-١٢].
٢. متاعب خطية آمنون [١٣].
٣. ثورة أبشالوم [١٤-١٩].
٤. ثورة شَبَع [٢٠].
- مجاعة بسبب الجبعونيين [21]
- قصيدة داود وكلماته الأخيرة [٢٢-٢٣].
- الإحصاء والوباء [٢٤].
قدم لنا الكتاب المقدس صورة واقعية لشخصية داود النبي والملك، الذي عاش بقلب منفتح نحو الله والناس منذ صُبوَّته، في نقاوة وطهارة، مشتاقًا أن يخدم الله ويمجده في جدية وبغيرة متقدة نارًا، وأن يبذل حياته من أجل الأمانة حتى في رعايته الخراف غير الناطقة. كافأه الله على هذه الحياة الجادة المقدسة واهبًا له كل نجاح حتى تعظم جدًا وكان رب الجنود معه.
استطاع داود أن يقتل أسدًا ودبًا لينقذ خروفًا أو أكثر وأن يقتل بحجر أملس جُليات الجبار الذي يعير صفوف الشعب ويجدف على الله. واجه مقاومة شاول الملك المستمرة ومطاردته بقلب مملوء سماحة وحكمة. قبل وعود الله بصبر واتزان دون تلهف على نوال مجد واستلام المملكة. حين سقط مطارد له كشاول الملك أو منافس كمفيبوشث كان الرجلَ النبيلَ الذي لا يعرف الشماتة بل من أعماق قلبه يرثيه كرجل محبوب لديه…
هذه السيرة العطرة الفريدة من نوعها تكشفت بأعظم جلاء خلال المزامير التي أنشدها بروح الله لتبقى ذخرًا للمؤمنين وعونًا لهم في الحياة المقدسة في الرب.
الآن بعد أن صار ملكًا على كل الأسباط، واستقرت مملكته، وجاء بالتابوت إلى مدينته، في لحظة ضعف تهاون فسقط لتظهر الطبيعة البشرية بأعماق ضعفها في حياة داود العظيم. انهار هذا الجبار وانحدر بالتتالي من خطية إلى أخرى… وكان يظن أنه قادر على إخفاء هذا الضعف فإذا بها تنفضح أمامنا جميعًا عبر الأجيال بعد أن نال تأديبات مُرَّة وحلت به أحزان متوالية خلال كل بقية أيام حياته.
لم يخجل الوحي الإلهي عن تسجيل هذه السقطات في شيء من التفصيل، دون إخفاء للضعف أو تستر عليه حتى ندرك الحاجة إلى التجديد الكامل للطبيعة البشرية، بل الحاجة إلى تدخل الخالق نفسه لتحقيق هذا التجديد.
سقطات داود هي جرس تحذير يدوي عبر الأجيال لكي يتيقظ كل مؤمن وكل خادم – مهما بلغت قامته الروحية أو خبراته عبر السنوات – لئلا يسقط.
سقطات داود ملأته أحزانًا مُرّة لكن بالتوبة تحولت لمجده، فصارت سيرته ومزامير توبته سرّ قيام لكثيرين حطمتهم الخطية وهوى بهم اليأس!
الأصحاح الحادي عشر
سقوط داود مع بثشبع
هرب بنو عمون أمام أبيشاي ودخلوا مدينتهم الحصينة ربّة، وإذ تمت استعدادات كافية لمحاربتهم عند مدينتهم حتى لا يعودوا يمثلون خطرًا على مملكة داود، أرسل داود يوآب وعبيده للحرب حيث قاموا بتخريب مدن بني عمون وقراها وحاصروا مدينتهم الحصينة ربَّة، أما داود فأقام في أورشليم. استسلم داود للتراخي وتمشى على السطح وترك العنان لعينيه تتطلعان إلى امرأة أخيه فانحدر تدريجيًا حتى ارتكب خطايا بشعة.
١. تراخي داود [١-٢].
٢. السقوط التدريجي [٣-٥].
٣. علاجه البشري [٥-١٣].
- تسليم أوريا للموت [١٤-٢٥].
الخطوة الأولى في السقوط هي التهاون والاسترخاء. لم يسقط داود في مثل هذه الخطية (الزنا) حين كان يُجاهد في صباه وشبابه وهو يرعى الغنم، وحين عمل في البلاط الملكى لدى شاول، وحين صار طريدًا أمام الملك، وأيضًا حين كان ملكًا على سبط واحد، وحين اهتم بخلاص الأسباط جميعها، أما لآن وقد استقرت مملكته وتزايد في المجد وصار له بيت من الأرز ترك الحرب ليوآب رئيس جيشه واسترخى في بيته في أورشليم.
في وقت المساء عوض الصلاة من أجل المجاهدين قام عن سريره وتمشى على سطح البيت “فرأى من على السطح امرأة تستحم وكانت المرأة جميلة المنظر جدًا” [٢]… حياة التراخي خلقت فراغًا في القلب والحواس ليطلب الإنسان شبعًا لحواسه بجمال خارجي.
كثيرًا ما تحدث مار إسحق السرياني عن خطورة التراخي والكسل في حياة المؤمن كما في حياة القائد الروحي، فمن كلماته:
[تراخي أعضاء الجسد يتبعه هيام الأفكار وتشتيتها[56]].
[عندما يتطلع الجسد إلى الترف والأمور العالمية ويرى علل الارتخاء في كل ساعة تلتهب فيه الشهوة المحرقة[57]].
[الإهمال والرخاوة يضرَّان ليس فقط من يخضع لهما وإنما أيضًا من هم تحت قيادته[58]].
[الإنسان الذي يصير في عهدته كنز لا ينام. إنْ راعَيْنا ناموس السهر ومارسنا التمييز بمعرفة، هذه التي نجني منها ثمرة الحياة فإنه لن تقترب إلى ذهننا هجمات الأهواء بأية وسيلة[59]].
“فأرسل داود وسأل عن المرأة، فقال واحد: أليست هذه بثشبع بنت أليعام امرأة أوريا الحثي. فأرسل داود رسلاً وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهرة من طمثها، ثم رجعت إلى بيتها” [٣-٤].
كان داود قويًا، لم يسقط قط منذ صباه في الزنا، ولا قتل أحدًا بظلم، ولا مال يمينًا أو يسارًا عن الشريعة اللهم إلا في لحظات ضعف بسيطة، كيف يسقط الآن وهو ملك قوي ونبي مختار وقاضٍ عادل للشعب؟!
لعل داود لم يكن يتوقع في نفسه أنه ينحدر يومًا إلى هذا السقوط الشنيع، لكن الخطية خاطئة جدًا ومخادعة للغاية، تعرف كيف تلقي شباكها وفخاخها لتصطاد الجبابرة تدريجيًا. بدأ داود بالتراخي في أورشليم وقت الجهاد، والنوم على سرير الكسل في بيته، ثم بالمشي على السطح عوض الصلاة من أجل رجاله والانسحاق أمام الله من أجل شعبه؛ مال داود ونظر من على السطح ليرى امرأة تستحم في بيتها؛ سأل عنها إذ ربما حسبها فتاة عذراء ليتزوجها، وعرف أنها امرأة أوريا الحثي الذي يحارب من أجل مملكته، بعث إليها رسلاً وأخيرًا سقط معها!!
لقد شلت الشهوة كل تفكير جاد، فقد نسى داود الآتي:
أ. أنه مسيح الرب ونبيّه الذي نال نعمًا إلهية عظيمة؛ فلا يليق به أن يحطم قدسية حياته الداخلية في الرب.
ب. أنه في حالة حرب، وكان يليق به أن ينزل المعركة: كعادته ليبذل ويعطي بفرح من أجل مجد الله و بنيان الجماعة، لا أن يطلب ما لإشباع شهوات جسده.
ج. يغتصب امرأة متزوجة كاسرًا الشريعة التي تطلب قتل الاثنين (لا 2٠: 1٠).
د. يخون بطلاً أمينًا يدافع عن مملكته، وهو رجل غريب الجنس متهود.
هذا السقوط سرَّه التهاون بالثعالب الصغيرة المفسدة للكروم (نش ٢: ١٥)، فإن الخطايا الكبيرة – إن صح التعبير – بدايتها إهمال صغير، وبالتدريج ينحدر الإنسان إلى سلسلة من الخطايا.
لقد كان الوقت مساءً [١١] حين قام داود عن سريره يتمشى على سطح بيته ويتطلع نحو امرأة تستحم. كان الوقت ملائمًا للسقوط، لأن “شمس البر” قد غرب عنه، وحلت الظلمة حوله فعاش كما في ليل.
مادام مسيحنا – شمس البر – مشرقًا فينا، فلن يحل بنا مساء، ولا تكتنفنا ظلمة، بل بالحري نصير أبناء نور محفوظين بنعمته من السقوط. يقول الرسول بولس: “وأما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة… جميعكم أبناء نور، وأبناء نهار، لسنا من ليل ولا ظلمة… وأما نحن الذين من نهار فلنصح لابسين درع الإيمان والمحبة وخوذة هي رجاء الخلاص” (٢ تس ٥: ٤-٨).
ارتباطنا بمسيحنا ينير أعماقنا فلا يزحف فكر خبيث إلينا ولا يتسلل لص إلى قلبنا.
لقد تسللت شهوة شريرة إلى أحاسيس داود في المساء، جاءت كضيف – على حد تعبير ناثان النبي (١2: ٤) يُريد أن يأكل ويشبع، فأرسل داود إلى بيت أوريا الحثي يأخذ زوجته الوحيدة بثشبع، يقدمها طعامًا له. طلبها داود لإشباع شهواته مع أن له زوجاته… افترستها شهوته كما افترسته هو أيضًا!
يقول الكتاب انها “دخلت إليه” [١١]، ربما شعرت المرأة بما في قلبه فأغرته وأثارت مشاعره، إذ حسبت ذلك فخرًا لها أن يطلبها ملك عظيم… ومع هذا فإن داود لا يتبرر ولا نُسب له عذر، لأنه هو الذي أرسل يطلبها. لقد استطاع وهو صبي أن يقتل جليات الجبار ويرعب الوثنيين ويرد للشعب كرامته، وها هو أمام شهوته ينكسر في مذلة بين يدي امرأة!
يعلق القديس أغسطينوس عن سقوط داود أمام شهوته الجسدية قائلاً:
[هذا الضعف الذي للجسد يجب أن يكون موضع اعتبار. لتذكر كلمات الرسول: “لا تملكن الخطية في جسدكم المائت” (رو ٦: ١٢). لم يقل: “لا تكن فيكم الخطية”، بل: “لا تملكن الخطية”. توجد خطية فيك متى وجدت لذة، وتملك الخطية فيك متى وافقتها. يليق بك أن تلجم اللذة الجسدية النابعة عن مصدر غريب غير شرعي، ولا تتركها متسيبة. لتروضها متحكمًا فيها، لا أن تتركها تتحكم فيك… احذر حتى إن كان ليس فيك شيء يتحرك… هل أنت أقوى من داود؟…
هذه الخطية لم يرتكبها داود حين كان شاول يضطهده… وحين كان مرتبكًا بسبب أعدائه، هاربًا إلى أماكن متنوعة لكي لا يسقط بين أيديهم. لم يشته ما للغير، ولا قتل زوج امرأة بعد أن زنى معها. كان في ضعف من متاعبه، لكنه كان ملتصقًا بالله حينما كان يبدو أكثر بؤسًا. نافعة هي التجارب، إنها مشرط الجراح[60]].
بحسب الشريعة كانت بثشبع مستوجبة القتل (لا 2٠: 1٠)، لذلك أرسلت إلى الملك ليدبر أمر خلاصها من الموت. أرسل داود إلى رجلها يطلبه من الحرب لينزل إلى بيته، فيُحسب الحمل منه وتختفي آثار الجريمة، لكن أوريا لم يرض أن ينام في بيته مادام إخوته يجاهدون في الميدان.
لقد وبَّخ الله داود على لسان أوريا دون أن يدري، إذ قال له: “إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي؟! وحياتك وحياة نفسك لا أفعل هذا الأمر” [١١]. لقد حسب أوريا أن إيمانه بالله وقدسية حياته بل وشهامته كرجل حرب بل وإنسانيته، هذه جميعها تمنعه عن أن يدخل بيته في ذلك الوقت ليأكل ويشرب بينما المعركة دائرة. حسب ذلك إهانة لله (المرموز له بالتابوت) وللشعب (إسرائيل) ولسبط الملك (يهوذا) كما لقائده (يوآب) وإخوته في الميدان (عبيد داود) إن استراح في بيته ومارس حتي ما هو شرعي بالنسبة له… إنه وقت للبذل والجهاد لا للتمتع بالحقوق الشخصية! كان هذا توبيخًا لداود فبسقوطه أهان الله وشعبه وسبطه ورجال الحرب كما أهان الصداقة وأساء إلى نفسه!
استخدم داود كل وسيلة لإخفاء جريمته، دعا الرجل حاسبًا أنه يجد في هذه الدعوة فرصة لممارسة العلاقات الجسدية مع زوجته الجميلة، وأصدر الأمر إليه أن يدخل بيته فرفض حبًا في الله وداود وشعبه وتكريمًا لإخوته في الحرب، وأخيرًا أسكره… وحتى بعد سكره لم ينزل إلى بيته [١٣].
ضاق الأمر جدًا بداود الجبار فأحدرته الخطية ليسقط في سلسلة مُرَّة من الخطايا البشعة، إذ سلم بطله الأمين خطابًا يحمل رسالة خفية بقتله على يدي الأعداء دون ذنب.
استطاع داود قبلاً أن يدافع عن الحق ويحارب الوثنيين ليعيد للشعب كرامته وقدرته ولو على حساب صالحه الخاص، أما الآن فاستهان بالعدل واحتقر روح الأمانة والإخلاص مسلمًا القائد الأمين ومعه نفوسًا بريئة للموت بأيدي الأعداء لا لسبب سوى ستر فضيحته وإخفاء الحقيقة عن الأعين.
هل أدرك يوآب سر هذه الرسالة المختومة؟
ربما لم يدركها في البداية وكان عليه أن يطيع أمر سيده، لكنه قطعًا فهم ما وراءها عندما تزوج داود بامرأة الرجل بعد انقضاء فترة الحزن مباشرة. لعل يوآب أدرك – منذ البداية – أن وراء الرسالة سرًا خطيرًا، وأن أوريا سيكون ضحية هذا القرار الخفي، لأنه يموت دون محاكمة بلا دفاع من جانبه.
كانت بالنسبة ليوآب فرصة ثمينة ليحقق طلب الملك فلا يعود الملك يذله على قتله لمنافسه أبنير (٢ صم ٣). شعر داود بنوع من المذله أمام يوآب، لهذا نجد يوآب يتجاسر ويتحدث مع داود بعد قتله أبشالوم كما بسلطان (٢ صم ١٩: ٥-٨)، وقد حاول عزله من منصبه فلم يقدر فأوصى ابنه سليمان بقتله (١ مل ٢: ٥-٦).
جاء قتل أوريا ظلمًا وأيضًا بعض رجال الحرب وذلك بسبب ارتكاب خطية زنا، هكذا تلتحم القساوة والعنف والظلم مع النجاسة. فالإنسان الساقط تحت ثقل النجاسة تجده عنيفًا وقاسيًا في أعماقه حتى وإن كان له مظهر الرقة والوداعة، والإنسان العنيف في أعماقه ينهار أمام شهوة الجسد في مذلة. العنف والزنا أخوان متلازمان، يسند أحدهما الآخر. كثيرون سقطوا في شهوات الجسد لا لسبب إلا عنفهم؛ فحينما يكون الإنسان عنيفًا مع والديه أو إخوته أو أقربائه أو زملائه يشرب من ثمرة عمله فيصير جسده عنيفًا معه يقاوم كل طهارة أو عفة، وكما يقول عوبديا النبي “كما فعلتَ يُفعل بك، عملك يرتد على رأسك” (عو ١٤).
نعود إلى داود لنجده قد اشتعل غضبًا بسبب محاولة يوآب اقتحام المدينة والاقتراب منها جدًا، متجاهلاً ما حدث مع أبيمالك بن يربوشت حين قتلته امرأة بإلقاء رحيَ عليه من السور (قض ٩: ٥-٤٥). أخبروه بأن أوريا الحثي مات فسكن غضبه!
سمعت بثشبع عن موت رجلها فندبته سبعه أيام حسب العادة القديمة (تك 5٠: 1٠، 1 صم 31: 13). ثم ضمها داود النبي زوجة له، حاسبًا إن ستارًا قد اسدل على جريمته إلى الأبد، فاستراح ضميره إلى عام كامل.
“وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عين الرب” [٢٧]. الله ليس عنده محاباه، فإن كان داود قد جاهد كثيرًا من أجل الله ولبنيان شعبه لكنه لا يتستر على جريمته هذه، ولا يقبل هذا الفعل الشرير… إنه ينتظر توبته، فإن استكان ضميره يرسل له من يوقظه ويوبخه.
نختم حديثنا بما قاله القديس أغسطينوس في عظته عن المزمور الخمسين (٥١): [كانت المرأة بعيده لكن الشهوة قريبة (رو ٦: ١٢)]؛ وكأن ما نرتكبه من خطايا ليس هو ثمره الظروف إنما لأننا نُملِّك الخطية فينا، تقودنا وتسحبنا إلى حيث تشاء!