تفسير سفر إرميا أصحاح ٢ للعلامة أوريجانوس

‏ عظة 2

حول تفسير الآيات : “وَأَنَا قَدْ غَرَسْتُكِ كَرْمَةَ سُورَقَ، زَرْعَ حَقّ كُلَّهَا. فَكَيْفَ تَحَوَّلْتِ لِي سُرُوغَ جَفْنَةٍ غَرِيبَةٍ؟ فَإِنَّكِ وَإِنِ اغْتَسَلْتِ بِنَطْرُونٍ، وَأَكْثَرْتِ لِنَفْسِكِ الأُشْنَانَ، فَقَدْ نُقِشَ إِثْمُكِ أَمَامِي، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ.” ( إر ۲ : ۲۱- ۲۲ ).

1- “إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَلاَ هَلاَكُ الأَحْيَاءِ يَسُرُّهُ. لأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْجَمِيعَ لِلْبَقَاءِ؛ فَمَوَالِيدُ الْعَالَمِ إِنَّمَا كُوِّنَتْ مُعَافَاةً، وَلَيْسَ فِيهَا سُمٌّ مُهْلِكٌ، وَلاَ وِلاَيَةَ لِلْجَحِيمِ عَلَى الأَرْضِ،” ( حك ۱: ۱۳-۱٤ ) . إذا خرجت قليلاً عن الموضوع اقول : من این إذا جاء الموت ؟ ” بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم” ( حك ۲ : ۲٤) . لقد صنع الله كل ما يمكن أن يكون جميلاً لنا ، ونحن خلقنا لأنفسنا الشر والخطايا . هنا في البداية يثير النبي تساؤلاً امام هؤلاء الذين امتلأت نفوسهم بالمرارة المخالفة للعذوبة التي وضعها الله فيهم ، فيقول : فكيف تحولت لي سروغ جفنة غريبة ؟ كأنه يقول : إن الله لم يصنع العرج ، ولكنه على العكس أعطي الجميع أرجلاً نشطة خفيفة الحركة ، ثم حدثت عله جعلتهم يعرجون ! خلق الله من البدء جميع الأعضاء سليمة ، ثم حدثت علة جعلت بعض هذه الأعضاء تتألم . هكذا أيضا صُنعت النفس علي صورة الله ، ليس فقط بالنسبة للإنسان الأول وإنما بالنسبة لكل إنسان، لأن الكلمات : نعمل الإنسان علي صورتنا كشبهنا ( تك 1 : 26) . تمتد إلى كل البشر ، وما يقال عن ادم يقال أيضاً على جميع البشر. كان آدم يحمل في البداية صورة الله ” ، ثم أضاف عليها بخطاياه صورة الترابي ( 1کو15: 49) . هكذا حدث مع كل البشر ، فقد كانت صورة الله سابقة لصورة الشر.

لقد لبسنا ونحن خطاة “صورة الترابي ” ، لنلبس إذا بتوبتنا صورة السماوي ” ، عالمين رغم كل شيء أن الخليقة قد صنعت على صورة السماوي.

تضع كلمات الكتاب المقدس هذا التساؤل أمام الخطاة ؛ فيقول لهم الله بنغمة العتاب : فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة ؟ فأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها ” … سبق لنا القول أن الله غرس نفس الإنسان مثل کرمة جميلة ، لكنه بتغيره و انحرافه ، تحول إلى عكس ما أراده الخالق :

“وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها ، وليس “زرع حق بعضها ” ، ليست زرع حق هنا وزرع رديء هناك ، ولكنها زرع حق كلها فكيف تحولت إلى مرارة على الرغم من أنني خلقتك كلك بجملتك حق ؟ كيف أصبحت كرمة غريبة ؟

2- فلننظر بعد ذلك إلى العبارة “فإنك وإن اغتسلت بنطرون وأكثرت لنفسك الإشنان فقد نقش إثمك أمامي يقول السيد الرب ” . هل معني هذا أن النفس الخاطئة تظن أنه باغتسالها بالنطرون المادي تضع نهاية لإثمها وخطيتها ؟ هل يظن احد انه باغتسالها بذلك العشب ( الاشنان ) الذي ينبت من الأرض يطهر نفسه ، حتى تقول كلمة الله للكرمة المتحولة إلي المرارة والتي أصبحت غريبة : فإنك وإن اغتسلت بنطرون واكثرت لنفسك الإشنان فقد نقش إثمك أمامي يقول السيد الرب ؟ لا ، ولكن يجب علينا أن نعرف أن كلمة الله كلي القدرة ، وهو قادر على شفاء الكل لأن كلمة الله حية وأمضي من كل سيف ذي حدين ” ( عب 4: 12) . توجد إذا كلمة تكون عبارة عن نطرون ، واخري تكون عبارة عن عشب ، كلمة بمجرد نطقها تتطهر الخطايا التي من نوع معين . ولكن كما أن كلمات النطرون والعشب لا تصلح علاجاً لكل الخطايا ، وتكون هناك خطايا تتطلب علاجاً أخر خلاف العشب والنطرون ، فقد قيل للنفس التي ظنت أن خطاياها يمكن أن تغسل بالنطرون والعشب : ” فإنك وإن اغتسلت … يقول السيد الرب”. انظروا إلى الجروح : توجد جروح تُعالج بالمراهم والدهون ، وأخري تعالج بالزيت ، وأخري بعصابة واربطة ، وهذه الأنواع من العلاج تكفي لشفائها ، ولكن هناك جروح أخرى قيل عنها :” ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت . بلادكم خربة . مدنكم محرقة بالنار ” ( إش 1: 6-7) . نفس الشيء بالنسبة للخطايا : بعضها يؤدي إلى اتساخ النفس وهذه تحتاج إلى كلمة نطرون أو كلمة عتب لتنظيفها ، وبعضها لا يمكن علاجه بهذه الطريقة لأنها تعاني أكثر بكثير من مجرد الاتساخ.

انظر كيف أن الرب الذي يعرف كيف يفرق بين الخطايا ، يعلن في إشعياء قائلا : “غسل السيد قذر بنات صهيون ونقي دم أورشليم من وسطها بروح القضاء وبروح الإحراق” ( إش 4 : 4).

قدر ودم ؟ القذر ” بروح القضاء” والدم ” بروح الإحراق”.

فإذا ارتكبت خطية ، حتى ولو لم تكن “خطية للموت ” (1يو5 :19) ، فقد اتسخت : وسوف “يغسل السيد قذر بنات صهيون وينقي دم أورشليم من وسطها”.

وما نحتاجه نحن حينما نخطئ خطية أخطر ليس هو النطرون أو العشب وإنما نحتاج إلي “روح الإحراق”.

٣. ولعلي الآن قد عرفت ما هو سبب ان السيد المسيح يُعمد “بالروح القدس والنار ” (لو3: 16 ) . ليس أنه يعمد إنسان واحد بالروح القدس والنار ، وإنما هو يعمد الإنسان البار بالروح القدس ، أما الإنسان الآخر الذي بعدما يؤمن وبعدما يكون مستحقاً للروح القدس ، يخطئ من جديد ، فإن الرب يغسله بالنار.

فطوبي لمن اعتمد بالروح القدس ولا يحتاج أن يعد بالنار ، ومسكين جداً من يكون محتاجاً أن يعمد بالنار . ومع ذلك فإن يسوع المسيح يستطيع أن يعمد في الحالتين . ومكتوب : “يخرج قضيب من جذع يسی وينبت غصن من أصوله” ( إش 11 : 1 ) القضيب للمُعاقبين والغصن للصالحين . وكذلك فإن الله “نار آكلة” ( عب 12: 29) و “الله نور” ( 1يو 1: 5) : نار آكلة للخطاة ونور للأبرار والقديسين.

وطوبي لمن له نصيب في القيامة الأولي ( رو 20: 6 ) ، والذي احتفظ بمعمودية الروح القدس. من هو ذلك الإنسان الذي لا يخلص إلا بقيامة أخري ؟ أليس هو الذي يحتاج إلى معمودية النار ؟ فعندما يقف أمام هذه النار يستعلن بالنار ( 1كو3 : 13) ، ولتجد النار خشباً وعشباً وقشاً ( 1کو 3: 12) لتحرقه.

بعد هذه العظة ، فلنجمع على قدر ما نستطيع كلمات الكتاب المقدس ولنضعها بامانة في قلوبنا ، ولنحاول أن نطبقها في حياتنا حتى نكون أطهاراً قبل موعد رحلينا ، فإذا ما أعددنا أعمالنا بما يتناسب مع هذا الرحيل ، فسوف نكون مستحقين أن نحسب مع الأبرار ( مت 22: 1) ، ونستحق الخلاص بالمسيح يسوع الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين آمين.

عظة ۳

تفسير للآية : “هل صرت برية لإسرائيل أو أرض ظلام دامس ؟ ( إر۲ :۳۱)

1. في بداية هذا النص ، يقول الرب إنه لم يكن برية لإسرائيل ، ولا أرض ظلام دامس. من منا لا يتساءل عن الهدف من وراء هذه الكلمات ؟ يقول الرب إنه لم يكن برية الإسرائيل ولا أرض ظلام . فهل أصبح اليوم برية لإسرائيل ، هل أصبح الآن أرض ظلام ؟[1] أم ماذا ؟ وعندما لم يكن لإسرائيل كذلك ، هل كان للأمم في ذلك الوقت برية وارض ظلام ؟ فإذا كان الله لم ولن يكن للجميع برية أو أرض ظلام ، فلماذا إذا قال ذلك الكلام لإسرائيل؟ فلنراجع أعمال الله الصالحة العامة والخاصة[2].

لا يمكن أن يكون الله برية لأحد وهو الذي يشرق شمسه على الأشرار والصالحين . ولا يمكن أن يكون أرض ظلام وهو الذي يمطر على الأبرار والظالمين. كيف يمكن أن يكون برية وهو الذي عمل النهار ، وأيضا أعطانا الليل للراحة؟

كيف يكون برية وهو الذي يعول كل نفس ، ويعطي للإنسان القدرة والحكمة والذكاء ، ويعطيه ايضا في جسده الحواس المدربة ( عب 5 :14)؟

إذا ، فمن وجهة النظر الخاصة ، فسوف اعود إلى موضوع إسرائيل و اقول : لم يكن الله لهم برية ولا أرض ظلام عندما كانوا في مصر ، فكان يصنع لهم العجائب ويعطيهم الآيات ، ولكن في كل مرة كانوا يتراخون فيها كانوا يجدون الله في نظرهم برية و ارض ظلام ، مع أنه لا يمكن لله أن يكون كذلك.

ومع ذلك ، عندما لم يكن الله برية ولا أرض ظلام لإسرائيل ، كان للأمم برية وأرض ظلام ، ثم و عندما تحول الله عن إسرائيل وأصبح بالنسبة لهم برية وارض ظلام في نظرهم ، كثرت النعمة للأمم ، وأصبح يسوع المسيح بالنسبة لنا ليس برية وإنما شبع وامتلاء ، ليس ارض ظلام وإنما أرض خصبة . لأن “بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل” (إش 54: 1)

يوجه الله الوعيد لهؤلاء الذين لم يكن لهم أبداً في يوم من الأيام برية أو أرض ظلام، ولكن أنتم الذين قلتم” قد شردنا(سوف لا يكون لنا إله) لا نجئ إليك بعد” ( إر 2: 31).

هل كان ذلك يأساً من شعب إسرائيل عندما قالوا:”لا نجئ إليك بعد، سوف لا يكون لنا إله[3]”


  1.  المشكلة المثارة في الكلمة التي قالها الله “هل صرت برية لإسرائيل أو أرض ظلام دامس”؟ افترض أن الله قد صار برية لأخرين غير إسرائيل: هل الله خيَّر لفترات وليس للأبد؟
  2. الجواب على المشكلة المثارة سيكون في التفرقة بين أعمال الله الصالحة العامة وأعماله الصالحة الخاصة. فهناك خيرات يعطيها الله لكل الناس وإلى الأبد مثل شروق الشمس وسقوط الأمطار والأرض الخصبة. ومن وجهة النظر هذه لا نستطيع أن نقول ان الله يمكن أن يكون “برية”. أما بالنسبة للخير الخاص الذي خص به إسرائيل ثم سحبه منها، في هذه الحالة أصبح  في وجهة نظرهم برية ، ولكنه لم يكن كذلك أبداً لأن ما أخذه من إسرائيل أعطاه للمسيحيين. 
  3. كلمة ” سوف لا يكون لنا إله” يمكن أن يفهم بمعنيين: إما كإيقان ” لقد حرمنا من الله”، وإما يأس ” لا نريد الله البته”. والطريقة التي يسأل بها أوريجانوس السؤال توحي بأنه يأخذ المعنى الثاني: لم يكن الله هو الذي ابتدأ بترك الشعب اليهودي ولكن الشعب اليهودي هو الذي بدأ بتركه.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى