تفسير صموئيل الثاني ١٦ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح السادس عشر
داود الهارب
كانت نفس داود مُرّة للغاية في هذه المرة فإنه ليس هاربًا من أمام وجه شاول الملك الذي يخشى داود لئلا يغتصب ملكه وإنما إمام إبنه العاق الذي اغتصب كرسيه وأثار الشعب ضده. ومما يزيد نفسيته مرارة أن البعض وجد فرصتهم لإهانته وسبه. هذا بجانب شعوره الخفي أن ما حل به هو ثمرة ما ارتكبه في حق الله وضد أوريا الحثي.
على أية الأحوال تكشف المزامير التي أنشدها داود أثناء هروبه أنه لم يفقد رجاءه في الرب، مدركًا أن ما حل به تأديب أبوي من قبل الرب مخلصه.
١. لقاؤه مع صيبا [١-5].
٢. شمعي يسب داود [٦-١٤].
٣. المناداة بأبشالوم ملكًا [١٥-١٩].
٤. أبشالوم وسراري أبيه [٢٠-٢٣].
١. لقاؤه مع صيبا:
كان صيبا يطمع في اغتصاب أملاك مفيبوشث بن يوناثان غير مكتف بأن يقوم هو وبنوه وعبيده بإدارتها، وقد وجد الفرصة سانحة لإثارة داود ضد مفيبوشث حتى يصدر داود أمره بنقل الملكية إليه عوض مفيبوشث.
لقد أدرك صيبا أن داود رجل حكيم وقوي، وأن الضيقة التي يجتازها عابرة، وأن الانتصار حليفه في النهاية، لذا أسرع إلى اللقاء معه وسط الضيقة حينما كان داود على قمة جبل الزيتون حيث قدم له حمارين مشدودين عليهما مائتا رغيف خبز ومئة عنقود زبيب ومئة قرص تين وزق خمر. قال له أن الحمارين لبيت الملك كما أن الأكل والشرب لمن يصاب بإعياء في البرية…
سأل داود عن مفيبوشث و في مكر أجاب صيبا: “هوذا هو مقيم في أورشليم، لأنه قال: اليوم يرد لي بيت إسرائيل مملكة أبي” [٣]. هكذا شوه صيبا صورة سيده أمام داود الذي قدم كل إحسان وحب وتكريم لمفيبوشث. كلمات صيبا غير مقبولة، لأنه لم يكن ممكنًا لمفيبوشث الأعرج أن يستلم الحكم من أبشالوم بكل جماله وقوته وسلطانه الذي عرف كيف يغتصب الحكم من داود الملك. لكن داود كان مهتمًا بأمور كثيرة وعاجلة، مدركًا أن مفيبوشث لن يمثل خطرًا عليه أو على ابنه، وإنما في عجلة وبغير تدقيق اغتاظ وحسب مفيبوشث خائنًا وناكرًا للجميل، وأصدر قراره لصيبا: “هوذا لك كل ما لمفيبوشث” [٤]. سجد له صيبا وقال: “ليتني أجد نعمة في عينيك يا سيدي الملك” [٤].
لقد سمح الله لداود أن يجتاز هذه التجربة القاسية، وهو شعوره بخيانة مفيبوشث ضده، الأمر الذي لم يكن يتوقعه قط، وكان ذلك لخيره وبنيانه من جوانب كثيرة، منها:
أ. كان لابد لداود أن يشرب من ذات الكأس التي ملأها بيده، فقد خان رجله الأمين أوريا الحثي ونام ضميره زمانًا، لذا أراد الله أن يذوق داود مرارة الخيانة، وها هو يذوقها بخيانة ابنه له، وأيضًا أخيتوفل، وهوذا مفيبوشث وغيرهم كثيرون. الذين أحسن إليهم يسيئون إليه أكثر مما أساء إليه الأعداء!
ب. استخدم الله هذه التجربة لخيره، فقد كان داود ومن معه في حاجة إلى هذه الهدية، التي قدمها صيبا له. الله يعولنا بكل الطرق، عال إيليا بغراب، وعال داود ورجاله خلال خبث صيبا وخداعه!
ج. اكتشف داود فيما بعد خداع صيبا له، وتعلم ألا يصدر أحكامه بعجلة. لقد أدان مفيبوشث وغضب عليه وحرمه من ممتلكات جده ظلمًا.
خرج من بحوريم شمعي بن جبرا من بيت شاول، وكان بينه بين داود ورجاله وادٍ، فكان يرشقهم بالحجارة، غالبًا لم تكن تصلهم إنما هي علامة على غيظه واحتقاره لهم، أما كلماته فكانت مسموعة.
كان يسب داود قائلاً:
“اخرج اخرج يا رجل الدماء رجل بليعال.
قد ردّ الرب عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضًا عنه،
وقد دفع الرب المملكة ليد أبشالوم ابنك،
وها أنت واقع بشرك لأنك رجل دماء” [٧-٨].
كان شمعي يقذف داود بالحجارة كأنه كلب، أما كلماته فكانت كالسهام القاتلة، تحمل كراهية وضغينة مع كذب. فإن داود لم يقاتل شاول ليغتصب منه الملك. على النقيض من هذا قابل مطاردة شاول بالسماحة. لم يمد يده على شاول قط ولا على بنيه أو أحفاده وإنما كان يسعى ليصنع معهم معروفًا.
في غيرة أراد أبيشاي أن يعبر ليقتل هذا الرجل حاسبًا إياه كلبًا ميتًا، أما داود فمنعه حاسبًا هذه الإهانة تأديبًا من قبل الرب بسبب خطيته، إذ قال:
“مالي ولكم يا بني صروية.
دعوه يسب، لأن الرب قال له: سب داود.
ومن يقول: لماذا تفعل هكذا؟.
هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي، فكم بالحري الآن بنياميني؟! دعوه يسب لأن الرب قال له…
لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم” [١0-١٢].
يُكرر الملك داود العبارة “لأن الرب قال له” أن يسبه، ليس لأن أمرًا صدر من قبل الرب لشمعي كي يسب داود، وإنما الله سمح لإرادة شمعي الشريرة أن تتمم ذلك فيتحقق العدل الإلهي كما يقول القديس أغسطينوس[92]. مرة أخرى يقول القديس أغسطينوس[93]: [إن الله يستخدم الأشرار حتى الشيطان نفسه لأجل امتحان الصالحين وتزكية إيمانهم وتقواهم].
لم يكن ممكنًا لهذه الشتائم أن تؤذي داود بل هي بالنسبة له دواء يتقبله برضى وشكر كي يغتصب المراحم الإلهية. كلمات التملق التي نطق بها صيبا أضرت داود فأصدر حكمًا خاطئًا ومتعجلاً في غضب ضد مفيبوشث أما كلمات شمعي المملوءة إهانة فأعطته فرصة ليصدر حكمًا صادقًا على نفسه. حقًا إن كلمات الإطراء أكثر خطرًا على حياة المؤمن – خاصة القائد – من كلمات الذم. وكما يقول أحد آباء البرية: من لا يحتمل كلمة الذم كيف يقدر أن يحتمل كلمة المديح؟!
تقبل داود كلمات السب بفرح كدواء لأعماقه الداخلية، لكنه غضب وتحدث بحزم مع أبيشاي لأنه أراد الانتقام له ممن يسبه.
v تحرك داود بغضب تقوي ضد اقتراح (أبيشاي) المهلك، وحفظ المقياس اللائق للاتضاع والصبر بحزم.
القديس يوحنا كاسيان[94]
v أنصت إلى داود الذي صار مشهورًا على وجه الخصوص بسبب انسحاق نفسه. كيف بعدما صنع كثيرًا من الأعمال الصالحة، وعندما كان مطرودًا من بلده وبيته بل ومن الحياة عينها، في وقت كارثته رأى جنديًا سخيفًا منبوذًا يمتهن كرامته ويسبه، لم يرد له السب بل ومنع أحد قواده من قتله قائلاً: “دعوه يسب لأن الرب قال له سب داود” .
القديس يوحنا الذهبي الفم[95]
ما أعجب قلب داود المتسع حبًا حتى تجاه مضايقيه، فإننا نجده دائمًا لا يطلب النقمه لنفسه، بل يُقابل الإساءة الشخصية باتساع قلب.
ربما ثارت مشاعره الداخلية في البداية لكن الله ملأ قلبه بتعزيات فائقة أساسها:
أ. شعر أن هذا السب هو بسماح من الله لتأديبه فقد كان رجل دماء لا بقتل شاول أو أحد رجاله كما قال شمعي وإنما بقتله أوريا الحثي… لذا لاق به أن يتقبل السب بفرح كما من قبل الله، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إنه متى شتمك إنسان بقوله لك: “يا زانٍ”، لماذا تغضب؟ ألم يمر عليك قط فكر زنا أو شهوة رديئة في شبابك؟ احسب ذلك تأديبا عن أفكار شبابك.
ب. إن كان ابنه أبشالوم قد ثار ضده واغتصب منه العرش، وهو لا يضمر الانتقام منه، فلماذا ينتقم من بنياميني سبه دون أن يغتصب منه شيئًا؟!
ج. حسب داود النبي هذا السب فرصة للتذلل كطريق لاغتصاب مراحم الله.
٣. المناداة بأبشالوم ملكًا:
جاء أبشالوم ومعه الرجال من كل الأسباط – خاصة يهوذا – وأخيتوفل، جاء ليملك دون أن يسفك دمًا، فقد هرب داود ورجاله حتى لا يهلك أحد بسببه.
فوجئ أبشالوم بتقدم حوشاي الأركي صديق داود إليه وهو يقول: “ليحيا الملك ليحيا الملك”. إذ لاحظ حوشاي الأركي تعجب أبشالوم قال بحكمة: “الذي اختاره الرب وهذا الشعب وكل رجال إسرائيل فله أكون ومعه أقيم. وثانيًا: من أخدم؟ أليس بين يدي ابنه؟! كما خدمت بين يدي أبيك كذلك أكون بين يديك” [١٨-١٩].
هكذا قدم حوشاي مبررات لعدم هروبه، حتى يثق به أبشالوم فيكون سندًا لداود في داخل القصر.
كان أخيتوفل مشيرًا لأبشالوم، يسمع له الملك الجديد كما لله، حاسبًا مشورته كمن يسأل كلام الله [٢٣]، مع أنها كانت مشورات شريرة من قبل إبليس، تحمل حكمة أرضية شهوانية (١ كو ٥: 1).
أول مشورة قدمها له أخيتوفل هي أن يدخل على سراري أبيه اللواتي تركهن داود لحفظ البيت. صنع أبشالوم ذلك على السطح لكي يتأكد الكل أن الكراهية ضد داود قد بلغت أشدها وأنه لا مصالحة بينه وبين أبيه.
لعل أخيتوفل أشار بذلك على أبشالوم خشية أن يحن الابن يومًا ما لأبيه فيصالحه، وبهذا يصير موقف أخيتوفل حرجًا أمام صديقه القديم داود. إنه خائن لا يقدر أن يواجه داود!
تم ذلك على السطح الذي سبق فتمشى عليه داود ليختلس نظرة شريرة لامرأة غريبة، هوذا ابنه يضطجع مع سراريه علانية في ذات الموقع!