البابا بنيامين الثاني

أنتخاب ناسك متوحد

 بعد نياحة البابا يوحنا التاسع لم تبق السدة المرقسية شاغرة غير شهر وأحد عشر يوماً،  لأن القلوب كانت متآلفة فاجتمع الآباء والأبناء ( الأساقفة والأراخنة ) في الدار الباباوية ليتشاوروا معاً مرتکنين إلى مؤازرة الروح القدس. فكان أن اتفقت كلمتهم على أن الرجل الذي ينشدونه هو الناسك بنيامين المتوحد بجبل طرة. وكان بنيامين هذا من بلدة دميقراط بأعالي الصعيد ، وبدأ حياة العزلة في الصحراء القريبة من بلدته. ولكن اضطرام قلبه بالخلوة مع الله دفعه إلى ترك الصعيد والالتجاء إلى مغارة قرب طرة ظناً منه أن المسافة البعيدة التي تفصل بينه وبين أهله وعارفيه ستمكنه من التوحد الذي يبتغبه. وكان إلى جانب ذلك تبتله وتقشفه مصوراً ماهراً، إلا أن النور لابد أن يسطع ، ومتی سطع فلا يمكن تغطيته . لهذا شاعت فضائل بنيامين الناسك رغم اشتهائه العزلة. ومما تجدر الإشارة إليه أن الأنبا برسوم العريان حين رآه تنبأ له بأنه سيجلس علی کرسی مارمرقس . فحدث بعد نياحة الأنبا يؤنس التاسع أن اتفقت كلمة الجميع على اختياره وتمت رسامته في الخامس عشر من شهر بشنس سند ۱۰۳۰ ش باسم بنيامين الثاني فأصبح البابا الإسكندرى الثاني والثمانين.

فترة من السلام

على أنه لم يكد يتسلم مهام رياسته الراعوية حتى هبت ثورة عارمة أثارها الوالی شرف الدين بن التاج. وفي هذه الثورة خرب عدد من الكنائس والأديرة وذاق الرهبان والراهبات أقسى التعذيب. بل أن الأساقفة أنفسهم أصيبوا بالتنكيل رغم كرامتهم الكهنوتية. على أن المراحم الإلهية شاءت أن تفتقد الآباء والأبناء فلم تدم ولاية شرف الدين غير سنة واحدة وافته المنية بعدها ، وزادت رحمة الله وضوحاً في تنصیب وال جديد كان حليماً منصفاً شديد العطف على الشعب سواء في ذلك المسلم والمسيحي.

وفي هذا الهدوء الذي جاء بعد العاصفة وجه الأنبا بنیامین عنايته إلى إعادة بناء الكنائس المنهارة وتجديد أديرة برية شيهيت التي كانت قد تخربت وأقفرت من الرهبان. ذلك لأن البدو عندما أغاروا عليها قتلوا كل من فيها من الرهبان ولم ينج من قتلهم غير الذين تمكنوا من الهرب. وقد بدأ البابا بنیامین عمله بتجديد دير الأنبا بيشوي الذي كان الخراب قد فعل فعله فيه أكثر من بقية الأديرة. فأنفق عليه من ماله الخاص. وبعد أن جدده جمع فيه عددا من الرهبان لاعادة تعميره .

مد وجزر

 وفي السنة الثالثة لبابویته وجد أن ما تبقى من الميرون لا يفي بحاجة الكنائس فبادر إلى دعوة الأساقفة للاجتماع به في دير الأنبا مکاری ولیشتركوا معه في اقامة الشعائر الخاصة  بطبخة و الميرون . وقد لبي دعوته عشرون أسقفاً. ولما كان اجتماعهم معاً أثناء الصوم الأربعيني المقدس ( الكبير) فقد وجدوا الفرصة مواتية ليستعيدوا ذكريات رهبنتهم ويعيشوا في تأمل وخشوع وفي ألفة روحية تليق بالصوم الذي حافظت عليه الكنيسة منذ أن صامه فاديها الحبيب.

وكانت هذه الخلوة نعمة سماوية هيأها لهم الآب السماوي ليستعدوا بما نالوه من قوة روحية لملاقاة الأحداث التي ستقابلهم. ذلك أنهم ما كادوا يبلغون ايبارشياتهم حتى هبت عاصفة الاضطهاد من جديد.

ووصلت أخبار التضييق والتعذيب إلى مسامع امبراطور الحبشة فكتب خطاباً إلى والي مصر يطالبه بحسن معاملة القبط مقابل حسن معاملته للمسلمين الخاضعين لسلطانه، وكان قبل ذلك أن تعاون سلطان عدن مع تجار الرقيق المسلمين فبذل الامبراطور الحبشي جهداً كبيرا في القضاء على هذه التجارة المهينة للكرامة الانسانية. فكتب صاحب اليمن خطاباً استفزازياً لوالی مصر زعم فيه بأن عاهل الحبشة إنما يحاربهم حرباً دينية مستهدفاً إبادة المسلمين. فكان خطاب امبراطور اثيوبيا ذا هدفين : أولهما التشفع في القبط وثانيهما توضيح حقيقة موقفه من تجارة الرقيق وبسط حالة المسلمين في بلاده وكيف أنهم يعيشون في سلام يزاولون أعمالهم المختلفة دون أن يتعرض لهم أحد حتى أصبح بينهم عدد من الأغنياء ، وقد بنوا المساجد والمدارس وهم في أمن واستقرار. وقد نجح الامبراطور في الوصول إلى هدفيه إذ قد هدأ الاضطهاد في مصر كما استقر السلام في اثيوبيا استقرارا شمل عهود الأباطرة الثلاثة الذين تولوا العرش من بعده. كذلك استطاع القبط في ظل الهدوء أن يعيدوا ما تهدم من كنائسهم. ومقابل هذا المد والجزر في حياة الكنيسة كانت الحياة المدنية المصرية في ازدهار : فقد وصلت المنسوجات المصرية إلى الهند كما أن أسماك دمياط كانت تصدر إلى سوريا وآسيا الصغرى. بل أن المراكب الراسية في ميناء بولاق أيام الحصاد كانت تزيد على الألف. كذلك امتلات الأسواق بالسلع المختلفة. أما وصف الخانات فيبين مدى الذوق الفني المصري : فقد كان الخان واسعاً وجدرانه من الرخام المزخرف بالموزايكو ، وكان بناء مربعاً يحيط بحديقة داخلية جميلة التنسيق . أما غرف الخان فكانت تفتح على هذه الحديقة وكانت أشبه بغرف الرهبان.

الراعي يتفقد رعيته

 على أن استمرار السلام لم يكن من حظ القبط الذين عاشوا في ذلك العصر، لأن السلام والخصام كانا يتعاقبان بلا انقطاع . لهذا السبب ساد القلق على القلوب. وقد لاحظ الأنبا بنيامين ما يساور شعبه من حيرة واضطهاد فبذل جهده في تهدئته ، ولكي يصل إلى هذا الهدف قام برحلة راعوية في أنحاء البلاد المصرية. فتسربت الطمأنينة إلى القلوب مكتسحة ما فيها من مخاوف. وكما كانت الزيارات الراعوية قديماً سبباً في تثبيت الإيمان وفي ملء النفوس سكينة هكذا كانت زيارة البابا المرقسي إذ ذاك لأن لقاء الأب بأولاده من شأنه أن يفرح قلوب الأبناء بأبيهم والأب بأولاده. وخلال هذه الزيارة الراعوية داوم البابا المرقسي على الضراعة إلى رب الكنيسة ليتداركها بمراحمه ويجعل السلام يحل محل الخصام.

نياحته

على أن باباويته لم تدم غير إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر . فامتلأ الشعب حزناً لفقده راعياً صاحياً عطوفاً. وقد أقيمت الشعائر الجنائزية على جثمانه الطاهر فی دیر شهران حيث دفن باحتفال مهيب.


من كتاب قصة الكنيسة القبطية ج3 – إيريس حبيب المصري

فاصل

البابا يوحنا التاسع القرن الرابع عشر العصور الوسطى البابا بطرس الخامس 
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى