تفسير سفر إرميا ١٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث عشر
مثلا المنطقة والزق الممتلئ خمرًا

طلب الله من إرميا النبي أن يمارس عملاً ما كوسيلة ايضاح يقدم بها درسًا للشعب كما لإرميا نفسه، كما قدم له مثلاً كان شائعًا وسط اليهود، من خلالهما يرد الله على تساؤل إرميا السابق: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟ (12: 1)، وفي نفس الوقت يوضح أن ما سيحل بالشعب من تأديب علَّتَه شرورهم، خاصة الكبرياء، مؤكدًا المبدأ الكتأبي: “قبل الكسر الكبرياء”.

استخدام العمل الرمزي لم يكن بالأمر الغريب بالنسبة لإرميا، وقد اعتاد الشعب في العهد القديم أن يسمع صوت الله خلال أعمالٍ رمزية.

وجد إرميا متاعب وهو يُجاري المشاة، الآن ها هو يُباري الخيل (5: 12)، يقف أمام الملك والملكة ويعلن مرثاة الرب عليهما، متحدثًا عن فقدان مملكة يهوذا مجدها.

منطقة من كتان [1-11].

“هكذا قال الرب لي:

اذهب واشترِ لنفسك منطقة من كتان وضعها على حقويك،

ولا تدخلها في الماء…

فصار كلام الرب إليّ ثانيةً قائلاً:

خذ المنطقة التي اشتريتها التي هي على حقويك،

وقم انطلق إلى الفرات واطمرها هناك في شق صخر…

وكان بعد أيام كثيرة أن الرب قال لي:

قم انطلق إلى الفرات Perath وخذ من هناك المنطقة التي أمرتك أن تطمرها هناك.

فانطلقت وحفرت وأخذت المنطقة من الموضع الذي طمرتها فيه،

وإذا بالمنطقة قد فسدت لا تصلح لشيء.

فصار كلام الرب إليّ قائلاً…

هكذا أفسد كبرياء يهوذا وكبرياء أورشليم العظيمة” [1-9].

كيف أمكن للنبي أن يسافر من أورشليم أو عناثوث إلى نهر الفرات بالعراق ذهابًا وإيابًا مرتين حيث تبلغ المسافة بينهما حوالي 350 ميلاً في الشمال الشرقي من عناثوث،  أي تقطع الرحلتين معًا حوالي 1400 ميلاً؟ خاصة وأنه لا توجد هناك صخور يخفي فيها المنطقة، إنما يلزمه أن ينطلق إلى شمال كركميش ليجد صخورًا[248]. يرى البعض أن الكلمة هنا Perath ربما يُقصد بها ينبوعًا في وادى فرح يُدعى “عين فرح” يبعد حوالي أربع كيلو مترات شمال شرقي عناثوث (يش 8: 23)[249]، فإن نطق كلمة “فرح” ParahوالفراتPerat متشابه[250]. وحسب آخرون أن الحديث هنا رمزي لم يُمارس عمليًا، أو أنه مجرد رؤيا.

يلاحظ في هذا المثل الآتي:

أولاً: يشّبه الله شعبه بمنطقةٍ جديدة مُشتراه يلصقها النبي على حقويه دون أن يمسها ماء. وكما يقول الله نفسه: “لأنه كما تلتصق المنطقة بحقويّ الإنسان، هكذا ألصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا ليشعبًا واسمًا وفخرًا ومجدًا لكنهم لم يسمعوا” [11]. هكذا يقتني الله لنفسه الكنيسة – إسرائيل الجديد – لتكون منطقة ملتصقة به أو ثوبه الذي يرتديه. هذا الثوب الذي صار أبيضًا كالنور في لحظات تجلى رب المجد (مت 17: 2)، لأن بداخله شمس البر!

مسيحنا يود أن يسكن فينا كثوبٍ له، فيُنيرنا ويقدسنا، نشهد لبهائه ومجده وقداسته!

v     ثيابه هي الكنيسة، لأنه إن لم يمسكها من يرتديها تسقط. في هذا الثوب كان بولس كما لو كان هُدبًا، إذ قال عن نفسه: “لأني أصغر الرسل” (1 كو 15: 9). في موضع آخر يقول: “لأني آخر الرسل”. الهدب في الثوب هو آخر وأقل شيء فيه، لذلك فإن المرأة التي كانت تعاني من نزف الدم إذ لمست هدب ثوب المسيح برئت، هكذا الكنيسة التي جاءت من الأمم صارت صحيحة خلال تعاليم بولس الرسول.

أي عجب في الإشارة إلى الكنيسة بالثوب الأبيض إن سمعت إشعياء النبي يقول: “إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج” (إش 1: 18)؟![251]

القديس أغسطينوس

v     إن رأيت إنسانًا ليس فقط له فهم عميق للاهوت يسوع، إنما يفسر كل تعبيرٍ إنجيلي، فلا تتردد في القول بأن ثياب يسوع قد صارت بيضاء كالثلج[252].

العلامة أوريجينوس

v     إن كنا نحن ثوب المسيح، فإننا نلبس عريه بإيماننا. انظره معلقًا عريانًا على الصليب بسبب حسد اليهود وغباوة الأمم (1 كو 1: 23)، ومع ذلك فإنه يلتحف بإيماننا وبمعرفتنا ومديحنا…

نحن ثوب المسيح، حينما نلتحف باعترافنا بالإيمان، فإننا بدورنا نلتحف بالمسيح[253].

القديس جيروم

ويرى القديس جيروم في هذا الحدث نبوة ليس فقط عن السبي البابلي وإنما عن رفض اليهود للإيمان بالسيد المسيح، الذي يفقدهم بكونهم منطقته الكتانية التي فسدت بجحودها، فيقتني لنفسه منطقةً أخرى من الأمم يرتديها ولا يبقى عريانًا.

v     شعب الله ملتصقون به كما تلتصق ملابس الإنسان بجسده. لكن لأن هذه المنطقة السامية التي التحف بها الرب قد نُزعت وأُلقيت على الجانب الآخر من نهر الفرات ووُضعت في نقرة صخرة، وقد فسدت، فإن هذا الشعب قد سباه الأشوريون، فماذا يفعل الرب؟ إنه لا يبقى عريانًا، لا يمكن أن يبقى بلا منطقة، لا يبقى بلا غطاء. إذ ضاع الشعب الأول صنع لنفسه ثوبًا من الأمم[254].

القديس جيروم

سرّ بياض الثوب كالنور ونقاوته كالثلج هو السيد المسيح الذي يرتديه، أما إذا خُلع الثوب عنه، وُطمر في التراب، فلا يحمل إلا الطبيعة الترابية الفاسدة، وتظهر فينا الظلمة والفساد.

ثانيًا: يقول العلامة أوريجينوس:

[حينما يضع النبي المنطقة على حقويه يمثل الله الذي يحمل شعبه: “ألصقت بنفسي هذا الشعب يقول الرب”. صار الشعب مثل المنطقة بالنسبة لله. لماذا صار مثل منطقة لله على حقويه؟ لنقرأ في سفر حزقيال ونعرف كيف أن الله يتنازل بطريقة أو بأخرى إلى المستوى المادي ليناسب فكر الإنسان، وكيف أنه من حقويه إلى تحت منظر نار، ومن حقويه إلى فوق منظر عقيق؛ ونحاول بعقلنا أن نفهم ما هو السبب في أن الجزء الذي من حقوي الرب إلى تحت منظر نار (حز 1: 27)[255]].

ثالثًا: طلب الله من إرميا أن يشتري لنفسه منطقة جديدة من الكتان، وأن ينطلق بها إلى الفرات ويطمرها.

ماذا كانت مشاعر إرميا حين وجدها قد فسدت؟! بلا شك كانت نفسه مرّة، اشتراها بفضته، وألصقها بحقويه إلى لحظات، وتكلف مشقة السفر إلى الفرات أكثر من مرة. وأخيرًا وجدها فاسدة لا تصلح لشيء! إنها ثمينة في عينيه! فكم بالأكثر تكون النفس ثمينة في عينى الله الذي اقتناها لنفسه بعد أن خلقها وأوجد كل العالم لأجلها، ولأجل خلاصها أرسل الناموس والأنبياء وأخيرًا تجسد الكلمة الإلهي وقدم دمه الثمين ثمنًا لتجديدها وخلاصها؟! أدرك إرميا أنه ما كان ينبغي عليه أن يتساءل حتى في داخل نفسه: لماذا تُنجح طريق الأشرار؟! إنها نفوس ثمينة هلكت، يترقب الله خلاصها بكل وسيلة.

رابعًا: إن كان الله قد جعل شعبه كمنطقة تلتصق به، فإن المنطقة تضم بقية الملابس معًا حول حقويّ الشخص. وكأن الله يريد من أولاده الذين يلتصقون به أن يضموا الآخرين معًا في الرب. غاية الله من اختيار شعبه أن يجتذبوا كل الأمم ليصيروا ثيابًا ملتصقة بالرب.

خامسًا: طمر المنطقة الجديدة في التراب يكشف عن افساد إمكانياتنا ومواهبنا بطمرها،  أي عدم استخدامها لحساب ملكوت الله.

إخفاء المنطقة في صخرة يشير إلى حالة الرعب التي حلت بيهوذا، فعوض الاشتياق نحو الالتقاء به كمخلص وعريس للنفس يهربون منه في خوف، طالبين الاختفاء في شقوق الصخور. عندما سقط آدم وحواء في العصيان هربًا من وجه الرب ليختفيا (تك 3: 8). كما قيل في سفر إشعياء: “ادخل إلى الصخرة واختبىء في التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته. ويدخلون في مغاير الصخور وفي حفائر التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض… ليدخل في نقر الصخور وفي شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب…” (إش 2: 10، 19، 21).

والعجيب أن السيد المسيح يقدم نفسه “الصخرة” التي فيها نختفي ونحتمي، حيث فيه نتبرر ولا نُدان! نسمعه يقول: “هوذا عندي مكان فتقف على الصخرة” (خر 33: 20-21). هناك نتمتع مع موسى النبي برؤية بهاء المجد الإلهي.

سادسًا: ربما قصد نهر الفرات على وجه الخصوص ليشير إلى خطر الكلدانيين روحيًا وماديًا على شعب الله، إنه يوضح كيف يُفسد السبي البابلي هذا الشعب ويحطمه.

سابعًا: أمره الله ألا يضع المنطقة في الماء، ليوضح رفض الشعب التطهير، أو عدم قبولهم المعمودية التي فيها يتمتعون بالموت والدفن مع المسيح ونوال الحياة الجديدة المُقامة. إن كانت المنطقة من الكتان تشير إلى النقاوة، لكن هذه النقاوة تفسد بدون الشركة مع المسيح المصلوب القائم من الأموات والتمتع بعمل الروح القدس الناري غافر الخطايا. وكما يقول الرسول: “ولكن حين ظهر لطف مخلصنا الله وإحسانه، لا بأعمال في برّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه بغنى علينا بيسوع المسيح مخلصنا” (تي 3: 5-6).

v     كان ضروريًا أن يصعدوا بواسطة المياه لكي يصيروا أحياء، فإنهم لا يستطيعون أن يدخلوا ملكوت الله ما لم يخلعوا حالة الموت التي كانت لهم قبلاً… قبل أن يحمل الإنسان اسم “ابن الله” يكون ميتًا، لكنه إذ يتقبل الختم يُلقى عنه حالة الموت ويتمتع بالحياة.

الختم إذن هو الماء الذي ينزلون فيه أمواتًا ويصعدون أحياء[256]!

الأب هرماس

v     مغبوط هو سرّ الماء الذي لنا، فبغسل خطايا العمى الذي أصابنا مبكرًا نتحرر وندخل إلى الحياة الأبدية[257].

العلامة ترتليان

v     يُعطى الروح القدس للذين يؤمنون ويولدون ثانية بغسل التجديد[258].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     بواسطة غسل الميلاد الجديد والتجديد بالروح القدس نصير أبناء الله[259].

القديس باسيليوس الكبير

المعنى الحرفي لعدم وضع المنطقة في الماء هو تأكيد أن المنطقة نظيفة جديدة لا تحتاج إلى غسلٍ بماء.

ثامنًا: بالنسبة للمنطقة (بالعبرية ezor) يرى البعض أنها منطقة كتانية حول الوسط كان يرتديها الكهنة والأشراف الأغنياء، وقد رفض بعض الدارسين هذا المعنى وقالوا إنها تعني waistcloth عبارة عن لُباس skirtداخلي حول الحقوين يبلغ إلى منتصف الفخذين[260].

يعلل البعض استخدام المنطقة كرمز ليهوذا بأن إرميا لم يتزوج (16: 2)، فلو أنه تزوج لاستخدم رمز العروس المتحدة بعريسها كما فعل هوشع، لذلك أراد تأكيد التصاق الشعب بالله كالتصاق الإزار بالجسد.

أما خامتها فمن الكتان، كثياب الكهنة (خر 28: 39). كانت ثياب هرون الكهنوتية للمجد (خر 28: 2). كأن الله أقام شعبه أمة كهنوتية أو ملكوتًا كهنوتيًا ممجدًا، لكنها بعصيانها فقدت السمة الكهنوتية ودخلت إلى العار[261]، خاصة بجحدها رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا ربنا يسوع المسيح.

ستائر الهيكل أيضًا ولباس الملوك من الكتان[262]. فإن كانت مملكة يهوذا قد اتكلت على وجود الهيكل في أورشليم، وعلى أن سبط يهوذا ملوكي، فهوذا يرفض الله هيكله الذي تدنس، وينزع عن يهوذا السمة الملوكية حتى يأتي ابن داود ملك الملوك ويقيم هيكل العهد الجديد ويجعلنا ملوكًا وكهنة لله أبيه (رؤ 1: 6).

تاسعًا: طلب منه طمرها بجوار الفرات (أو عين فرح)، أي بجوار المياه المجانية التي تشير إلى عطية الروح القدس الواهبة التجديد والتقديس. وكأنه لا عذر لنا على فسادنا، لأن فيض النعمة الغنية مُقدم لنا مجانًا، وليس ببعيدٍ عنا!

ربما قصد بالمياه أيضًا ما يفعله البابليون بهم، إذ قيل: “هوذا السيد يُصعد عليهم مياه النهر القوية والكثيرة، ملك أشور وكل مجده، فيصعد فوق جميع مجاريه، ويجري فوق جميع شطوطه، ويندفق إلى يهوذا. يفيض ويعبر. يبلغ العنق، ويكون بشط جناحيه ملء عرض بلادك يا عمانوئيل” (إش 8: 7-8).

فإن كان أشور (أو بابل) قد انطلق بكل قوته ليغرق يهوذا، إنما إلى حدود معينة، إذ لا يسمح له بهلاكها لأنها أرض عمانوئيل. بمعنى آخر يسمح الله بالتأديب، فتحل التجارب كالسيل الجارف لكي تبلغ أعناقنا، لكنه يحفظ الرأس (إيماننا بالسيد المسيح رأس الكنيسة) فوق سيول التجارب حتى لا يفنى إيماننا فنهلك (لو 22: 32).

تحدث إرميا النبي عن ضرب فرعون لغزة مشبهًا جيشه بالسيل الجارف الذي يملأ المدينة، ويغرق الساكنين فيها (47: 2).

عاشرًا: لا نجد أية عبارة تفتح بابًا للرجاء في العودة من السبي، لأن غاية المثل هو الكشف عن خطورة كبرياء يهوذا وأورشليم، وأنه لا مجال لتحطيم هذا الكبرياء سوى مذلة السبي البابلي. فُتح باب الرجاء في مواضع أخرى كما في (29: 10-14)، إذ لا ينطق النبي بكل الحقائق في وقت واحد، إنما حسبما يناسب بنيان الجماعة أو النفس البشرية في ذلك الوقت[263].

 

مثل الزقاق الممتلئ خمرًا [12-14].

“هكذا قال الرب إله إسرائيل:

كل زقٍ يمتلئ خمرًا…” [12].

رأينا في تفسير إرميا (12: 6) أن الكل كانوا يسخرون بإرميا، ينادون وراءه بصوت عالٍ (أو يسخرون به قائلين: يا ممتلئ سكرًا). هذا هو منطق العالم أن كلمة الرب أو الوصية هي أفيون الشعوب، كما ادعى الشيوعيون… أو أن السلوك بالروح هو سُكر أو هروب من الواقع العملي، ولم يدركوا أن الخطية هي المسكر الذي يحطم عقل الإنسان ويفقده وعيه، فيثور ضد إخوته، بل أحيانًا ضد الوالدين أو الأبناء. الخطية خاطئة جدًا، تحطم وتهلك… لهذا حينما يقول الرب: “لا أشفق ولا أترآف ولا أرحم من إهلاكهم” [14]؛ إنما يعني أنه يسلمهم إلى شهوة قلوبهم، ويتركهم لإرادتهم الشريرة فيتحطمون، لأن الله يقدس الحرية الإنسانية ولا يُلزم أحدًا بالشركة معه. وكما يقول الرسول بولس: “لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا في أفكارهم واظلم قلبهم الغبي… لذلك أسلمهم الله أيضًا في شهوات قلوبهم إلى النجاسة لإهانة أجسادهم بين ذواتهم” (رو 1: 21-24).

يشبّه حال الشعب بالزق الذي امتلأ خمرًا، وقد سبق لنا الحديث عن الخمر في الكتاب المقدس بكونه رمزًا لفرح الروح القدس الذي يملأ حياة الكنيسة ويبهج قلب كل عضو مقدس في جسد السيد المسيح، غير أن الخمر هنا لا يشير إلى فرح الروح القدس، وإنما إلى فاعلية الخطية في حياة الجماعة كما في قلب الإنسان. فكما يُشار إلى السيد المسيح بالأسد الخارج من سبط يهوذا بكونه الملك الذي يخلص شعبه هكذا يُشبه إبليس بالأسد من أجل شراسته وطبيعته المفترسة، هكذا الخمر يشير إلى ثمر الروح القدس المفرح كما إلى ثمر الخطايا المحطم. “فتقول لهم هذه الكلمات، هكذا قال الرب إله إسرائيل: “كل زقٍ يمتلئ خمرًا، فيقولون لك أما تعرف معرفة أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا؟!” [12].

يفضل البعض الترجمة السبعينية: “وإن قالوا لك: أما تعرف…” عوض: “فيقولون لك“.

وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل على هذه العبارات، إذ يقول:

[“فيقولون لك: هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا؟

إذا كان هؤلاء الناس قد أجابوا هكذا متمسكين بالحرف، ومتظاهرين أنهم يعرفون أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا،فهم في ذلك مخطئون، لأنه ليس صحيحًا أن “كل زقٍ يمتلئ خمرًا”. توجد زقاق تكون مملوءة زيتًا أو أي سائلٍ آخر، ويوجد منها أيضًا ما تزال فارغة. إذًا هم مخطئون، ومع ذلك يجيبون: “هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا”.

سنشرح هذه الإجابة كالآتي: إن كان يوجد بين الزقاق واحد يمكن أن ُيقال عنه إنه زق جيد سُيملأ بخمر تناسب جودته، وهكذا الزق الفاسد ُيملأ بخمر تناسب فساده.

نجد في الكتاب المقدس أمثلة عن أنواع الخمر المختلفة، فعن الخمور الرديئة الفاسدة يقول: “لأن من جفنة سدوم جفنتهم، ومن كروم عمورة عنبهم، عنب سم، ولهم عناقيد مرارة، خمرهم حمة الثعابين وسم الأصلال القاتل” (تث 32: 32-33). وعن الخمور الجيدة يقول: “يا لكأسك رّيًا” (مز 23: 5). كما تدعونا الحكمة للشرب من كأسها، قائلة: “هلموا كلوا من طعامي واشربوا من الخمر التي مزجتها” (أم 9: 5).

يوجد إذًا خمر سدوم ويوجد أيضًا خمر الحكمة. ُيقال كذلك: “كان لحبيبي كرم على أكَمة خصبة” (إش 5: 1). الكرم الذي يزرعه الله يسمى كرمة سورق (2: 21) لأنها كرمة مختارة وجميلة المنظر. ويوجد أيضًا كرمة عند المصريين ضربها الله، إذ قيل: “أهلك بالبرد كرومهم، وجميزهم بالصقيع” (مز 77: 47).

تأمل إذن، أن كل الناس في استطاعتهم الآن أن يمتلئوا بالخمر، من أجل ذلك أسميهم زقًا، وأقول أن الشرير منهم يمتلئ بخمر كرمة سدوم، وخمر المصريين، وخمر أعداء إسرائيل، بينما البار منهم بخمرٍ من كرمة سورق، وبالخمر التي ُكتب عنها “يا لكأسك رّيًا”.

يمكننا أيضًا أن نطبق هذه الكلمات على الرذيلة والفضيلة حتى نفهم أن كل زقٍ يمتلئ خمرًا، لكن ينبغي أيضًا أن نعرف ما هي عواقب الرذيلة وعواقب الفضيلة: عقوبات للرذيلة، وبركات ووعود للفضيلة!

لنوضح الآن من خلال كلمات الكتاب المقدس كيف أن العقوبات وأيضًا الوعود يشار إليها بالخمر: يقول الرب لإرميا: “خذ كأس خمر هذا السخط من يدى واسقِ جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها، فيشربوا ويترنحوا ويسقطوا” (25: 15-16). أشار هنا إلى العقاب بـخمر السخط. وإذا أردت أن ترى أيضًا كأس البركة التي يشربها الأبرار، يمكننا أن نكتفي بكلام سفر الحكمة: “اشربوا الخمر الى أعددتها لكم”.تأمل أيضًا السيد المسيح حينما صعد في عيد الفصح إلى العلية الكبيرة المعدة ليحتفل بالعيد مع تلاميذه، وأعطاهم كأس الخمر قائلاً لهم: “اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا، اصنعوا هذا لذكري”، ثم قال أيضًا: “وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي” (مت 26: 37).

لاحظ إذًا أن الوعد هو “كأس العهد الجديد”، والعقاب هو “كأس خمر السخط”، حيث يشرب كل واحدٍ بما يتناسب مع أعماله سواء الصالحة أو الشريرة.

“كل زقٍ” سواء كان جيدًا أو فاسدًا سوف يمتلئ بالخمر التي تناسب طبيعته[264]].

يرى البعض أن المثل الشعبي: “كل زقٍ يمتلئ خمرًا” [12]  يعني أن مملكة يهوذا كالزق لا عمل له إلا أن يمتلئ بخمر غضب الله! هنا الخطورة، حيث يفقد الإنسان كل رسالة إيجابية خيّرة ليصير كأنه جاء إلى العالم ليحمل الغضب الإلهي، وليحطم الواحد الآخر! بمعنى آخر ليست الخطية أمرًا عارضًا في حياته، إنما هي أمر حيوي وأساسي، تشغل كل فكره وأحاسيسه وتملك على قلبه وكل أعضاء جسده، وتسيطر على تصرفاته الخفية والظاهرة.

ماذا في داخل الكأس؟

“هأنذا أملأ كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والأنبياء وكل سكان أورشليم سكرًا.

وأحطمهم الواحد على أخيه،

الآباء والأبناء معًا يقول الرب” [13-14].

صار الرؤساء والشعب كزقاقٍ مملوء خمرًا، عوض أن يُستخدم للفرح صار للسكر. اقتناهم الله ليكونوا شعبًا خاصًا به، يُنسبون إليه وهو إليهم، مصدر فخرٍ ومجدٍ [11]، لكنهم صاروا سكرى بالغضب الإلهي، لا يصلحون إلا للدمار.

لعله يقصد بالخمر الجيد الناموس، والجماعة كزقاق امتلأ بمعرفة الناموس، لكن رياءهم أفسد مفاهيمهم للناموس. فالناموس جيد، هم أساءوا استخدامه فصار لهم خمر غضب الله عوض خمر الناموس المفرح، إذ سقطوا في الكبرياء وهلكوا.

يرى البعض أن كلمة “زقاق” في العبرية “nebel” تقارب من كلمة “جاهل” أو “ضيق الأفق” nabal. وكأن المثل اليهودي “إن كل زقاق يمتلئ” يشير إلى أن الملوك والكهنة والأنبياء الكذبة مع الشعب قد صاروا أغبياء يمتلئون من خمر غضب الله[265].

لعل أخطر ما في الأمر أنه ليس فقط صارت القيادات الدينية والمدنية مثلاً سيئًا أمام الشعب إنما صار الآباء يسقون أبناءهم مسكرًا، فيقدمون لهم السُكر عوض التعقل، ويفقد الآباء كرامتهم وتعقلهم حتى في نظر أبنائهم. هذا بالنسبة للسُكر بواسطة خمور هذا العالم، فماذا إن أسكروهم بخمر غضب الله؟!

في داخل الكأس ثمر الخطية أو العقاب الإلهي عن الخطية بكونه ثمرًا طبيعيًا، هذه يشربها الخطاة بلا محاباة، إن كان الإنسان ملكًا أو كاهنًا أو نبيًا أو واحدًا من الشعب. مركز الإنسان أو عمله الزمني أو الكنسي لن يعفيه من المسئولية، بل يُخضعه بالأكثر إلى ضرباتٍ أشد. وكما قال الرب: “من يعرف كثيرًا يُضرب أكثر”.

ويعلق العلامة أوريجينوس على النص الذي بين أيدينا قائلاً:

 [بسبب الخطاة الموجودين في أورشليم في ذلك الوقت وفي اليهودية، يوضح إرميا ما هو نوع الخمر الذي يملأ الله به الزقاق  أي الخطاة…

الله الذي يعاقب لا يشفق على أحدٍ، حتى إذا أخطأ النبي يُملأ بجميع تلك التهديدات التي ذُكرت، لن ينقذه من العقاب اسم “نبي”. أيضًا ليس من يُدعى كاهنًا ويبدو أن له درجة أعظم وأعلى من الشعب يمكنه أن ينال اشفاقًا من الله حتى لا يعاقبه فيها على خطاياه.

إذا أخطأ أحد من بين الكهنة – أقصد الكهنة المسيحيين – أو من بين اللاويين الذين يقودون الشعب – أقصد بهم الشمامسة – فإنه يُعَاقَب. لكن توجد أيضًا بركات خاصة بالكهنة يمكننا أن نراها بنعمة الرب عندما نقرأ سفر العدد، حيث تُذكَر هذه البركات فيه.

“كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والأنبياء وكل سكان أورشليم” يقول الرب أنه يملأهم سكرًا، وسوف “أحطمهم الواحد على أخيه الآباء والأبناء معًا يقول الرب”. لنفهم هذا أيضًا هكذا: أن الله يُجَمِّع الأبرار ويُفَرِّق (يحطم) الخطاة. لم يفرق الله الناس حينما كانوا يعيشون في المشرق (تك 10: 30)، أما عندما ارتحلوا عن المشرق وتحولوا عنه، وقال بعضهم لبعض: هلم نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجًا رأسه بالسماء” (تك 11: 4) قال الله عنهم: “هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم”، فتبلبلت ألسنتهم وتبددوا على وجه كل الأرض (تك 11: 9). هكذا أيضًا بالنسبة لشعب إسرائيل، طالما كانوا لا يخطئون كانوا متجمعين في اليهودية، لكن إذ بدءوا يخطئون تفرقوا وتبددوا كل واحدٍ منهم في مكان من الأرض.

يلزمنا أن نعلم أنه يحدث شيء مماثل بالنسبة لنا جميعًا. توجد كنيسة في السماء حيث جبل صهيون ومدينة الله الحيّ، أورشليم السمائية، هناك يجتمع كل المختارين والمطوبين في شركة بعضهم مع بعض، بينما يحصل الخطاة على عقابٍ إضافي يتمثل في عدم وجودهم مع بعضهم البعض. إني أعرف ملوكًا في هذا العالم يحبون استخدام “النفي إلى الجزر” كعقابٍ، وحينما يخطئ إنسان في مملكتهم، يقومون أيضًا بنفي عائلته إمعانًا في عذابه وعذابها، وفي النفي يقومون بتفريق وتشتيت أفراد العائلة: الزوجة في مكان، والابن في مكان، والابن الآخر في مكان، حتى أنه في وسط الكارثة، لا تستطيع الأم أن تطمئن على ابنها، ولا يستطيع الأخ أن ينعم بصحبة أخيه. لك أن تتخيل شيئًا كهذا بالنسبة للأشرار. يجب عليك أيها الخاطى أن تذوق هذه المرارة الشديدة الآن التي يوقعها الله بك، حتى ترتد عن طريقك فتخلص. ونفس الشيء بالنسبة لك أيضًا، فإنك لا تعاقب خادمك أو ابنك لمجرد رغبتك في ايذائه، وإنما لتصلحه من خلال الآلام، هكذا يقوم الله بإصلاح الخطاة الذين لا يرجعون من أنفسهم، بتوقيع الآلام عليهم، وإلا لما تابوا ولا رجعوا، وبالتالي أيضأ لما شُفوا.

هذه الضربات التي تحل بنا هي نافعة لتعليمنا، كما يقول الكتاب: “بلا توقف بالألم والسوط سوف تتعلمين يا أورشليم”، كذلك فإن التفريق (التبديد) يزيد من القيمة التعليمية للألم، عندما نفرق الذين نعاقبهم كل واحدٍ بعيدًا عن الآخر لا يوجدون مجتمعين، لأنهم إذا اجتمعوا مع بعضهم تضعف قوة الألم من خلال كلمات التعزية التي يتبادلونها ليخففوا آلام بعضهم البعض.

 إذا كان يجب إضافة مبررٍ آخر لـلتفريق، إلى جانب ما سبق شرحه، فإليك أيضًا السبب: حينما يجتمع الأشرار معًا، لا يفكرون إلا في الشر ويعملون دائمًا على زيادته، وكذلك أيضًا الأبرار حينما يجتمعون لا يفكرون إلا في الخير. إذًا فإن نيّات الأشرار وأهدافهم التي تتشدد وتتقوى بوجودهم معًا تذوب وتتحطم حينما يتفرقون ويتشتتون. لذلك فإن الله في عطفه ورفقه بالخطاة يعمل على تفريقهم عن بعض حتى يقل شرهم ويتلاشى بدلاً من أن ينمو ويكثر[266]].

كأس التأديب:

“لا اشفق ولا أترآف ولا أرحم من اهلاكهم” [14].

تعثر بعض الهراطقة مثل الغنوسيين من هذه العبارة وأمثالها قائلين: “كيف يقول الرب هكذا: “لا أشفق، ولا أترآف، ولا أرحم” ونقول عنه أنه رحوم؟

يجيب العلامة أوريجينوس معلنًا عن أهمية التأديب حتى وإن بدى قاسيًا:

[يعتمد الهراطقة على تلك الكلمات ويستندون عليها ليقولوا: انظروا ما يقوله خالق العالم ورب الأنبياء عن نفسه، فكيف يمكن إذًا أن يكون إلهًا صالحًا؟

إنني آخذ هنا مثلاً للقاضي الذي لا يشغل فكره إلا الصالح العام، وبالتالي يطبق القانون دون اشفاق على المخطىء، يعاقبه حتى يحمي باقى المجتمع. يمكنني بهذا المثال أن أوضح بطريقة مقنعة، أن الله في اشفاقه على البشرية كلها يرفض أن يشفق على عضوٍ واحدٍ من أعضاء الجسد في سبيل اشفاقه على الجسد كله.

نفترض أن قاضيًا حدد لنفسه مهمة إقرار السلام للشعب الخاضع لقضائه وأن يحافظ على مصالحهم؛ حضر أمامه في المحكمة قاتل حسن المظهر وملامحه جذابة، وجاءت والدة هذا القاتل إلى القاضي تستعطفه وتسأله أن يشفق على ابنها ويرحم شيخوختها، وطلبت زوجة القاتل أيضًا الرحمة، كذلك أبناؤه التفوا كلهم حول القاضي يترجوه من أجل أبيهم… ما هو النافع للصالح العام؟ هل يرحمه القاضي أم لا؟ أجيب أنه إذا رحمه القاضي سيعود إلى خطئه؛ أما إذا لم يرحمه فإن القاتل يموت ويصبح المجتمع في حالة أفضل. نفس الشيء يقال بالنسبة لله: فإنه لو أشفق على الخاطئ ورحمه وذهب في إشفاقه هذا إلى درجة عدم معاقبته على خطئه، فمن من الناس لا يندفع في طريق الشر؟! مَن مِن الخطاة لن يزيد في شره ويتحول إلى الأسوأ؟

يمكننا أن نرى أشياءً مماثلة تحدث في الكنائس، فمثلاً إنسان يخطئ ثم يطلب أن يتناول من الأسرار المقدسة بعد ارتكابه الخطأ، إذا أشفقنا عليه سريعًا، بهذا نحث الشعب كله على فعل الشر وتزيد أخطاء الآخرين؛ لكن إذا عرف القاضي (الكاهن) مقدار الخسارة التي تلحق بالشعب في حالة السماح لهذا الشخص بالتناول والتساهل معه في خطئه، يجب عليه طرد هذا الخاطئ، ليس على سبيل الوحشية أو عدم الإحساس، وإنما لأنه يهتم به، ويهتم أيضًا بكل الشعب قبل أن يهتم به كفردٍ واحدٍ. إذًا فهو يطرد الفرد ليخلص الجماعة.

أنظر أيضًا إلى الطبيب ولاحظ كيف إنه لو أشفق على المريض ولم يستخدم معه المشرط في الوقت المناسب، لو أشفق عليه ولم يعالجه بأنواع الأدوية الكاوية حتى يُجَنّبِه الآلام المصاحبة لهذه الأنواع من العلاج، كيف يتفاقم المرض وتزيد خطورته عن ذى قبل. أما إذا تقدم الطبيب في جرأة ولجأ إلى الاستئصال أو إلى الكي، ففي هذه الحالة يمنح المريض الشفاء، رغم أن المظهر الخارجي يوحي بأنه يرفض أن يشفق وأن يرحم المريض بتعرضه لكل هذه الآلام.

كذلك الله، فإنه لا يمارس سلطة لمصلحة إنسانٍ واحدٍ، وإنما لصالح العالم أجمع. يدير ما في السموات وما على الأرض وما في كل مكان. يعمل لمصلحة كل العالم وجميع الكائنات؛ ويعتني أيضًا بمصلحة الفرد بشرط ألا تتعارض وألا تكون على حساب مصلحة الجماعة. من أجل ذلك أُعدت النار الأبدية وأعدت أيضًا جهنم والظلمات الخارجية، ليس لأجل الإنسان المعَاقَب وحده، بل ولمصلحة الجميع.

إذا أردت أن أذكر لك مثالاً من الكتاب المقدس يشهد أن معاقبة الخطاة من أجل نفع الآخرين وتعليمهم، حتى ولو كنا يائسين من شفاء هؤلاء الخطاة أنفسهم، فإليك ما يقوله سليمان الحكيم في سفر الأمثال: “اضرب المستهزئ فيتذكى الأحمق” (أم 19: 25). لم يقل أن الذي يُضرَب هو الذي يتذكى ويعود إلى عقله بسبب الضربات، إنما الأحمق بسبب الضربات الواقعة على المستهزئ يكف عن التمادي في حماقته ويصير عاقلاً. يتغير حينما يرى عقاب الآخرين. وكما أن سقوط إسرائيل كان فيه خلاص الأمم، كذلك أيضًا فإن عقاب البعض يكون فيه خلاص الآخرين. من أجل ذلك يقول الله في صلاحه: “لا أشفق ولا أترأف ولا أرحم من إهلاكهم”[267]].

ما هو الارتباط بين المثلين: المنطقة التي طُمرت والزق المملوء خمرًا؟

كلاهما فسدا، ولا يُمكن بعد استخدامهما، الأول يشير إلى الكبرياء محطم الإنسان، والثاني إلى السُكر بالخطية وعدم التعقل الروحي أو مراجعة النفس والتوبة… هذا ما يسببه كبرياء الإنسان وتشامخه، إذ يظن في نفسه حكيمًا وهو مخمور!

لعله استخدم المثلين ليشير بالأول إلى جحد النفس لعمل السيد المسيح وبالثاني جحدها روحه القدوس. إن كان السيد المسيح يُشار إليه بالصخرة (1 كو 10: 4) والروح القدس بالسُكر الروحي (أع 2: 13-21)، عوض المسيح الصخرة يختبىء الإنسان في صخور هذا العالم فيصير كالمنطقة الفاسدة، وعوض السُكر بروح الرب يمتلئ بخمر غضب الله!

 

دعوة للتوبة [15-21].

“اسمعوا واصغوا،

لا تتعظموا لأن الرب تكلم” [15].

إذ يتكلم الرب يليق بيهوذا أن يحمل الأذن المختونة، فيسمع ويصغي لله بروح الطاعة، لا أن يتجاهل صوت الرب في كبرياءٍ وعصيانٍ. هكذا يكشف النبي عن خطورة الكبرياء، فإنه لا يعود يصير مصدرًا للفرح أو الشبع، بل للبكاء والحزن [17] بسبب ما يجره من دمار.

يعلق العلامة أوريجينوس قائلاً:

[يريدهم أن يسمعوا وأن يصغوا (يميلوا بآذانهم)، لا يكفيه أن يسمعوا فقط أو أن يصغوا فقط. كما يأمرهم ألا يتعظموا، يعلمهم ما يجب أن يفعلوه.

ما هو إذًا السماع؟ وما هو الإصغاء؟…

“اصغوا”:  أي تَقبَّلوا الكلام في آذانكم؛ و“اسمعوا”:  أي تقبلوا الكلام في أذهانكم. بما أنه توجد في الكتاب المقدس بعض الكلمات الغامضة والأسرار الخفية كما توجد أيضًا بعضها ظاهر وبسيط في فهمه، أظن أنه بالنسبة للكلمات الغامضة قيل: “اسمعوا”، وللبسيطة قيل “اصغوا”.

بعد أن نكون قد سمعنا وأصغينا، يوصينا قائلاً: “لا تتعظموا” لأن “كل من يرفع نفسه يتضع” (لو 14: 11، 18: 14). حينما يقول المخلص لنا: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” (مت 11: 29)، يعلمنا ألا نتعظم. لأنه إلى جانب شرور الناس الكثيرة، فإن هذه الخطية (التعاظم) منتشرة بيننا: تارة نتعظم ونتفاخر بدون  أي سبب، وتارة من أجل شيء لا يستحق  أي تعظم بالمرة، وتارة من أجل أن ما فعلناه يستحق بعض التعظيم، حتى في ذلك تعظمنا يصير مؤذيًا لنا…

يوجد أناس يفتخرون بكونهم أبناء حكام وفي قدرتهم إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية، مثل هؤلاء يتعظمون ويفتخرون من أجل أمور تافهة لا طائل من ورائها، وبالتالي لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا.

ويوجد من يفتخرون بأن لهم سلطان على إعدام الناس، ويفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه “ترقية” تمكنهم من الإحاطة برؤوس الناس. مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم (في 3: 19).

 آخرون يفتخرون بغناهم، ليس الغنى الحقيقي، بل الأرضي. وغيرهم يفتخرون لأن لهم منزل جميل مثلاً، أو أراضٍ شاسعة. كل تلك الأشياء لا تستحق حتى أن تكون موضع اعتبار، ولا يليق بنا أن نفتخر بأي شيء منها.

لكن يبدو لي بالنسبة لنا اننا نتعظم ونفتخر بأننا حكماء، أو أننا منذ عشرة سنوات مثلاً لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أيضًا بحمل القيود في أيدينا من أجل السيد المسيح، هذه الأشياء تدعو للتفاخر بحق. لكن حتى هذه الأشياء أيضًا، إذا حكَّمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نتفاخر بها.

كان لبولس موضوع به يتعظم،  أي رؤيته مناظر الرب وإعلاناته (2 كو 12: 1) ورؤى (أع 16: 10)، وعمل قوات وعجائب (رو 15: 19) واحتمال الآلام من أجل المسيح، ومن أجل الكنائس التي أسسها في غيرته لبناء كنيسة في كل موضع حيث لم يكن اسم المسيح معروفًا (رو 15: 20). كل هذه تمثل موضوعًا للتعظم. بحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، يبدو افتخار بولس الرسول أمرًا طبيعيًا بالنسبة للناس؛ مع ذلك بما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر حتى بتلك الأشياء، فإن الآب في رحمته، كما أعطاه تلك الرؤى، أعطاه أيضًا على سبيل الرأفة به، ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع. من أجل هذا تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه، فأجابه الله: “تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل” (2 كو 12: 7-9). إذًا يجب علينا ألا نتعظم ولا نتفاخر بشيء، لأن الكبرياء يصاحبه السقوط، كما يقول الكتاب: “قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح” (أم 16: 18)[268]].

يطالبنا ألا نتعظم بل نعطى لله مجدًا حتى لا نتعثر على جبال الظلمة… لنمجد الله لا بالكلمات بل بالحياة العملية، بالسلوك المتواضع في غير كبرياء، وبالحياة المقدسة المنيرة بالرب، فلا يكون للظلمة موضع فينا، ولا نتعثر! بالاتضاع الذي هو اتكال حقيقي على الله نكون جبالاً منيرة لا مظلمة. يقول العلامة أوريجينوس:

[لنرى ماذا يوصينا الله أن نفعل: “اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا، وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة فتنتظرون نورًا”. يريد أن من يعطى الرب مجدًا، يعطيه في وجود النور، لأن مجد الرب لا يمكن أن يُعلن حينما يأتي الظلام…

“اعملوا ما دام النور فيكم”. النور موجود فيك، طالما تحمل في داخلك السيد المسيح الذي قال عن نفسه “أنا هو نور العالم”. طالما هذا النور موجود فيك اعطِ إذًا مجدًا للرب؛ لكن اعلم ان الظلام يمكن أن يأتي،  يجب ألا تنتظر حتى يحل هذا الظلام، بل اعطِ مجدًا للرب قبل مجيئه.

ربما يمكننا أن نفهم بوضوح هذا الموضوع إذا استعنا بكلام السيد المسيح: “اعملوا ما دام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل”؛ يقصد بالنهار وقتنا الحاضر، وبالظلام والليل انتهاء العالم وفناءه بسبب عقاب الأشرار.

يقول عاموس النبي: “ويل للذين يشتهون يوم الرب. لماذا لكم يوم الرب هو ظلام لا نور؟!” (عا 5: 18). إذا عرفت كيف يكون الحزن والشقاء عند هلاك العالم، سيصيب الحزن تقريبًا معظم الجنس البشري الذين ُيعَاقَبون على خطاياهم، عندئذ تعرف أن الجو يصير معتمًا ومظلمًا فلا يستطيع أحد أن يمجد الله. لأن الله أوصى الأبرار قائلاً: “اذهب يا شعبي. ادخل إلى بيتك، واغلق عليك بابك، اختبئ قليلاً أو كثيرًا حتى ينتهي حمو غضبي”.

لنلاحظ أيضًا في تلك الكلمات أن الرب يقول: “قليلاً أو كثيرًا”، قليل بالنسبة لله، لكنه ليس كذلك بالنسبة للإنسان. كما يجب أن نعلم أيضًا أن الأشياء تكون قليلة وكثيرة بالنسبة للمخلوقات. آخذ مثالاً على هذا: بالنسبة للحيوانات قد تكون كمية الطعام قليلة إذا ما قيست بحجم أجسامهم أو كبيرة بالنسبة لقدرتهم على الأكل. كذلك ما يبدو قليلاً بالنسبة للإنسان البالغ يكون كثيرًا بالنسبة للطفل. هكذا كل زمان الحياة الإنسانية، حتى بالنسبة لشيخٍ مُسنٍ، ما هي إلا فترة قصيرة بالنسبة للعصر الحالي. نفس الشيء في علاقتنا بالله، فإن ما هو قليل بالنسبة لله يكون في نظرنا وبالنسبة لنا كثيرًا، والقليل عنده يماثل عصرًا بأكمله عندنا.

“اعطوا الرب إلهكم مجدًا”. كيف يمكننا أن نعطي الرب إلهنا مجدًا؟ لا نعطي الرب إلهنا مجدًا بمجرد ترديدنا بعض الكلمات والأصوات، إنما إذا أردنا تمجيده، فلنمجده بأعمالنا.

مجده بضبط النفس،

مجده بعمل الخير، بالحق، بالشجاعة والصبر والاحتمال،

مجد الله بالقداسة وكافة الفضائل الأخرى…

الإنسان البار يمجد الله، والشرير يهين الله؛ وذلك كما في حالة نبوخذ نصر، فلقد هدم هيكل الرب ودنسه، وبتعديه للناموس أهان الله، كما يقول الرسول[269]].

ما هي جبال العتمة التي تعثرت فيها أرجلهم؟

لقد شبه الله الأشرار بمنطقة الكتان التي فسدت، وبالزق الممتلئ خمرًا، وهنا يتحدث عنهم كجبال مظلمة. سبق فرأينا في سفر حزقيال أن الله يدعو شعبه “جبال إسرائيل”، الجبال التي بلقائها مع الله استنارت به نور العالم، والآن إذ تعظمت في عينيّ نفسها صارت جبالاً مظلمة، لأنها اعتزلت عن سرّ استنارتها.

يميز العلامة أوريجينوس بين جبال العتمة والجبال المقدسة في حديثه عن بلعام، إذ يقول إن بالاق قد جاء به إلى جبال الفتور، إلى خداعات الشياطين، لكن الرب نقله إلى جبال الله، إلى قمة الجبال (رأس الصخور عد 23: 9)، وإلى التلال المقدسة؛ هناك يرى شعب الله، ويدرك أسراره، [لأن إسرائيل (الروحي) يقع على الجبال المرتفعة وعلى التلال العالية،  أي يعيش حياة فاضلة وصعبة، حيث لا نستطيع بسهولة أن نكون جديرين بالتطلع إليها أو إدراكها، ما لم نتسلق المرتفعات وقمم المعرفة، لهذا لم يلعنه الله. إن حياته عالية ومرتفعة، وليست دنيئة أو منحطة. لكن يبدو لي أن الله لا يقول هذا عن إسرائيل حسب الجسد، بل عن ذاك الذي يسير في الأرض وسيرته في السموات (في 3: 20)[270]].

[“اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة”. توجد جبال معتمة وجبال مضيئة، لكن بما أن النوعين هم جبال، فالإثنان أيضًا مرتفعان. تتمثل الجبال المضيئة في ملائكة الله والقديسين، والأنبياء، وموسى “الخادم” ورسل السيد المسيح، كل هؤلاء الجبال مضيئة، وأعتقد أن هذه هي التي كُتب عنها في المزامير: “أساساته في الجبال المقدسة”.

ما هي الجبال المعتمة؟ الذين يقيمون مرتفعات ضد معرفة الرب (2 كو 10: 5). الشيطان جبل معتم، ورؤساء هذا العالم المُجَنَّدون للتدمير والاهلاك أيضًا جبال معتمة؛ وحينما قال الرب لتلاميذه: “لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل” يقصد به جبلاً معتمًا وهو الشيطان. لأنه حينما أثيرت المناقشة بين السيد المسيح وبين تلاميذه بخصوص الشيطان الذي كان في الصبي، وحينما سأل التلاميذ المخلص قائلين: “لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه”؟ أجابهم: “لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل –  أي لهذا الشيطان الذي تتناقشون بخصوصه – انتقل من هنا إلى هناك فينتقل”. انتقل من “هنا”،  أي من هذا الصبي، “إلى هناك” أي إلى مكانه الطبيعي في الهاوية. إذًا الذين يتعثرون لا يتعثرون على الجبال المضيئة إنما على جبال العتمة حينما يذهبون مع الشيطان وملائكته.

فتنتظرون نورًا“؛ إذا ما أعطيتم الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة. مما لا شك فيه، حتى إن حَلَّ الظلام، تنتظرون نورًا، هذا النور يصحبكم.

قد يقول أحد الحاضرين: حتى هؤلاء الذين تعثر أرجلهم على جبال العتمة ينتظرون نور رحمة الرب بجانب تلك الجبال المعتمة. هذا أيضًا هو تفسير الكلمات: “فتنتظرون نورًا”[271]].

بكى إرميا النبي شعبه الذي اختار بكبريائه الظلمة طريقًا له، إذ يقول:

“اعطوا الرب إلهكم مجدًا قبل أن يجعل ظلامًا،

وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة،

فتنتظرون نورًا،

فيجعله ظل موتٍ،

ويجعله ظلامًا دامسًا؛

وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكى في أماكن مستترة من أجل الكبرياء،

وتبكى عينىَّ بكاءً، وتذرف الدموع،

لأنه قد سُبى قطيع الرب” [16-17].

يقصد بظل الموت Sal-mawet في العهد القديم الظلام الشديد، وتترجم أحيانًا “الظل العميق” كما في (مز 23: 4).

يدخل إرميا إلى أماكن مستترة متضعة ليقدم الدموع من أجل قطيع الرب الساقط تحت سبى إبليس… إن كان قلبهم قد أصيب بالعمى فلا يدركون أنهم ينحدرون إلى الظلمة، إذا بقلب إرميا يتمزق حزنًا عليهم.

أدرك إرميا النبي أنه لم يبقَ أمام القلب المُصاب بعمى الكبرياء إلا بصيص من النور، يتبدد حتمًا إن أصر القلب على عجرفته، فيصير في الظلمة يتخبط وليس من منقذٍ بعد! لقد جاءت اللحظات الحاسمة والخطيرة بعدها لا ينفع الندم!

كان يليق بهم وقد انحرفوا إلى طريق الظلمة، أن يرجعوا إلى الرب يطلبونه نورًا لهم. لكنهم عوض التوبة نصبوا فخاخًا في الظلام يصطادون بها نفوس الأبرار، فإذا بهم يسقطون هم فيها. هذه هي خبرة داود النبي الطويلة مع شاول الملك الذي سيطرت مملكة البغضة ضد داود على قلبه، فكرس بقية أيام حياته وكل قدراته وإمكانياته بل وإمكانيات مشيريه لهدم داود وقتله، فإذا به ُيلقى بنفسه في الهاوية، ويزداد داود مجدًا وبهاءً أمام الله والناس.

المعنى الحرفي للأماكن المستترة هو أن إرميا اضطر إلى الاختفاء من وجه الملك الذي رفض حكمة الرب.

ما هذه الأماكن المستترة إلا أحشاء السيد المسيح محب البشر، ففيه إذ تدخل النفس لا تكف عن ذرف الدموع من أجل خلاص كل العالم! لقد دخل الرسول بولس هذه الأماكن المستترة إذ يقول: “لأني من حزن كثير وكآبة قلب كتبت إليكم بدموع كثيرة لا لكي تحزنوا، بل لكي تعرفوا المحبة التي عندي ولاسيما من نحوكم” (2 كو 2: 4).

يرى العلامة أوريجينوس[272] أن إرميا يبكي في أماكن مستترة، فقد خبأ الرؤساء والقيادات النبوات التي تشهد للسيد المسيح، فصار الناس في ظلمة عوض النور. كما يقول:

[“وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة، ستبكي أنفسكم أمام الشدة”. من بين الذين يسمعون، يوجد من يسمعون بطريقة مستترة ويوجد من لا يسمعون بطريقة مستترة. ما هو إذًا السمع بطريقة مستترة إلا ما تقوله الآية: “بل نتكلم بحكمة الله في سر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا” (1 كو 2: 7). عندما اسمع الناموس، إما اسمعه بطريقة مستترة أو لا اسمعه بطريقة مستترة. فاليهودي مثلاً لا يسمعه بطريقة مستترة؛ لهذا يُختتن بطريقة ظاهرية، غير عالمٍ أن اليهودي في الظاهر ليس هو يهوديًا ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانًا” (رو 2: 28)، أما الذي يسمع ويفهم الختان بطريقة مستترة فيكون مختتنًا في الخفاء”. وإذا كان اليهود قد قتلوا السيد المسيح قديمًا، وهم مسئولون حتى يومنا هذا عن موته، فإن هذا حدث لأنهم لم يسمعوا الناموس ولا الأنبياء بطريقة مستترة.

كذلك أيضًا بالنسبة لموضوع حفظ السبت، توجد بعض النساء حتى يومنا هذا لا تسمعن كلام الله بطريقة مستترة فهن لا يفعلن  أي شيء في يوم السبت، كما لو كان السيد المسيح لم يأتِ إلينا ليحملنا من حرفية الناموس إلى كمال الإنجيل.

لذلك حينما نقرأ الناموس والأنبياء نحذر لئلا نقع تحت عاقبة النبوة التي تقول: “وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة”. إذا قرأنا أمثال السيد المسيح الموجودة في الإنجيل أمام إنسان من خارج الكنيسة لا يسمع بطريقة مستترة، لكن إن كان السامع هو أحد الرسل أو أحد أبناء الكنيسة، فإنه يقترب من السيد المسيح ويسأله ويتناقش معه حول غموض المثل، فيقوم السيد المسيح بتفسير المثل له: فيصبح هذا المستمع من السامعين بطريقة مستترة وبالتالي لن تبكى نفسه.

لماذا لم يقل الرب: “ستبكون إن لم تسمعوا بطريقة مستترة” وإنما قال: نفسكم سوف تبكي“؟ يوجد بكاء خاص بالنفوس وحدها. لعل السيد المسيح أوضح لنا هذا النوع من البكاء حينما قال: “هناك يكون البكاء” وأيضًا: “ويل لكم أيها الضاحكون الان لأنكم ستحزنون وتبكون” (لو 6: 25). يتحدث عن البكاء الذي يهددنا به النبي هنا حينما يقول: “إن لم تسمعوا بطريقة مستترة ستبكي نفسكم أمام الشدة”، لأنه حينما تأتي عليكم الشدة ستبكون و”ستذرف عيونكم الدموع لأنه قد سُبي قطيع الرب”…[273]].

يرى العلامة أوريجينوس[274] في العبارة “إن لم تسمعوا في الخفاء” [17] أن مجد الإنسان خفي، معطيًا مثالاً لذلك موسى النبي الذي كان يغطي وجهه ببرقع إذ تمجد. ويقول داود النبي: “أظهرت ليغوامض حكمتك” (مز 50).

أما وقد بكى إرميا بمرارة على قطيع الرب الذي يسقط تحت السبي، فإنه يقدم مرثاة على الملك الشاب والملكة أمه، فإنهما لن يخلصان من هذا المرّ، ولا يهربان منه.

“قل للملك وللملكة:

اتضعا واجلسا، لأنه قد هبط على رأسيكما تاج مجدكما،

أُغلقت مدن الجنوب، وليس من يفتح.

سُبيت يهوذا كلها، ُسبيت بالتمام” [18-19].

يشير العددان [18-19] إلى سبي الملك الشاب يهوياقين إلى بابل عام 598-597 ق.م. جاء في (2 مل 24: 8-17) ومعه أمه الملكة نحوشتا (2 مل 24: 8، 15)، حيث عانت يهوذا المتكبرة من صفعة قوية، وضاع رجاؤها.

جاءت هذه المرثاة قصيرة تناسب الملك الذي لم يدم مُلكه سوى ثلاثة شهور[275]. كان في الثامنة عشرة من عمره عند موت والده يهوياقيم، ولكن بعد ثلاثة شهور سُبي إلى بابل. بعد سنوات (سنة 562 ق.م) حُرر لكن لم يُسمح له بالعودة إلى بلاده (52: 31-34؛ 2 مل 25: 27-30). سقط التاج عن رأسيهما وضاع من بين أيديهما المُلك. واضح هنا أنه كان للملكة الأم دور رئيسي في إدارة المملكة في يهوذا، وكان لها سلطانها في أيام الملك آسا حتى تخلَّص منها (1 مل 15: 13).

حين حلَّت الكارثة لم يجد الملك وأيضًا الملكة لهما ملجأ في منطقة الجنوب أو مدن نجب Negeb (القسم الجنوبي من يهوذا) المعروفة بخصوبتها ومدنها الكثيرة، لأن جيوش الغازين عزلت أورشليم عن مدن الجنوب حتى لا يجد سكان أورشليم مجالاً للهروب؛ أو لأن هذه المدن إذ أدركت الخطر الذي حلّ بأورشليم أغلقت أبوابها وخشت أن تفتحها حتى لقيادات يهوذا عند هروبهم. من الجانب التاريخي هددت آدوم مدن نجب ألا تقبل اللاجئين من أورشليم حتى يملك الغازون تمامًا. فعلت هذا إما لمصلحتها الشخصية حيث أرادت خراب يهوذا، أو لحساب البابليين، وقد وُجدت نقوش تؤكد ذلك[276]. يرى البعض أن هذه المدن كانت مخازنًا للملك، لذلك حاصرها الأعداء لمنع وصول مئونة إلى أورشليم أثناء حصارها.

يصور النبي ما حلَّ بأورشليم بواسطة بابل:

“ارفعوا أعينكم وانظروا المقبلين من الشمال.

أين القطيع الذي أُعطى لك، غنم مجدك؟

ماذا تقولين حين يعاقبك وقد علّمتهم على نفسك قوادًا للرياسة؟

أما تأخذك الأوجاع كامرأة ماخض؟” [20-21].

بعد تقديمه مرثاة على ما حلَّ بالملك وأمه الملكة بدأ يتحدث عن أورشليم كراعية وحارسة لقطيعها الممجد، فقد صارت بلا قوة لتحمي شعبها، قطيع الرب! يطالبها أن ترفع عينيها لترى أين قطيعها، فقد أُقتيد إلى السبي، وُتركت أورشليم خرابًا.

عوض الاهتمام بقطيع الرب أقامت بشرها من البابليين قوادًا للرئاسة، يفترسون حملانها! صارت كامرأة ماخض، لا تلد ابنًا أو ابنة تفرح به أو بها، إنما تلد قيادات من الأعداء تحطم شعبها! عوض أن تلد حملاً تحتضنه تلد ذئبًا يفترس بنيها!! أو كما قيل في هوشع: “أفرايم تطير كرامتهم كطائر من الولادة ومن البطن ومن الحبل” (هو 9: 11)،  أي صارت أورشليم عقيمة لا تحبل، رحمها بلا ثمر، بلا أبناء!

هذه هي مسئوليتها! إنها لم تعد بالراعية ولا الحارسة لخراف الرب بل بشرها تقدم لهم ذئابًا تفترسهم!

 

ثمار الشر [22-27].

“وإن قلتِ في قلبكِ:

لماذا أصابتني هذه؟

لأجل عظمة إثمكِ هُتك ذيلاكِ وانكشف عنفًا عقباكِ” [22].

يشير النبي هنا إلى تساؤلات الشعب المتكررة: لماذا أصابتنا هذه الويلات؟ والجواب المتكرر: هو ارتكابكم الشر، ورجوعكم عن الرب، وإصراركم على عدم التوبة. فالشر ليس من الله إنما مصدره إرادتكم الشريرة.

أخطر ما وصل إليه هذا الشعب ليس السقوط في الخطية، فإن الله يعلم ضعف الإنسان، ويشتاق أن يخلصه من كل خطية ولا يدينه عليها، إنما الإصرار على ارتكاب الشر، فيشربون الإثم كالماء، ولا يشعرون بما هم عليه. يصيرون كالمريض الذي لا يبالى بالمرض ولا يشعر بخطورته، بالتالي لا يجد حاجة للذهاب إلى طبيب. مع كثرة الإثم وارتكابه بلا انقطاع صاروا يعترضون على تأديبات الله كأنها ظلم، حاسبين أنفسهم أبرارًا!

سبق فأوضح خطورة الكبرياء، هنا يبرز خطورة الكذب (ربما يقصد به الاتكال على الآلهة الكاذبة) والرجاسات (التي تلازم العبادة الوثنية).

بقوله “هتك ذيلاكِ” يعني أنها صارت عارية، وفي ذلك رمز للشهوات الجسدية في إباحية وبعنف، حيث تكشف عورتها للشر (لا 8: 6-19؛ 20: 17؛ تث 23: 1؛ 27: 20؛ إش 47: 3؛ نا 3: 5). كذلك كشف العقب بعنفٍ يرمز إلى الرغبة الشهوانية الجامحة.

يرى البعض أن هذا التصوير يعني به أن أورشليم صارت كامرأة فاسدة، عرّت الخطية عورتها وكشفت جسدها في غير حياء!

يبرز هنا خطورة الشر، فإنه يفسد طبيعة الإنسان، فيلتصق به الشر ليصير كجلد الكوشي أو رقط النمر، لا تتغير. الله لن يغلق باب مراحمه، لكن إسرائيل في كبريائه تحولت حياته إلى عصيان مستمر وخيانة له.

بقوله: “هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟!” [23] لا ينفي الحرية الإنسانية في اختيار طريق دون الآخر، فقد جاءت كل الكتابات النبوية تؤكد حرية الاختيار، بل وإرميا النبي نفسه إذ يدعوهم إلى التوبة يؤكد ذلك، إنما هذا النص يعني أمرين:

أولاً: ممارسة الخطية خاصة إلى فترات طويلة وبصورة جماعية تمثل ضغطًا شديدًا على الإرادة فتسلبها حريتها، وتفقدها قدرتها على الاختيار.

ثانيًا: الحاجة إلى عون إلهي أو إلى النعمة الإلهية لتقديس الإرادة وردّها إلى الحرية الداخلية المسلوبة.

كمثالٍ يتحدث القديس جيروم عن إصرار شاول على تعقب داود للخلاص منه وإصرار داود على الاحتمال بطول أناة؛ قائلاً: [“هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطة؟!” [23]… هذا ما يقوله داود (أيضًا في المزمور السابع) فكما أن الكوشي لا يقدر أن يغير جلده، هكذا لم يستطع شاول أن يغير شخصيته. لقد سقط بين يديّ مرتين، وكان في استطاعتي أن أقتله. كان يمكنني أن أسفك دمه. لقد أردت أن أغلبه باللطف، لكن إرادته الشريرة بقيت غير منهزمة. كما لا يقدر الكوشي أن يغير جلده، هكذا لا يستطيع شاول أن يغير خبثه[277]].

الله وحده يقدر أن يغير طبيعتنا ويجددها لذلك يقول القديس جيروم: [الخصي الأثيوبي غيّر جلده بالرغم من قول النبي، وهو يقرأ العهد القديم وجد ينبوع الإنجيل (أع 8: 27-39)].

يرى John Guest ما لهذا المثل من أثر على الثقافة الغربية قائلاً بأن إرميا صار مشهورًا بسببه[278].

إذ بلغوا هذا الحد، فامتزجت طبيعتهم بطبيعة الشر، وصارتا كأنهما طبيعة واحدة، جاء الثمر الطبيعي لذلك وهو: التحطيم!

“فأبددهم كقشٍ يعبر مع ريح البرية.

هذه قُرعتك، النصيب المكيل لك من عندي يقول الرب،

لأنكِ نسيتنى، واتكلتِ على الكذب.

فأنا أرفع ذيليكِ على وجهكِ،

فيُرى خزيكِ،

فسقكِ، وصهيلكِ، ورذالة زناكِ على الآكام، في الحقل،

قد رأيت مكرهاتكِ.

ويل لكِ يا أورشليم، لا تطهرين.

حتى متى بعد؟!” [24-27].

يشبَّه الغزو البابلي بالريح الشديدة التي تهب فتحملهم كالقش في وسط البرية، ليس من يهتم بهم!

من جهة يوضح أنه هو الذي يبددهم، لأن هذا هو نصيبهم الذي اختاروه. كالوا لأنفسهم الباطل، فصاروا باطلاً.

يعود فيكرر الله لشعبه أن ما حلّ بهم ليس محض مصادفة، ولا لقوة بابل العظيمة، إنما لشر إرادتهم التي اختارت هذا النصيب. ومن جهة أخرى إنهم قش، ليس بينهم حنطة، تهب الريح لتعصف بالقش وتفرزه عن الحنطة… فلا لوم على الريح بل على يهوذا التي لم يُوجد فيها حنطة في ذلك الحين.

لئلا تقول هذا نصيبي قد حتمه عليّ الرب، يؤكد بها: “لأنكِ نسيتني، واتكلتِ على الكذب” [25]. يرى البعض أن كلمة “كذب  seqer تعني هنا بعض الآلهة الوثنية، ربما يكون البعل[279].

إذ يُحسب الكذب زنًا روحيًا، له خطورته، حتى دُعي إبليس بالكذاب وأب الكذابين (يو 8: 44)، لهذا فإن ثمرة زناها الروحي أن تدخل في الفضيحة وُيرفع ذيلها، فتظهر عارية، لعلها تخجل فتتوب.

عبّر عن الرجاسات الوثنية بالفسق والصهيل ورذالة الزنا، تمارس هذه الأمور علانية على التلال وفي الحقول المفتوحة، هناك حيث العبادة الوثنية.

أخيرًا إذ رأي الغزو قد صار على الأبواب صرخ مترجيًا توبتهم، قائلاً: “حتى متى بعد؟!” [27].


 

من وحي إرميا 13

لاختفي فيك يا صخرة حياتي!

لأسكر بخمر روحك القدوس!

v     قبلتني كثوبٍ يلتصق بك،

 فأصير أبيضًا كالنور،

 لأنك أنت شمس البر، صخرة حياتي!

 لأختفي فيك، فأتقدس وأتمجد يا اكليل حياتي!

v     صرت كالزق المملوء خمرًا،

 امتلأت أعماقي بسخطك من أجل كبرياء قلبي!

 لتنزع عنى خمر غضبك،

 وليسكن روحك القدوس فيّ،

 فأسكر بحبك ولا أطلب آخر غيرك يا شهوة قلبي!

v     حملني عصيإني إلى جبال العتمة!

 اظلمت عينا قلبي، فلم أعد أعاين بهاءك!

 أحاط ظل الموت بيّ…

 من ينقذني غيرك يا مخلصي؟

v     احملني إلى جبالك المقدسة،

 إلى كلمتك واهبة الإستنارة،

 اراك تظلل بجناحيك عليّ،

 تقيمني من ظل الموت إلى ظلال صليبك واهب الحياة!

 ترفعني إلى القمم العالية فأعاين سمواتك،

 واشتهي شركة أمجادك!

v     لتُقم مرثاة على أعماقي،

 فقد تحطم مُلكي واُنتزع عزي.

 من يقيمني ملكًا إلا أنت يا ملك الملوك؟!

 من يجعلني كاهنًا روحيًا سواك يا أسقف نفوسنا؟!

 من يردني من السبي،

 ويدخل بي إلى العرش،

 إلا أنت يارب الجنود؟!

v     أخيرًا أعترف لك:

 لقد فسدت طبيعتي،

 وصرت كالنمر يمتلئ جلدي رقطًا.

 لتغير طبيعتي، ولتجددها بروحك القدوس!

 أنت وحدك خالقي،

 تقدر أن تعيد خلقتي،

 وتمجدها فيك وبك يا إكليل نفسي!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى